التابوت: معروف وهو الصندوق، وفي التابوت قولان.
أحدهما: إن وزنه فاعول ولا يعرف له اشتقاق ولغة فيه التابوه، بالهاء آخراً، ويجوز أن تكون الهاء بدلاً من التاء كما أبدلوها منها في الوقف، في مثل: طلحة فقالوا: طلحه، ولا يجوز أن يكون: فعلوتا كملكوت، من: تاب يتوب، لفقدان معنى الاشتقاق فيه.
والقول الآخر: أنه فعلوت من التوب، وهو الرجوع لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته قاله الزمخشري. قال: ولا يكون فاعولاً لقلة نحو سلس، وقلق، ولانه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه، وأما بالهاء ففاعول إلاّ فيمن جعل هاءه من التاء لاجتماعهما في الهمس، وأنهما من حروف الزيادة، ولذلك أبدلت من تاء التأنيث.
السكينة: فعلية من السكون، وهو الوقار تقول: في فلان سكينة أي: وقار وثبات.
هارون: أسم أعجمي يمنع الصرف للعلمية والعجمة.
الجنود: جمع جند، وهو معروف، واشتقاقه من الجند وهو: الغليظ من الأرض اذ بعضهم يعتصم ببعض.
الغرفة: بضم الغين اسم للقدر المغترف من الماء، كالأكلة للقدر الذي يؤكل، وبفتح الغين مصدر للمرة الواحدة نحو: ضربت ضربة والاغتراف والغرف معروف، والغرفة البناء العالي المشرف.
جاوز: وجاز المكان قطعه.
جالوت: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعجمة والعلمية، كان ملك العمالقة، ويقال إن البربر من نسله.
الفئة: القطعة من الناس، وقيل: هو مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع، فيكون المحذوف عين الكلمة، أو من فأوت رأسه: كسرته: فيكون المحذوف لام الكلمة قولاً.
غلب: غلباً وغلبةً: قهر، والأغلب القوي الغليظ، والأنثى غلبى.
برز: يبرز بروزاً، ظهر، وامرأة برزة أخذ منها السن، فلم تستر وجهها، ومن ذلك البراز والمتبرّز.
أفرغ: صب وفرغ من كذا، خلا منه.
ثبت: استقر ورسخ، وثبته أقّره ومكنه بحيث لا يتزحزح.
القدم: الرجل وهي مؤنثة تقول في تصغيرها: قديمة، والاشتقاق في هذه الكلمة يرجع لمعنى التقدم.
هزم: كسر الشيء ورد بعضه على بعض، وتقول العرب: هزمت على زيد: عطفت عليه. قال الشاعر:
هزمتُ عليكِ اليوم يا ابنة مالك فجودي علينا بالنوال وأنعمي
داود: اسم أعجمي منع الصرف للعلمية والعجمة، وهو هنا: أبو سليمان، على نبينا وعليهما السلام، وهو داود بن إيسا، بكسر الهمزة، ويقال داود بن زكريا بن ينوي، من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، على نبينا وعليهم السلام. الدفع: الصرف: دفع يدفع دفعاً، ودافع مدافعة ودفاعاً.
{ وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } ظاهر هذه الآية وما قبلها يدل على أنهم كانوا مقرّين بنبوّة هذا النبي الذي كان معهم، ألا ترى إلى قولهم:
{ ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله } [البقرة: 226]. ولكن لما أخبرهم الله:
{ إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } [البقرة: 247] أراد أن يعلمهم بآية تدل على ملكه على سبيل التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له. وقال الطبري، وحكى معناه عن ابن عباس والسدّي، وابن زيد: تعنت بنو إسرائيل، وقالوا لنبيهم: وما آية ملك طالوت؟ وذلك على وجه سؤال الدلالة على صدق نبيهم في قوله: { { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } [البقرة: 247] وهذا القول أشبه من الأول بأخلاق بني إسرائيل، وتكذيبهم وتعنتهم لأنبيائهم، وقيل: خيرهم النبي في آية، فاختاروا التابوت، ولا يكون إتيان التابوت آية إلاَّ إذا كان يقع على وجه يكون خارقاً للعادة، فيكون ذلك آية على صدق الدعوى، فيحتمل أن يكون مجيئه هو المعجزة، ويحتمل أن يكون ما فيه هو المعجز، وهو سبب لاستقرار قلوبهم، واطمئنان نفوسهم؛ ونسبة الإتيان إلى التابوت مجاز لأن التابوت لا يأتي، إنما يؤتى به، كقوله: { فإذا عزم الأمر } [محمد: 21] { فما ربحت تجارتهم } [البقرة: 16]. وقرأ الجمهور: التابوت بالتاء؛ وقرأ أبيّ وزيد: بالهاء، وهي لغة الأنصار، وقد تقدم الكلام في هذه الهاء أهي بدل من التاء؟ أم أصل؟ قال ابن عباس، وابن السائب: كان التابوت من عود الشمشار، وهو خشب تعمل منه الأمشاط، وعليه صفائح الذهب، وقيل: كانت الصفائح مموّهة بالذهب، وكان طوله ثلاثة أذرع في ذراعين، وقد كثر القصص في هذا التابوت والاختلاف في أمره، والذي يظهر أنه تابوت معروف حاله عند بني إسرائيل، كانوا قد فقدوه وهو مشتمل على ما ذكره الله تعالى مما أبهم حاله، ولم ينص على تعيين ما فيه، وأن الملائكة تحمله، ونحن نلم بشيء مما قاله المفسرون والمؤرخون على سبيل الإيجاز، فذكروا: أن الله تعالى أنزل تابوتاً على آدم فيه صور الأنبياء، وبيوت بعددهم، وآخره بيت محمد صلى الله عليه وسلم، فتناقله بعد، أولاده شيث فمن بعده إلى إبراهيم، ثم كان عند إسماعيل، ثم عند ابنه قيدار، فنازعه إياه بنو عمه أولاد إسحاق، وقالوا له: وقد صرفت النبوّة عنكم إلاَّ هذا النور الواحد، فامتنع عليهم، وجاء يوماً يفتحه فتعسر، فناداه منادٍ من السماء لا يفتحه إلاَّ نبي، فادفعه إلى ابن عمك يعقوب، فحمله على ظهره إلى كنعان، فدفعه ليعقوب، فكان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام، فوضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه، ثم توارثها أنبياء بني إسرائيل إلى أن وصل إلى شمويل، فكان فيه ما ذكره الله في كتابه.
