التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
١٩٧
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ
١٩٨
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٩٩
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
٢٠٠
وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ
٢٠١
أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٢٠٢
-البقرة

البحر المحيط

الجدال: فعال مصدر: جادل، وهي المخاصمة الشديدة، مشتق ذلك من الجدالة، وهي الأرض. كأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب منه الجدالة، ومنه قول الشاعر:

قد أُنْزِلَ الآلة بعد الآلة وأُنْزِلَ العاجز بالجدالة

أي: بالأرض، وقيل: اشتق ذلك من الجدل وهو الفتل، ومنه قيل: زمام مجدول، وقيل: له جديل، لفتله وقيل: للصقر: الأجدل لشدّته واجتماع خلقه، كأن بعضه فتل في بعض فقوي.

الزاد: معروف، وهو ما يستصحبه الإنسان للسفر من مأكول، ومشروب، ومركوب، وملبوس، إن احتاج إلى ذلك، وألفه منقلبة عن واو، يدل على ذلك قولهم: تزوّد، تفعَّل من الزاد.

الإفاضة: الانخراط والاندفاع والخروج من المكان بكثرة شبه بفيض الماء والدمع، فأفاض من الفيض لا من فوض، وهو اختلاط الناس بلا سايس يسوسهم، وأفعل هذا بمعنى المجرد، وليست الهمزة للتعدية، لأنه لا يحفظ: أفضت زيد، بهذا المعنى الذي شرحناه، وإن كان يجوز في فاض الدمع أن يعدي بالهمزة، فتقول: أفاض الحزن، أي: جعله يفيض.

وزعم الزجاج، وتبعه الزمخشري، وصاحب (المنتخب) أن الهمزة في أفاض الناس للتعدية، قال: وأصله: أفضتم أنفسكم، وشرحه صاحب (المنتخب) بالاندفاع في السير بكثرة، وكان ينبغي أن يشرحه بلفظ متعدد.

قال معناه: دفع بعضكم بعضاً، قال: لأن الناس إذا انصرفوا مزدحمين دفع بعضهم بعضاً، وقيل: الإفاضة الرجوع من حيث بدأتم، وقيل: السير السريع، وقيل: التفرق بكثرة، وقيل: الدفع بكثرة، ويقال: رجل فياض أي مندفق بالعطاء، وقيل: الانصراف، من قولهم: أفاض بالقداح، وعلى القداح، وهي سهام الميسر، وأفاض البعير بجرانه.

عرفات علم على الجبل الذي يقفون عليه في الحج، فقيل: ليس بمشتق، وقيل: هو مشتق من المعرفة، وذلك سبب تسميته بهذا الاسم.

وفي تعيين المعرفة أقاويل: فقيل: لمعرفة ابراهيم بهذه البقعة إذ كانت قد نعتت له قبل ذلك. وقيل: لمعرفته بهاجر وإسماعيل بهذه البقعة، وكانت سارة قد أخرجت إسماعيل في غيبة ابراهيم، فانطلق في طلبه حين فقده، فوجده وأمّه بعرفات، وقيل: لمعرفته في ليلة عرفة أن الرؤيا التي رآها ليلة يوم التروية بذبح ولده كانت من الله، وقيل: لما أتى جبريل على آخر المشاعر في توقيفه لابراهيم عليها، قال له: أعرفت؟ قال: عرفت، فسميت عرفة، وقيل: لأن الناس يتعارفون بها، وقيل: لتعارف آدم وحوّاء بها، لأن هبوطه كان بوادي سرنديب، وهبوطها كان بجدّة، وأمره الله ببناء الكعبة، فجاء ممتثلاً، فتعارفا بهذه البقعة.

وقيل: من العرف، وهو الرائحة الطيبة، وقيل: من العرف، وهو: الصبر، وقيل: العرب تسمي ما علا عرفات وعرفة، ومنه: عرف الديك لعلوه، وعرفات مرتفع على جميع جبال الحجاز، وعرفات وإن كان اسم جبل فهو مؤنث، حكى سيبويه: هذه عرفات مباركاً فيها، وهي مرادفة لعرفة، وقيل: إنها جمع، فإن عنى في الأصل فصحيح وإن عنى حالة كونها علماً فليس بصحيح، لأن الجمعية تنافي العلمية.

وقال قوم: عرفه اسم اليوم، وعرفات اسم البقعة.

والتنوين في عرفات ونحوه تنوين مقابلة، وقيل: تنوين صرف، واعتذر عن كونه منصرفاً مع التأنيث والعلمية، بأن التأنيث إنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، وإن كان بالتقدير: كسعاد، فلا يصح تقديرها في عرفات، لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما تقدر تاء التأنيث في بنت، لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث، فأنث تقديرها. انتهى هذا التعليل وأكثره للزمخشري، وأجراه في القرآن مجرى ما لم يسم فاعله من إبقاء التنوين في الجر، ويجوز حذفه حالة التسمية، وحكى الكوفيون، والأخفش إجراء ذلك وما أشبهه مجرى فاطمة، وأنشدوا بيت امرئ القيس:

تنوّرتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي

بالفتح.

النصيب: الحظ وجمعه على أفعلاء شاذ، لأنه اسم، قالوا: أنصباء، وقياسه: فعل نحو: كثيب وكثب.

سريع: اسم فاعل من: سرع يسرع سرعة فهو سريع، ويقال: أسرع وكلاهما لازم.

الحساب: مصدر حاسب، وقال أحمد بن يحيـى: حسبت الحساب أحسبه حسباً وحسباناً، والحساب الاسم، وقيل: الحساب مصدر حسب الشيء، والحساب في اللغة هو العدّ؛ وقال الليث بن المظفر، ويعقوب: حسب يحسب حسباناً وحسابة وحسبة وحسباً، وأنشد:

وأسـرعـت حسبـة فـي ذلـك العـدد

ومنه: حسب الرجل، وهو ما عدّه من مآثره ومفاخره، والاحساب: الاعتداد بالشيء. وقال الزجاج: الحساب: في اللغة مأخوذ من قولك: حسبك كذا، أي: كفاك، فسمي الحساب من المعاملات حساباً لأنه يعلم ما فيه كفاية، وليس فيه زيادة ولا نقصان.

{ الحج أشهر معلومات } لما أمر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة، وكانت العمرة لا وقت لها معلوماً. بين أن الحج له وقت معلوم، فهذه مناسبة هذه الآية لما قبلها.

والحج أشهر، مبتدأ وخبر ولا بد من حذف، إذ الأشهر ليست الحج، وذلك الحذف إما في المبتدأ، فالتقدير: أشهر الحج، أو وقت الحج، أو: في الخبر، أي: الحج حج أشهر، أو يكون: الأصل في أشهر، فاتسع فيه، وأخبر بالظرف عن الحج لما كان يقع فيه، وجعل إياه على سبيل التوسع والمجاز، وعلى هذا التقدير كان يجوز النصب، ولا يمتنع في العربية.

قال ابن عطية: ومن قدر الكلام: في أشهر، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ بنصبها أحد. انتهى كلامه. ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر، كما ذكر ابن عطية: لأنا قد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع، وهذا لا خلاف فيه عند البصريين، أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبراً عن المصادر، فإنه يجوز عندهم الرفع والنصب، وسواء كان الحدث مستغرقاً للزمان أو غير مستغرق، وأما الكوفيون فعندهم في ذلك تفصيل، وهو: أن الحدث إما أن يكون مستغرقاً للزمان، فيرفع، ولا يجوز فيه النصب، أو غير مستغرق فذهب هشام أنه يجب فيه الرفع، فيقول: ميعادك يوم، وثلاثة أيام، وذهب الفراء إلى جواز النصب والرفع كالبصريين، ونقل عن الفراء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر، لأن: أشهراً، نكرة غير محصورة.

وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه، فيمكن أن يكون له القولان، قول البصريين، وقول هشام، وجمع شهر على أفعل لأنه جمع قلة بخلاف قوله { إن عدة الشهور } [التوبة: 36] فإنه جاء على: فعول، وهو جمع الكثرة.

وظاهر لفظ أشهر الجمع، وهو: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة، كله، وبه قال ابن مسعود، وابن عمر، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، والزهري، والربيع، ومالك.

وقال ابن عباس، وابن الزبير، وابن سيرين، والحسن، وعطاء، والشعبي، وطاووس، والنخعي، وقتادة، ومكحول، والسدي، وأبو حنيفة، والشافعي، وابن حبيب، عن مالك، هي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.

وروي هذا عن ابن مسعود، وابن عمر، وحكى الزمخشري، وصاحب (المنتخب) عن الشافعي: أن الثالث التسعة من ذي الحجة مع ليلة النحر، لأن الحج يفوت بطلوع الفجر.

وهذان القولان فيهما مجاز، إذ أطلق على بعض الشهر، شهر.

وقال الفراء: تقول العرب: له اليوم يومان لم أره، وإنما هو وبعض يوم آخر، وإنما قالوا ذلك تغليباً لأكثر الزمان على أقله، وهو كما نقل في الحديث: "أيام منى ثلاثة أيام" وإنما هي يومان وبعض الثالث، وهو من باب إطلاق بعض على كل، وكما قال الشاعر:

ثلاثون شهراً في ثلاثة أحوال

على أحد التأويلين، قيل: ولأن العرب توقع الجمع على التثنية إذا كانت التثنية أقل الجمع، وقال الزمخشري. فإن قلت: فكيف كان الشهران. وبعض الشهر أشهراً؟ قلت: اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد، بدليل قوله تعالى { فقد صغت قلوبكما } [التحريم: 4] فلا سؤال فيه إذن، وإنما يكون موضعاً للسؤال لو قيل: ثلاثة أشهر معلومات. انتهى كلامه.

وما ذكره الدعوى فيه عامة، وهو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد، وهذا فيه النزاع. والدليل الذي ذكره خاص، وهو: { فقد صغت قلوبكما } وهذا لا خلاف فيه، ولإطلاق الجمع في مثل هذا على التثنية شروط ذكرت في النحو و: أشهر، ليس من باب { فقد صغت قلوبكما } فلا يمكن أن يستدل به عليه.

وقوله: فلا سؤال فيه، إذن ليس بجيد، لأنه فرض السؤال بقوله: فإن قلت؟ وقوله فإنما كان يكون موضعاً للسؤال لو قيل: ثلاثة أشهر معلومات، ولا فرق عندنا بين شهر وبين قوله ثلاثة أشهر، لأنه كما يدخل المجاز في لفظ أشهر، كذلك قد يدخل المجاز في العدد، ألا ترى إلى ما حكاه الفراء: له اليوم يومان لم أره؟ قال: وإنما هو يوم وبعض يوم آخر، وإلى قول امرىء القيس:

ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال

على ما قدّمنا ذكره، وإلى ما حكي عن العرب، ما رأيته مذ خمسة أيام وإن كنت قد رأيته في اليوم الأول والخامس فلم يشمل الإنتفاء خمسة أيام جميعها بل تجعل ما رأيته في بعضه، وانتفت الرؤية في بعضه، كان يوم كامل لم تره فيه، فإذا كان هذا موجوداً في كلامهم فلا فرق بين أشهر، وبين ثلاثة أشهر، ولكن مجاز الجمع أقرب من مجاز العدد.

قالوا: وثمرة الخلاف بين قول من جعل الأشهر هي الثلاثة بكمالها، وبين من جعلها شهرين وبعض الثالث، يظهر في تعلق الدم فيما يقع من الأعمال يوم النحر، فعلى القول الأول لا يلزمه دم لأنها وقعت في أشهر الحج، وعلى الثاني يلزمه، لأنه قد انقضى الحج بيوم النحر، وأخَّر عمل ذلك عن وقته.

وفائدة التوقيت بالأشهر أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلاَّ فيها، ويكره الإحرام بالحج في غيرها عند أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وبه قال النخعي. قال: ولا يحل حتى يقضي حجه.

وقال عطاء، ومجاهد، والأوزاعي، والشافعي، وأبو الثور: لا يصح، وينقلب عمرة ويحل لها. وقال ابن عباس: من سنة الحج الإحرام به.

وسبب الخلاف اختلافهم في المحذوف في قوله: { الحج أشهر معلومات } هل التقدير: الإحرام بالحج أو أفعال الحج؟ وذكر الحج في هذه الأشهر لا يدل على أن العمرة لا تقع، وما روي عن عمر وابنه عبد الله أن العمرة لا تستحب فيها، فكأن هذه الأشهر مخلصة للحج.

وروي أن عمر كان يخفق الناس بالدرّة، وينهاهم عن الاعتمار فيهن، وعن ابن عمر أنه قال لرجل: إن أطلقني انتظرت، حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.

ومعنى: معلومات، معروفات عند الناس، وأن مشروعية الحج فيها إنما جاءت على ما عرفوه وكان مقرراً عندهم.

