التفاسير

< >
عرض

وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً
١٧
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
١٨
-الكهف

البحر المحيط

هنا جمل محذوفة دل عليها ما تقدم، والتقدير { فأووا إلى الكهف } فألقى الله عليهم النوم واستجاب دعاءهم وأرفقهم في الكهف بأشياء. وقرأ الحرميان، وأبو عمر و{ تزّاور } بإدغام تتزاور في الزاي. وقرأ الكوفيون، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن مناذر، وخلف، وأبو عبيد، وابن سعدان، ومحمد بن عيسى الأصبهاني، وأحمد بن جبير الأنطاكي بتخفيف الزاي إذا حذفوا التاء. وقرأ ابن أبي إسحاق، وابن عامر، وقتادة، وحميد، ويعقوب عن العمري: تزورّ على وزن تحمرّ. وقرأ الجحدري، وأبو رجاء، وأيوب السختياني، وابن أبي عبلة، وجابر، وورد عن أيوب { تزوار } على وزن تحمارّ. وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل: تزوئرُّ بهمزة قبل الراء على قولهم ادهأمّ واشعألّ بالهمز فراراً من التقاء الساكنين، والمعنى تزوغ وتميل.

و{ ذات اليمين } جهة يمين الكهف، وحقيقته الجهة المسماة باليمين يعني يمين الداخل إلى الكهف أو يمين الفتية. و{ تقرضهم } لا تقر بهم من معنى القطيعة { وهم في فجوة } أي متسع من الكهف. وقرأ الجمهور: { تقرضهم } بالتاء. وقرأت فرقة بالياء أي يقرضهم الكهف. قال ابن عباس: المعنى أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس البتة. وقالت فرقة: إنها كانت الشمس بالعشي تنالهم بما في مسها صلاح لأجسامهم، وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدبور، وهم في زاوية. وقال عبد الله بن مسلم: كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش وعلى هذا كان أعلى الكهف مستوراً من المطر. قال ابن عطية: كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب، اختار الله لهم مضجعاً متسعاً في مقناة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم وتدفع عنهم كربة الغار وغمومه. وقال الزمخشري: المعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس لولا أن الله يحجبها عنهم انتهى. وهو بسط قول الزجّاج.

قال الزجاج: فعل الشمس آية { من آيات الله } دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وقال أبو عليّ: معنى { تقرضهم } تعطيهم من ضوئها شيئاً ثم تزول سريعاً كالقرض يسترد، والمعنى عنده أن الشمس تميل بالغدوة وتصيبه بالعشي إصابة خفيفة انتهى. ولو كان من القرض الذي يعطي ثم يسترد لكان الفعل رباعياً فكان يكون تقرضهم بالتاء مضمومة. لكنه من القطع، وإنما التقدير تقرض لهم أي تقطع لهم من ضوئها شيئاً. قيل: ولو كانت الشمس لا تصيب مكانهم أصلاً لكان يفسد هواؤه ويتعفن ما فيه فيهلكوا، والمعنى أنه تعالى دبر أمرهم فأسكنهم مسكناً لا يكثر سقوط الشمس فيه فيحمى، ولا تغيب عنه غيبوبة دائمة فيعفن. والإشارة بذلك إلى ما صنعه تعالى بهم من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آياته يعني أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة، ومن قال إنه كان مستقبل بنات نعش بحيث كان له حاجب من الشمس كان الإشارة إلى أن حديثهم { من آيات الله } وهو هدايتهم إلى توحيده وإخراجهم من بين عبدة الأوثان وإيواؤهم إلى ذلك الكهف، وحمايتهم من عدوّهم وإلقاء الهيبة عليهم، وصرف الشمس عنهم يميناً وشمالاً لئلا تفسد أجسامهم وإنامتهم هذه المدة الطويلة، وصونهم من البلي وثيابهم من التمزّق.

ويدل على أنه إشارة إلى الهداية قوله { من يهد الله فهو المهتد } وهو لفظ عام يدخل فيه ما سبق نسبتهم وهم أهل الكهف، { ومن يضلل } عام أيضاً مثل دقيانوس الكافر وأصحابه، والخطاب في { وتحسبهم } وفي { وترى الشمس } لمن قدر له أنه يطلع عليهم. قيل: كانوا مفتحة أعينهم وهم نيام فيحسبهم الناظر منتبهين. قال أبو محمد بن عطية: ويحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدّة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغيير، وذلك أن الغالب على النوام أن يكون لهم استرخاء وهيئات تقتضي النوم، فيحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين، ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في أن يحسب عليهم التيقظ، والظاهر أن قوله { وتحسبهم أيقاظاً } إخبار مستأنف وليس على تقدير. وقيل: في الكلام حذف تقديره لو رأيتهم لحسبتهم { أيقاظاً }.