وقيل: اتخذ موسى التابوت ليجمع فيه رضاض الألواح.
والسكينة: هي الطمأنينة ولما كانت حاصلة بإتيان التابوت، جعل التابوت ظرفاً لها، وهذا من المجاز الحسن، وهو تشبيه المعاني بالأجرام، وجاء في
"حديث عمران بن حصين أنه كان يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة، فغشيته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن" . وفي حديث أسيد بن حضير، بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"تلك الملائكة كانت تسمع لذلك، ولو قرأت لأصبحت تراها الناس ما تستتر منهم" . فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة، ودل حديث أسيد على أن نزول السكينة في حديث عمران هو على مضاف، أي: تلك أصحاب السكينة، وهم الملائكة المخبر عنهم في حديث أسيد، وجعلوا ذوي السكينة لأن إيمانهم في غاية الطمأنينة، وطواعيتهم دائمة لا يعصون الله ما أمرهم، وقد جاء في (الصحيح): "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاَّ نزلت عليهم السكينة. وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده" . فنزول السكينة عليهم كناية عن التباسهم بطمأنينة الإيمان، واستقرار ذلك في قلوبهم، لأن من تلا كتاب الله وتدارسه يحصل له بالتدبر في معانيه. والتفكر في أساليبه، ما يطمئن إليه قلبه، وتستقر له نفسه، وكأنه كان قبل التلاوة له والدراسة خالياً من ذلك، فحين تلا نزل ذلك عليه.
وقد قال بهذا المعنى بعض المفسرين، قال قتادة السكينة هنا الوقار. وقال عطاء: ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، وقال نحوه الزجاج.
وقال الزمخشري: التابوت صندوق التوراة، كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون، والسكينة: السكون والطمأنينة، وذكر عن عليّ أن السكينة لها وجه كوجه الإنسان، وهي ريح هفافة، وقيل: السكينة صورة من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه، وجناحان، فتئن فيزف التابوت نحو العدو، وهم يمضون معه، فإذا استقر ثبتت وسكنوا، ونزل النصر. وقيل: بالسكينة بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء، فإن الله ينصر طالوت وجنوده، ويقال: جعل تعالى سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي فيه رضاض الألواح، والعصا، وآثار أصحاب نبوتهم، وجعل تعالى سكينة هذه الأمة في قلوبهم، وفرق بين مقر تداولته الأيدي، قد فر مرة، وغلب عليه مرة، وبين مقر بين أصبعين من أصابع الرحمن.
وقرأ أبو السماك: سكينة، بتشديد الكاف وارتفاع سكينة، بقوله: فيه، وهو في موضع الحال، أي: كائناً فيه سكينة. و: من، لابتداء الغاية، أي: كائنة من ربكم، فهو في موضع الصفة، أو متعلقاً بما تعلق به قوله: فيه، ويحتمل أن يكون للتبعيض على تقدير حذف مضاف، أي: من سكينات ربكم.
والبقية؛ قيل: رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قاله عكرمة. وقيل: عصا موسى قاله وهب وقيل: عصا موسى وهارون وثيابهما ولوحان من التوراة والمنّ، قاله أبو صالح. وقيل: العلم والتوراة قاله مجاهد، وعطاء وقيل: رضاض الألواح وطست من ذهب وعصا موسى وعمامته، قاله مقاتل وقيل: قفيز من منّ ورضاض الألواح حكاه سفيان الثوري. وقيل: العصا والنعلان، حكاه الثوري أيضاً، وقيل: الجهاد في سبيل الله، وبذلك أمروا، قاله الضحاك. وقيل: التوراة ورضاض الألواح قاله السدّي. وقيل: لوحان من التوراة، وثياب موسى وهارون وعصواهما، وكلمة الله: لا إله إلا الله الحكيم الكريم، وسبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، وقيل: عصا موسى وأمور من التوراة، قاله الربيع. ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر في التابوت، فأخبر كل قائل عن بعض ما فيه، وانحصر بهذه الأقوال ما في التابوت من البقية.
{ مما ترك } في موضع الصفة لبقية، و: من، للتبعيض.
و: { آل موسى وآل هارون } هم من الأنبياء، إليهما من قرابة أو شريعة، والذي يظهر أن آل موسى وآل هارون هم الأنبياء الذين كانوا بعدهما، فإنهم كانوا يتوارثون ذلك إلى أن فقد. ونذكر كيفية فقده إن شاء الله.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون، والآل مقحم لتفخيم شأنهما. إنتهى. وقال غيره: آل هنا زائدة، والتقدير: مما ترك موسى وهارون، ومنه اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى آل أبي أوفى، يريد نفسه، ولقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود، أي: من مزامير داود ومنه قول جميل:
بثينة من آل النساء وإنما يكنّ لأدنى، لا وصال لغائب
أي: من النساء. إنتهى. ودعوى الإقحام والزيادة في الأسماء لا يذهب إليه نحوي محقق، وقول الزمخشري: والآل مقحم لتفخيم شأنهما ان عنى بالإقحام ما يدل عليه أول كلامه في قوله: ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون، فلا أدري كيف يفيد زيادة آل تفخيم شأن موسى وهارون؟ وإن عنى بالآل الشخص، فانه يطلق على شخص الرجل آله، فكأنه قيل: مما ترك موسى وهارون أنفسهما، فنسب تلك الأشياء العظيمة التي تضمنها التابوت إلى أنها من بقايا موسى وهارون شخصيهما، أي أنفسهما لا من بقايا غيرهما، فجرى آل هنا مجرى التوكيد الذي يراد به: أن المتروك من ذلك الخير هو منسوب لذات موسى وهارون، فيكون في التنصيص عليهما ذاتهما تفخيم لشأنهما، وكان ذلك مقحماً لأنه لو قيل: مما ترك موسى وهارون لاكتفى، وكان ظاهر ذلك أنهما أنفسهما، تركا ذلك وورث عنهما. { تحمله الملائكة } وقرأ مجاهد: يحمله، بالياء من أسفل، والضمير يعود على التابوت، وهذه الجملة حال من التابوت، أي حاملاً له الملائكة، ويحتمل الاستئناف، كأنه قيل: ومن يأتي به وقد فقد؟ فقال: { تحمله الملائكة } استعظاماً لشأن هذه الآية العظيمة، وهو أن الذي يباشر إتيانه إليكم الملائكة الذين يكونون معدين للأمور العظام، ولهم القوّة والتمكين والإطلاع بأقدار الله لهم على ذلك، ألا ترى إلى تلقيهم الكتب الإلهية وتنزيلهم بها على من أوحي إليهم، وقلبهم مدائن العصاة، وقبض الأرواح، وإزجاء السحاب، وحمل العرش، وغير ذلك من الأمور الخارقة، والمعنى: تحمله الملائكة إليكم.
قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت.
قال وهب: قالوا لنبيهم: إنعت وقتاً تأتينا به! فقال: الصبح، فلم يناموا ليلتهم حتى سمعوا حفيف الملائكة بين السماء والأرض.
وقال قتادة: كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع، فبقي هناك ولم يعلم به بنو إسرائيل، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت، فأقروا بملكه. قال ابن زيد: غير راضين، وقيل: سبى التابوت أهل الأردن، قرية من قرى بفلسطين، وجعلوه في بيت صنم لهم تحت الصنم، فأصبح الصنم تحت التابوت، فسمروا قدمي الصنم على التابوت، فأصبح وقد قطعت يداه ورجلاه ملقى تحت التابوت، وأصنامهم منكسة، فوضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم، فدفنوه بالصحراء في متبَّرزٍ لهم، فكان من تبرز هناك أخذه الناسور والقولنج، فتحيروا، وقالت امرأة من أولاد الأنبياء من بني إسرائيل: ما تزالوان ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم! فاخرجوه عنكم! فحملوا التابوت على عجلة، وعلقوا بها ثورين أو بقرتين، وضربوا جنوبهما، فوكل الله أربعة من الملائكة يسوقونهما، فما مرّ التابوت بشيء من الأرض إلاَّ كان مقدّساً، إلى أرض بني إسرائيل، وضع التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل، ورجعا إلى أرضهما، فلم يرع بني إسرائيل إلاَّ التابوت، فكبروا وحمدوا الله على تمليك طالوت، فذلك قوله: { تحمله الملائكة }.
وقال ابن عباس: إن التابوت والعصا في بحيرة طبرية يخرجان قبل يوم القيامة، وقيل يوم القيامة، وقيل: عند نزول عيسى على نبينا وعليه السلام.
{ إن في ذلك لآية لكم، إن كنتم مؤمنين } قيل: الإشارة إلى التابوت، والأحسن أن يعود على الإتيان أي: إتيان التابوت على الوصف المذكور ليناسب أول الآية آخرها، لأن أولها { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } والمعنى لآية لكم على ملكه واختياره لكم، وقيل: علامة لكم على نصركم على عدوّكم، لأنهم كانوا يستنصرون بالتابوت أينما توجهوا، فينصرون.
و: إن، قيل على حالها من وضعها للشرط. أي: ذلك آية لكم على تقدير إيمانكم لأنهم قيل: صاروا كفرة بإنكارهم على نبيهم. وقيل: إن كان من شأنكم وهممكم الإيمان بما تقوم به الحجة عليكم، وقيل: إن كنتم مصدّقين بأن الله قد جعل لكم طالوت ملكاً. وقيل: مصدّقين بأن وعد الله حق. وقيل: إن، بمعنى: إذ، ولم يسألوا تكذيباً لنبيهم، وإنما سألوا تعرفاً لوجه الحكمة، والسؤال عن الكيفية لا يكون انكارا كلياً.
{ فلما فصل طالوت بالجنود } بين هذه الجملة والجملة قبلها محذوف تقديره: فجاءهم التابوت، وأقروا له بالملك، وتأهبوا للخروج، فلما فصل طالوت، أي: انفصل من مكان اقامته، يقال: فصل عن الموضع انفصل، وجاوزه. قيل: وأصله فصل نفسه، ثم كثر، فحذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدّي: كانفصل، والباء في، بالجنود، للحال، أي: والجنود مصاحبوه، وكان عددهم سبعين ألفاً، قاله ابن عباس. أو ثمانين ألفاً قاله عكرمة. أو مائة ألف، قاله مقاتل. أو ثلاثين ألفاً.
قال عكرمة: لما رأى بنو إسرائيل التابوت سارعوا إلى طاعته والخروج معه، فقال لهم طالوت: لا يخرج معي من بنى بناءً لم يفرغ منه، ولا من تزّوج امرأة لم يدخل بها، ولا صاحب زرع لم يحصده، ولا صاحب تجارة لم يرحل بها، ولا من له أو عليه دين، ولا كبير، ولا عليل. فخرج معه من تقدّم الاختلاف في عددهم على شرطه، فسار بهم، فشكوا قلة الماء وخوف العطش، وكان الوقت قيظاً، وسلكوا مفازة، فسألوا الله أن يجري لهم نهراً.
{ قال إن الله مبتليكم بنهر } قال وهب: هو الذي اقترحوه. وقال ابن عباس، وقتادة: هو نهر بين الأردن وفلسطين. وقيل: نهر فلسطين، قاله السدّي، وابن عباس، أيضاً.
وقرأ الجمهور: بنهر، بفتح الهاء. وقرأ مجاهد، وحميد الأعرج، وأبو السماك، وغيرهم: باسكان الهاء في جميع القرآن.
وظاهر قول طالوت: ان الله يوحي، إمالة على قول من قال: إنه نبي، أو يوحي إلى نبيهم، وإخبار النبي طالوت بذلك قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه، فجرت به جنده، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم، ومعنى هذا الابتلاء اختبارهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع، فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء، وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى. انتهى كلامه. وبعد أن يخبر طالوت عن ما خطر بباله بأنه قول الله، على طريق الجزم عن الله.