{ فمن فرض فيهن الحج } أي: من ألزم نفسه الحج فيهن، وأصل الفرض الحرَ الذي يكون في السهام والقسي وغيرها، ومنه فرضة النهر والجبل، والمراد بهذا الفرض ما يصير به المحرم محرماً، قال ابن مسعود: وهو الإهلال بالحج والإحرام، وقال عطاء، وطاووس: هو أن يلبي، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين رحمهم الله، وهي رواية شريك عن ابن عباس: إن فرض الحج بالتلبية.

وروي عن عائشة: لا إحرام إلاَّ لمن أهلَّ ولبَّى، وأخذ به أبو حنيفة وأصحابه، وابن حبيب، وقالوا، هم وأهل الظاهر: إنها ركن من أركان الحج.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قلد بدنته وساقها يريد الإحرام. فقد أحرم، قول هذا على أن مذهبه وجوب التلبية، أو ما قام مقامها من الدم، وروي عن ابن عمر: إذا قلد بدنته وساقها فقد أحرم، وروي عن علي، وقيس بن سعد، وابن عباس، وطاووس، وعطاء، ومجاهد، والشعبي، وابن سيرين، وجابر بن زيد، وابن جبير: أنه لا يكون محرماً بذلك، وقال ابن عباس، وقتادة، والحسن: فرض الحج الإحرام به، وبه قال الشافعي.

وهذه الأقوال كلها مع اشتراط النية. وملخص ذلك أنه يكون محرماً بالنية، والإحرام عند مالك، والشافعي، وبالنية والتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة، أو النية وإشعار الهدي أو تقليده عند جماعة من العلماء.

و: مَنْ، شرطية أو موصولة، و: فيهن، متعلق بفرض، والضمير عائد على: أشهر، ولم يقل: فيها، لأن أشهراً جمع قلة، وهو جار على الكثير المستعمل من أن جمع القلة لما لا يعقل يجرى مجرى الجمع مطلقاً للعاقلات على الكثير المستعمل أيضاً، وقال قوم: هما سواء في الاستعمال.

{ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } الرفث هنا قال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، والزهري، والسدي: هو الجماع؛ وقال ابن عمر، وطاووس، وعطاء، وغيرهم: هو الإفحاش للمرأة بالكلام، كقوله: إذا أحللنا فعلنا بك كذا، لا يكنى، وقال قوم: الإفحاش بذكر النساء، كان ذلك بحضرتهن أم لا؛ وقال قوم: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من أهله، وقال أبو عبيدة: هو اللغو من الكلام، وقال ابن الزبير: هو التعرض بمعانقة ومواعدة أو مداعبة أو غمز.

وملخص هذه الأقوال أنها دائرة بين شيء يفسده وهو الجماع، أو شيء لا يليق لمن كان ملتبساً بالحج لحرمة الحج.

والفسوق: فسر هذا بفعل ما نهى عنه في الإحرام من قتل صيد، وحلق شعر، والمعاصي كلها لا يختص منها شيء دون شيء قاله ابن عباس، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وطاووس. أو الذبح للأصنام ومنه: { { أو فسقاً أهل لغير الله به } [الأنعام: 145] قاله ابن زيد، ومالك، أو التنابذ بالألقاب قال: { بئس الاسم الفسوق } [الحجرات: 11] قاله الضحاك، أو السباب منه: "سباب المسلم فسوق" . قاله ابن عمر أيضاً، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم، والسدي، ورجح محمد بن جرير أنه ما نهي عنه الحاج في إحرامه لقوله: { فمن فرض فيهن الحج }.

وقد علم أن جميع المعاصي محرم على كل أحد من محرم وغيره، وكذلك التنابذ، ورجح ابن عطية، والقرطبي المفسر وغيرهما قول من قال: إنه جميع المعاصي لعمومه جميع الأقوال والأفعال، ولأنه قول الأكثر من الصحابة والتابعين، ولأنه روي: "والذي نفسي بيده، ما بين السماء والأرض عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله، أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال" .

وقال العلماء: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله في أثناء أدائه؛ وقال الفراء: هو الذي لم يعص الله بعده.

والجدال: هنا مماراة المسلم حتى يغضب، فأما في مذاكرة العلم فلا نهي عنها، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد. أو السباب، قاله ابن عمر، وقتادة. أو: الاختلاف: أيهم صادف موقف أبيهم؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، تقف قريش في غير موقف العرب، ثم يتجادلون بعد ذلك، قاله ابن زيد، ومالك. أو يقول قوم: الحج اليوم، وقوم الحج غداً، قاله القاسم. أو المماراة في الشهور حسبما كانت العرب عليه من الذي كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة، ويقف بعضهم بجمع، وبعضهم بعرفة، ويتمارون في الصواب من ذلك، قاله مجاهد.

قال ابن عطية: وهذا أصح الأقوال، وأظهرها قرر الشرع وقت الحج وإحرامه حتم لا جدال فيه.

أو قول طائفة: حجنا أبر من حجكم، وتقول الأخرى مثل ذلك، قاله محمد بن كعب القرطبي، أو الفخر بالآباء، قاله بعضهم، أو قول الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم إنا أهللنا بالحج، حين قال في حجة الوداع: "من لم يكن معه هدي فليحلل من إحرامه وليجعلها عمرة" قاله مقاتل. أو المراء مع الرفقاء والخدام والمكارين، قاله الزمخشري. أو كلَّ ما يسمى جدالاً للتغالب، وحظ النفس، فتدخل فيه الأقوال التسعة السابقة.

و: الفاء، في: فلا رفث، هي الداخلة في جواب الشرط، إن قدر: من، شرطاً، وهو الأظهر، أو في الخبر إن قدر: من، موصولاً.

وقرأ ابن مسعود والأعمش: رفوث، وقد تقدّم أن الرفث والرفوث مصدران. وقرأ أبو جعفر بالرفع والتنوين في الثلاثة، ورويت عن عاصم في بعض الطرق، وهو طريق المفضل عن عاصم، وقرأ أبو رجاء العطاردي بالنصب والتنوين في الثلاثة. وقرأ الكوفيون، ونافع بفتح الثلاثة من غير تنوين؛ وقرأ ابن كثير، وأبو عمر برفع: فلا رفث ولا فسوق، والتنوين، وفتح: ولا جدال، من غير تنوين.

فأمّا من رفع الثلاثة فإنه جعل: لا، غير عاملة ورفع ما بعدها بالابتداء، والخبر عن الجميع هو قوله: في الحج، ويجوز أن يكون خبراً عن المبتدأ الأول، وحذف خبر الثاني. والثالث للدلالة، ويجوز أن يكون خبراً عن الثالث وحذف خبر الأول والثاني للدلالة، ولا يجوز أن يكون خبراً عن الثاني ويكون قد حذف خبر الأول والثالث لقبح هذا التركيب والفصل.

قيل: ويجوز أن تكون: لا، عاملة عمل ليس فيكون: في الحج، في موضع نصب، وهذا الوجه جزم به ابن عطية، فقال: و: لا، في معنى ليس في قراءة الرفع، وهذا الذي جوّزه وجزم به ابن عطية ضعيف، لأن إعمال: لا، إعمال: ليس، قليل جداً، لم يجىء منه في لسان العرب إلاَّ ما لا بال له، والذي يحفظ من ذلك قوله:

تعزّ فلا شيء على الأرض باقياً ولا وزرٌ مما قضى الله واقياً

أنشده ابن مالك، ولا أعرف هذا البيت إلاَّ من جهته، وقال النابغة الجعدي:

وحلت سواد القلب لا أنا باغياً سواها ولا في حبها متراخياً

وقال آخر:

أنكرتها بعد أعوام مضين لها لا الدار دار ولا الجيرانُ جيرانا

وخرج على ذلك سيبويه قول الشاعر:

من صدّ عن نيرانها فأنا ابن قيس لا براح

وهذا كله يحتمل التأويل، وعلى أن يحمل على ظاهره لا ينتهي من الكثرة بحيث تبنى عليه القواعد، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله الذي هو أفصح الكلام وأجله، ويعدل عن الوجه الكثير الفصيح.

وأما قراءة النصب والتنوين فإنها منصوبة على المصادر، والعامل فيها أفعال من لفظها، التقدير: فلا يرفث رفثاً، ولا يفسق فسوقاً، ولا يجادل جدالاً. و: في الحج، متعلق بما شئت من هذه الأفعال على طريقة الإعمال والتنازع.

وأما قراءة الفتح في الثلاثة من غير تنوين، فالخلاف في الحركة، أهي حركة إعراب أو حركة بناء؟ الثاني قول الجمهور، والدلائل مذكورة في النحو، وإذا بني معها على الفتح فهل المجموع من لا والمبنى معها في موضع رفع على الابتداء؟ وإن كانت: لا، عاملة في الاسم النصب على الموضع، ولا خبر لها، أو ليس المجموع في موضع مبتدأ؟ بل. لا، عاملة في ذلك الاسم النصب على الموضع، وما بعدها خبر: لا، إذا أجريت مجرى. إن، في نصب الاسم ورفع الخبر، قولان للنحويين، الأول: قول سيبويه، والثاني: الأخفش، فعلى هذين القولين يتفرّع إعراب: في الحج، فيكون في موضع خبر المبتدأ على مذهب سيبويه، وفي موضع خبر: لا، على مذهب الأخفش.

وأما قراءة من رفع ونون: فلا رفث ولا فسوق، وفتح من غير تنوين: ولا جدال، فعلى ما اخترناه من الرفع على الابتداء، وعلى مذهب سيبويه: إن المفتوح مع: لا، في موضع رفع على الابتداء، يكون: في الحج، خبراً عن الجميع، لأنه ليس فيه، إلاَّ العطف، عطف مبتدأ على مبتدأ.

وأمّا قول الأخفش فلا يصح أن يكون: في الحج، إلاَّ خبراً للمبتدأين، أو: لا، أو خبر للا، لاختلاف المعرب في الحج، يطلبه المبتدأ أو تطلبه لا فقد اختلف المعرب فلا يجوز أن يكون خبراً عنهما.

وقال ابن عطية في هذه القراءة ما نصه: و: لا، بمعنى ليس في قراءة الرفع، وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو، و: في الحج، خبر: لا جدال، وحذف الخبر هنا هو على مذهب أبي علي، وقد خولف في ذلك بل: في الحج، هو خبر الكل، إذ هو في موضع رفع في الوجهين، لأن: لا، إنما تعمل على بابها فيما يليها، وخبرها مرفوع بأن على حاله من خبر الابتداء، وظنّ أبو علي أنها بمنزلة: ليس، في نصب الخبر، وليس كذلك، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر، و: في الحج، هو الخبر انتهى كلامه. وفيه مناقشات.

الأولى: قوله و: لا، بمعنى: ليس، وقد قدّمنا أن كون: لا، بمعنى ليس هو من القلة في كلامهم بحيث لا تبنى عليه القواعد، وبيَّنا أن ارتفاع مثل هذا إنما هو على الإبتداء.

الثانية: قوله: وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو، وقد نص الناس على أن خبر كان وأخواتها ومنها: ليس، لا يجوز حذفه لا اختصاراً، ولا اقتصاراً، ثم ذكروا أنه قد حذف خبر ليس في الشعر في قوله:

يرجو جوارك حين ليس مجير

على طريق الضرورة أو الندور، وما كان هكذا فلا يحمل القرآن عليه.

الثالثة: قوله بل: في الحج، هو خبر الكل إذ هو في موضع رفع على الوجهين، يعني بالوجهين: كونها بمعنى: ليس، وكونها مبنية مع: لا، وهذا لا يصح، لأنها إذا كانت بمعنى ليس احتاجت إلى خبر منصوب، وإذا كانت مبنية مع لا احتاجت إلى أن يرتفع الخبر إما لكونها هي العاملة فيه الرفع على مذهب الأخفش، وإما لكونها مع معمولها في موضع رفع على الإبتداء فيقتضي أن يكون خبراً للمبتدأ على مذهب سيبويه، على ما قدمناه من الخلاف، وإذا تقرر هذا امتنع أن يكون: في الحج، في موضع رفع على ما ذكر ابن عطية من الوجهين.

الرابعة: قوله: لأن: لا، إنما تعمل على بابها فيما تليها، وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء، هذا تعليل لكون: في الحج، خبراً للكل، إذ هي في موضع رفع في الوجهين على ما ذهب إليه، وقد بينا أن ذلك لا يجوز، لأنها إذا كانت بمعنى: ليس، كان خبرها في موضع نصب، ولا يناسب هذا التعليل إلاَّ كونها تعمل عمل إن فقط، على مذهب سيبويه لا على مذهب الأخفش، لأنه على مذهب الأخفش يكون: في الحج، في موضع رفع بلا، و: لا، هي العاملة الرفع، فاختلف المعرب على مذهبه، لأن قراءة الرفع هي على الابتداء، وقراءة الفتح في: ولا جدال، هي على عمل: لا، عمل إن.