والظاهر أن قوله { ونقلبهم } خبر مستأنف. وقيل: إنما وقع الحسبان من جهة تقلبهم، ولا سيما إذا كان من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين وفي قراءة الجمهور { ونقلبهم } بالنون مزيد اعتناء الله بهم حيث أسند التقليب إليه تعالى، وأنه هو الفاعل ذلك. وحكى الزمخشري أنه قرىء ويقلبهم بالياء مشدّداً أي يقلبهم الله. وقرأ الحسن فيما حكى الأهوازي في الإقناع: ويقلبهم بياء مفتوحة ساكنة القاف مخففة اللام. وقرأ الحسن فيما حكى ابن جنيّ: وتقلبهم مصدر تقلب منصوباً، وقال: هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال: وترى أو تشاهد تقلبهم، وعنه أيضاً أنه قرأ كذلك إلاّ أنه ضم الياء فهو مصدر مرتفع بالابتداء قاله أبو حاتم، وذكر هذه القراءة ابن خالويه عن اليماني. وذكر أن عكرمة قرأ وتقلبهم بالتاء باثنتين من فوق مضارع قلب مخففاً. قيل: والفائدة في تقليبهم في الجهتين لئلا تُبلي الأرض ثيابهم وتأكل لحومهم، فيعتقدوا أنهم ماتوا وهذا فيه بعد، فإن الله الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو قادر على حفظ أجسامهم وثيابهم.

وعن ابن عباس: لو مستهم الشمس لأحرقتهم، ولولا التقليب لأكلتهم الأرض انتهى. و{ ذات } بمعنى صاحبة أي جهة { ذات اليمين }. ونقل المفسرون الخلاف في أوقات تقليبهم وفي عدد التقليبات، عن ابن عباس، وأبي هريرة، وقتادة، ومجاهد، وابن عياض بأقوال متعارضة متناقضة ضربنا عن نقلها صفحاً وكذلك لم نتعرض لاسم كلبهم ولا لكونه كلب زرع أو غيره، لأن مثل العدد والوصف والتسمية لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بالسمع، والسمع لا يكون في مثل هذا إلاّ عن الأنبياء أو الكتب الإلهية، ويستحيل ورود هذا الاختلاف عنها. والظاهر أن قوله { وكلبهم } أريد به الحيوان المعروف، وأبعد من ذهب إلى أنه أسد، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم، أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم. وحكى أبو عمرو والزاهد غلام ثعلب أنه قرىء وكالئهم اسم فاعل من كلأ إذا حفظ، فينبغي أن يحمل على أنه الكلب لحفظه للإنسان. قيل: ويحتمل أن يراد بالكالئ الرجل على ما روي إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريئة المستخفي بنفسه. وقرأ أبو جعفر الصادق: وكالبهم بالباء بواحدة أي صاحب كلبهم، كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر.

وقال الزمخشري: { باسط ذراعيه } حكاية حال ماضية، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي، وإضافته إذا أضيف حقيقة معرفة كغلام زيد إلاّ إذا نويت حكاية الحال الماضية انتهى. وقوله لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ليس إجماعاً، بل ذهب الكسائي وهشام، ومن أصحابنا أبو جعفر بن مضاء إلى أنه يجوز أن يعمل، وحجج الفريقين مذكورة في علم النحو.

والوصيد قال ابن عباس: الباب. وعنه أيضاً وعن مجاهد وابن جبير: الفناء. وعن قتادة: الصعيد والتراب. وقيل: العتبة. وعن ابن جبير أيضاً التراب. والخطاب في { لو اطلعت } لمن هوله في قوله { وترى الشمس } { وتحسبهم أيقاظاً }. وقرأ ابن وثاب والأعمش: { لو اطلعت } بضم الواو وصلاً. وقرأ الجمهور: بكسرها، وقد ذكر ضمها عن شيبة وأبي جعفر ونافع وتملية الرعب لما ألقى الله عليهم من الهيبة والجلال، فمن رام الإطلاع عليهم أدركته تلك الهيبة.

ومعنى { لوليت منهم } أعرضت بوجهك عنهم. وأوليتهم كشحك، وانتصب { فراراً } على المصدر إما لفررت محذوفة، وإما { لوليت } لأنه بمعنى لفررت، وإما مفعولاً من أجله. وانتصب { رعباً } على أنه مفعول ثان، وأبعد من ذهب إلى أنه تمييز منقول من المفعول كقوله { { وفجرنا الأرض عيوناً } [القمر: 12] على مذهب من أجاز نقل التمييز من المفعول، لأنك لو سلطت عليه الفعل ما تعدى إليه تعدى المفعول به بخلاف، { وفجرنا الأرض عيوناً } وقيل: سبب الرعب طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغيير أطمارهم. وقيل: لإظلام المكان وإيحاشه، وليس هذان القولان بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا { لبثنا يوماً أو بعض يوم } ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلاّ العالم والبناء لا حاله في نفسه، ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الأيقاظ { وهم في فجوة } تتخرقه الرياح والمكان الذي بهذه الصورة لا يكون موحشاً. وقرأ ابن عباس، والحرميان، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة بتشديد اللام والهمزة. وقرأ باقي السبعة بتخفيف اللام والهمزة. وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وإبدال الياء من الهمزة. وقرأ الزهري بتخفيف اللام والإبدال، وتقدم الخلاف في { رعباً } في آل عمران. وقرأ هنا بضم العين أبو جعفر وعيسى.