{ فمن شرب منه فليس مني } أي: ليس من أتباعي في هذه الحرب، ولا أشياعي، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان نحو:
"من غشنا فليس منا" ، "ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود" ، أو: ليس بمتصل بي ومتحد معي، من قولهم: فلان مني كأنه بعضه، لاختلاطهما واتحادهما قال النابغة:إذا حاولت في أسد فجوراً فإني لست منك ولست مني
{ ومن لم يطعمه فإنه مني } أي: من لم يذقه، وطعم كل شيء ذوقه، ومنه التطعم، يقال: تطعمت منه أي: ذقته، وتقول العرب لمن لا تميل نفسه إلى مأكول، تطعم منه يسهل أكله، قال ابن الأنباري: العرب تقول: أطعمتك الماء تريد أذقتك، وطعمت الماء أطعمه بمعنى ذقته قال الشاعر:فإن شئتُ حرمت النساء عليكم وإن شئتُ لم أطعم نقاخاً ولا برداً
النقاخ: العذب، والبرد: النوم، ويقال: ما ذقت غماضاً. وفي "حديث أبي ذر في ماء زمزم طعام طعم" وفي الحديث: "ليس لنا طعام إلاَّ الأسودين: التمر والماء" . والطعم يقع على الطعام والشراب، واختير هذا اللفظ لأنه أبلغ، لأن نفي الطعم يستلزم نفي الشرب، ونفي الشرب لا يستلزم نفي الطعم، لأن الطعم ينطلق على الذوق، والمنع من الطعم أشق في التكليف من المنع من الشرب، إذ يحصل بإلقائه في الفم، وإن لم يشربه، نوع راحة. وفي قوله: { ومن لم يطعمه } دلالة على ان الماء طعام، وقد تقدّم أيضاً ما يدل على ذلك.
واختلف في جريان الرِّبا فيه، فقال الشافعي: لا يجوز بيع الماء بالماء متفاضلاً، ولا يجوز فيه الأجل. وقال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف: يجوز ذلك. وحكى ابن العربي: أن الصحيح من مذهب مالك جريان الرِّبا فيه. وقال محمد بن الحسن: هو مما يكال ويوزن، فعلى هذا لا يجوز عنده التفاضل.
وكأن قوله: { فمن شرب منه } يدل ظاهره على مباشرة الشرب من النهر، حتى لو أخذ بالكوز وشربه، لا يكون داخلاً في من شرب منه، إذا لم يباشر الشرب من النهر، وفي مذهب أبي حنيفة،رحمه الله تعالى، أنه إن قال إن شربت من القربة فعبدي حرّ، يحمل على الكروع، وإن اغترف منه، أو شرب بإناء لم يحنث. قالوا: لأنه تعالى حظر الشرب من النهر، وحظر مع ذلك أن يطعم منه، واستثنى من الطعم منه الاغتراف، فحظرُ الشرب باقٍ، ودل على أن الاغتراف ليس بشرب، وأتى بقوله: { ومن لم } معدّى لضمير الماء، لا إلى النهر، ليزيل ذلك الإبهام، وليعلم أن المقصود هو المنع من وصولهم إلى الماء من النهر، بمباشرة الشرب منه، أو بواسطة.
قال ابن عطية: وفي قوله: { ومن لم يطعمه فإنه مني } سدّ الذرائع، لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم، ولهذه المبالغة، لم يأت الكلام: ومن لم يشرب منه، انتهى كلامه.
{ إلا من اغترف غرفة بيده } هذا استثناء من الجملة الأولى، وهي قوله: { فمن شرب منه فليس مني } والمعنى: أن من اغترف غرفة بيده دون الكروع فهو مني، والاستثناء إذا اعتقب جملتين، أو جملاً، يمكن عوده إلى كل واحدة منها، فإنه يتعلق بالأخيرة، وهذا على خلاف في هذه المسألة مذكور في علم أصول الفقه، فإن دل دليل على تعلقها ببعض الجمل كان الاستثناء منه، وهنا دل الدليل على تعلقها بالجملة الأولى، وإنما قدمت الجملة الثانية على الاستثناء من الأولى لأن الجملة الثانية تدل عليها الأولى بالمفهوم، لأنه حين ذكر أن الله يبتليهم بنهر، وأن من شرب منه فليس منه، فهم من ذلك أن من لم يشرب منه فإنه منه، فصارت الجملة الثانية كلاًّ فصل بين الأولى والاستثناء منها إذا دلت عليها الأولى، حتى إنها لو لم يكن مصرحاً بها لفهمت من الجملة الأولى، وقد وقع في بعض التصانيف ما نصه: إلاَّ من اغترف. استثناءً من الأولى، وإن شئت جعلته استثناء من الثانية. انتهى. ولا يظهر كونه استثناء من الجملة الثانية لأنه حكم على أن: من لم يطعمه فانه منه، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه، والأمر ليس كذلك، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه، وهو ظاهر الاستثناء من الأولى، لأنه حكم فيها أن: من شرب منه فليس منه، فيلزم في الاستثناء أن: من اغترف غرفة بيده منه فإنه منه، إذ هو مفسوح له في ذلك، وهكذا الاستثناء يكون من النفي إثباتاً، ومن الاثبات نفياً، على الصحيح من المذاهب في هذه المسألة. وفي الاستثناء محذوف تقديره: إلاَّ من اغترف غرفة بيده فشرِبَها، أو للشرب.
وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: غرفة، بفتح الغين وقرأ الباقون بضمها، فقيل: هما بمعنى المصدر، وقيل: هما بمعنى المغروف، وقيل: الغرفة بالفتح المرة، وبالضم ما تحمله اليد، فإذا كان مصدراً فهو على غير الصدر، إذ لو جاء على الصدر لقال: اغترافة، ويكون مفعول اغترف محذوفاً، أي: ماء، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولاً به، قال ابن عطية: وكان أبو عليّ يرجح ضم الغين، ورجحه الطبري أيضاً: أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف. انتهى.
وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة.