الخامسة: قوله: وظنّ أبو علي أنها بمنزلة: ليس، في نصب الخبر وليس كذلك، هذا الظنّ صحيح، وهو كما ظنّ، ويدل عليه أن العرب حين صرحت بالخبر على أن: لا، بمعنى ليس أتت به منصوباً في شعرها، فدل على أن ما ظنه أبو علي من نصب الخبر صحيح، لكنه من الندور بحيث لا تبنى عليه القواعد كما ذكرنا، فأجازه أبو علي، مثل هذا في القرآن لا ينبغي.

السادسة: قوله: بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر، و: في الحج، هو الخبر، هذا الذي ذكره توكيد لما تقرر قبل من أنها إذا كانت بمعنى: ليس، إنما تعمل في الاسم الرفع فقط، وهي والاسم في موضع رفع بالابتداء، وأن الخبر يكون مرفوعاً لذلك المبتدأ، وقد بينا أن ذلك ليس بصحيح لنصب العرب الخبر إذا كانت بمعنى: ليس، وعلى تقدير ما قاله لا يمكننا العلم بأنها تعمل عمل ليس في الاسم فقط إذا كان الخبر مرفوعاً، لأنه ليس لنا إلاَّ صورة: لا رجل قائم، ولا امرأة. فرجل هنا مبتدأ، وقائم خبر عنه، وهي غير عاملة، وإنما يمتاز كونها بمعنى ليس، وارتفاع الإسم بها من كونه مبتدأ بنصب الخبر إذا كانت بمعنى ليس، ورفع الخبر إذا كان ما بعدها مرفوعاً بالابتداء، وإلاَّ فلا يمكن العلم بذلك أصلاً لرجحان أن يكون ذلك الاسم مبتدأ، والمرفوع بعده خبره.

وقال الزمخشري: وقرأ أبو عمرو، وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال، كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج؛ وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب، فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة، وهو النسيء، فرد إلى وقت واحد، ورد الوقوف إلى عرفة، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج.

واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال، بقوله عليه السلام: "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمّه" ، وأنه لم يذكر الجدال. انتهى كلامه. وفيه تعقبات.

الأول: تأويله على أبي عمرو، وابن كثير أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع والثالث على الإخبار بسبب البناء، والرفع والبناء لا يقتضيان شيئاً من ذلك، بل لا فرق بين الرفع والبناء في أن ما كانا فيه كان مبنياً، وأما أن الرفع يقتضي النهي، والبناء يقتضي الخبر فلا، ثم قراءة الثلاثة بالرفع وقراءتها كلها بالبناء يدل على ذلك، غاية ما فرق بينهما أن قراءة البناء نص على العموم، وقراءة الرفع مرجحة له، فقراءتهما الأوّلين بالرفع والثالث بالبناء على الفتح إنما ذلك سنة متبعة إذا لم يتأد ذلك إليهما إلاَّ على هذا الوجه من الوجوه الجائزة في العربية في مثل هذا التركيب.

الثاني: قوله: كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج، وترشيح ذلك بالتاريخ الذي ذكره بهذا التفسير مناقض لما شرح هو به الجدال، لأنه قال قبل: ولا جدال ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين. وهذا التفسير في الجدال مخالف لذلك التفسير.

الثالث: أن التاريخ الذي ذكره هو قولان في تفسير: ولا جدال، للمتقدمين اختلافهم: في الموقف: لابن زيد، ومالك، والنسيء: لمجاهد، فجعلهما هو شيئاً واحداً سبباً للإخبار أن لا جدال في الحج.

الرابع: قوله واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال إلى آخر كلامه، ولا دليل في ذلك، لأن الجدال إن كان من باب المحظور فقد اندرج في قوله: { ولا فسوق } لعمومه، وإن كان من باب المكروه وترك الأولى، فلا يجعل ذلك شرطاً في غفران الذنوب، فلذلك رتب صلى الله عليه وسلم غفران الذنوب على النهي عن ما يفسد الحج من المحظور فيه، الجائز في غير الحج، وهو الجماع المكني عنه بالرفث؛ ومن المحظور الممنوع منه مطلقاً في الحج وفي غيره، وهو معصية الله المعبر عنها بالفسوق، وجاء قوله: ولا جدال، من باب التتميم لما ينبغي أن يكون عليه الحاج، من: إفراغ أعماله للحج، وعدم المخاصمة والمجادلة. فمقصد الآية غير مقصد الحديث، فلذلك جمع في الآية بين الثلاثة، وفي الحديث اقتصر على الاثنين.

وقد بقي الكلام على هذه الجملة: أهي مراد بها النفي حقيقة فيكون إخباراً؟ أو صورتها صورة النفي والمراد به النهي؟ اختلفوا في ذلك فقال في (المنتخب) قال أهل المعاني: ظاهر الآية نفي، ومعناها نهي. أي: فلا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا، كقوله تعالى: { لا ريب فيه } [البقرة: 2] أي: لا ترتابوا فيه، وذكر القاضي أن ظاهره الخبر، ويحتمل النهي، فإذا حمل على الخبر فمعناه: أن حجه لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال، بل يفسد، فهو كالضد لها وهي مانعة من صحته، ولا يستقيم هذا المعنى، إلاَّ إن أريد بالرفث: الجماع، والفسوق: الزنا، وبالجدال: الشك في الحج وفي وجوبه، لأن الشك في ذلك كفر ولا يصح معه الحج، وحملت هذه الألفاظ على هذه المعاني حتى يصح خبر الله، لأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، وإذا حمل على النهي، وهو خلاف الظاهر، صلح أن يراد بالرفث: الجماع، ومقدماته، وقول الفحش والفسوق والجدال جميع أنواعهما لإطلاق اللفظ، فيتناول جميع أقسامه، لأن النهي عن الشيء نهي عن جميع أقسامه.

وتكون الآية جلية على الأخلاق الجميلة، ومشيرة إلى قهر القوة الشهوانية، بقوله: { فلا رفث } وإلى قهر القوة النفسانية بقوله: { ولا فسوق } وإلى قهر القوة الوهمية بقوله: { ولا جدال } فذكر هذه الثلاثة لأن منشأ الشر محصور فيها، وحيث نهى عن الجدال حمل الجدال على تقرير الباطل وطلب المال والجاه، لا على تقرير الحق ودعاء الخلق إلى الله والذب عن دينه. انتهى ما لخصناه من كلامه.

والذي نختاره أنها جملة، صورتها صورة الخبر، والمعنى على النهي، لأنه لو أريد حقيقة الخبر لكان المؤدّي لهذا المعنى تركيب غير هذا التركيب، ألا ترى أنه لو قال إنسان مثلاً: من دخل في الصلاة فلا جماع لامرأته، ولا زنا بغيرها، ولا كفر في الصلاة، يريد الخبر، وأن هذه الأشياء مفسدة لها لم يكن هذا الكلام من الفصاحة في رتبة قوله: من دخل في الصلاة فلا صلاة له مع جماع امرأته وزناه وكفره؟ فالذي يناسب المعنى الخبري نفي صحة الحج مع وجود الرفث والفسوق والجدال لا نفيهنّ فيه، هكذا الترتيب العربي الفصيح، وإنما أتى في النهي بصورة النفي إيذانا بأن المنهي عنه يستبعد الوقوع في الحج، حتى كأنه مما لا يوجد، ومما لا يصح الإخبار عنه بأنه لا يوجد.

وقال في (المنتخب) أيضاً: إن كان المراد بالرفث الجماع فيكون نهياً عن ما يقتضي فساد الحج، والإجماع منعقد على ذلك، ويكون نفياً للصحة مع وجوده، وإن كان المراد به التحدث مع النساء في أمر الجماع، أو الفحش من الكلام، فيكون نهياً لكمال الفضيلة.

وقال ابن العربي ليس نفياً لوجود الرفث، بل نفي لمشروعيته، فإن الرفث يوجد من بعض الناس فيه، وإخبار الله تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعاً، لا إلى وجوده محسوساً، كقوله: { { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [البقرة: 228] ومعناه مشروعاً لا محسوساً، فإنا نجد المطلقات لا يتربصنّ، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي، وهذا كقوله: { لا يمسه إلاَّ المطهرون } إذا قلنا إنه وارد في الآدميين، وهو الصحيح، لأن معناه لا يمسه أحد منهم شرعاً، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع، وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء، فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي، وما وجد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما يختلفان حقيقة، ويتباينان وصفاً انتهى كلام ابن العربي.

وتلخص في هذه الجملة أربعة أقوال:

أحدهما: أنها إخبار بنفي أشياء مخصوصة وهي: الجماع، والزنا، والكفر.

الثاني: أنها إخبار بنفي المشروعية لا بنفي الوجود.

الثالث: أنها إخبار صورة، والمراد بها النهي.

الرابع: التفرقة في قراءة ابن كثير، وابن عمرو، وبأن الأوّلين في معنى النهي، والثالث خبر، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت: مَنْ، شرطية، وفي موضع الخبر، إن كانت: مَنْ، موصولة. وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزاء بالشرط، إذا كان الشرط بالإسم، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول إذا لم يكن إياه في المعنى، ولا رابط هنا ملفوظ به، فوجب أن يكون مقدراً. ويحتمل وجهين.

أحدهما: أن يقدر منه، بعد: ولا جدال، ويكون: منه، في موضع الصفة، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم: السمن منوان بدرهم أي: منوان منه، ومنه صفة للمنوين.

والثاني: أن يقدر بعد الحج، وتقديره: في الحج منه أوله، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط.

وللكوفيين تخريج في مثل هذا، وهو أن تكون الألف واللام عوضاً من الضمير، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله: في الحج، في حجه، فنابت الألف واللام عن الضمير، وحصل بها الربط.

قال بعضهم: وكرر في الحج، فقال: في الحج، ولم يقل: فيه، جرياً على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر، كقول الشاعر:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

انتهى كلامه، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول، ولمجيئه في جملة غير الجملة الأولى، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائداً على: من، لا على: الحج، أي: في فارض الحج.

وعلى ما اخترناه من أن المراد بهذه الإخبار النهي، يكون هذه الأشياء الثلاثة منهياً عنها في الحج. أما الرفث فأكثر أهل العلم، خلفاً وسلفاً، أنه يراد به هنا الجماع، وأنه منهي عنه بالآية، وأجمع العلماء على أن الجماع يفسد الحج، وأن مقدماته توجب الدم، إلاَّ ما رواه بعض المجهولين عن أبي هريرة، أنه سمعه يقول: «للمحرم من إمرأته كل شيء إلاَّ الجماع». وقد اتفقت الأمة على خلافه، وعلى أن من قبّل امرأته بشهوة فعليه دم، وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وابراهيم، وابن المسيب، وابن جبير، وهو قول فقهاء الأمصار.

وذهب أبو محمد بن حزم إلى حل تقبيل إمرأته ومباشرتها، ويتجنب الوطىء.

وأما الفسوق والجدال، وإن كان منهياً عنهما في غير الحج، فإنما خص بالذكر في الحج تعظيماً لحرمة الحج، ولأن التلبس بالمعاصي في مثل هذه الحال من التشهير، لفعل هذه العبادة، أفحش وأعظم منه في غيرها ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حق الصائم: "فلا يرفث ولا يجهل، فإن جهل عليه فليقل إني صائم" ؟ وإلى قوله وقد صرف وجه الفضل بن العباس عن ملاحظة النساء في الحج: "إن هذا يوم، من ملك فيه سمعه وبصره غفر له"

ومعلوم خطر ذلك في غير ذلك اليوم، ولكنه خصه بالذكر تعظيماً لحرمته.

وفي قوله: ولا فسوق، إشارة إلى أنه يحدث للحج توبة من المعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

{ وما تفعلوا من خير يعلمه الله } هذه جملة شرطية، وتقدّم الكلام على إعراب نظيرها في قوله: { وما ننسخ من آية } [البقرة: 106] وخص الخير، وإن كان تعالى عالماً بالخير والشر، حثاً على فعل الخير، ولأن ما سبق من ذكر فرض الحج، وهو خير، ولأن نستبدل بتلك المنهيات أضدادها، فنستبدل بالرفث الكلام الحسن والفعل الجميل، وبالفسوق الطاعة، وبالجدال الوفاق، ولأن يكثر رجاء وجه الله تعالى، ولأن يكون وعداً بالثواب.

وجواب الشرط وهو: يعلمه الله، فإما أن يكون عبّر عن المجازاة عن فعل الخير بالعلم، كأنه قيل: يجازكم الله به، أو يكون ذكر المجازاة بعد ذكر العلم، أي: يعلمه الله فيثيب عليه، وفي قوله: وما تفعلوا، التفات، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب، وحمل على معنى: مِنْ، إذ هو خروج من إفراد إلى جمع، وعبر بقوله: تفعلوا، عن ما يصدر عن الإنسان من فعل وقول ونية، إما تغليباً للفعل، وإما إطلاقاً على القول، والإعتقاد لفظ الفعل، فإنه يقال: أفعال الجوارح، وأفعال اللسان، وأفعال القلب، والضمير في: يعلمه، عائد على: ما، من قوله: وما تفعلوا، و: من، في موضع نصب، ويتعلق بمحذوف.

