التفاسير

< >
عرض

كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٢١٣
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ
٢١٤
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
٢١٥
كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٢١٦
يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢١٧
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢١٨
-البقرة

البحر المحيط

حسب: بكسر السين: يحسب، بفتحها في المضارع وكسرها، من أخوات: ظن، في طلبها إسمين: هما في مشهور قول النحاة: مبتدأ وخبر، ومعناها نسبة الخبر عن المتيقن إلى المسند إليه، وقد يأتي في المتيقن قليلا، نحو قوله:

حسبت التقى والجود خير تجارة رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً

ومصدرها: الحسبان، ويأتي: حسب أيضاً بمعنى: احمرّ تقول: حسب الرجل يحسب، وهو أحسب، كما تقول: شقر فهو أشقر، ولحسب أحكام ذكرت في النحو.

لما: الجازمة حرف، زعموا أنه مركب من: لم وما، ولها أحكام تخالف فيها: لم، منها: أنه يجوز حذف الفعل بعدها إذا دل على حذفه المعنى، وذلك في فصيح الكلام، ومنها: أنه يجب اتصال نفيها بالحال، ومنها: أنها لا تدخل على فعل شرط ولا فعل جزاء.

زلزل: قلقل وحرّك، وهو رباعي عند البصريين: كدحرج، هذا النوع من الرباعي فيه خلاف للكوفيين والزجاج مذكور في النحو.

ماذا: اذا أفردت كل واحدة منهما على حالها كانت: ما يراد بها الإستفهام، وذا: للإشارة، وإن دخل التجوّز فتكون: ذا، موصولة، لمعنى: الذي، والتي، وفروعها، وتبقى ما على أصلها من الاستفهام، فتفتقر: ذا، إذ ذاك إلى صلة، وتكون مركبة مع: ما، الاستفهامية، فيصير دلالة مجموعهما دلالة: ما، الاستفهامية لو انفردت، ولهذا قالت العرب: عن ماذا تسأل؟ باثبات ألف: ما، وقد دخل عليها حرف الجر وتكون مركبة مع: ما، الموصولة، أو: ما، النكرة الموصوفة، فتكون دلالة مجموعهما دلالة: ما الموصولة، أو الموصوفة، لو انفردت دون: ذا، والوجه الآخر هو عن الفارسي.

الكره: بضم الكاف وفتحها، والكراهية والكراهة مصادر لكره، قاله الزجاج، بمعنى: أبغض، وقيل: الكُره بالضم ما كرهه الإنسان، والكَره، بالفتح ما أكره عليه، وقيل: الكُره بالضم اسم المفعول، كالخبر، والنقض، بمعنى: المخبور والمنقوص، والكَره بالفتح. المصدر.

عسى: من أفعال المقاربة، وهي فعل، خلافاً لمن قال: هي حرف ولا تتصرف، ووزنها: فعل، فإذا أسندت إلى ضمير متكلم أو مخاطب مرفوع، أو نون اناث، جاز كسر سينها ويضمر فيها للغيبة نحو: عسيا وعسوا، خلافاً للرماني، ذكر الخلاف عنه ابن زياد البغدادي، ولا يخص حذف: إن، من المضارع بالشعر خلافاً لزاعم ذلك، ولها أحكام كثيرة ذكرت في علم النحو، وهي: في الرجاء تقع كثيراً، وفي الإشفاق قليلاً قال الراغب.

الصدّ: ناحية الشعب والوادي المانع السالك، وصدّه عن كذا كأنما جعل بينه وبين ما يريده صدّاً يمنعه. إنتهى. ويقال: صدّ يصدّ صدوداً: أعرض، وكان قياسه للزومه: يصدّ بالكسر، وقد سمع فيه، وصدّه يصده صدّاً منعه، وتصدّى للشيء تعرض له، وأصله تصدّد، نحو: تظنى بمعنى تظنن، فوزنه تفعل، ويجوز أن تكون تفعلى نحو: يعلنى، فتكون الألف واللام للإلحاق، وتكون من مضاعف اللام.

زال: من أخوات كان، وهي التي مضارعها: يزال، وهي من ذوات الياء، ووزنها فعل بكسر العين، ويدل على أن عينها ياء ما حكاه الكسائي في مضارعها، وهو: يزيل، ولا تستعمل إلاَّ منفية بحرف نفي، أو بليس، أو بغير أو: لا، لنهي أو دعاء.

الحبوط: أصله الفساد، وحبوط العمل بطله، وحبط بطنه انتفخ، والحبطات قبيلة من بني تميم، والحبنطي: المنتفخ البطن.

المهاجرة: انتقال من أرض إلى أرض، مفاعلة من الهجر، والمجاهدة مفاعلة من جهد، استخرج الجهد والإجتهاد، والتجاهد بذل الوسع، والمجهود والجهاد بالفتح: الأرض الصلبة.

{ كان الناس أمة واحدة } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن إصرار هؤلاء على كفرهم هو حب الدنيا، وأن ذلك ليس مختصاً بهذا الزمان الذي بعثت فيه، بل هذا أمر كان في الأزمنة المتقادمة، إذ كانوا على حق ثم اختلفوا بغياً وحسداً وتنازعاً في طلب الدنيا.

والناس: القرون بين آدم ونوح وهي عشرة، كانوا على الحق حتى اختلفوا، فبعث الله نوحاً فمن بعده، قاله ابن عباس، وقتادة. أو: قوم نوح ومن في سفينته كانوا مسلمين، أو: آدم وحده، عن مجاهد، أو: هو وحواء، أو: بنو آدم حين أخرجهم من ظهره نسماً كانوا على الفطرة، قاله أبي وابن زيد، أو: آدم وبنوه كانوا على دين حق فاختلفوا من حين قتل قابيل هابيل، أو: بنو آدم من وقت موته إلى مبعث نوح كانوا كفاراً أمثال البهائم، قاله عكرمة، وقتادة. أو: قوم إبراهيم كانوا على دينه إلى أن غيره عمرو بن لحيّ؛ أو: أهل الكتاب ممن آمن بموسى على نبينا وعليه السلام، أو: قوم نوح حين بعث إليهم كانوا كفاراً قاله ابن عباس، أو: الجنس كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع لا أمر عليهم ولا نهي. أو: صنفاً واحداً، فكان المراد: أن الكل من جوهر واحد، وأب واحد، ثم خصّ صنفاً من الناس ببعث الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم تكريماً لهم، قاله الماتريدي فهذه إثنا عشر قولاً في الناس.

وأما في التوحيد فخمسة أقوال: إما في الإيمان، وإما في الكفر، وإما في الخلقة على الفطرة، وإما في الخلو عن الشرائع، وإما في كونهم من جوهر واحد. وهو الأب.

وقد رجح كونهم أمة واحدة في الإيمان بقوله: { فبعث الله } وإنما بعثوا حين الاختلاف، ويؤكده قراءة عبد الله { أمة واحدة فاختلفوا }، وبقوله: { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فهذا يدل على أن الاتفاق كان حصل قبل البعث والإنزال، وبدلالة العقول، إذ النظر المستقيم يؤدي إلى الحق، ويكون آدم بعث إلى أولاده، وكانوا مسلمين، وبالولادة على الفطرة، وبأن أهل السفينة كانوا على الحق، وبإقرارهم في يوم الذر.

ويظهر أن هذا القول هو الأرجح لقراءة عبد الله وللتصريح بهذا المحذوف في آية أخرى، وهو قوله تعالى: { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } [يونس: 19] والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وتقدّم شرح: أمة في قوله: { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } [البقرة: 128] .

وفي قراءة أبي: كان البشر، إشارة إلى أنه لا يراد بالناس معهودون، ومن جعل الإتحاد في الإيمان قدر، فاختلفوا فبعث الله، ومن جعل ذلك في الكفر لا يحتاج إلى هذا التقدير، إذ كانت بعثة النبيين إليهم، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة: نوح على نبينا وعليه السلام، يقول الناس له: أنت أول الرسل، المعنى: إلى قوم كفار، لأن آدم قبله، وهو مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان. { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } أي: أرسل النبيين مبشرين بثواب من أطاع، ومنذرين بعقاب من عصى، وقدّم البشارة لأنها أبهج للنفس، وأقبل لما يلقى النبي، وفيها اطمئنان المكلف، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة، ومنه. { فإنما يسرناه بسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً } [مريم: 97]وانتصاب: مبشرين ومنذرين، على الحال المقارنة.

{ وأنزل معهم الكتاب بالحق } معهم حال من الكتاب: وليس تعمل فيه أنزل، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال، وليسوا متصفين، وهي حال مقدرة أي: وأنزل الكتاب مصاحباً لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحباً لهم، لكنه انتهى إليهم.

والكتاب: إما أن تكون أل فيه للجنس، وإما أن تكون للعهد على تأويل: معهم، بمعنى مع كل واحد منهم، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب، وهو التوراة. قاله الطبري، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم، ويضعف أن يكون مفرداً وضع موضع الجمع، وقد قيل به.

ويحتمل: بالحق، أن يكون متعلقاً: بأنزل، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل، لأنه يراد به المكتوب، أو بمحذوف، فيكون في موضع الحال من الكتاب، أي مصحوباً بالحق، وتكون حالاً مؤكدة لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها، وهذه الجملة معطوفة على قوله: { فبعث الله }.

ولا يقال: إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب فَلِمَ قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه؟ لأنه ذلك لا يلزم، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتاباً يتلى ويكتب، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى لأنهما حالان من النبيين. فناسب اتصالهما بهم، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب.

وقال القاضي: الوعد والوعيد من الأنبياء عليهم السلام قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة الله تعالى، وترك الظلم وغيرهما، انتهى كلامه.

وما ذكر لا يظهر، لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب، وإنما ذلك على سبيل الجواز، ثم أتى الشرع بهما، فصار ذلك الجائز في العقل واجباً بالشرع، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلاَّ بعد الوحي قطعاً، فإذن يتقدّم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحى إليه قطفاً.

قال القاضي: وظاهر الآية يدل على أنه لا نبي إلاَّ ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق، طال ذلك الكتاب أو قصر، دوّن أو لم يدوّن، كان معجزاً أو لم يكن، لأن كون الكتاب منزلاً معهم لا يقضي شيئاً من ذلك. انتهى كلامه.

ويحتمل أن يكون التجّوز في: أنزل، فيكون بمعنى: جعل، كقوله: { { وأنزلنا الحديد } [الحديد: 25]. ولما كان الإنزال الكثير منهم نسب إلى الجميع، ويحتمل أن يكون التجوّز في الكتاب، فيكون بمعنى الموحى به، ولما كان كثيراً مما أوحى به بكتب، أطلق على الجميع الكتاب تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه.

{ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } الللام لام العلة، ويتعلق بأنزل، والضمير في: ليحكم، عائد على الله في قوله: فبعث الله، وهو المضمر في: أنزل، وهذا هو الظاهر، والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس، وقيل: عائد على الكتاب أي: ليحكم الكتاب بين الناس، ونسبة الحكم إليه مجاز، كما أسند النطق إليه في قوله: { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } [الجاثية: 29] وكما قال:

ضربت عليك العنكبوت نسيجها وقضى عليك به الكتاب المنزل

ولأن الكتاب هو أصل الحكم، فأسند إليه رداً للأصل، وهذا قول الجمهور، وأجاز الزمخشري أن يكون الفاعل: النبي، قال: ليحكم الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه، وإفراد الضمير يضعف ذلك على أنه يحتمل ما قاله، فيعود على إفراد الجمع، أي: ليحكم كل نبي بكتابه، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع ظهور عود الضمير على الله تعالى، ويبين عوده على الله تعالى قراءة الجحدري فيما ذكر مكي لنحكم، بالنون، وهو متعين عوده على الله تعالى، ويكون ذلك التفاتاً إذ خرج من ضمير الغائب في: أنزل، إلى ضمير المتكلم، وظن ابن عطية هذه القراءة تصحيفاً قال: ما معناه لأن مكياً لم يحكِ عن الجحدري قراءته التي نقل الناس عنه، وهي: ليحكم، على بناء الفعل للمفعول، ونقل مكي لنحكم بالنون.

وفي القراءة ذالتي نقل الناس من قوله: وليحكم، حذف الفاعل للعلم به، والأولى أن يكون الله تعالى.

قالوا: ويحتمل أن يكون الكتاب أو النبيون. وهي ظرف مكان، وهو هنا مجاز، وانتصابه بقوله: ليحكم، وفيما، متعلق به أيضاً، و: فيه، الدين الذي اختلفوا فيه بعد الإتفاق..

قيل ويحتمل أن يكون الذي اختلفوا فيه محمد، صلى الله عليه وسلم، أو دينه، أو: هما، أو: كتابه.

{ وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم } الضمير من قوله: وما اختلف فيه، يعود على ما عاد عليه في: فيه، الأولى، وقد تقدّم أنها عائدة على: ما، وشرح ما المعنيُّ: بما، أهو الدين، أو محمد صلى الله عليه وسلم؟ أم دينه؟ أم هما؟ أم كتابه؟

والضمير في: أوتوه، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في: فيه، وقيل: الضمير في: فيه، عائد على الكتاب، وأوتوه عائد أيضاً على الكتاب، التقدير: وما اختلف في الكتاب إلاَّ الذين أوتوه، أي: أوتوا الكتاب.

وقال الزجاج: الضمير في: فيه، الثانية يجوز أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: وما اختلف في النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ الذين أوتوه، أي: أوتوا علم نبوّته، فعلوا ذلك للبغي، وعلى هذا يكون الكتاب: التوراة، والذين أوتوه اليهود.

وقيل: الضمير في: فيه، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما، وقيل: يعود الضمير في: فيه، على عيسى صلى الله على نبينا وعليه.

وقال مقاتل: الضمير عائد على الدين، أي: وما اختلف في الدين. انتهى.

والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في: أوتوه وفيه الأولى والثانية، يعود على: ما، الموصولة في قوله: وما اختلفوا فيه، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى الله، بينه بما نزل في الكتاب، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله: { ليحكم }.

والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه على شناعة فعلهم، وقبيح ما فعلوه من الاختلاف، ولأن غيرهم تبع لهم في الاختلاف فهم أصل الشر، وأتى بلفظ: من، الدالة على ابتداء الغاية منبهاً على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا، لم يتخلل بينهما فترة.

والبينات: التوراة والإنجيل، فالذين أوتوه هم اليهود والنصارى، أو جميع الكتب المنزلة، فالذين أوتوه علماء كل ملة، أو ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، والذين أوتوه اليهود، أو معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين أوتوه جميع الأمم، أو محمد صلى الله عليه وسلم والذين أوتوه من بعث إليهم.

والذي يظهر أن البينات هي ما أوضحته الكتب المنزلة على أنبياء الأمم الموجبة الاتفاق وعدم الاختلاف، فجعلوا مجيء الآيات البينات سبباً لاختلافهم، وذلك أشنع عليهم، حيث رتبوا على الشيء خلاف مقتضاه.

ثم بين أن ذلك الاختلاف الذي كان لا ينبغي أن يكون ليس لموجب ولا داع إلاَّ مجرد البغي والظلم والتعدّي.

وانتصاب: بغياً، على أنه مفعول من أجله، و: بينهم، في موضع الصفة له، فتعلق بمحذوف، أي: كائناً بينهم، وأبعد من قال: إنه مصدر في موضع الحال، أي: باغين، والمعنى: أن الحامل على الاختلاف هو البغي، وسبب هذا البغي حسدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على النبوّة، أو كتمهم صفته التي في التوراة، أو طلبهم الدنيا والرئاسة فيها أقوال:

فالأولان: يختصان بمن يحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم. من أهل الكتاب وغيرهم، والثالث: يكون لسائر الأمم المختلفين، وإنزال الكتب كان بعد وجود الاختلاف الأول، ولذلك قال: { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } والاختلاف الثاني المعنيّ به ازدياد الاختلاف، أو ديمومة الاختلاف إذا فسرنا: أوتوه: بأوتوا الكتاب، فهذا الاختلاف يكون بعد إيتاء الكتاب، وقيل: بجحود ما فيه، وقيل: بتحريفه.

وفي قوله: بغياً، إشارة إلى حصر العلة، فيبطل قول من قال: إن الاختلاف بعد إنزال الكتاب كان ليزول به الاختلاف الذي كان قبله.

وفي قوله: البينات: دلالة على أن الدلائل العقلية المركبة في الطباع السليمة، والدلائل السمعية التي جاءت في الكتاب قد حصلا، ولا عذر في العدول والإعراض عن الحق لكن عارض هذا الدليل القطعي ما ركب فيهم من البغي والحسد والحرص على الاستيثار بالدنيا.

إلاَّ الذين أوتوه، استثناء مفرغ، وهو فاعل اختلف، و: من بعد ما جاءتهم، متعلق باختلف، وبغياً منصوب باختلف، هذا قول بعضهم، قال: ولا يمنع إلاَّ من ذلك، كما تقول: ما قام زيد إلاَّ يوم الجمعة. انتهى كلامه. وهذا فيه نظر، وذلك أن المعنى على الاستثناء، والمفرغ في الفاعل، وفي المجرور، وفي المفعول من أجله، إذ المعنى: وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه إلاَّ من بعد ما جاءتهم البينات إلاَّ بغياً بينهم. فكل واحد من الثلاثة محصور.

وإذا كان كذلك فقد صارت أداة الاستفهام مستثنى بها، شيئان دون الأول من غير عطف، وهو لا يجوز، وإنما جاز مع العطف لأن حرف العطف ينوي بعدها إلاَّ، فصارت كالملفوظ بها، فإن جاء ما يوهم ذلك جعل على إضمار عامل، ولذلك تأولوا قوله تعالى: { { وما أرسلنا من قبلك إلاَّّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر } [النحل: 43 - 44] على إضمار فعل التقدير: أرسلناهم بالبينات والزبر، ولم يجعلوا بالبينات متعلقاً بقوله: وما أرسلنا، لئلا يكون: إلاَّ، قد استثنى بها شيئان: أحدهما رجالاً، والأخر: بالبينات، من غير عطف.

وقد منع أبو الحسن وأبو علي: ما أخذ أحد إلاَّ زيد درهماً، وما: ضرب القوم إلاَّ بعضهم بعضاً. واختلفا في تصحيحها، فصححها أبو الحسن بأن يقدّم على المرفوع الذي بعدها، فيقول: ما أخذ أحد زيد إلاَّ درهماً، فيكون: زيد، بدلاً من أحد، ويكون: إلاَّ، قد استثنى بها شيء واحد، وهو الدرهم. ويكون إلاَّ درهماً إستثناء مفرغاً من المفعول الذي حذف، ويصير المعنى: ما أخذ زيد شيئاً إلاَّ درهماً. وتصحيحها عند أبي علي بأن يزيد فيها منصوباً قبل إلاَّ فيقول: ما أخذ أحد شيئاً إلاَّ زيد درهما. و: ما ضرب القوم أحداً إلاَّ بعضهم بعضاً، فيكون المرفوع بدلاً من المرفوع، والمنصوب بدلاً من المنصوب، هكذا خرجه بعضهم.

قال ابن السراج: أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً جائز، ولا يجوز أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمر الدنانير، لأن الحرف لا يستثنى به إلاَّ واحد، فإن قلت: ما أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً دانقاً، على الاستثناء، لم يجز، أو على البدل جاز، فتبدل عمراً من الناس، ودانقاً من درهم، كأنك قلت ما أعطيت إلاَّ عمراً دانقاً. ويعني: أن يكون المعنى على الحصر في المفعولين.

قال بعض أصحابنا: ما قاله ابن السراج فيه ضعف، لأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلاَّ، فأشبه المعطوف بحرف، فكما لا يقع بعده معطوفان لا يقع بعد إلاَّ بدلان. انتهى كلامه.

وأجاز قوم أن يقع بعد إلاَّ مستثنيان دون عطف، والصحيح أنه لا يجوز، لأن إلاَّ هي من حيث المعنى معدية، ولولا إلاَّ لما جاز للاسم بعدها أن يتعلق بما قبلها، فهي: كواو مع وكالهمزة: التي جعلت للتعدية في بنية الفعل، فكما أنه لا تعدّى: واو مع ولا الهمزة لغير مطلوبها الأول إلاَّ بحرف عطف، فكذلك إلاَّ، وعلى هذا الذي مهدناه يتعلق: من بعد ما جاءهم البينات، وينتصب: بغياً، بعامل مضمر يدل عليه ما قبله، وتقديره: اختلفوا فيه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم.

{ فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } الذين آمنوا: هم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والضمير: فيما اختلفوا، عائد على الذين أوتوه، أي لما اختلف فيه من اختلف، ومن الحق تبيين المختلف فيه، و: من، تتعلق بمحذوف لأنها في موضع الحال من: ما، فتكون للتبعيض، ويجوز أن تكون لبيان الجنس على قول من يرى ذلك، التقدير: لما اختلفوا فيه الذي هو الحق. والأحسن أن يحمل المختلف فيه هنا على الدين والإسلام، ويدل عليه قراءة عبد الله: لما اختلفوا فيه من الإسلام.

وقد حمل هذا المختلف فيه على غير هذا، وفي تعيينه خلاف: أهو الجمعة؟ جعلها اليهود السبت، والنصارى الأحد، وكانت فرضت عليهم كما فرضت علينا؟ وفي الصحيحين: "نحن الأوّلون والآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم" . فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له قال يوم الجمعة، فاليوم لنا وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى.

أو الصلاة؟ فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب، فهدى الله تعالى المؤمنين إلى القبلة. قاله زيد بن أسلم.

أو إبراهيم على نبينا وعليه السلام؟ قالت النصارى: كان نصرانياً، وقالت اليهود: كان يهودياً، فهدى الله المؤمنين لدينه بقوله: { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } [آل عمران: 67] أو عيسى؟ على نبينا وعليه السلام، جعلته اليهود لعنة، وجعلته النصارى إلهاً فهدانا الله تعالى لقول الحق فيه، قاله ابن زيد. أو الكتب التي آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها؟ أو الصيام؟ اختلفوا فيه، فهدانا الله لشهر رمضان.