ويتعلق: بيده، بقوله: اغتراف. قيل: ويجوز أن يكون نعتاً لغرفة، فيتعلق بالمحذوف. وظاهر: غرفة بيده، الاقتصار على غرفة واحدة، وأنها تكون باليد، قال ابن عباس، ومقاتل: كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها، قال مقاتل: ويملأ منها قربته، قيل: فيجعل الله فيها البركة حتى تكفي لكل هؤلاء، وكان هذا معجزة لنبي ذلك الزمان. قال بعض المفسرين: لم يرد غرفة الكف، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك، وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به جنود طالوت ابتلاء عظيم، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر واليقظة، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده، فأين يصل منه ذلك؟ وهذا أشد في التكليف مما ابتلى به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت، مع إمكان ذلك فيه، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان.
{ فشربوا منه إلا قليلاً منهم } أي: كرعوا فيه، ظاهره أن الأكثر شربوا، وإن القليل لم يشربوا، ويحمل الشرب الذي وقع من أكثرهم، على أنه الشرب الذي لم يؤذن فيه، ووقع به المخالفة، ويكون الاستثناء على أن ذلك القليل لم يشربوا ذلك الشرب الذي لم يؤذن فيه، فبقي تحت القليل قسمان: أحدهما: لم يطعمه البتة والثانية: الذين: اغترفوا بأيديهم، وهذا التقسيم روي معناه عن ابن عباس، أن الأكثر شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفاً، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً، وأخذ بعضهم الغرفة. فأما من شرب فلم يرو، بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله، وكان أجدر ممن أخذ الغرفة. وقيل: الذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت وجوههم وشفاههم، فلم يرووا، وبقوا على شط النهر، وجبنوا عن لقاء العدو، فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح. وقيل: بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلاَّ القليل الذين لم يشربوا. والقليل المستثنى أربعة آلاف، قاله عكرمة، والسدّي، وقيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر.
وقرأ عبد الله، وأبيّ والأعمش: إلا قليلٌ، بالرفع قال الزمخشري: وهذا من ميلهم مع المعنى، والإعراض عن اللفظ جانباً، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى: فشربوا منه، في معنى: فلم يطيعوه، حمل عليه كأنه قيل: فلم يطيعوه إلاَّ قليل منهم. ونحوه قول الفرزذق:
(وعض زمان يا بن مروان) لم يدع من المال إلاَّ مسحتا أو مجلف
كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت، أو مجلف انتهى كلامه. والمعنى أن هذا الموجب الذي هو: فشربوا منه، هو في معنى المنفي، كأنه قيل: فلم يطيعوه، فارتفع: قليل، على هذا المعنى، ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد: إلاَّ، فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى، فالموجب فيه كالمنفي، وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد: إلاَّ، على التأويل هنا، دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب، فلذلك تأوله.
ونقول: إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد: إلاَّ، وجهان: أحدهما: النصب على الاستثناء وهو الأفصح: والثاني: أن يكون ما بعد: إلاَّ، تابعاً لإعراب المستثنى منه، إن رفعاً فرفع، أو نصباً فنصب، أو جراً فجر، فتقول: قام القوم إلاَّ زيد، ورأيت القوم إلاَّ زيداً، ومررت بالقوم إلاَّ زيد: وسواء كان ما قبل: إلاَّ، مظهراً أو مضمراً. واختلفوا في إعرابه، فقيل: هو تابع على أنه نعت لما قبله، فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة. وقال: ينعت بما بعد: إلاَّ، الظاهر والمضمر، ومنهم من قال: لا ينعت به إلاَّ النكرة أو المعرفة بلام الجنس، فإن كان معرفة بالإضافة نحو: قام اخوتك، أو بالألف واللام للعهد، أو بغير ذلك من وجوه التعاريف غير لام الجنس، فلا يجوز الاتباع، ويلزم النصب على الاستثناء. ومنهم من قال: إن النحويين يعنون بالنعت هنا عطف البيان، ومن الاتباع بعد الموجب قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلاَّ الفرقدان
وهذه المسألة مستوفاة في علم النحو. وإنما أردنا أن ننبه على أن تأويل الزمخشري هذا الموجب بمعنى النفي لا نضطر إليه، وأنه كان غير ذاكر لما قرره النحويون في الموجب.
{ فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } ظاهره أنه ما جاوز النهر إلاَّ هو والمؤمنون، وكذلك روي عن ابن عباس، والسدي: أن الذين شربوا وخالفوا انحرفوا، ولم يجاوزوا، وقيل: بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلاَّ القليل.
وجاوز: فاعل فيه بمعنى فعل، أي جاز. والذين آمنوا معه: عدة أهل بدر وقال ابن عباس، والسدي: جاز معه أربعة آلاف. قال ابن عباس: منهم من شرب، قالا: فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، قالوا لا طاقة لنا اليوم، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلاَّ غرفة. ومن لم يشرب جملة. ثم اختلفت بصائر هؤلاء، فبعض كع، وقليل صمم، و: هو، توكيد للضمير المستكن في جاوزه، و: الذين، يحتمل أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن، ويحتمل أن تكون الواو للحال ويلزم من الحال أن يكونوا جاوزوا معه، والأظهر أن يكون للعطف وإدغام جاوزه في هو ضعيف، ولا يستحسن، إلاَّ ان كانت الهاء مختلسة لا إمالة لها.
{ قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } قائل ذلك الكفرة الذين انخذلوا، وهو الفاعل في شربوا، قاله ابن عباس والسدي. وقيل: من قلت بصيرته من المؤمنين، وهم الذين جاوزوا النهر وهم القليل، قاله الحسن، وقتادة، والزجاج.
طاقة: من الطوق، وهو القوة، وهو من: أطاق، كأطاع طاعة، وأجاب جابة، وأغار غارة. ويتعلق: لنا، بمحذوف إذ هو في موضع الخبر، ولا يجوز أن يتعلق: بطاقة، لأنه كان يكون طاقة مطولاً، فيلزم تنوين، واليوم منصوب بما تعلق به لنا وبجالوت: متعلق به. وأجاز بعضهم أن يكون: بجالوت، في موضع الخبر، وليس المعنى على ذلك.
{ قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } يحتمل أن يكون الظن على بابه، ومعنى: ملاقو الله، أي يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال، وتصميمهم على لقاء أعدائهم، كما جرى لعبد الله بن حزام في أحد، وغيره، قاله الزجاج في آخرين. وقيل: ملاقو ثواب الله بسبب الطاعة. لأن كل أحد لا يعلم عاقبة أمره فلا بد من أن يكون ظاناً، وقيل: ملاقو طاعة الله، لأنه لا يقطع أن عمله هذا طاعة، لأنه ربما شابه شيء من الرياء والسمعة، وقيل: ملاقو وعد الله إياهم بالنصر، لأنه وإن كان مقطوعاً به فهو مظنون في المرة الأولى، ويحتمل أن يكون الظن بمعنى الإيقان: أي: يوقنون بالبعث والرجوع إلى الله قاله السدي في آخرين.
{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله }. هذا القول تحريض من العازمين على القتال وحض عليه، واستشعار للصبر واقتداء بمن صدّق الله. والمعنى: أنا لا نكترث بجالوت وجنوده وإن كثروا، فإن الكثرة ليست سبباً للانتصار، فكثيراً ما انتصر القليل على الكثير؛ ولما كان قد سبق ذلك في الأزمان الماضية. وعلموا بذلك، أخبروا بصيغة: كم، المقتضية للتكثير. وقرأ أبيّ: وكأين، وهي مرادفة: لكم، في التكثير، ولم يأت تمييزها في القرآن إلا مصحوباً بمن، ولو حذفت: من، لأنجّر تمييز: كم، الخبرية بالإضافة، وقيل بإضمار: من، ويجوز نصبه حملاً على: كم، الإستفامية، وانتصب تمييز: كأين، فتقول كأين رجلاً جاءك. قال الشاعر:
أطرد اليأس بالرجا فكأين أملاً حمّ يسره بعد عسر
و: كم؛ في موضع رفع على الابتداء، و: من فئة، قيل زائدة، وليس من مواضع زيادتها، وقيل: في موضع الصفة لكم، و: فئة، هنا مفرد في معنى الجمع، كأنه قيل: كثير من فئات قليلة غلبت. وقرأ الأعشى فيه بابدال الهمزة ياء، نحو: ميرة في: مئرة، وهو ابدال نفيس، وخبر: كم، قوله: غلبت، ومعنى: بإذن الله، بتمكينه وتسويفه الغلبة. وفي هذه الآية دليل على جواز قتال الجمع القليل للجمع الكثير، وإن كانوا أضعاف أضعافهم، إذا علموا أن في ذلك نكاية لهم، وأما جواز الفرار من الجمع الكثير إذا زادوا عن ضعفهم فسيأتي بيانه في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى.
{ والله مع الصابرين }، تحريض على الصبر في القتال، فإن الله مع من صبر لنصرة دينه، ينصره ويعينه ويؤيده، ويحتمل أن يكون من تمام كلامهم، ويحتمل أن يكون استئنافاً من الله، قاله القفال.
{ ولما برزوا لجالوت وجنوده } صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر واستوى، والمبارزة في الحرب أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه قرنه، وكان جنود طالوت ثلاثمائة ألف فارس، وقيل: مائة ألف، وقال عكرمة: تسعين ألفاً.
{ قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا } الصبر: هنا حبس النفس للقتال، فزعوا إلى الدعاء لله تعالى فنادوا بلفظ الرب الدال على الإصلاح وعلى الملك، ففي ذلك إشعار بالعبودية. وقولهم: أفرغ علينا صبراً سؤال بأن يصب عليهم الصبر حتى يكون مستعلياً عليهم، ويكون لهم كالظرف وهم كالمظروفين فيه.
{ وثبت أقدامنا } فلا تزل عن مداحض القتال، وهو كناية عن تشجيع قلوبهم وتقويتها، ولما سـألوا ما يكون مستعلياً عليهم من الصبر سألوا تثبيت أقدامهم وإرساخها.
{ وانصرنا على القوم الكافرين } أي: أعنا عليهم، وجاؤوا بالوصف المقتضي لخذلان أعدائهم، وهو الكفر، وكانوا يعبدون الأصنام، وفي قولهم: ربنا، إقرار لله تعالى بالوحدانية، وإقرار له بالعبودية.
{ فهزموهم بإذن الله } أي: فغلبوهم بتمكين الله.
{ وقتل داود جالوت } طوَّل المفسرون في قصة كيفية قتل داود لجالوت، ولم ينص الله على شيء من الكيفية، وقد اختصر ذلك السجاوندي اختصاراً يدل على المقصود، فقال: كان أصغر بنيه، يعني بني إيشا، والد داود، الثلاثة عشر. وكان مخلفاً في الغنم، وأوحى إلى نبيهم أن قَاتِلَ جالوت من استوت عليه من ولد إيشا درعٌ عند طالوت، فلم تستو إلاَّ على داود، وقيل: لما برز جالوت نادى طالوت: من قتل جالوت أشاطره ملكي وأزوجه بنتي، فبرز داود ورماه بحجر في قذافة فنفذ من بين عينيه إلى قفاه وأصاب عسكره، فقتل جماعة وانهزموا، ثم ندم طالوت من شرطه بعد الوفاء، وهم بقتل داود، ومات تائباً قاله الضحاك. وقال وهب: ندم قبل الوفاء ومات عاصياً، وقيل: أصاب داود موضع أنف جالوت، وقيل: تفتت الحجر حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه، كالقبضة التي رمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين.
وقال الزمخشري: كان أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه، وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم، فأوحى إلى شمويل أن داود بن إيشا يقتل جالوت، فطلبه من أبيه، فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله، وقالت له: إنك تقتل بنا جالوت، فحملها في مخلاته، ورمى بها جالوت فقتله، وزوجه طالوت بنته، وروي أنه حسده وأراد قتله، ثم تاب. انتهى. وروي: أن داود كان من أرمى الناس بالمقلاع، وروي: أن الاحجار التأمت في المخلاة فصارت حجراً واحداً.
{ وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء } روي أن طالوت تخلى لداود عن الملك، فصار الملك. وروي: أن بني إسرائيل غلبت طالوت على ذلك بسبب قتل داود جالوت، وروي أن طالوت أخاف داود فهرب منه، فكان في جبل إلى أن مات طالوت، فملكته بنو إسرائيل، قال الضحاك، والكلبي: ملك داود بعد قتل جالوت سبع سنين، فلم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلاَّ على داود.