وقد خبط بعض المعربين فقال: إن: من خير، متعلق: بتفعلوا، وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره: وما تفعلوه فعلاً من خير يعلمه الله، جزم بجواب الشرط، والهاء في: يعلمه الله، يعود إلى خير انتهى قوله.

ولولا أنه مسطر في التفسير لما حكيته، وجهة التخبيط فيه أنه زعم أن: من خير، متعلق: بتفعلوا، ثم قال: وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر. فإذا كان كذلك كان العامل فيه محذوفاً، فيناقض هذا القول كون: من، يتعلق: بتفعلوا، لأن: من، حيث تعلقت بتفعلوا كان العامل غير محذوفاً وقوله والهاء تعود إلى خير خطأ فاحش لأن الجملة جواب لجملة شرطية بالاسم، فالهاء عائدة على الاسم، أعني: اسم الشرط، واذا جعلتها عائدة على الخير عري الجواب عن ضمير يعود على اسم الشرط، وذلك لا يجوز، لو قلت: من يأتني يخرج خالد، ولا يقدر ضميراً يعود على اسم الشرط، لم يجز بخلاف الشرط إذا كان بالحرف، فإنه يجوز خلوّ الجملة من الضمير نحو: إن تأتني يخرج خالد.

{ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } روي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من اليمن يحجون بغير زاد، ويقولون: نحن متوكلون بحج بيت الله أفلا يطعمنا؟ فيتوصلون بالناس، وربما ظلموا وغصبوا، فأمروا بالتزود، وأن لا يظلموا أو يكونوا كُلاًّ على الناس. وروي عن ابن عمر قال: إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها، واستأنفوا زاداً آخر، فنهوا عن ذلك، وأُمروا بالتحفظ بالزاد والتزود.

فعلى ما روي من سبب نزول هذه الآية يكون أمراً بالتزود في الأسفار الدنيوية، والذي يدل عليه سياق ما قبل هذا الأمر وما بعده، أن يكون الأمر بالتزود هنا بالنسبة إلى تحصيل الأعمال الصالحة التي تكون له كالزاد إلى سفره للآخرة، ألا ترى أن قبله: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } ومعناه الحث والتحريض على فعل الخير الذي يترتب عليه الجزآء في الآخرة وبعده { فإن خير الزاد التقوى } والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن ما يتقى به النار ويكون مفعول: تزودوا، محذوفاً تقديره، وتزودوا التقوى، أو: من التقوى، ولما حذف المفعول أتى بخبر إن ظاهراً ليدل على أن المحذوف هو هذا الظاهر، ولو لم يحذف المفعول لأتي به مضمراً عائداً على المفعول، أو كان يأتي ظاهراً تفخيماً لذكر التقوى، وتعظيماً لشأنها. وقد قال بعضهم في التزود للآخرة:

إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثلهوأنك لم ترصد كما كان أرصدا

وقال بعض عرب الجاهلية:

فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت ولكن حمد الناس ليس بمخلد
ولكن منه باقيات وراثةفأورث بنيك بعضها وتزود
تزود إلى يوم الممات فإنه وإن كرهته النفس آخر موعد

وصعد سعدون المجنون تلاًّ في مقبرة، وقد انصرف ناس من جنازة فناداهم:

ألاَ يا عسكر الأحياء هذا عسكر الموتى
أجابوا الدعوة الصغرى وهم منتظرو الكبرى
يحثون على الزاد ولا زاد سوى التقوى
يقولون لكم جدوا فهذا غاية الدنيا

وقيل: أمر بالتزود لسفر العبادة والمعاش، وزاده الطعام والشراب والمركب والمال، وبالتزود لسفر المعاد، وزاده تقوى الله تعالى؛ وهذا الزاد خير من الزاد الأول لقوله: { فإن خير الزاد التقوى }.

فتلخص من هذا كله ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه أمر بالتزود في أسفار الدنيا، فيكون مفعول: تزودوا، ما ينتفعون به، فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم من السؤال، وأنفسكم من الظلم، وقال البغوي: قال المفسرون: التقوى هنا: الكعك والزيت والسويق والتمر والزبيب وما يشاكل ذلك من المطعومات.

والثاني: أنه أمر بالتزود لسفر الآخرة، وهو الذي نختاره.

والثالث: أنه أمر بالتزود في السفرين، كأن التقدير: وتزودوا ما تنتفعون به لعاجل سفركم وآجله.

وأبعد من ذهب إلى أن المعنى: وتزودوا الرفيق الصالح، إلاّ أن عنى به العمل الصالح، فلا يبعد، لأنه هو القول الثاني الذي اخترناه.

وقال أبو بكر الرازي: احتمل قوله: وتزودوا، الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى، فوجب الحمل عليهما، إذ لم تقم دلالة على تخصيص أحد الأمرين، وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج، لأنه أحق شيء بالإستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه، كما نص على خطر الفسوق، وإن كان محظوراً في غيره، تعظيماً لحرمة الإحرام، وإخباراً أنه فيه أعظم مأثماً.

ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه، ودوام ثوابه، وهذا يدل على بطلان مذهب أهل التصوف، والذين يسافرون بغير زاد ولا راحلة، لأنه تعالى خاطب بذلك من خاطبه بالحج، وعلى هذا "قال النبي صلى الله عليه وسلم، حين سئل عن الاستطاعة، فقال: هي الزاد والراحلة" . انتهى كلامه.

ورد عليه بأن الكاملين في باب التوكل لا يطعن عليهم إن سافروا بغير زاد، لأنه صح: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خِماصاً، وتروح بطاناً" . وقال تعالى: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق: 3] وقد طوى قوم الأيام بلا غذاء، وبعضهم اكتفى باليسير من القوت في الأيام ذوات الأعداد، وبعضهم بالجرع من الماء.

وصح من حديث أبي ذر اكتفاؤه بماء زمزم شهراً، وخرج منها وله عكن، وأن جماعة من الصحابة اكتفوا أياماً كثيرة، كل واحد منهم بتمرة في اليوم.

فأما خرق العادات من دوران الرحى بالطحين، وامتلاء الفرن بالعجين، وإن لم يكن هناك طعام، ونحو ذلك، فحكوا وقوع ذلك. وقد شرب سفيان بن عيينة فضلة سفيان الثوري من ماء زمزم فوجدها سويقاً، وقد صح وثبت خرق العوائد لغير الأنبياء عليهم السلام، فلا يتكرر ذلك إلاَّ مِنْ مدَّعِ ذلك، وليس هو على طريق الاستقامة ككثير ممن شاهدناهم يدعون، ويدعى ذلك لهم.

{ واتقون } هذا أمر بخوف الله تعالى، ولما تقدم ما يدل على اجتناب أشياء في الحج، وأمروا بالتزود للمعاد، وأخبر بالتقوى عن خير الزاد، ناسب ذلك كله الأمر بالتقوى، والتحذير من ارتكاب ما تحل به عقوبته، ثم قال { يا أولي الألباب } تحريكاً لامتثال الأمر بالتقوى، لأنه لا يحذر العواقب، إلاَّ مَن كان ذا لبٍّ، فهو الذي تقوم عليه حجة الله، وهو القابل للأمر والنهي، وإذا كان ذو اللب لا يتقي الله، فكأنه لا لب له، وقد تقدم الكلام على مثل هذا النداء في قوله: { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } [البقرة: 179] فأغنى عن إعادته.

والظاهر من اللب أنه لب مناط التكليف، فيكون عاماً، لا اللب الذي هو مكتسب بالتجارب، فيكون خاصاً، لأن المأمور باتقاء الله هم جميع المكلفين.

{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } سبب نزولها أن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية. كعكاظ، وذي المجاز، ومجنة، فأباح الله لهم ذلك، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وعطاء؛ وقال مجاهد أيضاً: كان بعض العرب لا ينحرون مذ يحرمون، فنزلت في إباحة ذلك، وروي عن ابن عمر أنها نزلت فيمن يكري في الحج، وأن حجه تام.

وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير: فضلاً من ربكم في مواسم الحج، والأَوْلى جعل هذا تفسيراً، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه الأمة.

والجناح معناه: الدرك، وهو أعم من الإِثم، لأنه فيما يقتضي العقاب، وفيما يقتضي الزجر والعقاب، وعنى بالفضل هنا الأرباح التي تكون سبب التجارة، وكذلك ما تحصل عن الأجر بالكراء في الحج، وقد انعقد الإجماع على جواز التجارة والاكتساب بالكل، والإتجار إذا أتى بالحج على وجهه إلاَّ ما نقل شاذاً عن سعيد بن جبير، وأنه سأله أعرابي أن أكري إبلي، وأنا أريد الحج أفيجزيني؟ قال: «لا، ولا كرامة». وهذا مخالف لظاهر الكتاب والإجماع فلا يعول عليه.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما نهى عن الجدال، والتجارة قد تفضي إلى المنازعة، ناسب أن يتوقف فيها لأن ما أفضى إلى المنهي عنه منهي عنه، أو لأن التجارة كانت محرمة عند أهل الجاهلية وقت الحج، إذ من يشتغل بالعبادة يناسبه أن لا يشغل نفسه بالأكساب الدنيوية، أو لأن المسلمين لما صار كثير من المباحات محرماً عليهم في الحج، كانوا بصدد أن تكون التجارة من هذا القبيل عندهم، فأباح الله ذلك، وأخبرهم أنه لا درك عليهم فيه في أيام الحج. ويؤيد ذلك قراءة من قرأ: في مواسم الحج.

وحمل أبو مسلم الآية على أنه: فيما بعد الحج، ونظيره: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [الجمعة: 10] فقاس: الحج، على: الصلاة، وضعف قوله بدخول الفاء في: فإذا قضيتم، وهذا فصل بعد ابتغاء الفضل، فدل على أن ما قبل الإِفاضة، وقع في زمان الحج. ولأن محل شبهة الامتناع هو التجارة في زمان الحج، لا بعد الفراغ منه، لأن كل أحد يعلم حِلّ التجارة إذ ذاك، فحمْله على محل الشبهة أولى، ولأن قياس الحج على الصلاة، قياس فاسد، لاتصال أعمال الصلاة بعضها ببعض، وافتراق أعمال الحج بعضها من بعض، ففي خلالها يبقى الحج على الحكم الأول، حيث لم يكن حاجاً، لا يقال: حكم الحج مستحب عليه في تلك الأوقات، بدليل حرمة الطيب واللبس ونحوهما، لأنه قياس في مقابلة النص، فهو ساقط. ونسب للياه فزان.

الفضل هنا هو ما يعمل الإنسان مما يرجو به فضل الله ورحمته، من إعانة ضعيف، وإغاثة ملهوف، وإطعام جائع؛ واعترضه القاضي بأن هذه الأشياء واجبة أو مندوب إليها، فلا يقال فيها: لا جناح عليكم، إنما يقال: في المباحات والتجارة إن أوقعت نقصاً في الطاعة: لم تكن مباحة، وإن لم توقع نقصاً فالأولى تركها، فهي إذاً جارية مجرى الرخص.

وتقدم إعراب مثل: أن تبتغوا، في قوله: { { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } [البقرة: 158] و: من وبكم، متعلق: بتبتغوا، و: من، لابتداء الغاية، أو بمحذوف، وتكون صفة لفضل. فتكون: من، لإبتداء الغاية أيضاً، أو للتبعيض، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي: من فضول.

{ فإذا أفضتم من عرفات } قيل: فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة، لأن الإفاضة لا تكون إلاَّ بعده. انتهى هذا القول، ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب، إنما يعلم منه الحصول في عرفة، والوقوف بها، فهل ذلك على سبيل الوجوب أو الندب؟ لا دليل في الآية على ذلك، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك.

وقال في (المنتخب): الإِفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات، وما لا يتم الواجب إلاَّ به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب، فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج، فإذا لم يأت به لم يكن إيتاء بالحج المأمور به، فوجب أن لا يخرج عن العهدة، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً. انتهى كلامه.

فقوله: الإِفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات، كلام مبهم، فإن عنى مشروط وجودها، أي: وجود الإِفاضة بالحصول في عرفات، فصحيح، والوجود لا يدل على الوجوب، وإن عنى مشروط وجوبها بالحصول في عرفات فلا نسلم ذلك، بل نقول: لو وقف بعرفة واتخذها مسكناً إلى أن مات لم تجب عليه الإِفاضة منها، ولم يكن مفرطاً في واجب إذا مات بها، وحجه تام إذا كان قد أتى بالأركان كلها.