فهذه ستة أقوال غير الأول.

وقال الفراء: في الكلام قلب، وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه، واختاره الطبري.

قال ابن عطية: ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق، فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه، وعساه غير الحق في نفسه، قال: وادّعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه لأن قوله: فهدى، يقتضي أنهم أصابوا الحق، وتم المعنى في قوله: فيه، وتبين بقوله: من الحق، جنس ما وقع الخلاف فيه.

قال المهدوي: وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماماً، إذ العناية إنما هي بذكر الخلاف. انتهى كلام ابن عطية، وهو حسن.

والقلب عند أصحابنا يختص بضرورة الشعر فلا نخرج كلام الله عليه.

وبإذنه: معناه بعلمه، قاله الزجاج أو: بأمره، وتوفيقه، أو بتمكينه، أقوال مرت مشبعاً الكلام عليها، في قوله: { فإنه نزله على قلبك بإذن الله } [البقرة: 97] ويتعلق بإذنه بقوله: فهدى الله، وأبعد من أضمر له فعلاً مطاوعاً تقديره: فاهتدوا بإذنه، وهو قول أبي علي، إذ لا حاجة لهذا الإضمار.

{ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } في هذه الجملة وما قبلها دليل على أن هدى العبد إنما يكون من الله لمن يشاء له الهداية، ورد على المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهدى نفسه، وتكرّر اسم الله في قوله: والله، جاء على الطريقة الفصحى التي هي استقلال كل جملة، وذلك أولى من أن يفتقر بالإضمار إلى ما قبلها من مفسر ذلك المضمر، وقد تقدّم لذلك نظائر.

وفي قوله: من يشاء، إشعار، بل دلالة، على أن هدايته تعالى منشؤها الإرادة فقط، لا وصف ذاتي في الذي يهديه يستحق به الهداية، بل ذلك مغدوق بإرادته تعالى فقط { لا يسأل عما يفعل } [الأنبياء: 23].

{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصاب من الجهد وشدّة الخوف والبرد وأنواع الأذى، كما قال تعالى: { وبلغت القلوب الحناجر } [الأحزاب: 10] قاله قتادة، والسدي.

أو في حرب أحد، قتل فيها جماعة من المسلمين، وجرت شدائد حتى قال عبد الله بن أبي وأصحابه: إلى متى تقتلون أنفسكم، وتهلكون أموالكم؟ لو كان محمد نبياً لما سلط عليكم القتل والأسر، فقالوا: لا جرم من قتل منا دخل الجنة. فقال: إلى متى تسألون أنفسكم بالباطل؟

أو: في أوّل ما هاجروا إلى المدينة، دخلوها بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، رضي الله تعالى عنهم، فأظهرت اليهود العداوة، وأسرّ قوم النفاق. قاله عطاء.

قيل: ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال: يهدي من يشاء، والمراد إلى الحق الذي يفضي اتباعه إلى الجنة، فبين أن ذلك لا يتم إلاَّ باحتمال الشدائد والتكليف، أو: لما بين أنه هداهم، بين أنه بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق، فكذا أنتم، أصحاب محمد، لا تستحقون الفضيلة في الدين إلاَّ بتحمل هذه المحن.

و: أم، هنا منقطعة مقدرة ببل والهمزة فتتضمن أضراباً، وهو انتقال من كلام إلى كلام، ويدل على استفهام لكنه استفهام تقرير، وهي التي عبر عنها أبو محمد بن عطية: بأن أم قد تجيء ابتداء كلام، وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة، ألف استفهام.

فقوله: قد تجيء ابتداء كلام ليس كما ذكر، لأنها تتقدّر، ببل والهمزة، فكما أن: بل، لا بد أن يتقدّمها كلام حتى يصير في حيز عطف الجمل، فكذلك ما تضمن معناه.

وزعم بعض اللغويين أنها تأتي بمنزلة همزة الإستفهام، ويبتدأ بها، فهذا يقتضي أن يكون التقدير: أحسبتم؟ وقال الزجاج: بمعنى بل، قال:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها، أم أنت في العين أملح؟

ورام بعض المفسرين أن يجعلها متصلة، ويجعل قبلها جملة مقدرة تصير بتقديرها أم متصلة، فتقدير الآية: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، فصبروا على استهزاء قومهم بهم، أفتسلكون سبيلهم؟ أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم؟

فتلخص في أم هنا أربعة أقوال: الانقطاع على انها بمعنى بل والهمزة، والاتصال: على إضمار جملة قبلها، والاستفهام بمعنى الهمزة، والإضراب بمعنى بل؛ والصحيح هو القول الأوّل.

ومفعولاً: حسبتم، سدّت أن مسدّهما على مذهب سيبويه، وأما أبو الحسن فسدت عنده مسد المفعول الأوّل، والمفعول الثاني محذوف، وقد تقدم هذا المعنى في قوله: { { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } [البقرة: 46].

{ ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } الجملة حال، التقدير: غير آتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم، أي: إن دخول الجنة لا بد أن يكون على ابتلاء شدائد، وصبر على ما ينال من أذى الكفار، والفقر والمجاهد في سبيل الله، وليس ذلك على مجرد الإيمان فقط بل، سبيلكم في ذلك سبيل من تقدمكم من اتباع الرسل. خاطب بذلك الله تعالى عباده المؤمنين، ملتفتاً إليهم على سبيل التشجيع والثبيت لهم، وإعلاماً لهم أنه لا يضر كون أعدائكم لا يوافقون، فقد اختلفت الأمم على أنبيائها، وصبروا، حتى أتاهم النصر.

و: لما، أبلغ في النفي من: لم، لأنها تدل على نفي الفعل متصلاً بزمان الحال، فهي لنفي التوقع.

والمثل: الشبه، إلاَّ أنه مستعار لحال غريبة، أو قضية عجيبة لها شأن، وهو على حذف مضاف، التقدير: مثل محنة الذين خلوا من قبلكم وعلى حذف موصوف تقديره: المؤمنين.

والذين خلوا من قبلكم، متعلق بخلوا، وهو كأنه توكيد، لأن الذين خلوا يقتضي التقدم.

{ مستهم البأساء والضراء } هذه الجملة تفسير للمثل وتبيين له، فليس لها موضع من الإعراب، وكأن قائلاً قال: ما ذلك المثل؟ فقيل: مستهم البأساء والضراء.

والمسّ هنا معناه: الإصابة، وهو حقيقة في المسّ باليد، فهو هنا مجاز.

وأجاز أبو البقاء أن تكون الجملة من قولهم: مستهم، في موضع الحال على إضمار قد، وفيه بعد، وتكون الحال إذ ذاك من ضمير الفاعل في: خلوا.

وتقدّم شرح: البأساء والضراء، في قوله تعالى: { { والصابرين في البأساء والضراء } [البقرة: 177] { وزلزلوا } أي أزعجوا إزعاجاً شديداً بالزلزلة، وبني الفعل للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، أي: وزلزلهم أعداؤهم.

{ حتى يقول الرسول } قرأ الأعمش: وزلوا، و: يقول الرسول، بالواو بدل: حتى، وفي مصحف عبد الله: وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول.

وقرأ الجمهور: حتى، والفعل بعدها منصوب إما على الغاية، وإما على التعليل، أي: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول، أو: وزلزلوا كي يقول الرسول، والمعنى الأول أظهر، لأن المس والزلزال ليسا معلولين لقول الرسول والمؤمنين.

وقرأ نافع برفع، يقول: بعد حتى، وإذا كان المضارع بعد حتى فعل حال فلا يخلو أن يكون حالاً في حين الإخبار، نحو: مرض حتى لا يرجونه، وإما أن يكون حالاً قد مضت، فيحكيها على ما وقعت، فيرفع الفعل على أحد هذين الوجهين، والمراد به هنا المضي، فيكون حالاً محكية، إذ المعنى: وزلزلوا فقال الرسول، وقد تكلمنا على مسائل: حتى، في كتاب (التكميل) وأشبعنا الكلام عليها هناك، وتقدّم الكلام عليها في هذا الكتاب.

{ والذين آمنوا معه } يحتمل معه أن يكون منصوباً بيقول، ويحتمل أن يكون منصوباً بآمنوا.

{ متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } متى: سؤال عن الوقت، فقيل: ذلك على سبيل الدعاء لله تعالى، والاستعلام لوقت النصر، فأجابهم الله تعالى فقال: ألا إن نصر الله قريب، وقيل: ذلك على سبيل الاستبطاء، إذ ما حصل لهم من الشدّة والابتلاء والزلزال هو الغاية القصوى، وتناهى ذلك وتمادى بالمؤمنين إلى أن نطقوا بهذا الكلام، فقيل: ذلك لهم إجابة لهم إلى طلبهم من تعجيل النصر، والذي يقتضيه النظر أن تكون الجملتان داخلتين تحت القول، وأن الجملة الأولى من قول المؤمنين، قالوا ذلك استبطاءً للنصر وضجراً مما نالهم من الشدّة، والجملة الثانية من قول رسولهم إجابة لهم وإعلاماً بقرب النصر، فتعود كل جملة لمن يناسبها، وصح نسبة المجموع للمجموع لا نسبة المجموع لكل نوع من القائلين.

وتقدّم نظير هذا في بعض التخاريج لقوله تعالى: { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [البقرة: 30] وإن قوله: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من قول إبليس، وإن قوله: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك من قول الملائكة عن إبليس، وكان الجواب ذلك لما انتظم إبليس في الخطاب مع الملائكة في قوله: { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [البقرة: 30] .

وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله؟ فيقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته، وقدم قول المؤمنين لتقدمه في الزمان.

قال ابن عطية وهذا تحكم وحمل الكلام على وجهه غير متعذر. انتهى. وقوله حسن، إذ التقديم والتأخير مما يختصان بالضرورة.

وفي قوله: والذين آمنوا، تفخيم لشأنهم حيث صرح بهم ظاهراً بهذا الوصف الشريف الذي هو الإيمان، ولم يأت، حتى يقول الرسول وهم، وهذا يدل على حذف ذلك الموصوف الذي قدرناه قبل مثل محنة المؤمنين الذين خلوا.

قال ابن عطية: وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول، والمؤمنين، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر، لا على شك ولا ارتياب، والرسول اسم الجنس، وذكره الله تعظيماً للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول. انتهى كلامه.

واللائق بأحوال الرسل هو القول الذي ذكرنا أنه يقتضيه النظر، والرسول كما ذكر ابن عطية اسم الجنس لا واحد بعينه، وقيل: هو اليسع، وقيل: هو شعيباً، وعلى هذا يكون الذين خلوا قوماً بأعيانهم، وهم أتباع هؤلاء الرسل.

وحكى بعض المفسرين أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأن: الزلزلة، هنا مضافة لأمته، ولا يدل على ما ذكر سياق الكلام، وعلى هذا القول قال بعضهم، وفي هذا الكلام إجمال، وتفصيله أن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: متى نصر الله؟ فقال الرسول: ألا إن نصر الله قريب.