واختلف أكان داود نبياً عند قتل جالوت أم لا؟ فقيل: كان نبياً، لأن خوارق العادات لا تكون إلاَّ من الأنبياء. وقال الحسن: لم يكن نبياً لأنه لا يجوز أن يتولى من ليس بنبي على نبي، والحكمة وضع الأمور مواضعها على الصواب، وكمال ذلك إنما يحصل بالنبوّة، ولم يكن ذلك لغيره قبله، كان الملك في سبط والنبوّة في سبط، فلما مات شمويل وطالوت اجتمع لداود الملك والنبّوة.
وقال مقاتل: الحكمة الزبور، وقيل: العدل في السيرة؟ وقيل: الحكمة العلم والعمل به.
وقال الضحاك: هي سلسلة كانت متدلية من السماء لا يمسكها ذو عاهة إلاَّ برىء، يتحاكم إليها، فمن كان محقاً تمكن منها حتى إن رجلاً كانت عنده درة لرجل، فجعلها في عكازته ودفعها إليه أن احفظها حتى أمسك السلسلة، فتمكن منها لأنه ردها، فرفعت لشؤم احتياله.
وإذا كانت الحكمة كان ذكر الملك قبلها. والنبوّة بعده من باب الترقي.
{ وعلمه مما يشاء } قيل: صنعة الدروع، وقيل: منطق الطير وكلامه للنحل والنمل، وقيل: الزبور، وقيل: الصوت الطيب والألحان، قيل: ولم يعط الله أحداً من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها، وتظله الطير مصيخة له، ويركد الماء الجاري، وتسكن الريح، وما صنعت المزامير والصنوج إلاَّ على صوته.
وقيل: { مما يشاء } فعل الطاعات والأمر بها، واجتناب المعاصي. والضمير الفاعل في: يشاء عائد على داود أي: مما يشاء داود.
{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } قرأ نافع، ويعقوب، وسهل: ولولا دفاع، وهو مصدر دفع، نحو: كتب كتاباً أو مصدر دافع بمعنى دفع. قال أبو ذؤيب:
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم فإذا المنية أقبلت لا تدفع
وقرأ الباقون: دفع، مصدر دفع، كضرب ضرباً. والمدفوع بهم جنود المسلمين، والمدفوعون المشركون، ولفسدت الأرض بقتل المؤمنين وتخريب البلاد والمساجد، قال معناه ابن عباس، وجماعة من المفسرين. أو الأبدال وهم أربعون، كلما مات واحد أقام الله واحداً بدل آخر، وعند القيامة يموتون كلهم: إثنان وعشرون بالشام، وثمانية عشر بالعراق. وروى حديث الأبدال عن علي وأبي الدرداء، ورفعا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو المذكورون في حديث:
"لولا عباد ركَّع، وأطفال رضع وبهائم رتع لصبَّ عليكم العذاب صبا" أو: من يصلي ومن يزكي ومن يصوم يدفع بهم عمن لا يفعل ذلك، أو: المؤمن يدفع به عن الكافر كما يبتلى المؤمن بالكافر، قاله قتادة، أو: الرجل الصالح يدفع به عن ما به من أهل بيته وجيرانه البلاء، أو: الشهود الذين يستخرج بهم الحقوق، قاله الثوري، أو: السلطان، أو: الظالم يدفع يد الظالم، أو: داود دفع به عن طالوت ولولا ذلك غلبت العمالقة على بني إسرائيل، فيكون: الناس، عاماً والمراد الخصوص. والذي يظهر: أن المدفوع بهم هم المؤمنون، ولولا ذلك لفسدت الأرض، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها، ولكنه تعالى لا يخلي زماناً من قائم يقوم بالحق ويدعو إلى الله تعالى، إلى أن جعل ذلك في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الزمخشري: لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض، ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون، وفسدت الأرض، وبطلت منافعها، وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. إنتهى. وهو كلام حسن، والذي قبله كلام ابن عطية.
والمصدر الذي هو: دفع، أو: دفاع، مضاف إلى الفاعل، وبعضهم بدل من الناس، وهو بدل بعض من كل، والباء في: ببعض، متعلق بالمصدر والباء فيه للتعدية فهو مفعول ثان للمصدر، لأن دفع يتعدى إلى واحد ثم عدى إلى ثان بالباء، وأصل التعدية بالباء، وأصل التعدية بالباء أن يكون ذلك في الفعل اللازم: نحو:
{ لذهب بسمعهم } [البقرة: 20] فإذا كان متعدياً فقياسه أن يعدى بالهمزة، تقول: طعم زيد اللحم، ثم تقول أطعمت زيداً اللحم، ولا يجوز أن تقول: طعمت زيداً باللحم، وإنما جاء ذلك قليلاً بحيث لا ينقاس، من ذلك: دفع، وصك، تقول: صك الحجر الحجر، وتقول: صككت الحجر بالحجر، أي جعلته يصكه. وكذلك قالوا: صككت الحجرين أحدهما بالآخر نظير: { دفع الله الناس بعضهم ببعض } فالباء للتعدية كالهمزة. قال سيبويه، وقد ذكر التعدية بالهمزة والتضعيف ما نصه: وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم ببعض، على حد قولك: ألزمت، كأنك قلت في التمثيل: أدفعت، كما أنك تقول: أذهبت به، وأذهبته من عندنا، وأخرجته، وخرجت به معك، ثم قال سيبويه: صككت الحجرين أحدهما بالآخر على أنه مفعول من قولك: اصطك الحجران أحدهما بالأخر، ومثل ذلك: ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض. إنتهى كلام سيبويه.
ولا يبعد في قولك: دفعت بعض الناس ببعض، أن تكون الباء للآلة، فلا يكون المجرور بها مفعولاً به في المعنى، بل الذي يكون مفعولاً به هو المنصوب، وعلى قول سيبويه يكون المنصوب مفعولاً به في اللفظ فاعلاً من جهة المعنى وعلى أن تكون الباء للآلة يصح نسبة الفعل إليها على سبيل المجاز، كما أنك تقول في: كتبت بالقلم، كتبت القلم.