وقوله: وما لا يتم الواجب، إلى آخر الجملة، مرتبة على أن الإِفاضة واجبة، وقد منعنا ذلك وقوله: فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج، مبني على ما قبله، وقد بينا أنه لا يلزم ذلك، و: إذا، لا تدل على تعين زمان، بل تدل على تيقن الوجود أو رجحانه، فظاهره يقتضي أنه: متى أفاض من عرفات جاز له ذلك، واقتضى ذلك أن الوقوف بعرفة الذي تعتقبه الإِفاضة كان مجزياً.

ووقت الوقوف من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر بلا خلاف، وأجمعوا على أن من وقف بالليل فحجه تام، ولو أفاض قبل الغروب، وكان وقف بعد الزوال، فأجمعوا على أن حجة تام، إلاَّ مالكاً فقال: يبطل حجه.

وروي نحوه عن الزبير، وقال مالك: ويحج من قابل وعليه هدي ينحره في حجه القابل.

ومن قال: حجه تام، فقال الحسن: عليه هدي، وقال ابن جريج: بدنة، وقال عطاء، والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور: عليه دم.

ولو أفاض قبل الغروب ثم عاد إلى عرفة، فدفع بعد الغروب، فذهب أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور، إلى أنه لا يسقط الدم. وذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وداود الطبري إلى أنه لا شيء عليه. وحديث عروة بن مضرس: "وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه، وقضى تفثه" ، موافق لظاهر الآية في عدم اشتراط جزء من الليل إلاَّ ما صدّ عنه الإجماع من أن الوقوف قبل الزوال لا يجزئ، وأن من أفاض نهاراً لا شيء عليه.

و: من، في قوله: من عرفات، لابتداء الغاية، وهي تتعلق: بأفضتم، وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات، فمن أي نواحيها أفاض أجزأه، ويقتضي ذلك جواز الوقوف، بأي نواحيها وقف، والجمهور على أن عرنة من عرفات. وحكى الباجي، عن ابن حبيب: أن عرنة في الحل، وعرنة في الحرم، وقيل: الجدار الغربي من مسجد عرنة لو سقط سقط في بطن عرنة، ومن قال: بطن عرنة من عرفات، فلو وقف بها فروي عن ابن عباس، والقاسم، وسالم أنه: من أفاض من عرنة لا حج له، وذكره ابن المنذر عن الشافعي، وأبو المصعب عن مالك، وروى خالد بن نوار عن مالك أن حجه تام. ويهريق دماً، وذكره ابن المنذر عن مالك أيضاً.

وروي: "عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة" ؛ وأكثر الآثار ليس فيها هذا الاستثناء، فهي كظاهر الآية.

وكيفية الإفاضة أن يسيروا سيراً جميلاً، ولا يطؤا ضعيفاً، ولا يؤذوا ماشياً، إذ "كان صلى الله عليه وسلم إذا دفع من عرفات أعنق، وإذا وجد فرجة نص" . والعنق: سير سريع مع رفق، والنص: سير شديد فوق العتق، قاله الأصمعي، والنضر بن شميل. ولو تأخر الإمام من غير عذر دفع الناس.

والتعريف الذي يصنعه الناس في المساجد، تشبيهاً بأهل عرفة، غير مشروع، فقال بعض أهل العلم: هو ليس بشيء، وأول من عرّف ابن عباس بالبصر، وعرف أيضاً عمرو بن حريث، وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس، وقد فعله غير واحد: الحسن، وبكر، وثابت، ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة.

وأما الصوم يوم عرفة للواقفين بها، فقال يحيــــى بن سعيد الأنصاري: يجب عليهم الفطر، وأجازه بعضهم، وصامه عثمان بن القاضي، وابن الزبير، وعائشة. وقال عطاء: أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف، والجمهور على أن ترك الصوم أولى، اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ فاذكروا الله عند المشعر الحرام } الفاء جواب إذا، والذكر هنا الدعاء والتضرع والثناء، أو صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة، أو الدعاء. وهذه الصلاة أقوال ثلاثة يبني عليها أهل الأمر: أمر ندب، أم أمر وجوب؟ وإذا كان الذكر هو الصلاة فلا دلالة فيه على الجمع بين الصلاتين، فيصير الأمر بالذكر بالنسبة إلى الجمع بين الصلاتين مجملاً ببينة فعله صلى الله عليه وسلم، وهو سنة بالمزدلفة. ولو صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة، فقال أبو حنيفة، ومحمد: لا يجزئه، وقال عطاء، وعروة، والقاسم، وابن جبير، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: ليس الجمع شرطاً للصحة.

ومن له عذر عن الإِفاضة ممن وقف مع الإِمام صلى كل صلاة لوقتها، قاله ابن المواز.

وقال مالك: يجمع بينهما إذا غاب الشفق، وقال ابن القاسم: إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل، فليؤخر الصلاتين حتى يأتيها، وإلاَّ صلى كل صلاة لوقتها.

وهل يصليهما بإقامتين دون أذان؟ أو بأذان واحد للمغرب وإقامتين؟ أو بأذانين وإقامتين؟ أو بأذان وإقامة للأولى، وبلا أذان ولا إقامة للثانية؟ أقوال أربعة.

الأول: قول سالم، والقاسم، والشافعي، وإسحاق، وأحمد في أحد قوليه.

والثاني: قول زفر، والطحاوي، وابن حزم، وروي عن أبي حنيفة.

والثالث: قول مالك.

والرابع: قول أبي حنيفة، والسنّة أن لا يتطوع الجامع بينهما.

والمشعر مفعل من شعر، أي: المعلم: والحرام لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما نهي عنه من محظورات الإحرام. وهذا المشعر يسمى: جمعاً، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى عرفة إلى بطن محسر، قاله ابن عباس، وابن عمر، وابن جبير، ومجاهد؛ وتسمي العرب وادي محسر: وادي النار، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام، والمأزم. المضيق، وهو مضيق واحد بين جبلين، ثنوه لمكان الجبلين. وقيل: المشعر الحرام هو قزح، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام، وعليه الميقدة. قيل: وهو الصحيح لحديث جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما صلى الفجر، يعني بالمزدلفة، بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام، فدعا وكبر وهلل، ولم يزل واقفاً حتى أسفر" ، فعلى هذا لم تتعرض الآية المذكور للذكر بالمزدلفة، لا على أنه الدعاء ولا الصلاة بها، وإنما هذا أمر بالذكر عند هذا الجبل، وهو قزح الذي ركب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عنده وكبر وهلل، ووقف بعد صلاته الصبح بالمزدلفة بغلس حتى أسفر، ويكون ثم جملة محذوفة التقدير: فإذا أفضتم من عرفات، ونمتم بالمزدلفة، فاذكروا الله عند المشعر الحرام. ومعنى العندية هنا القرب منه، وكونه يليه.

ومزدلفة كلها موقف، إلاّ وادي محسر، وجعلت كلها موقفاً لكونها في حكم المشعر، ومتصلة به، وقيل: سميت المزدلفة وما تضمنه الحد الذي ذكر مشعراً، ووحد لاستوائه في الحكم، فكان كالمكان الواحد.

وقال في (المنتخب): هذا الأمر يدل على أن الحصول عند المشعر الحرام واجب، ويكفي فيه المرور كما في عرفة، فأما الوقوف هناك فمسنون. انتهى كلامه.

وكون الوقوف مسنوناً هو قول جمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: هو واجب، فمن تركه من غير عذر فعليه دم، فإن كان له عذر أو خاف الزحام فلا بأس أن يعجل بليل. ولا شيء عليه.

وقال ابن الزبير، والحسن، وعلقمة، والشعبي، والنخعي، والأوزاعي: الوقوف بمزدلفة فرض، ومن فاته فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة.

والآية لا تدل إلاّ على مطلوبية الذكر عند المشعر الحرام، لا على الوقوف، ولا على المبيت بمزدلفة، وأجمعوا على أن المبيت ليس بركن. وقال مالك: من لم يبت بها فعليه دم، وإن أقام بها أكثر ليلة فلا شيء عليه، لأن المبيت بها سنة مؤكدة، عند مالك. وهو مذهب عطاء، وقتادة، والزهري، والثوري، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.

وقال الشافعي: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، أو قبله افتدى، والفدية شاة.

ومطلق الأمر بالذكر لا يدل على ذكر مخصوص. قال بعضهم: وأولى الذكر أن يقول: اللهم كما وفقتنا فيه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق { فإذا أفضتم } ويتلو إلى قوله: { إن الله غفور رحيم } ثم بعد ذلك يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة.

والذي يظهر أن ذكر الله هنا هو الثناء عليه، والحمد له، ولا يراد بذكر الله هنا ذكر لفظة الله، وإنما المعنى: اذكروا الله بالألفاظ الدالة على تعظيمه، والثناء عليه، والمحمدة له. وعند منصوب بأُذكروا، وهذا مما يدل على أن جواب: إذا، لا يكون عاملاً فيها، لأن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر، لأن ذلك عرفات، وهذا المشعر الحرام، وإذا اختلف المكانان لزم من ذلك ضرورة اختلاف الزمانين، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعاً وقت إنشاء الإفاضة.

{ واذكروه كما هداكم } هذا الأمر الثاني هو الأول، وكرر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر، لأن الذكر من أفضل العبادات، أو غير الأول، فيراد به تعلقه بتوحيد الله، أي: واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته، أو اتصال الذكر لمعنى: اذكروه ذكراً بعد ذكر، قال هذا القول محمد بن قاسم النحوي: أو الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع، ويراد بالأول صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة، حكاه القاضي أبو يعلى.

والكاف في: كما، للتشبيه، وهي في موضع نصب إما على النعت لمصدر محذوف، وإما على الحال. وقد تقدّم هذا البحث في غير موضع.

والمعنى: أوجدوا الذكر على أحسن أحواله من مماثلته لهداية الله لكم، إذ هدايته إياكم أحسن ما أسدي إليكم من النعم، فليكن الذكر من الحضور والديمومة في الغاية حتى تماثل إحسان الهداية، ولهذا المعنى قال الزمخشري: أذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هدية حسنة. انتهى.

ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل على مذهب من أثبت هذا المعنى للكاف، فيكون التقدير: كما هداكم، أي: أذكروه وعظموه للهداية السابقة منه تعالى لكم، وحكى سيبويه: كما أنه لا يعلم، فتجاوز الله عنه، أي: لأنه لا يعلم، وأثبت لها هذا المعنى الأخفش، وابن برهان. وما، في: كما، مصدرية أي: كهدايته إياكم، وجوّز الزمخشري، وابن عطية أن تكون: ما، كافة للكاف عن العمل، والفرق بينهما أن: ما، المصدرية تكون هي وما بعدها في موضع جر، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر، والكاف لا يكون ذلك فيها إذ لا عمل لها البتة، والأوْلى حملها على أن: ما، مصدرية لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر، وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بما عن العمل أبو سعد، وعلي بن مسعود بن الفرُّخَال صاحب (المستوفي) واحتج من أثبت ذلك بقول الشاعر:

لعمرك إنني وأبا حميدٍ كما النشوان والرجل الحليم
أريد هجاءه وأخاف ربي وأعلم أنه عبد لئيم

والهداية هنا خاصة، أي: بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه، فما عامة تتناول أنواع الهدايات من معرفة الله، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه.

{ وإن كنتم من قبله لمن الضالين } إن هنا عند البصريين هي التي للتوكيد المخففة من الثقيلة، ودخلت على الفعل الناسخ كما دخلت على الجملة الابتدائية. واللام في: لمن، وما أشبهه فيها خلاف: أهي لام الابتداء لزمت للفرق؟ أم هي لام أخرى اجتلبت للفرق؟ ومذهب الفراء. في إن نحو هذا هي النافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلاّ، وذهب الكسائي إلى أنّ: بمعنى: قد، إذا دخل على الجملة الفعلية، وتكون اللام زائدة، وبمعنى: ما، النافية إذا دخل على الجملة الإسمية، واللام بمعنى إلاّ، ودلائل هذه المسألة تذكر في علم النحو.

فعلى قول البصريين: تكون هذه الجملة مثبتة مؤكدة لا حصر فيها، وعلى مذهب الفراء: مثبتة إثباتاً محصوراً، وعلى مذهب الكسائي: مثبتة مؤكدة من جهة غير جهة قول البصريين.

ومن قبله، يتعلق بمحذوف، ويبينه قوله: لمن الضالين، التقدير: وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل الواقع صلة للألف واللام، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله: من الضالين، وقد تقدّم نظير هذا.

والهاء في قبله، عائدة على الهدى المفهوم من قوله: هداكم، أي: وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين، ذكرهم تعالى بنعمة الهداية التي هي أتم النعم ليوالوا ذكره والثناء عليه تعالى، والشكر الذي هو سبب لمزيد الإنعام، وقيل: تعود الهاء على القرآن، وقيل: على النبي صلى الله عليه وسلم.