فتلخص من هذه النقول أن مجموع الجملتين من كلام الرسول والمؤمنين على سبيل التفصيل، أو على سبيل أن: الرسول والمؤمنين قال كل منهما الجملتين، فكأنهم قالوا: قد صبرنا ثقة بوعدك، أو: على أن الجملة الأولى من كلام الرسول والمؤمنين، والثانية من كلام الله تعالى.

ولما كان السؤال بمتى يشير إلى استعلام القرب، تضمن الجواب القرب، وظاهر هذا الإخبار أن قرب النصر هو: ينصرون في الدنيا على أعدائهم ويظفرون بهم، كقوله تعالى: { { جاءهم نصرنا } [يوسف: 11] و { { إذا جاء نصر الله والفتح } [النصر: 1].

وقال ابن عباس: النصر في الآخرة لأن المؤمن لا ينفك عن الابتلاء، ومتى انقضى حرب جاءه آخر، فلا يزال في جهاد العدو، والأمر بالمعروف، وجهاد النفس إلى الموت.

وفي وصف أحوال هؤلاء الذين خلوا ما يدل على أنا يجري لنا ما جرى لهم، فنتأسى بهم، وننتظر الفرج من الله والنصر، فإنهم أجيبوا لذلك قريباً.

{ يسئلونك ماذا ينفقون } نزلت في عمرو بن الجموح، كان شيخاً كبيراً ذا مال كثير، سأل بماذا أتصدق؟ وعلى من أنفق؟ قاله أبو صالح عن ابن عباس. "وفي رواية عطاء نزلت في رجل قال: إن لي ديناراً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنفقه على نفسك فقال إن لي دينارين: فقال: أنفقهما على أهلك فقال: إن لي ثلاثة. فقال: أنفقها على خادمك فقال: إن لي أربعة. فقال: أنفقها على والديك. فقال إن لي خمسة. فقال: أنفقها على قرابتك. فقال: إن لي ستة. فقال: أنفقها في سبيل الله، وهو أحسنها" .

وينبغي أن يفهم من هذا الترقي على معنى أن ما أخبر به فاضل عما قبله، وقال الحسن: هي في التطوع، وقال السدي: هي منسوخة بفرض الزكاة.

قال ابن عطية: وَهَمَ المهدوي على السدي في هذا، فنسب إليه أنه قال: إن الآية في الزكاة المفروضة. ثم نسخ منها الوالدان انتهى؛ وقد قال: قدم بهذا القول، وهي أنها في الزكاة المفروضة، وعلى هذا نسخ منها الوالدان ومن جرى مجراهما من الأقربين، وقال ابن جريج: هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الصبر على النفقة وبذل المال هو من أعظم ما تحلى به المؤمن، وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة، حتى لقد ورد: "الصدقة تطفىء غضب الرب" .

والضمير المرفوع في: يسألونك، للمؤمنين، والكاف لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم، و: ماذا، يحتمل هنا النصب والرفع، فالنصب على أن: ماذا، كلها استفهام، كأنه قال: أي شيء ينفقون؟ فماذا منصوب بينفقون، والرفع على أن: ما. وحدها هي الاستفهام، وذا موصولة بمعنى الذي، وينفقون صلة لذا، والعائد محذوف، التقدير: ما الذي ينفقون به؟ فتكون: ما، مرفوعة بالابتداء، وذا بمعنى الذي خبره، وعلى كلا الإعرابين فيسألونك معلق، فهو عامل في المعنى دون اللفظ، وهو في موضع المفعول الثاني ليسألونك، ونظيره ما تقدم من قوله: { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } [البقرة: 211] على ما شرحناه هناك.

و: ماذا، سؤال عن المنفق، لا عن المصرف وكأن في الكلام حذفاً تقديره: ولمن يعطونه؟ ونظير الآية في السؤال والتعليق. قول الشاعر:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول

إلاَّ أن: ماذا، هنا مبتدأ، وخبر، ولا يجوز أن يكون مفعولاً بيحاول، لأن بعده:

أنحبُ فيُقضى، أم ضلال وباطل

ويضعف أن يكون: ماذا كله مبتدأ، و: يحاول، الخبر لضعف حذف العائد المنصوب من خبر المبتدأ دون الصلة، فإن حذفه منها فصيح، وذكر ابن عطية: أن: ماذا، إذا كانت اسماً مركباً فهي في موضع نصب، إلاَّ ما جاء من قول الشاعر:

وماذا عسى الواشون أن يتحدَّثوا سوى أن يقولوا: إنني لك عاشق

فإن عسى لا تعمل في: ماذا، في موضع رفع، وهو مركب إذ لا صلة لذا. انتهى. وإنما لم يكن: لذا، في البيت صلة لأن عسى لا تقع صلة للموصول الإسمي، فلا يجوز لذا أن تكون بمعنى الذي، وما ذكره ابن عطية من أنه إذا كانت اسماً مركبة فهي في موضع نصب، إلاَّ، في ذلك البيت لا نعرفه، بل يجوز أن نقول: ماذا محبوب لك؟ و: من ذا قائم؟ على تقدير التركيب، فكأنك قلت: ما محبوب؟ ومن قائم؟ ولا فرق بين هذا وبين من ذا تضربه؟ على تقديره: من تضربه؟ وجعل: من، مبتدأ.

{ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } هذا بيان لمصرف ما ينفقونه، وقد تضمن المسؤول عنه، وهو المنفق بقوله: من خير، ويحتمل أن يكون ماذا سؤالاً عن المصرف على حذف مضاف، التقدير مصرف ماذا ينفقون؟ أي: يجعلون إنفاقهم؟ فيكون الجواب إذ ذاك مطابقاً، ويحتمل أن يكون حذف من الأول الذي هو السؤال المصرف، ومن الثاني الذي هو الجواب ذكر المنفق، وكلاهما مراد، وإن كان محذوفاً، وهو نوع من البلاغة تقدّم نظيره في قوله: { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } [البقرة: 171].

وقال الزمخشري: قد تضمن قوله تعالى: { ما أنفقتم من خير } بيان ما ينفقونه، وهو كل خير، وبني الكلام على هواهم، وهو بيان المصرف، لأن النفقة لا يعتدّ بها إلاَّ أن تقع موقعها، كقول الشاعر:

ان الصنيعة لا تكون صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع

انتهى كلامه، وهو لا بأس به و { من خير } يتناول القليل والكثير.

وبدأ في المصرف بالأقرب فالأقرب، ثم بالأحوج فالأحوج، وقد مرّ الكلام في شيء من هذا الترتيب وشبهه، وقد استدل بهذه الآية على وجوب نفقة الوالدين والأقربين على الواجد، وحمل بعضهم الآية على أنها في الوالدين إذا كانا فقيرين، وهو غني.

{ وما تفعلوا من خير فان الله به عليم } ما: في الموضعين شرطية منصوبة بالفعل بعدها، ويجوز أن تكون: ما، من قوله: { قل ما أنفقتم } موصولاً، وأنفقتم، صلة، و: للوالدين، خبر، فالجار والمجرور في موضع المفرد، أو في موضع الجملة على الخلاف الذي في الجار والمجرور الواقع خبراً، أو هو معمول لمفرد، أو لجملة.

وإذا كانت: ما، في: ما أنفقتم، شرطية، فهذا الجار والمجرور في موضع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهو أو فمصرفه للوالدين.

وقرأ عليّ بن أبي طالب: وما يفعلوا، بالياء، فيكون ذلك من باب الالتفات، أو من باب ما أضمر لدلالة المعنى عليه، أي: وما يفعل الناس، فيكون أعم من المخاطبين قبل، إذ يشملهم وغيرهم، وفي قوله: من خير، في الإنفاق يدل على طيب المنفق، وكونه حلالاً، لأن الخبيث منهي عنه بقوله: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } [البقرة: 267] وما ورد من "أن الله طيب لا يقبل إلاَّ الطيب" ، ولأن الحرام لا يقال فيه خير. وقوله: من خير في قوله: وما تفعلوا، هو أعم: من، خير، المراد به المال، لأنه ما يتعلق به هو الفعل، والفعل أعم من الإنفاق، فيدخل الإنفاق في الفعل، فخير، هنا هو الذي يقابل الشر، والمعنى: وما تفعلوا من شيء من وجوه البر والطاعات وجعل بعضهم هنا: وما تفعلوا، راجعاً إلى معنى الإنفاق، أي: وما تفعلوا من إنفاق خير، فيكون الأول بياناً للمصرف، وهذا بيان للمجازاة، والأوْلى العموم، لأنه يشمل إنفاق المال وغيره، ويترجح بحمل اللفظ على ظاهره من العموم.

ولما كان أولاً السؤال عن خاص، أجيبوا بخاص، ثم أتى بعد ذلك الخاص التعميم في أفعال الخير، وذكر المجازاة على فعلها، وفي قوله: { فإن الله به عليم } دلالة على المجازاة، لأنه إذا كان عالماً به جازى عليه، فهي جملة خبرية، وتتضمن الوعد بالمجازاة.

{ كتب عليكم القتال } قال ابن عباس: لما فرض الله الجهاد على المسلمين، شق عليهم، وكرهوا، فنزلت هذه الآية. وظاهر قوله: كتب، أنه فرض على الأعيان، كقوله: { كتب عليكم الصيام } [البقرة: 183] { كتب عليكم القصاص } [البقرة: 178] { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } [النساء: 103] وبه قال عطاء، قال: فرض القتال على أعيان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلما استقرّ الشرع، وقيم به، صار على الكفاية.

وقال الجمهور: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، ثم استمرّ الإجماع على أنه فرض كفاية إلى أن نزل بساحة الإسلام، فيكون فرض عين.

وحكى المهدوي، وغيره عن الثوري أنه قال: الجهاد تطوّع، ويحمل على سؤال سائل، وقد قيم بالجهاد، فأجيب بأنه في حقه تطوّع.

وقرأ الجمهور: كتب، مبنياً للمفعول على النمط الذي تقدّم قبل هذا من لفظ: كتب، وقرأ قوم: كتب مبنياً للفاعل، وبنصب القتال، والفاعل ضمير في كتب يعود على اسم الله تعالى.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه: لما ذكر ما مس من تقدمنا من اتباع الرسل من البلايا، وأن دخول الجنة معروف بالصبر على ما يبتلى به المكلف، ثم ذكر الإنفاق على من ذكر، فهو جهاد النفس بالمال، انتقل إلى أعلى منه وهو الجهاد الذي يستقيم به الدين، وفيه الصبر على بذل المال والنفس.

{ وهو كره لكم } أي مكروه، فهو من باب النقض بمنى المنقوض، أو ذو كره إذا أريد به المصدر، فهو على حذف مضاف، أو لمبالغة الناس في كراهة القتال، جعل نفس الكراهة.

والظاهر عود: هو، على القتال، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من: كتب، أي: وكتبه وفرضه شاق عليكم، والجملة حال، أي: وهو مكروه لكم بالطبيعة، أو مكروه قبل ورود الأمر.

وقرأ السلمي: كره بفتح الكاف، وقد تقدّم ذكر مدلول الكره في الكلام على المفردات.