وأسند الفساد إلى الارض حقيقة: بالخراب، وتعطيل المنافع، أو مجازاً: والمراد أهلها.
{ ولكن الله ذو فضل على العالمين } وجه الاستدراك هنا هو أنه لما قسم الناس إلى مدفوع به ومدفوع، وانه بدفعه بعضهم ببعض امتنع فساد ارض، فيهجس في نفس من غلب وقهر عن ما يريد من الفساد في الأرض أن الله تعالى، غير متفضل عليه، إذ لم يبلغه مقاصده ومآربه، فاستدرك أنه، وإن لم يبلغ مقاصده هذا الطالب للفساد أن الله لذو فضل عليه، ويحسن إليه. واندرج في عموم العالمين، وقال تعالى:
{ إن الله لذو فضل على الناس } [البقرة: 243] وما من أحد إلاَّ ولله عليه فضل، ولو لم يكن إلاَّ فضل الإختراع. وهذا الذي أبديناه من فائدة الاستدراك هو على ما قرره أهل العلم باللسان من أن: لكن، تكون بين متنافيين بوجه ما ويتعلق على العالمين بفضل، لأن فعله يتعدى: بعلى، فكذلك المصدر، وربما حذفت: على، مع الفعل، تقول: فضلت فلاناً أي على فلان، وجمع بين الحذف والإثبات في قول الشاعر:
وجدنا نهشلاً فضلت فقيماً كفضل ابن المخاض على الفصيل
واذا عدى إلى مفعول به بالتضعيف لزمت عليه، كقوله: { فضَّل الله المجاهدين على القاعدين } [النساء: 95]. { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين } تلك إشارة للبعيد، وآيات الله قيل: هي القرآن، والأظهر أنها الآيات التي تقدمت في القصص السابق من خروج أولئك الفارين من الموت، وإماتة الله لهم دفعة واحدة، ثم أحياهم إحياءة واحدة، وتمليك طالوت على بني إسرائيل وليس من أولاد ملوكهم، والإتيان بالتابوت بعد فقده مشتملاً على بقايا من إرث آل موسى وآل هارون، وكونه تحمله الملائكة معاينة على ما نقل عن ترجمان القرآن ابن عباس، وذلك الابتلاء العظيم بالنهر في فصل القيظ والسفر، وإجابة من توكل على الله في النصرة، وقتل داود جالوت، وإيتاء الله إياه الملك والحكمة، فهذه كلها آيات عظيمة خوارق، تلاها الله على نبيه بالحق أي مصحوبة، بالحق لا كذب فيها ولا انتحال، ولا بقول كهنة، بل مطابقاً لما في كتب بني إسرائيل. ولأمّة محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القصص الحظ الأوفر في الاستنصار بالله والإعداد للكفار، وأن كثرة العدد قد يغلبها العقل، وأن الوثوق بالله والرجوع إليه هو الذي يعوّل عليه في الملمات، ولما ذكر تعالى أنه تلا الآيات على نبيه، أعلم أنه من المرسلين، وأكد ذلك بأن واللام حيث أخبر بهذه الآية، من غير قراءة كتاب، ولا مدارسة أحبار، ولا سماع أخبار.
وتضمنت الآيات الكريمة أخبار بني إسرائيل حيث استفيدوا تمليك طالوت عليهم أن لذلك آية تدل على تملكيه، وهو أن التابوت الذي فقدتموه يأتيكم مشتملاً على ما كان فيه من السكينة والبقية المخلفة عن آل موسى وآل هارون، وأن الملائكة تحمله، وإن في ذلك آية أيّ آية لمن كان مؤمناً، لأن هذا خارق عظيم. وفصل طالوت بالجنود وتبريزه بهم من ديارهم للقاء العدوّ يدل على أنهم ملكوه وانقادوا له، وأخبرهم عن الله مبتليهم بنهر فاحتمل أن يكون الله نبأه، واحتمل أن يكون ذلك بإخبار نبيهم له عن الله، وأن من شرب منه كرعاً فليس منه إلاَّ من اغترف غرفة بيده، وأن من لم يطعمه فإنه منه، وأخبر الله أنهم قد خالف أكثرهم فشربوا منه، ولما عبروا النهر ورأوا ما هو فيه جالوت من العَدد والعُدد اخبروا أنهم لا طاقة لهم بذلك، فأجابهم من أيقن بلقاء الله: بأن الكثرة لا تدل على الغلبة، فكثيراً ما غلب القليل الكثير بتمكين الله وإقداره، وأنه إذا كان الله مع الصابرين فهم المنصورون، فحضوا على التصابر عند لقاء العدوّ، وحين برزوا لأعدائهم، ووقعت العين على العين لجأوا إلى الله تعالى بالدعاء والاستغاثة، وسألوا منه الصبر على القتال وتثبيت الأقدام عند المداحض، والنصر على من كفر به، وكانت نتيجة هذا القول وصدق القتال أن مكنهم من أعدائهم وهزموهم وقتل ملكهم، واذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وأعطى الله داود ملك بني إسرائيل والنبوّة وهي: الحكمة، وعلمه مما أراد أن يعلمه من: الزبور، وصنعة اللبوس، وغير ذلك مما علمه. ثم ذكر تعالى أن إصلاح الأرض هو بدفع بعض بعضاً، فلولا أن دفع الله عن بني إسرائيل بهزيمة قوم جالوت وقتل داود جالوت، لغلب عليهم أعداؤهم واستؤصلوا قتلاً ونهباً وأسراً، وكذلك من جرى مجراهم، ولكن فضل الله هو السابق، حيث لم يمكن منهم أعداءهم، ومكنهم منهم.
ثم أخبر تعالى أن هذه الآيات التي تضمنت هذه العبر وهذه الخوارق تلاها الله على نبيه بالحق الذي لا شك فيه، ثم أخبره أنه مرسل من جملة المرسلين الذين تقدّموه في الزمان، والرسالة فوق النبوّة، ودل على رسالته إخباره بهذا القصص المتضمن للآيات الباهرة الدالة على صدق من أخبر بها، من غير أن يعلمه بها معلم إلاَّ الله.