والظاهر في الضلال أنه ضلال الكفر، كما أن الظاهر في الهداية هداية الإيمان، وقيل: من الضالين عن مناسك الحج، أو عن تفصيل شعائره.

{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } صح عن عائشة قالت: كان الحمس هم الذين أنزل الله تعالى فيهم: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } رجعوا إلى عرفات، وفي (الجامع) للترمذي عن عائشة قالت: كانت قريش ومن على دينها، وهم الحمس، يقفون بالمزدلفة، يقولون: نحن قطان الله، وكان من سواهم يقفون بعرفة، فأنزل الله: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

وروى محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: خرجت في طلب بعير بعرفة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً بعرفة مع الناس قبل أن يبعث، فقلت: والله إن هذا من الحمس، فما شأنه واقفاً هاهنا مع الناس؟ وكان وقوف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة إلهاماً من الله تعالى وتوفيقاً إلى ما هو شرع الله ومراده، وكانت قريش قد ابتدعت أشياء: لا يأقطون الأقط، ولا يسلون السمن وهم محرمون، ولا يدخلون بيتاً من شعر، ولا يستظلون إلاّ في بيوت الأدم، ولا يأكلون حتى يخرجوا إلى الحل وهم حرم، ولا يطوف القادم إلى البيت إلاّ في ثياب الحمس، ومن لم يجد ذلك طاف عرياناً، فإن طاف بثيابه ألقاها فلا يأخذها أبداً، لا هو ولا غيره، وتسمي العرب تلك الثياب: اللقى، وسمحوا للمرأة أن تطوف وعليها درعها، وكانت قبل تطوف عريانة، وعلى فرجها نسعة، حتى قالت امرأة منهم:

اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

فلما أنزل الله { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } وأنزل: { خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [الأعراف: 31] أباح لهم ما حرموا على أنفسهم من الوقوف بعرفة، ومن الأكل والشرب واللباس، فعلى هذا الذي نقل من سبب النزول، فيكون المخاطبون بالإفاضة هنا قريشاً وحلفاءها، ومن دان بدينها، وهم الحمس. وهذا قول الجمهور. وقيل: الخطاب عام لقريش وغيرها.

والإفاضة المأمور بها هي من عرفات، إلاَّ أن: ثم، على هذا، تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق، وقد قال: { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المسجد الحرام واذكروه كما هداكم ثم أفيضوا } الإفاضة قد تقدمّت، وأمروا بالذكر إذا أفاضوا، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بثم التي تقتضي التراخي في الزمان؟ وأجيب عن هذا بوجوه.

أحدهما: أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأموراً بها، إنما كان المأمور به ذكر الله إذا فعلت، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدل على الأمر بها، ألا ترى أنك تقول: إذا ضربك زيد فاضربه؟ فلا يكون زيداً مأموراً بالضرب، فكأنه قيل: ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات لا من المزدلفة كما تفعله الحمس، وزعم بعضهم أن: ثم، هنا بمعنى الواو، لا تدل على ترتيب، كأنه قال: وأفيضوا من حيث أفاض الناس، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول، وقد جوّز بعض النحويين أن: ثم، تأتي بمعنى الواو، فلا ترتيب. وقد حمل بعض الناس: ثم، هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديماً وتأخيراً، فجعل: { ثم أفيضوا } معطوفاً على قوله: { واتقون يا أولي الألباب } كأنه قيل: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم، فإذا أفضتم من عرفات، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها، تلك الإفاضة المأمور بها، لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة، وننزه القرآن عن حمله عليه، وقد أمكن ذلك بجعل: ثم، للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان، أو بجعل الإفاضة المأمور بها هنا غير الإفاضة المشروط بها، وتكون هذه الإفاضة من جمع إلى منى، والمخاطبون بقوله { ثم أفيضوا } جميع المسلمين، وقد قال بهذا: الضحاك، وقوم معه، ورجحه الطبري، وهو يقتضيه ظاهر القرآن. وقال الزمخشري فإن قلت: فكيف موقع: ثم؟ قلت: نحو موقعها في قولك: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، يأتي: ثم، لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات، قال: ثم أفيضوا، التفاوت ما بين الإفاضتين، وأن احدهما صواب والثانية خطأ. انتهى كلامه.

وليست الآية كالمثال الذي مثله، وحاصل ما ذكر أن: ثم، تسلب الترتيب، وأنها لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها، ولم يجز في الآية أيضاً ذكر الإفاضة الخطأ فيكون: ثم، في قوله: ثم أفيضوا، جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما، ولا نعلم أحداً سبقه إلى اثبات هذا المعنى لثم.

و: مِنْ حيث، متعلق: بأفيضوا، و: مِنْ، لابتداء الغاية، و: حيث، هنا على أصلها من كونها ظرف مكان، وقال القفال: من حيث أفاض الناس، عبارة عن زمان الإفاضة من عرفة، ولا حاجة إلى إخراج حيث عن موضوعها الأصلي، وكأنه رام أن يغاير بذلك بين الإفاضتين، لأن الأولى في المكان، والثانية في الزمان، ولا تغاير، لأن كلاًّ منهما يقتضي الآخر ويدل عليه، فهما متلازمان. أعني: مكان الإفاضة من عرفات، وزمانها. فلا يحصل بذلك جواب عن مجيء العطف بثم.

و: الناس، ظاهره العموم في المفيضين، ومعناه أنه الأمر القديم الذي عليه الناس، كما تقول: هذا مما يفعله الناس، أي عادتهم ذلك، وقيل: الناس أهل اليمن وربيعة، وقيل: جميع العرب دون الحمس، وقيل: الناس إبراهيم ومن أفاض معه من أبنائه والمؤمنين به، وقيل: إبراهيم وحده، وقيل: آدم وحده، وهو قول الزهري لأنه أبو الناس وهم أولاده وأتباعه، والعرب تخاطب الرجل العظيم الذي له أتباع مخاطبة الجمع، وكذلك من له صفات كثيرة، ومنه قوله:

فأنت الناس إذ فيك الذي قد حواه الناس من وصف جميل

ويؤيده قراءة ابن جبير: من حيث أفاض الناسي، بالياء من قوله: { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي } [طه: 115] وإطلاق الناس على: واحد من الناس هو خلاف الأصل، وقد رجح هذا بأن قوله: { من حيث أفاض الناس } هو فعل ماض يدل على فاعل متقدم، والإفاضة إنما صدرت من آدم وإبراهيم، ولا يلزم هذا الترجيح، لأن: حيث، إذا أضيفت إلى جملة مصدرة بماض جاز أن يراد بالماضي حقيقته، كقوله تعالى: { فأتوهنّ من حيث أمركم الله } [البقرة: 222] وتارة يراد به المستقبل، كقوله تعالى { ومن حيث خرجت فول وجهك } [البقرة: 149، 150] وهذا معروف في حيث، فلا يلزم ما ذكره.

وعلى تسليم أنه فعل ماض، وأنه يدل على فاعل متقدم لا يلزم من ذلك أن يكون فاعله واحداً لأنه قبل صدور هذا الأمر بالإضافة كان إما جميع من أفاض قبل تغيير قريش ذلك، وإما غير قريش بعد تغييرهم من سائر من حج من العرب، فالأولى حمل الناس على جنس المفيضين العام، أو على جنسهم الخاص.

وقد رجح قول من قال بأنهم أهل اليمن وربيعة بحج أبي بكر بالناس، حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يخرج بالناس إلى عرفات فيقف بها، فإذا غربت الشمس أفاض بالناس حتى يأتى بهم جميعاً، فيبيت بها، فتوجه أبو بكر إلى عرفات، فمر بالحمس وهم وقوف بجمع، فلما ذهب ليجاوزهم قالت له الحمس: يا أبا بكر: أين تجاوزنا إلى غيرنا؟ هذا موقف آبائك! فمضى أبو بكر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفات، وبها أهل اليمن وربيعة. وهذا تأويل قوله: { من حيث أفاض الناس } فوقف بها حتى غربت الشمس، ثم أفاض بالناس إلى المشعر الحرام، فوقف بها، فلما كان عند طلوع الشمس أفاض منه.

وقراءة ابن جبير: من حيث أفاض الناسي، بالياء، قراءة شاذة، وفيها تنبيه على أن الإفاضة من عرفات شرع قديم، وفيها تذكير يذكر عهد الله وأن لا ينسى، وقد ذكرنا أنه يؤول على أن المراد بالناسي آدم عليه السلام، ويحتمل أن يكون الناسي في قراءة سعيد معناه التارك، أي: للوقوف بمزدلفة، أو لا، ويكون يراد به الجنس، إذ الناسي يراد به التارك للشيء، فكأن المعنى، والله أعلم: أنهم أمروا بأن يفيضوا من الجهة التي يفيض منها من ترك الإفاضة من المزدلفة، وأفاض من عرفات، ويكون الناسي يراد به الجنس، فيكون موافقاً من حيث المعنى لقراءة الجمهور، لأن الناس الذين أمرنا بالإفاضة من حيث أفاضوا، هم التاركون للوقوف بمزدلفة، والجاعلون الإفاضة من عرفات على سنن من سن الحج، وهو إبراهيم عليه السلام، بخلاف قريش، فإنهم جعلوا الإفاضة من المزدلفة، ولم يكونوا ليقفوا بعرفات فيفيضوا منها.

قال ابن عطية: ويجوز عند بعضهم حذف الياء، فيقول: الناسِ، كالقاضِ والهادِ، قال: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما كون جوازه مقروءاً به فلا أحفظه. انتهى كلامه.

فقوله: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، ظاهر كلام ابن عطية أن ذلك جائز مطلقاً، ولم يجزه سيبويه إلاّ في الشعر، وأجازه الفرّاء في الكلام. وأما قوله: وأما جوازه مقروءاً به فلا أحفظه، فكونه لا يحفظه قد حفظه غيره.

قال أبو العباس المهدوي: أفاض الناسي بسعيد بن جبير، وعنه أيضاً: الناسِ بالكسر من غير ياء. انتهى قول أبي العباس المهدوي.

{ واستغفروا الله } أمرهم بالاستغفار في مواطن مظنة القبول، وأماكن الرحمة، وهو طلب الغفران من الله باللسان مع التوبة بالقلب، إذ الاستغفار باللسان دون التوبة بالقلب غير نافع، وأمروا بالاستغفار، وإن كان فيهم من لم يذنب، كمن بلغ قبيل الإحرام ولم يقارف ذنباً وأحرم، فيكون الاستغفار من مثل هذا لأجل أنه ربما صدر منه تقصير في أداء الواجبات والاحتراز من المحظورات، وظاهر هذا الأمر أنه ليس طلب غفران من ذنب خاص، بل طلب غفران الذنوب، وقيل: إنه أمر بطلب غفران خاص، والتقدير: واستغفروا الله مما كان من مخالفتكم في الوقوف والإفاضة، فإنه غفور لكم، رحيم فيما فرطتم فيه في حلكم وإحرامكم، وفي سفركم ومقامكم. وفي الأمر بالاستغفار عقب الإفاضة، أو معها، دليل على أن ذلك الوقت، وذلك المكان المفاض منه، والمذهوب إليه من أزمان الإجابة وأماكنها، والرحمة والمغفرة.

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب عشية عرفة فقال: "أيها الناس! إن الله تعالى تطاول عليكم في مقامكم، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم، إلاَّ التبعات فيما بينكم، فامضوا على اسم الله" فلما كان غداة جمع خطب فقال: "أيها الناس! إن الله قد تطاول عليكم، فعوّض التبعات من عنده" .

وأخرج أبو عمرو بن عبد البر في (التمهيد) ثلاثة أحاديث تدل على أن الله تعالى يباهي بحجاج بيته ملائكته، وأنه يغفر لهم ما سلف من ذنوبهم، وأنه ضمن عنهم التبعات.

و: استغفر، يتعدى لاثنين، الثاني منهما بحرف الجر، وهو من: فعول، استغفرت الله من الذنب، وهو الأصل، ويجوز أن تحذف: من، كما قال الشاعر:

أستغفر الله ذنباً لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل

تقديره: من ذنب، وذهب أبو الحسن بن الطراوة إلى أن: استغفر، يتعدى بنفسها إلى مفعولين صريحين، وأن قولهم: استغفر الله من الذنب، إنما جاء على سبيل التضمين، كأنه قال: تبت إلى الله من الذنب، وهو محجوج بقول سيبويه، ونقله عن العرب وذلك مذكور في علم النحو، وحذف هنا المفعول الثاني للعلم به، ولم يجىء في القرآن مثبتاً، لا مجروراً بمن، ولا منصوباً، بخلاف: غفر، فإنه تارة جاء في القرآن مذكوراً مفعوله، كقوله: { ومن يغفر الذنوب إلا الله } [آل عمران: 135] وتارة محذوفاً. كقوله تعالى: { يغفر لمن يشاء } وجاء: استغفر، أيضاً معدّى باللام، كما قال تعالى: { فاستغفروا لذنوبهم } [آل عمران: 135] { واستغفر لذنبك } [غافر: 55، محمد: 19] وكأن هذه اللام، والله أعلم، لام العلة، وأن ما دخلت عليه مفعول من أجله، واستفعل هنا للطلب، كاستوهب واستطعم واستعان، وهو أحد المعاني التي جاء لها استفعل، وقد ذكرنا ذلك في قوله: { وإياك نستعين } [الفاتحة: 5].