وقال الزمخشري في توجيه قراءة السلمي: يجوز أن يكون بمعنى المضموم: كالضعف والضعف، تريد المصدر، قال: ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز، كأنهم أكرهوا عليه لشدّة كراهته له ومشقته عليهم، ومنه قوله تعالى: { { حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً } [الأحقاف: 15] انتهى كلامه.

وكون كره بمعنى الإكراه، وهو أن يكون الثلاثي مصدراً للرباعي هو لا ينقاس، فإن روي استعمال ذلك عن العرب استعملناه.

{ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم }. عسى هنا للاشفاق لا للترجي، ومجيئها للإشفاق قليل، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر، ولو كانت ناقصة لكانت مثل قوله تعالى: { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا } [محمد: 22] فقوله: أن تكرهوا، في موضع رفع بعسى، وزعم الحوفي في أنه في موضع نصب، ولا يمكن إلاَّ بتكلف بعيد، واندرج في قوله: شيئاً القتال، لأنه مكروه بالطبع لما فيه من التعرض للأسر والقتل، وإفناء الأبدان، وإتلاف الأموال. والخير الذي فيه هو الظفر. والغنيمة بالاستيلاء على النفوس، والأموال أسراً وقتلاً ونهباً وفتحاً، وأعظمها الشهادة وهي الحالة التي تمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً.

والجملة من قوله: وهو خير لكم، حال من قوله: شيئاً، وهو نكرة، والحال من النكرة أقل من الحال من المعرفة، وجوّزوا أن تكون الجملة في موضع الصفة، قالوا: وساغ دخول الواو لما كانت صورة الجملة هنا كصورتها، إذ كانت حالاً. انتهى. وهو ضعيف، لأن الواو في النعوت إنما تكون للعطف في نحو: مررت برجل عالم وكريم، وهنا لم يتقدم ما يعطف عليه، ودعوى زيادة الواو بعيدة، فلا يجوز أن تقع الجملة صفة.

{ وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } عسى هنا للترجي، ومجيئها له هو الكثير في لسان العرب، وقالوا: كل عسى في القرآن للتحقيق، يعنون به الوقوع إلاَّ قوله تعالى: { عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً } [التحريم: 5] واندرج في قوله: شيئاً، الخلود إلى الراحة وترك القتال، لأن ذلك محبوب بالطبع لما في ذلك من ضد ما قد يتوقع من الشر في القتال، والشر الذي فيه هو ذلهم، وضعف أمرهم، واستئصال شأفتهم، وسبي ذراريهم، ونهب أموالهم، وملك بلادهم.

والكلام على هذه إعراباً، كالكلام على التي قبلها.

{ والله يعلم } ما فيه المصلحة حيث كلفكم القتال { وأنتم لا تعلمون } ما يعلمه الله تعالى، لأن عواقب الأمور مغيبة عن علمكم، وفي هذا الكلام تنبيه على الرضى بما جرت به المقادير، قال الحسن: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه أربك، ولرب أمر تحبه فيه عطبك. وقال أبو سعيد الضرير:

رب أمر تتقيه جر أمراً ترتضيه
خفى المحبوب منه وبدا المكروه فيه

وقال الوضاحي:

ربما خير الفتى وهو للخير كاره

وقال ابن السرحان:

كم فرحة مطوية لك بين أثناء المصائب
ومسرة قد أقبلت من حيث تنتظر النوائب

وقال آخر:

كم مرة حفت بك المكاره خار لك الله وأنت كاره

{ يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه }؟ طوّل المفسرون في ذكر سبب نزول هذه الآية في عدّة أوراق، وملخصها وأشهرها: أنها نزلت في قصة عبد الله بن جحش الأسدي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمانية معه: سعد بن أبي وقاص، وعكاشة بن محيصن، وعقبة بن غزوان، وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن ربيعة، ووافد بن عبد الله، وخال بن بكير، وأميرهم عبد الله يترصدون عير قريش ببطن نخلة، فوصلوها، ومرت العير فيها عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، ونوفل بن عبد الله، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى على ظنهم، وهو أوّل يوم من رجب، فرمى وافد عمراً بسهم فقتله، وكان أول قتيل من المشركين، وأسروا الحكم، وعثمان، وكانا أوّل أسيرين في الإسلام، وأفلت نوفل، وقدموا بالعير المدينة، فقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام، وأكثر الناس في ذلك، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير، وقال أصحاب السرية: ما نبرح حتى تنزل توبتنا، فنزلت الآية، فخمَّس العيرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فكان أوّل خمس في الإسلام.، فوجهت قريش في فداء الأسيرين فقيل: حتى يقدم سعد وعتبة، وكانا قد أضلا بعيراً لهما قبل لقاء العير فخرجا في طلبه، فقدما، وفودي الأسيران. فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة وقتل شهيداً ببئر معونة، وأما عثمان فمات بمكة كافراً، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين، فوقع بالخندق مع فرسه، فتحطما وقتلهما الله.

وفي هذه القصة اختلاف في مواضع، وقد لخصّ السجاوندي هذا السبب فقال: نزلت في أول سرية الإسلام أميرهم عبد الله بن جحش، أغاروا على عير لقريش قافلة من الطائف وقتلوا عمرو بن الحضرمي آخر يوم من جمادى الآخرة، فاشتبه بأول رجب، فعيرهم أهل مكة باستحلاله.

وقيل: نزلت حين عاب المشركون القتال في شهر حرام عام الفتح، وقيل: نزلت في قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين من كلاب كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعمرو يعلم بذلك، وكان في أول يوم من رجب، فقالت قريش: قتلهما في الشهر الحرام، فنزلت.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما فرض القتال لم يخصّ بزمان دون زمان، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال، فبين حكم القتال في الشهر الحرام. وسيأتي معنى قوله { قل قتال فيه كبير } كما جاء: { { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } [البقرة: 191، النساء: 91] وجاء بعده: { { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } [البقرة: 191] ذلك التخصيص في المكان، وهذا في الزمان.

وضمير الفاعل في يسألونك، قيل: يعود على المشركين، سألوا تعييباً لهتك حرمة الشهداء، وقصداً للفتك، وقيل: يعود على المؤمنين، سألوا استعظاماً لما صدر من ابن جحش واستيضاحاً للحكم.

والشهر الحرام، هنا هو رجب بلا خلاف، هكذا قالوا، وذلك على أن تكون الألف واللام فيه للعهد، ويحتمل أن تكون للجنس، فيراد به الأشهر الحرام وهي: ذو القعدة، ذو الحجة، والمحرم ورجب. وسميت حرماً لتحريم القتال فيها، وتقدّم شيء من هذا في قوله: { { الشهر الحرام بالشهر الحرام } }.[البقرة: 194].

وقرأ الجمهور: قتال فيه، بالكسر وهو بدل من الشهر، بدل اشتمال. وقال الكسائي: هو مخفوض على التكرير، وهو معنى قول الفراء، لأنه قال: مخفوض بعن مضمرة، ولا يجعل هذا خلافاً كما يجعله بعضهم،لإن قول البصريين إن البدل على نية تكرار العامل هو قول الكسائي، والفراء.

لا فرق بين هذه الأقوال، هي كلها ترجع لمعنى واحد.

وقال أبو عبيدة: قتال فيه، خفض على الجوار، قال ابن عطية: هذا خطأ. إنتهى. فإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار الذي اصطلح عليه النحاة، فهو كما قال ابن عطية: وجه الخطأ فيه هو أن يكون تابعاً لما قبله في رفع أو نصب من حيث اللفظ والمعنى، فيعدل به عن ذلك الإعراب إلى إعراب الخفض لمجاورته لمخفوض لا يكون له تابعاً من حيث المعنى، وهنا لم يتقدّم لا مرفوع، ولا منصوب، فيكون: قتال، تابعاً له، فيعدل به عن إعرابه إلى الخفض على الجوار، وإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض، فخفضه بكونه جاور مخفوضاً أي: صار تابعاً له، ولا نعني به المصطلح عليه، جاز ذلك ولم يكن خطأ، وكان موافقاً لقول الجمهور، إلاَّ أنه أغمض في العبارة، وألبس في المصطلح.

وقرأ ابن عباس، والربيع، والأعمش: عن قتال فيه، بإظهار: عن، وهكذا هو في مصحف عبد الله.

وقرئ شاذاً: قتال فيه، بالرفع، وقرأ عكرمة: قتل فيه قل قتل فيه، بغير ألف فيهما.

ووجه الرفع في قراءة: قتال فيه، أنه على تقدير الهمزة فهو مبتدأ، وسوغ جواز الإبتداء فيه، وهو نكرة، لنية همزة الاستفهام، وهذه الجملة المستفهم عنها هي في موضع البدل من: الشهر الحرام، لأن: سأل، قد أخذ مفعوليه، فلا يكون في موضع المفعول، وإن كانت هي محط السؤال، وزعم بعضهم أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل تقديره: أجائز قتال فيه؟ قيل: ونظير هذا، لأن السائلين لم يسألوا عن كينونة القتال في الشهر الحرام، إنما سألوا: أيجوز القتال في الشهر الحرام؟ فهم سألوا عن مشروعيته لا عن كينونته فيه.

{ قل قتال فيه كبير } هذه الجملة مبتدأ وخبر، و: قتال، نكرة، وسوغ الابتداء بها كونها وصفت بالجار والمجرور، وهكذا قالوا، ويجوز أن يكون: فيه، معمولاً لقتال، فلا يكون في موضع الصفة، وتقييد النكرة بالمعمول مسوغ أيضاً لجواز الابتداء بالنكرة، وحدّ الاسم إذا تقدّم نكرة، وكان إياها، أن يعود معرفاً بالألف واللام، تقول: لقيت رجلاً فضربت الرجل، كما قال تعالى: { { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } [المزمل: 15 - 16] قيل: وإنما لم يعد بالألف واللام هنا لأنه ليس المراد تعظيم القتال المذكور المسؤول عنه. حتى يعاد بالألف واللام، بل المراد تعظيم: أي قتال كان في الشهر الحرام، فعلى هذا: قتال الثاني، غير الأوّل انتهى.

وليست الألف واللام تفيد التعظيم في الاسم، إذ كانت النكرة السابقة، بل هي فيه للعهد السابق، وقيل: في (المنتخب): إنما نكر فيهما لأن النكرة الثانية هي غير الأولى، وذلك أنهم أرادوا بالأول الذي سألوا عنه، فقال عبد الله بن جحش، وكان لنصرة الإسلام وإذلال الكفر، فلا يكون هذا من الكبائر، بل الذي يكون كبيراً هو قتال غير هذا، وهو ما كان الفرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر، فاختير التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة، ولو وقع التعبير عنهما، أو عن أحدهما، بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة. انتهى.

واتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام، إذ المعنى: قل قتال فيه لهم كبير، فقال ابن عباس، وقتادة، وابن المسيب، والضحاك، والأوزاعي: إنها منسوخة بآية السيف: { { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [التوبة: 5] إذ يلزم من عموم المكان عموم الزمان.

وقيل: هي منسوخة بقوله: { وقاتلوا المشركين كافة } [التوبة: 36] وإلى هذا ذهب الزهري، ومجاهد، وغيرهما.

وقيل: نسخهما غزو النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفاً في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام.