{ إن الله غفور رحيم } هذا كالسبب في الأمر بالاستغفار، وهو أنه تعالى كثير الغفران، كثير الرحمة، وهاتان الصفتان للمبالغة، وأكثر بناء: فعول، من: فَعَلَ، نحو: غفور، وصفوح، وصبور، وشكور، وضروب، وقتول، وتروك، وهجوم، وعلوك، وأكثر بناء: فعيل، من فَعِلَ بكسر العين نحو: رحيم، وعليم، وحفيظ، وسميع، وقد يتعارضان. قالوا: رقب فهو رقيب، وقدر فهو قدير، وجهل فهو جهول؛ وقد تقدم الكلام على نحو هذه الجمل، أعني: أن يكون آخر الكلام ذكر اسم الله، ثم يعاد بلفظه بعد: إن، والأولى أن يطلق الغفران والرحمة، وإن ذلك من شأنه تعالى.

وقيل: إن المغفرة الموعودة في الآية هي عند الدفع من عرفات، وقيل: إنها عند الدفع من جُمع إلى منى، والأولى ما قدمناه.

{ فاذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } وسبب نزولها أنهم كانوا إذا اجتمعوا في الموسم تفاخروا بآبائهم، فيقول أحدهم: كان يقرى الضيف، ويضرب بالسيف، ويطعم الطعام، وينحر الجزور، ويفك العاني، ويجر النواصي، ويفعل كذا وكذا. فنزلت.

وقال الحسن: كانوا إذا حدثوا أقسموا بالآباء، فيقولون. وأبيك، فنزلت.

وقال السدي: كانوا إذا قضوا المناسك وأقاموا بمنى يقوم الرجل ويسأل الله فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، كثير المال فأعطني بمثل ذلك! ليس يذكر الله، إنما يذكر أباه ويسأل الله أن يعطيه في دنياه، وقال: معناه أبو وائل، وابن زيد، فنزلت: فإذا قضيتم، أي أديتم وفرغتم. كقوله: { فإذا قضيت الصلاة } [الجمعة: 10] أي: أديت، وقد يعبر بالقضاء عن ما يفعل من العبادات خارج الوقت المحدود، والقضاء إذا علق على فعل النفس فالمراد منه الإتمام والفراغ، كقوله: "وما فاتكم فاقضوا" وإذا علق على فعل غيره، فالمراد منه الإلزام، كقوله: قضى الحاكم بينهما، والمراد من الآية الفراغ.

وقال بعض المفسرين: يحتمل أن يكون هذا الشرط والجزاء، كقولك: إذا حججت فطف وقف بعرفة، فلا نعني بالقضاء الفراغ من الحج، بل الدخول فيه، ونعني بالذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات، والمشعر الحرام، والطواف والسعي، فيكون المعنى: فاذا شرعتم في قضاء المناسك، أي: في أدائها فاذكروا. وهذا خلاف الظاهر، لأن الظاهر الفراغ من المناسك لا الشروع فيها، ويؤيد ذلك مجيء الفاء في: فإذا، بعد الجمل السابقة.

والمناسك هي مواضع العبادة، فيكون هذا على حذف مضاف، أي: أعمال مناسككم، أو العبادات نفسها المأمور بها في الحج، قاله الحسن، أو الذبائح وإراقة الدماء، قاله مجاهد.

فاذكروا الله: هذا جواب: إذ، والمعنى: إذا فرغتم من الوقوف بعرفة، ونفرتم من منى، فعظموا الله وأثنوا عليه إذ هداكم لهذه الطاعة، وسهلها ويسرها عليكم، حتى أديتم فرض ربكم وتخلصتم من عهدة هذا الأمر الشاق الصعب الذي لا يبلغ إلا بالتعب الكثير، وانهماك النفس والمال، وقيل: الذكر هنا هو ذكر الله على الذبيحة، وقيل: هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشريق، وقيل: بل المقصود تحويلهم عن ذكر آبائهم إلى ذكره تعالى كذكركم آباءكم تقدم هذا هو ذكر مفاخرهم، أو السؤال من الله أن يعطيهم مثل ما أعطى آباءهم، أو القسم بآبائهم، وقيل: ذكر آبائهم في حال الصغر، ولهجه بأبيه يقول: أبه أبه، أول ما يتكلم. وقيل: معنى الذكر هنا الغضب لله كما تغضب لوالديك إذا سُبَّا، قاله أبو الجوزاء، عن ابن عباس. ونقل ابن عطية أن محمد بن كعب القرظي قرأ: كذكركم آباؤكم، برفع ألآباء، ونقل غيره عن محمد بن كعب أنه قرأ: أباكم، على الإفراد، ووجه الرفع أنه فاعل بالمصدر، والمصدر مضاف إلى المفعول، التقدير: كما يذكركم آباؤكم. والمعنى: ابتهلوا بذكر الله والهجوا به كما يلهج المرء بذكر ابنه. ووجه الإفراد أنه استغنى به عن الجمع، لأنه يفهم الجمع من الإضافة إلى الجمع، لأنه معلوم أن المخاطبين ليس لهم أب واحد، بل آباء.

و: أو، هنا قيل: للتخيير، وقيل: للاباحة، وقيل: بمعنى بل أشدّ، جوزوا في إعرابه وجوهاً اضطروا إليها لاعتقادهم أن ذكراً بعد أشدّ تمييزاً بعد أفعل التفضيل، فلا يمكن إقراره تمييزاً إلاَّ بهذه التقادير التي قدَّورها، ووجه إشكال كونه تمييزاً أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده فإنه يكون غير الذي قبله، تقول: زيد أحسن وجهاً، لأن الوجه ليس زيداً فإذا كان من جنس ما قبله انخفض نحو زيد أفضل رجلٍ. فعلى هذا يكون التركيب في مثل: أضرب زيداً كضرب عمر وخالداً أو أشدّ ضرب، بالجر لا بالنصب، لأن المعنى أن أفعل التفضيل جنس ما قبله، فجوزوا إذ ذاك النصب على وجوه.

أحدها: أن يكون معطوفاً على موضع الكاف في: ذكركم، لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف، أي: ذكراً كذكركم آباءكم أو أشد، وجعلوا الذكر ذكراً على جهة المجاز، كما قالوا: شاعر شعر، قاله أبو علي وابن جني.

الثاني: أن يكون معطوفاً على آبائكم، قاله الزمخشري، قال: بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم، على أن ذكراً من فعل المذكور انتهى. وهو كلام قلق، ومعناه: أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير: أو قوماً أشد ذكراً من آبائكم، فكان القوم مذكورين، والذكر الذي هو تمييز بعد أشدّ هو من فعلهم، أي من فعل القوم المذكورين، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم، ومعنى قوله: من آبائكم أي: من ذكركم لآبائكم.

الثالث: أنه منصوب بإضمار فعل الكون. والكلام محمول على المعنى. التقدير: أو كونوا أشد ذكراً له منكم لأبائكم. ودل عليه أن معنى: فاذكروا الله؛ كونوا ذاكريه.

قال أبو البقاء: قال: وهذا أسهل من حمله على المجاز، يعنى في أن يجعل للذكر ذكر في قول أبي علي وابن جني.

وجوزوا الجر في أشد على وجهين. أحدهما: ان يكون معطوفاً على: ذكركم، قاله الزجاج، وابن عطية، وغيرهما. فيكون التقدير: أو كذكر أشدّ ذكراً، فيكون إذ ذاك قد جُعل للذكر ذكر.

الثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير المجرور بالمصدر في: كذكركم، قاله الزمخشري. قال ما نصه: أو أشدّ ذكراً في موضع جر، عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: كذكركم، كما تقول: كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكراً، وفي قول الزمخشري: العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيف، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكراً يماثل ذكر آبائهم أو أشدّ، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه، وهو أن يكون: أشدّ، منصوباً على الحال، وهو نعت لقوله: ذكراً لو تأخر، فلما تقدّم انتصب على الحال، كقولهم.

لمية موحشاً طلل

فلو تأخر لكان: لمية طلل موحش، وكذلك لو تأخر هذا لكان: أو ذكراً أشدّ، يعنى: من ذكركم آباءكم، ويكون إذ ذاك: أو ذكراً أشدّ معطوفاً على محل الكاف من: كذكركم، ويجوز أن يكون ذكراً مصدراً، لقوله: فاذكروا كذكركم، في موضع الحال، لأنه في التقدير: نعت نكرة تقدّم عليهما فانتصب على الحال، ويكون: أو أشدّ، معطوفاً على محل الكاف حالاً معطوفة على حال، ويصير كقوله: أضرب مثل ضرب فلان ضرباً، التقدير ضرباً مثل ضرب فلان، فلما تقدّم انتصب على الحال، وحسن تأخره أنه كالفاصلة في جنس المقطع. ولو تقدّم لكان: فاذكروا ذكراً كذكركم، فكان اللفظ يتكرر، وهم مما يجتنبون كثرة التكرار للفظ، فلهذا المعنى، ولحسن القطع، تأخر.

لا يقال في الوجه الأول: إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو: أو، وبين المعطوف الذي هو: ذكراً، بالحال الذي هو: أشدّ، وقد نصوا على أنه إذا جاز ذلك فشرطه أن يكون المفصول به قسماً أو ظرفاً أو مجروراً، وإن يكون حرف العطف على أزيد من حرف، وقد وجد هذا الشرط الآخر، وهو كون الحرف على أزيد من حرف، وفقد الشرط الأول، لأن المفصول به ليس بقسم ولا ظرف ولا مجرور، بل هو حال، لأن الحال هي مفعول فيها في المعنى، فهي شبيهة بالحرف، فيجوز فيها ما جاز في الظرف. وهذا أولى من جعل: ذكراً، تمييزاً لأفعل التفضيل الذي هو وصف في المعنى، فيكون: للذكر ذكر بأن ينصبه على محل الكاف، أو يجره عطفاً على ذكر المجرور بالكاف، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي: كونوا أشدّ، أو للذاكر الذكر، وبأن ينصبه عطفاً على: أباءكم، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفاً على المضاف إليه الذكر، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف، فينبغي أن ينزه القرآن عنها.

{ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } قالوا: بين تعالى حال الذاكرين له قبل مبعثه، وحال المؤمنين بعد مبعثه، وعلمهم بالثواب والعقاب. والذي يظهر أن هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك، وأنهم ينقسمون في السؤال إلى من يغلب عليه حب الدنيا، فلا يدعو إلاَّ بها، ومنهم من يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة، وإن هذا من الالتفات. ولو جاء على الخطاب لكان: فمنكم من يقول: ومنكم. وحكمة هذا الالتفات أنهم ما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل، وهو الاقتصار على الدنيا، فأبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر الله بأن جعلوا في صورة الغائبين، وهذا من التقسيم الذي هو من جملة ضروب البيان، وهو تقسيم بديع يحصره المقسم إلى هذين النوعين، لا على ما يذهب إليه الصوفية من أن ثَمَّ قِسماً ثالثاً لم يذكر لهم تعالى، قالوا: وهم الراضون بقضائه، المستسلمون لامره، الساكتون عن كل دعاء، وافتشاء، ومفعول آتنا الثاني محذوف، تقديره: ما تريد، أو: مطلوبنا، أو ما أشبه.

هذا وجعل في زائدة، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط، وكذلك جعل في بمعنى: من، حتى يكون في موضع المفعول، وحذف مفعولي آتي، وأحدهما جائز اختصاراً واقتصاراً، لأن هذا باب: أعطى، وذلك جائز فيه.

{ وما له في الآخرة من خلاق } تقدّم تفسير هذا في قوله: { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } [البقرة: 102] واحتملت هذه الجملة هنا معنيين: أحدهما: الاخبار بأنه لا نصيب له في الآخرة لاقتصاره على الدنيا. والثاني: أن يكون المعنى إخباراً عن الداعي بأنه ما له في الآخرة من طلب نصيب، فيكون هذا كالتوكيد لاقتصاره على طلب الدنيا، وجمع في قوله: { ربنا آتنا في الدنيا } ولو جرى على لفظٍ من، لكان: ربّ آتني. وروعي الجمع هنا لكثرة من يرغب في الاقتصار على مطالب الدنيا ونيلها، ولو أفرد لتوهم أن ذلك قليل.

{ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } الحسنة: مطلقة، والمعنى: أنهم سألوا الله في الدنيا الحالة الحسنة، وقد مثل المفسرون ذلك بأنها المرأة الصالحة، قاله علي. أو: العافية في الصحة وكفاف المال، قاله قتادة. أو: العلم، أو العبادة، قاله الحسن. أو: المال، قاله السدي، وأبو وائل، وابن زيد. أو: الرزق الواسع، قاله مقاتل. أو: النعمة في الدنيا، قاله: ابن قتيبة، أو القناعة بالرزق، أو: التوفيق والعصمة، أو: الأولاد الأبرار، أو: الثبات على الإيمان، أو: حلاوة الطاعة، أو: اتباع السنة، أو: ثناء الخلق، أو: الصحة والأمن والكفاءة والنصرة على الأعداء، أو: الفهم في كتاب الله تعالى. أو: صحبة الصالحين، قاله جعفر. وعن الصوفية في ذلك مثل كثيرة.

{ وفي الآخرة حسنة } مثلوا حسنة الآخرة بأنها الجنة، أو العفو والمغفرة والسلامة من هول الموقف وسوء الحساب، أو النعمة، أو الحور العين، أو تيسير الحساب، أو مرافقة الأنبياء، أو لذة الرؤية، أو الرضا، أو اللقاء.

وقال ابن عطية: هي الحسنة بإجماع. قيل: وينبغي أن تكون الحسنتان هما العافية في الدنيا والآخرة لثبوت ذلك في حديث الذي زاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صار مثل الفرخ، وأنه سأله عما كان يدعو به، فأخبره أنه سأل الله في الدنيا تعجيل ما يعاقبه به في الآخرة، وأنه قال له: «لا تستطيعه» وقال: «هلا قلت اللهم آتنا في الدنيا...» إلى آخره. فدعا بهما الله تعالى فشفاه.

وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يدعو به، وكان يقول ذلك فيما بين الركن والحجر الأسود، وكان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف.

وأبو بكر أول من قالها في الموسم عام الفتح، ثم اتبعه علي، والناس أجمعون؛ وأنس سئل الدعاء فدعا بها، ثم سئل الزيادة فأعادها، ثم سئل الزيادة فقال: ما تريدون؟ قد سألت الله خير الدنيا والآخرة.

{ وفي الآخرة حسنة }: الواو فيها لعطف شيئين على شيئين، فعطفت في الأخرة حسنة، على: الدنيا حسنة، والحرف قد يعطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر، تقول: أعلمت زيداً أخاك منطلقاً وعمراً أباه مقيماً، إلاَّ إن ناب عن عاملين ففيه خلاف، وفي الجواز تفصيل. وليس هذا من الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والمجرور كما ظن بعضهم، فأجاز ذلك مستدلاً به على ضعف مذهب الفارسي في أن ذلك مخصوص بالشعر، لأن الآية ليست من هذا الباب، بل من عطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر، وإنما الذي وقع فيه خلاف أبي علي هو: ضربت زيداً وفي الدار عمراً، وإنما يستدل على ضعف مذهب أبي علي بقوله تعالى: { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } [الطلاق: 12] وبقوله: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } [النساء: 58] وتمام الكلام على هذه المسألة مذكور في علم النحو.

{ وقنا عذاب النار } هو سؤال بالوقاية من النار، وهو: أن لا يدخلوها، وهي نار جهنم، وقيل: المرأة السوء الكثيرة الشر.

وقال القيثري: واللام في النار لام الجنس، فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة. انتهى.

وظاهر هذا الدعاء أنه لما كان قولهم: وفي الآخرة حسنة، يقتضي أن من دخل الجنة، ولو آخر الناس، صدق عليه أنه: أوتي في الآخرة حسنة، قد دعوا الله تعالى أن يكونوا مع دخول الجنة يقيهم عذاب النار، فكأنه دعاء بدخول الجنة أولاً دون عذاب، وأنهم لا يكونون ممن يدخل النار بمعاصيهم ويخرجون منا بالشفاعة. ويحتمل أن يكون مؤكداً لطلب دخول الجنة، كما "قال بعض الصحابة.

إنما أقول في دعائي: اللهم أدخلني الجنة، وعافني من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن" .

{ أولئك لهم نصيب مما كسبوا } تقدّم انقسام الناس إلى فريقين: فريق اقتصر في سؤاله على دنياه، وفريق أشرك في دنياه أخراه، فالظاهر أن: أولئك، إشارة إلى الفريقين، إذ المحكوم به، وهو كون: نصيب لهم مما كسبوا، مشترك بينهما، والمعنى: أن كل فريق له نصيب مما كسب، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. ولا يكون الكسب هنا الدعاء، بل هذا مجرد إخبار من الله بما يؤول إليه أمر كل واحد من الفريقين، وأن انصباءهم من الخير والشر تابعة لاكسابهم.

وقيل: المراد بالكسب هنا الدعاء، أي: لكل واحد منهم نصيب مما دعا به. وسمي الدعاء كسباً لأنه عمل، فيكون ذلك ضماناً للإجابة ووعداً منه تعالى أنه يعطي كّلاً منه نصيباً مما اقتضاه دعاؤه، إما الدنيا فقط، وإما الدنيا والآخرة، فيكون كقوله: { من كان يريد حرث الآخرة } [الشورى: 20] { ومن كان يريد العاجلة } [الإسراء: 18] و { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } [هود: 15] الآيات.

وكما جاء في الصحيح: "وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله بها، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها" . وفي المعنى الأول لا يكون فيه وعد بالإجابة.

و: من، في قوله: مما كسبوا، يحتمل أن تكون للتبعيض، أي: نصيب من جنس ما كسبوا، ويحتمل أن يكون للسبب، و: ما، يحتمل أن تكون موصولة لمعنى الذي أو موصولة مصدرية أي: من كسبهم، وقيل: أولئك، مختص بالإشارة إلى طالبي الحسنتين فقط، ولم يذكر ابن عطية غيره. وذكره الزمخشري بإزائه.

قال ابن عطية: وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد، وقال الزمخشري: أولئك الداعون بالحسنتين لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الصالحة، وهو الثواب الذي هو منافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، كقوله: مما خطاياهم أغرقوا، ثم قال بعد كلام: ويجوز أن يكون أولئك الفريقين جميعاً، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا. انتهى كلامه.

والأظهر ما قدمناه من أن: أولئك، إشارة إلى الفريقين، ويؤيده قوله: { والله سريع الحساب } وهذا ليس مما يختص به فريق دون فريق، بل هذا بالنسبة لجميع الخلق، والحساب يعم محاسبة العالم كلهم، لا محاسبة هذا الفريق الطالب الحسنتين.

وروي عن ابن عباس: أن النصيب هنا مخصوص بمن حج عن ميت، يكون الثواب بينه وبين الميت، وروي عنه أيضاً، في حديث الذي سأل هل يحج عن أبيه. وكان مات؟ وفي آخره، قال: فهل لي من أجره؟ فنزلت هذه الآية، قيل: وإذا صح هذا فتكون الآية منفصلة عن التي قبلها، معلقة بما قبله من ذكر الحج ومناسكه وأحكامه. انتهى. وليست كما ذكر منفصلة، بل هي متصلة بما قبلها، لأن ما قبلها هو في الحج، وأن انقسام الفريقين هو في الحج، فمنهم من كان يسأل الله الدنيا فقط، ومنهم من يسأل الدنيا والآخرة. وحصل الجواب للسائل عن حجه عن أبيه: أله فيه أجر؟ لعموم قوله: { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } وقد أجاب ابن عباس بهذه الآية من سأله أن يكري دابته ويشرط عليهم أن يحج، فهل يجزى عنه؟ وذلك لعموم قوله: { أولئك لهم نصيب مما كسبوا }.

{ والله سريع الحساب } ظاهره الإخبار عنه تعالى بسرعة حسابه، وسرعته بانقضائه عجلاً كقصد مدته، فروي: بقدر حلب شاة، وروي بمقدار فواق ناقة، وروي بمقدار لمحة البصر. أو لكونه لا يحتاج إلى فكر، ولا رؤية كالعاجز، قاله أبو سليمان. أو: لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه، قاله الزجاج. أو: لكون حساب العالم كحساب رجل واحد أو لقرب مجيء الحساب، قاله مقاتل.

قيل: كنى بالحساب عن المجازاة على الأعمال إذا كانت ناشئة عنها كقوله: { ولم أدر ما حسابيه } [الحاقة: 26] يعنى ما جزائي، وقيل: كنى بالحساب عن العلم بمجاري الأمور، لأن الحساب يفضي إلى العلم، قاله الزجاج أيضاً.

وقيل: عبر بالحساب عن القبول لدعاء عباده، وقيل: عبر به عن القدرة والوفاء، أي: لا يؤخر ثواب محسن ولا عقاب مسيء. وقيل: هو على حذف مضاف، أي: سريع مجيء يوم الحساب. فالمقصود بالآية الإنذار بسرعة يوم القيامة. وقيل: سرعة الحساب تعالى رحمته وكثرتها، فهي لا تغب ولا تنقطع. وروي ما يقاربه عن ابن عباس.

وظاهر سياق هذا الكلام عموم الحساب للكافر والمؤمن إذ جاء بعد ما ظاهره أنه للطائعين، ويكون حساب الكفار تقريعاً وتوبيخاً، لأنه ليس له حسنة في الآخرة يجزى بها، وهو ظاهر قوله: { ولم أدر ما حسابيه } [الحاقة: 26] وقال الجمهور: الكفار لا يحاسبون، قال تعالى: { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } [الكهف: 105] { وقدِمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } [الفرقان: 23] وظاهر ثقل الموازين وخفتها، وما ترتب عليها في الآيات الواردة في القرآن شمول الحسنات للبر والفاجر، والمؤمن والكافر.

وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة: أن الحج له أشهر معلومات، وجمعها على أشهر لقلتها، وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. بكمالها، على ما يقتضيه ظاهر الجمع، ووصفها: بمعلومات، لعلمهم بها. وأخبر تعالى أن من ألزم نفسه الحج فيها فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل، فنهاه عن مفسد الحج مما كان جائزاً قبله، وما كان غير جائز مطلقاً ليسوي بين التحريمين، وإن كان أحدهما مؤقتاً، والآخر ليس بمؤقت. ثم لما نهى عن هذه المفسدات، أخبر تعالى أن ما يفعله الأنسان من الخير الذي فرض الحج منه يعلمه الله، فهو تعالى يثيب عليه. ثم أمر تعالى بالتزوّد للدّار الآخرة بأعمال الطاعات، ودخل فيها ما هم ملتبسون به من الحج، وأخبر أن خير الزاد هو ما كان وقاية بينك وبين النار، ثم نادى ذوي العقول، الذين هم أهل الخطاب، وأمرهم باتقاء عقابه، لأنه قد تقدّم ذكر المناهي، فناسب أن ينتهوا على اتقاء عذاب الله بالمخالفة فيما نهى عنه، ثم أنه لما كان الحاج مشغولاً بهذه العبادة الشاقة، ملتبساً بأقوالها وأفعالها، كان مما يتوهم أنها لا يمزج وقتها بشيء غير أفعالها، فبين تعالى أنه لا حرج على من ابتغى فيها فضلاً بتجارة، أو اجارة، أو غير ذلك من الأعمال المعينة على كلف الدنيا، ثم أمرهم تعالى بذكره عند المشعر الحرام إذا أفاضوا من عرفات، ليرجعهم بذكره إلى الاشتغال بأفعال الحج، لئلا يستغرقهم التعلق بالتجارات والمكاسب، ثم أمرهم بالذكر على هدايته التي منحها إياهم، وقد كانوا قبل في ضلال، فاصطفاهم للهداية، ثم أمرهم بأن يفيضوا من حيث أفاض الناس، وهي التي جرت عادة الناس بأن يفيضوا منها، وذلك المكان هو عرفة، والمعنى أنهم أمروا أن يكونوا تلك الإِفاضة السابقة من عرفة لا من غيرها، كما ذكر في سبب النزول. وأتى بثم لا للترتيب في الزمان، بل للترتيب في الذكر، لا في الوقوع.

ثم أمر بالاستغفار، ثم أمر بعد أداء المناسك بذكر الله تعالى، ولما كان الإِنسان كثيراً ما يذكر أباه ويثني عليه بما أسلفه من كريم المآثر، وكان ذلك عندهم الغاية في الذكر، مثل ذكر الله بذلك الذكر، ثم أكد مطلوبية المبالغة في الذكر بقوله: أو أشدّ، ليفهم أن ما مثل به أولاً ليس إلاّ على طريق ضرب المثل لهم؛ والمقصود أن لا يغفلوا عن ذكر الله تعالى طرفة عين.

ثم قسم مقصد الحاج إلى دنيويّ صرف، وإلى دنيويّ وأخروي، وبيّن ذلك في سؤاله، إياه وذكر أن من اقتصر على دنياه فإنه لا حظ له في الآخرة، ثم أشار إلى مجموع الصنفين بأن كلا منهما له مما كسب من أعمال حظ، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وأنه تعالى حسابه سريع، فيجازي العبد بما كسب.