وقيل: نسخها بيعة الرضوان والقتال في ذي القعدة، وضعف هذا القول بأن تلك البيعة كانت على الدفع لا على الابتداء بالقتال.

وقال عطاء لم تنسخ، وحلف بالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم، ولا في الشهر الحرام إلاّ أن يقاتلوا فيه، وروي هذا القول عن مجاهد أيضاً؟ وروى جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو في الأشهر الحرم إلاَّ أن يغزى" ، وذلك قوله: قل قتال فيه كبير.

ورجح كونها محكمة بهذا الحديث، وبما رواه ابن وهب، "أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى ابن الحضرمي، ورد الغنيمة والاسيرين" ، وبأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة وهذا خاص، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق.

{ وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل } هذة جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على قوله تعالى: فيه كبير، وكلا الجملتين مقولة، أي: قل لهم قتال في الشهر الحرام إثم كبير، وقل لهم: صدّ عن كذا إلى آخره، أكبر من القتال، ويحتمل أن يكون مقطوعاً من القول، بل إخبار مجرد عن أن الصدّ عن سبيل الله، وكذا وكذا، أكبر، والمعنى: أنكم يا كفار قريش تستعظمون منا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم: من الصدّ عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله، واخراجكم أهل المسجد منه كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أكبر جرماً عند الله مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام، على سبيل البناء على الظن.

وتقدّم لنا أن هذه الجملة من مبتدأ وخبر، فالمبتدأ: صدّ، وهو نكرة مقيدة بالجار والمجرور، فساغ الإبتداء، وهو مصدر محذوف فاعله ومفعوله للعلم بهما، أي: وصدّكم المسلمين عن سبيل الله.

وسبيل الله: الإسلام. قاله مقاتل، أو: الحج، لأنهم صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة قاله ابن عباس، والسدّي عن أشياخه، أو: الهجرة، صدّوا المسلمين عنها.

و: كفر به، معطوف على: وصدّ، وهو أيضاً مصدر لازم حذف فاعله، تقديره: وكفركم به، والضمير في: به، يعود على السبيل لأنه هو المحدّث عنه بأنه صدّ عنه، والمعنى: وكفر بسبيل الله، وهو دين الله وشريعته، وقيل: يعود الضمير في: به، على الله تعالى، قاله الحوفي.

والمسجد الحرام: هو الكعبة، وقرىء شاذاً والمسجدُ الحرام بالرفع، ووجهه أنه عطفه على قوله: وكفر به، ويكون على حذف مضاف، أي: وكفر بالمسجد الحرام، ثم حذف الباء وأضاف الكفر إلى المسجد، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، فيؤول إلى معنى قراءة الجمهور من خفض المسجد الحرام على أحسن التأويلات التي نذكرها، فنقول: اختلفوا فيما عطف عليه والمسجد، فقال ابن عطية، والزمخشري، وتبعا في ذلك المبرد: هو معطوف على: سبيل الله، قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح، ورد هذا القول بأنه إذا كان معطوفاً على: سبيل الله، كان متعلقاً بقوله: وصدّ إذ التقدير: وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، فهو من تمام عمل المصدر، وقد فصل بينهما بقوله: وكفر به، ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول، وقيل: معطوف على الشهر الحرام، وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن الشهر الحرام، إذ لم يشكوا في تعظيمه، وإنما سألوا عن القتال في الشهر الحرام، لأنه وقع منهم ولم يشعروا بدخوله، فخافوا من الإثم. وكان المشركون عيروهم بذلك، انتهى، ما ضعف به هذا القول، وعلى هذا التخريج يكون السؤال عن شيئين: أحدهما: عن قتال في الشهر الحرام، والآخر: عن المسجد الحرام والمعطوف على الشهر الحرام، والشهر الحرام لم يسأل عنه لذاته، إنما سئل عن القتال فيه، فكذلك المعطوف عليه يكون السؤال عن القتال فيه، فيصير المعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام، وفي المسجد الحرام، فأجيبوا: بأن القتال في الشهر الحرام كبير، وصد عن سبيل الله، وكفر به، ويكون: وصد عن سبيل الله، على هذا، معطوفاً على قوله: كبير، أي: القتال في الشهر الحرام أخبر عنه بأنه إثم كبير، وبأنه صد عن سبيل الله وكفر به.

ويحتمل أن يكون: وصد، مبتدأ وخبره محذوف لدلالة خبر: قتال، عليه، التقدير: وصد عن سبيل الله وكفر به كبير، كما تقول: زيد قائم وعمرو، أي: وعمرو قائم، وأجيبوا بأن: القتال في المسجد الحرام إخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه، وكونه معطوفاً على الشهر الحرام متكلف جداً، ويبعد عنه نظم القرآن، والتركيب الفصيح، ويتعلق كما قيل بفعل محذوف دل عليه المصدر، تقديره: ويصدون عن المسجد الحرام، كما قال تعالى: { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } [الفتح: 25] قال بعضهم: وهذا هو الجيد، يعني من التخاريج التي يخرج عليه، والمسجد الحرام وما ذهب إليه غير جيد، لأن فيه الجر بإضمار حرف الجر، وهو لا يجوز في مثل هذا إلاَّ في الضرورة، نحو قوله:

أشارت كليب بالأكف الأصابع

أي: إلى كليب، وقيل: هو معطوف على الضمير في قوله: وكفر به، أي: وبالمسجد الحرام، قاله الفراء، ورد بأن هذا لا يجوز إلاَّ بإعادة الجار، وذلك على مذهب البصريين.

ونقول: العطف المضمر المجرور فيه مذاهب:

أحدها: أنه لا يجوز إلاَّ بإعادة الجار إلاَّ في الضرورة، فإنه يجوز بغير إعادة الجار فيها، وهذا مذهب جمهور البصريين.

الثاني: أنه يجوز ذلك في الكلام، وهو مذهب الكوفيين، ويونس، وأبي الحسن، والأستاذ أبي علي الشلوبين.

الثالث: أنه يجوز ذلك في الكلام إن أكد الضمير، وإلاَّ لم يجز في الكلام، نحو: مررت بك نفسك وزيد، وهذا مذهب الجرمي.

والذي نختاره أن يجوز ذلك في الكلام مطلقاً، لأن السماع يعضده، والقياس يقويه. أما السماع فما روي من قول العرب: ما فيها غيره وفرسه، بجر الفرس عطفاً على الضمير في غيره، والتقدير: ما فيها غيره وغير فرسه، والقراءة الثانية في السبعة: { تساءلون به والأرحام } [النساء: 1] أي: وبالأرحام وتأويلها على غير العطف على الضمير، مما يخرج الكلام عن الفصاحة، فلا يلتفت إلى التأويل. قرأها كذلك ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والنخعي، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وأبو رزين، وحمزة.

ومن ادعى اللحن فيها أو الغلط على حمزة فقد كذب، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرج عن أن يجعل ذلك ضرورة، فمنه قول الشاعر:

نعلق في مثل السواري سيوفنا فما بينها والأرض غوط نفانف

وقال آخر:

هلا سألت بذي الجماجم عنهم وأبي نعيم ذي اللواء المحرق

وقال آخر:

بنا أبداً لا غيرنا يدرك المنى وتكشف غماء الخطوب الفوادح

وقال آخر:

إذا أوقدوا ناراً لحرب عدوهم فقد خاب من يصلى بها وسعيرها

وقال آخر:

لو كان لي وزهير ثالث وردت من الحمام عدانا شر مورود

وقال رجل من طيء:

إذا بنا، بل أنيسان، اتَّقت فئة ظلت مؤمنة ممن تعاديها

وقال العباس بن مرداس:

أكر على الكتيبة لا أبالي أحتفي كان فيها أم سواها

وأنشد سيبويهرحمه الله :

فاليوم قد بت تهجونا وتشمتنا فاذهب فما بك والأيام من عجب

وقال آخر:

أبك آية بي أو مصدّر من حمر الجلة جأب جسور

فأنت ترى هذا السماع وكثرته، وتصرّف العرب في حرف العطف، فتارة عطفت بالواو، وتارة بأو، وتارة ببل، وتارة بأم، وتارة بلا، وكل هذا التصرف يدل على الجواز، وإن كان الأكثر أن يعاد الجار كقوله، تعالى: { { وعليها وعلى الفلك تحملون } [المؤمنون: 22] { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً } [فصلت: 11] { قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب } [الأنعام: 64] وقد خرج على العطف بغير إعادة الجار قوله: { ومن لستم له برازقين } [الحجر: 20] عطفاً على قوله: { لكم فيها معايش } [الحجر: 20] أي: ولمن. وقوله: { وما يتلى عليكم } [النساء: 127] عطفاً على الضمير في قوله: فيهنّ، أي: وفيما يتلى عليكم.

وأما القياس فهو أنه كما يجوز أن يبدل منه ويؤكد من غير إعادة جار، كذلك يجوز أن يعطف عليه من غير إعادة جار، ومن احتج للمنع بأن الضمير كالتنوين، فكان ينبغي أن لا يجوز العطف عليه إلاَّ مع الإعادة لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه، وإذا تقرّر أن العطف بغير إعادة الجار ثابت من كلام العرب في نثرها ونظمها، كأن يخرج عطف: والمسجد الحرام، على الضمير في: به، أرجح، بل هو متعين، لأن وصف الكلام، وفصاحة التركيب تقتضي ذلك.

وإخراج أهله، معطوف على المصدر قبله، وهو مصدر مضاف للمفعول، التقدير: وإخراجكم أهله، والضمير في: أهله، عائد على: المسجد الحرام، وجعل، المؤمنين أهله لأنهم القائمون بحقوقه، أو لأنهم يصيرون أهله في العاقبة، ولم يجعل المقيمين من الكفار بمكة أهله لأن بقاءهم عارض يزول، كما قال تعالى: { { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاَّ المتقون } [الأنفال: 34] و: منه، متعلق بإخراج، والضمير في: منه، عائد على المسجد الحرام، وقيل: عائد على: سبيل الله، وهو الإسلام، والأول أظهر. و: أكبر، خبر عن المبتدأ الذي هو: وصد، وما عطف عليه، ويحتمل أن يكون خبراً عن المجموع، ويحتمل أن يكون خبراً عنها باعتبار كل واحد واحد، كما تقول: زيد وعمرو وبكر أفضل من خالد، نزيد: كل واحد منهم أفضل من خالد، وهذا هو الظاهر لا المجموع، وإفراد الخبر لأنه أفعل تفضيل مستعمل: بمن، الداخلة على المفضول في التقدير، وتقديره: أكبر من القتال في الشهر الحرام، فحذف للعلم به.

وقيل: وصد مبتدأ. و: كفر، معطوف عليه، وخبرهما محذوف لدلالة خبر: وإخراج، عليه. والتقدير: وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام أكبر، ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأنا قد بينا كون: أكبر، خبراً عن الثلاثة.

وعند الله، منصوب بأكبر، ولا يراد: بعند، المكان بل ذلك مجاز.

وذكر ابن عطية، والسجاوندي عن الفراء أنه قال: وصد عطف على كبير، قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: وكفر به، عطف أيضاً على كبير، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بيِّن فساده. انتهى كلام ابن عطية، وليس كما ذكر، ولا يتعين ما قاله من أن: وكفر به، عطف على كبير، إذ يحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله: وصد عن سبيل الله، ويكون قد أخبر عن القتال في الشهر الحرام بخبرين. أحدهما: أنه كبير، والثاني: أنه صد عن سبيل الله، ثم ابتدأ فقال: والكفر بالله، وبالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال الذي هو كبير، وهو صد عن سبيل الله. وهذا معنى سائغ حسن، ولا شك أن الكفر بالله وما عطف عليه أكبر من القتال المذكور. وقوله: ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده، ليس بكلام مخلص، لأنه لا يجيء منه ما ذكر إلاَّ بتكلف بعيد، بل يجيء منه أن إخراج أهل المسجد منه أكبر عند الله من القتال المخبر عنه بأنه كبير، وبأنه صد عن سبيل الله، فالمحكوم عليه بالأكبرية هو الإخراج، والمفضول فيها هو القتال لا الكفر والفتنة، أي: الكفر والشرك، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة وغيرهم.

أو التعذيب الحاصل للمؤمنين ليرجعوا عن الإسلام، فهي أكبر حرماً من القتل، والمعنى عند جمهور المفسرين أن الفتنة التي كانت تفتن المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أشد اجتراماً من قتلهم إياكم في المسجد الحرام، وقيل: المعنى: والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون، أي فعلكم بكل إنسان، أشد من فعلنا، لأن الفتنة ألم متجدد، والقتل ألم منقض.

ومن فسر الفتنة بالكفر كان المعنى عنده: وكفركم أشد من قتلنا أولئك، وصرح هنا بالمفضول، وهو قوله: من القتل، ولم يحذف. لأنه لا دليل على حذفه، بخلاف قوله: أكبر عند الله، فإنه تقدم ذكر المفضول عليه، وهو: القتال، وقال عبد الله بن جحش في هذه القصة شعراً:

تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منها لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمدوكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله رحله لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا، وإن عيرتمونا بقتلةوأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دماً، وابن عبد الله عثمان بيننا ينازعه غل من القد عاند

{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } الضمير في: يزالون، للكفار، وهذا يدل على أن الضمير المرفوع في قوله: يسألونك، هو الكفار، والضمير المنصوب في: يقاتلونكم، خوطب به المؤمنون، وانتقل عن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خطاب المؤمنين، وهذا إخبار من الله للمؤمنين بفرط عداوة الكفار، ومباينتهم لهم، ودوام تلك العداوة، وأن قتالهم إياكم معلق بإمكان ذلك منهم لكم، وقدرتهم على ذلك.

و: حتى يردوكم، يحتمل الغاية، ويحتمل التعليل، وعليهما حملها أبو البقاء وهي متعلقة في الوجهين: بيقاتلونكم، وقال ابن عطية: ويردوكم، نصب بحتى لأنها غاية مجردة، وقال الزمخشري: وحتى، معناها التعليل، كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة، أي: يقاتلونكم كي يردوكم. انتهى. وتخريج الزمخشري أمكن من حيث المعنى، إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين، وهو: المقاتلة، ذكر لها علة توجيهاً، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل، وذلك بخلاف الغاية، فإنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه، فزمان وجوده مقيد بغايته، وزمان وجود الفعل المعلل مقيد بوجود علة، وفرق في القوة بين المقيد بالغاية والمقيد بالعلة لما في التقييد بالعلة من ذكر الحامل وعدم ذلك في التقييد بالغاية.

و: عن دينكم، متعلق: بيردوكم، والدين هنا الإسلام، و: إن استطاعوا، شرط جوابه محذوف يدل عليه ما قبله، التقدير: إن استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم، ومن جوّز تقديم جواب الشرط، قال: ولا يزالون، هو الجواب.

وقال الزمخشري: إن استطاعوا، استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي قلا تبقِ عليّ، وهو واثق بأنه لا يظفر به. انتهى قوله: ولا بأس به.

{ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } ارتد: افتعل من الرد، وهو الرجوع، كما قال تعالى: { { فارتدا على آثارهما قصصاً } [الكهف: 64] وقد عدّها بعضهم فيما يتعدّى إلى اثنين، إذا كانت عنده، بمعنى: صير وجعل، من ذلك قوله: { { فارتد بصيراً } [يوسف: 96] أي: صار بصيراً، ولم يختلف هنا في فك المثلين، والفك هو لغة الحجاز، وجاء افتعل هنا بمعنى التعمل والتكسب. لأنه متكلف، إذ من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه، فلذلك جاء افتعل هنا، وهذا المعنى، وهو التعمل والتكسب، هو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل.

و: منكم، في موضع الحال من الضمير المستكن في: يرتدد، العائد على: من، و: من، للتبعيض، و: عن دينه، متعلق بيرتدد، والدين: هنا هو الإسلام، لأن الخطاب مع المسلمين، والمرتد إليه هو دين الكفر، بدليل أن ضد الحق الباطل، وبقوله: { فيمت وهو كافر } وهذان شرطان أحدهما معطوف على الآخر بالفاء المشعرة بتعقيب الموت على الكفر بعد الردة واتصاله بها، ورتب عليه حبوط العمل في الدنيا والآخرة. وهو حبطه في الدنيا باستحقاق قبله، وإلحاقه في الأحكام بالكفار، وفي الآخرة بما يؤول إليه من العقاب السرمدي، وقيل: حبوط أعمالهم في الدنيا هو عدم بلوغهم ما يريدون بالمسلمين من الإضرار بهم ومكايدتهم، فلا يحصلون من ذلك على شيء، لأن الله قد أعزّ دينه بأنصاره.

وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر، لا على مجرد الإرتداد، وهذا مذهب جماعة من العلماء، منهم: الشافعي، وقد جاء ترتب حبوط العمل على مجرد الكفر في قوله: { { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } [المائدة: 5] { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [الأنعام: 88] { والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم } [الأعراف: 147] { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } [الزمر: 65] والخطاب في المعنى لأمته، وإلى هذا ذهب مالك، وأبو حنيفة، وغيرهما، يعني: أنه يحبط عمله بنفس الردة دون الموافاة عليها، وإن راجع الإسلام، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حج، ثم ارتد، ثم أسلم، فقال مالك: يلزمه الحج، وقال الشافعي: لا يلزمه الحج.

ويقول الشافعي: اجتمع مطلق ومقيد، فتقيد المطلق، ويقول غيره: هما شرطان ترتب عليهما شيئان، أحد الشرطين: الإرتداد، ترتب عليه حبوط العمل، الشرط الثاني: الموافاة على الكفر، ترتب عليها الخلود في النار.

والجملة من قوله: وهو كافر، في موضع الحال من الضمير المستكن في: فيمت، وكأنها حال مؤكدة، لأنه لو استغنى عنها فهم معناها، لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد. وكون الحال جاء جملة فيها مبالغة في التأكيد، إذ تكرر الضمير فيها مرتين، بخلاف المفرد، فإنه فيه ضمير واحد.

وتعرض المفسرون هنا لحكم المرتد، ولم تتعرض الآية إلاَّ لحبوط العمل، وقد ذكرنا الخلاف فيه هل يشترط فيه الموافاة على الكفر أم يحبط بمجرد الردة؟ وأما حكمه بالنسبة إلى القتل، فذهب النخعي والثوري: إلى أنه يستتاب محبوساً أبداً، وذهب طاووس، وعبيد بن عمير، والحسن، على خلاف عنه، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والشافعي: في أحد قوليه، إلى أنه يقتل من غير استتابة. وروي نحو هذا عن أبي موسى، ومعاذ، وقال جماعة من أهل العلم: يستتاب، وهل يستتاب في الوقت؟ أو في ساعة واحدة؟ أو شهر؟ روي هذا عن علي، أو ثلاثة أيام؟ وروي عن عمر، وعثمان، وهو قول مالك فيما رواه ابن القاسم، وقول أحمد، وإسحاق، والشافعي، في أحد قوليه، وأصحاب الرأي: أو مائة مرة؟ وهو قول الحسن.

وقال عطاء: إن كان ابن مسلمين قتل دون استتابة، وإن كان أسلم ثم ارتد أستتيب. وقال الزهري: يدعى إلى الإسلام، فإن تاب وإلاَّ قتل. وقال أبو حنيفة: يعرض عليه الإسلام، فإن أسلم وإلاَّ قتل مكانه إلاَّ أن يطلب أن يؤجل، فيؤجل ثلاثة أيام. والمشهور عنه، وعن أصحابه، أنه لا يقتل حتى يستتاب.

والزنديق عندهم والمرتد سواء.

وقال مالك: تقتل الزنادقة من غير استتابة، ولو ارتد ثم راجع ثم ارتد، فحكمه في الردة الثانية أو الثالثة أو الرابعة كالأولى، وإذا راجع في الرابعة ضرب وخلي سبيله، وقيل: يحبس حتى يرى أثر التوبة والإِخلاص عليه، ولو انتقل الكافر من كفر إلى كفر، فالجمهور على أنه لا يقتل.

وذكر المزني، والربيع، عن الشافعي: أن المبدل لدينه من أهل الذّمة يلحقه الإِمام بأرض الحرب، ويخرجه من بلده، ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار، هذا حكم الرجل.

وأما المرأة إذا ارتدّت فقال مالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي: تقتل كالرجل سواء، وقال عطاء، والحسن، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وابن شبرمة، وابن عطية لا تقتل. وروي ذلك عن علي وابن عباس.

وأمّا ميراثه، فأجمعوا على أن أقرباءه من الكفار لا يرثونه إلاَّ ما نقل عن قتادة، وعمر بن عبد العزيز، أنهم يرثونه، وقد روي عن عمر خلاف هذا، وقال علي، والحسن، والشعبي، والحكم، والليث، وأبو حنيفة في أحد قوليه، وابن راهويه: يرثه أقرباؤه المسلمون. وقال مالك، وربيعة، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو ثور: ميراثه في بيت المال، وقال ابن شبرمة، وأبو يوسف، ومحمد، والأوزاعي في إحدى الروايتين: ما اكتسبه بعد الردة لورثته المسلمين. وقال أبو حنيفة، ما اكتسبه في حالة الإِسلام قبل الردة لورثته المسلمين.

وقرأ الحسن: حبطت بفتح الباء، وهما لغتان، وكذا قرأها أبو السماك في جميع القرآن، وقوله: { فأولئك حبطت أعمالهم } أتى باسم الإشارة وهو يدل على من اتصف بالأوصاف السابقة، وأتى به مجموعاً حملاً على معنى: من، لأنه أولاً حمل على اللفظ في قوله: { يرتدد فيمت وهو كافر } وإذا جمعت بين الحملين، فالأصح أن تبدأ أولاً بالحمل على اللفظ، ثم بالحمل على المعنى. وعلى هذا الأفصح جاءت هذه الآية { وفي الدنيا } متعلق بقوله: { حبطت }.

{ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } تقدّم تفسير هذه الجملة، فأغنى عن إعادته، وهذه الجملة يحتمل أن تكون ابتداء إخبار من الله تعالى بخلود هؤلاء في النار، فلا تكون داخلة في الجزاء وتكون معطوفة على الجملة الشرطية، ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله: { فأولئك حبطت أعمالهم } فتكون داخلة في الجزاء، لأن المعطوف على الجزاء جزاء، وهذا الوجه أولى، لأن القرب مرجح، وترجح الأول بأنه يقتضي الاستقلال.

{ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } سبب نزولها أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه عقاب علينا فيما فعلناه فهل نطمع منه أجراً وثواباً فنزلت لأن عبد الله كان مؤمناً وكان مهاجراً، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهداً، ثم هي عامة في من اتصف بهذه الأوصاف. وقال الزمخشري إن عبد الله بن جحش وأصحابه، حين قتلوا الحضرمي، ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإِثم فليس لهم أجر، فنزلت. إنتهى كلامه. وهو كالأول،ألاَّ أنه اختلف في الظان، ففي الأول ابن جحش، وفي قول الزمخشري: قوم، وعلى هذا السبب فمناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة. وقيل: لما أوجب الجهاد بقوله: { كتب عليكم القتال } وبيَّن أن تركه سبب للوعيد، اتبع ذلك بذكر من يقوم به، ولا يكاد يوجد وعيد إلاَّ ويتبعه وعد، وقد احتوت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف، وجاءت مرتبة بحسب الوقائع والواقع، لأن الإِيمان أولها، ثم المهاجرة، ثم الجهاد في سبيل الله. ولما كان الإِيمان هو الأصل أفرد به موصول وحده، ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد، لأنهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد. وأتى خبر: إن، جملة مصدرة: بأولئك، لأن اسم الإشارة هو المتضمن الأوصاف السابقة من الإيمان والهجرة والجهاد، وليس تكريراً لموصول بالعطف مشعراً بالمغايرة في الذوات، ولكنه تكرير بالنسبة إلى الأوصاف، والذوات هي المتصفة بالأوصاف الثلاثة، فهي ترجع لمعنى عطف الصفة بعضها على بعض للمغايرة، لا: إن الذين آمنوا، صنف وحده مغاير: للذين هاجروا وجاهدوا، وأتى بلفظة: يرجون، لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة، ولو أطاع أقصى الطاعة، إذ لا يعلم بما يختم له، ولا يتكل على عمله، لأنه لا يعلم أَقُبِل أم لا؟ وأيضاً فلأن المذكورة في الآية ثلاثة أوصاف، ولا بدّ مع ذلك من سائر الأعمال، وهو يرجو أن يوفقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة، فلذلك قال: فأولئك يرجون، أو يكون ذكر الرجاء لما يتوهمون أنهم ما وفوا حق نصرة الله في الجهاد، ولا قضوا ما لزمهم من ذلك، فهم يقدمون على ألله مع الخوف والرجاء، كما قال تعالى: { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } [المؤمنون: 60] .

وروي عن قتادة أنه قال: هو لأخيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء، كما يسمعون، وقيل: الرجاء دخل هنا في كمية الثواب ووقته، لا في أصل الثواب، إذا هو مقطوع متيقن بالوعد الصادق، و: رحمت، هنا كتب بالتاء على لغة من يقف عليها بالتاء هنا، أو على اعتبار الوصل لأنها في الوصل تاء، وهي سبعة مواضع كتبت: رحمت، فيها بالتاء. أحدها هذا، وفي الأعراف: { { إن رحمت الله قريب } [الآية: 56] وفي هود: { { رحمت الله وبركاته } [الآية: 73] وفي مريم { { ذكر رحمت ربك } [الآية: 2] وفي الزخرف { { أهم يقسمون رحمت ربك } [الآية: 32] { ورحمت ربك خير مما يجمعون } [الآية: 32] وفي الروم { { فانظر إلى آثار رحمت الله } [الآية: 50] { والله غفور رحيم } لما ذكر أنهم طامعون في رحمة الله، أخبر تعالى أنه متصف بالرحمة، وزاد وصفاً آخر وهو أنه تعالى متصف بالغفران، فكأنه قيل: الله تعالى، عندما ظنوا وطمعوا في ثوابه، فالرحمة متحققة، لأنها من صفاته تعالى.

وقد تضمنت هذه الأيات الكريمة إخبار الله تعالى عن القرون الماضية أنهم كانوا على سنن واحد، وأنه بعث إليهم النبيين مبشرين من أطاع بالثواب من الله تعالى، ومحذرين من عصى من عقاب الله، وقدم البشارة لأنها هي المفروح بها، ولأنها نتيجتها رضى الله عن من اتبع أوامره واجتنب نواهيه، وأنزل معهم كتاباً من عنده مصحوباً بالحق اللائح، ليكون أضبط لما أتوا به من الشرائع، لأن ما جاؤوا به مما ليس في كتاب يقرأ ويدرس على مر الأعصار، وربما يذهب بذهابهم، فإذا كان ما شرع لهم مخلداً في الطروس كان أبقى، وأن ثمرة الكتب هي الفصل بين الناس فيما وقع فيه اختلافهم من أمر عقائدهم، وتكاليفهم، ومصالح دنياهم، ثم ذكر أنه ما اختلف فيما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، أي: أوتوا الكتاب، ووصل إليهم من عند الله، وذلك بعد وضوح الآيات ومجيئها لهم، فكأن ما سبيله إلى الهداية والفصل في الإختلاف عند هؤلاء سبباً للاختلاف، فرتبوا على مجيء الشيء الواضح ضد مقتضاه، وأن الحامل على ذلك إنما هو البغي والظلم الذي صار بينهم، ثم هدى الله المؤمنين لاتباع الحق الذي اختلف فيه من اختلف، وذلك بتيسير الله تعالى لهم، ذلك من غير سابقة استحقاق، بل هدايته إياهم الحق هو بتمكينه تعالى لذلك.

ثم ذكر تعالى أن الهداية للصراط المستقيم إنما تكون لمن شاء تعالى هدايته، ثم ذكر تعالى مخاطباً للمؤمنين، إذ كان قد أخبر ببعثة الرسل بالتكاليف الشرعية، أنه لا يحسب أن تنال الرتبة العالية من الفوز بدخول الجنة، ولما يقع ابتلاء لكم كما ابتلى من كان قبلكم، ثم فسر مثل الماضين بأنهم مستهم البأساء والضراء، وأنهم أزعجوا حتى سألوا ربهم عن وقت مجيء النصر لتصبر نفوسهم على ما ابتلاهم به، ولينتظروا الفرج من الله عن قرب، فأجيبوا بأن نصر الله قريب وما هو قريب، فالحاصل: فسكنت نفوسهم من ذلك الإزعاج بانتظار النصر القريب.

ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ينفقون من أموالهم في وجوه البر؟ فلم يبين لهم جنس ما ينفقون ولا مقداره، وذكر مصرف ذلك، لأنه هو الأهم في الجواب، وكأنه قيل: أي شيء ينفقون من قليل أو كثير فمصرفه لأقرب الناس إليكم، وهما: الوالدان: اللذان كانا سبباً في إيجادك وتربيتك من لدن خلقت إلى أن صار لك شيء من الدنيا، وفي الحنو عليك، ثم ذكر: الأقربين بصفة التفضيل، لأنهم هم الذين يشاركونك في النسب، والإنفاق عليهم صدقة وصلة، ثم ذكر اليتامى: وهم الذين قد توفي آباؤهم فليس لهم من يقوم بمصالحهم، فالإنفاق عليهم إحسان جزيل، ثم ذكر: المساكين، وهم الذين انتهوا، من الفقراء، إلى حالة المسكنة، وهي عدم الحركة والتصرف في أحوال الدنيا ومعاشها، ثم أخبر تعالى: أن ما أنفقتم فالله عليم به ومحصيه، فيجازي عليه ويثيب.

ثم أخبر تعالى عن فرض القتال على المؤمنين، وأنه مكروه للطباع لما فيه من إتلاف المهج وانتقاص الأموال، وانتهاك الأجساد بالسفر فيه وبغيره، ثم ذكر أن الإنسان قد يكره الشيء وهو خير له، لأن عقابه إلى خير، فالقتال، وإن كان مكروهاً للطبع، فإنه خير إن سلم، فخيره بالظفر بأعداء الله، وبالغنيمة، واستيلاء عليهم قتلاً ونهباً وتملك دار، وإن قتل فخيره أن له عند الله مرتبة الشهداء.

ويكفيك ما ورد في هذه المرتبة العظيمة في كتاب الله، وفيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر مقابل هذا وهو قوله { وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } فمن المحبوب ترك القتال، وهو مدعاة إلى الدعاء والراحة، وفي ذلك الشر العظيم من تسلط أعداء الله والإيقاع بالمسلمين، واستئصال شأفتهم بالقتل والنهب وتملك ديارهم، فمتى أخلد الإنسان إلى الراحة طمع فيه عدوه، وبلغ منه مقاصده، ولقد أحسن زهير حيث قال:

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعاً، وإن لا يبد بالظلمُ يظلم

ثم ذكر تعالى أنه يعلم ما لا يعلمون حيث شرع القتال، فهو تعالى عالم بما يترتب لكم من المصالح الدينية والدنيوية على مشروعية القتال.

ثم ذكر تعالى أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في الشهر الحرام، لما كان وقع ذلك منهم، لا على سبيل القصد، بل على سبيل الظن أن الزمان الذي وقع فيه ليس هو من الشهر الحرام، فأخبروا أن ذلك هو إثم كبير، إذ كانت العادة أن الأشهر الحرم لا قتال فيها، ثم ذكر أن أكبر من ذلك هو ما يرتكبه الكفار من صد المسلمين عن سبيل الله، ومن الكفر بالله، وبالمسجد الحرام، ومن إخراج أهله منه.

ثم ذكر تعالى أن الفتنة أكبر من القتل وهو فتنة الرجل المسلم عن دينه، أكبر من قتله وهو على دينه، لأن تلك الفتنة تؤول به إلى النار، وقتله هذا يؤول به إلى الجنة.

ثم أخبر تعالى عن دوام عداء عداوة الكفار، وأن مقصدهم إنما هو فتنتكم عن دينكم ورجوعكم إلى ما هم عليه من الضلال، وأنه متى أمكنهم ذلك وقدروا عليه قاتلوكم، ثم أخبر تعالى أن من رجع عن دينه الحق إلى دينه الباطل، ووافى على ذلك، فجميع ما تقدّم من أعماله الصالحات قد بطلت في الدنيا بإلحاقه بالكفار، وإجراء أحكام المرتدين عليه، وفي الآخرة فلا يبقى لها ثمرة يرتجي بها غفراناً لما اجترح، بل مآله إلى النار خالداً فيها.

ثم لما ذكر حال المرتد عن دينه، ذكر حال من آمن بالله وثبت على إيمانه، وهاجر من وطنه الذي هو محل الكفر إلى دار الإسلام، ثم جاهد في سبيل الله من كفر بالله، وأنه طامع في رحمة الله.

ثم ذكر تعالى أنه غفور لما وقع منه قبل الإيمان ولما يتخلل في حالة الإيمان من بعض المخالفة، وأنه رحيم له، فهو يحقق له ما طمع فيه من رحمته.