التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
٢٥٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٥٤
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ
٢٥٥
لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٥٦
ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٥٧
-البقرة

البحر المحيط

البيع: معروف، والفعل منه باع يبيع، ومن قال: أباع في معنى باع أخطأ.

الخلة: الصداقة كأنها تتخلل الأعضاء أي: تدخل خلالها، والخلة الصديق، قال الشاعر:

وكان لها في سالف الدهر خلة يسارق بالطرف الخباء المسترا

السِّنَةُ والوسن: قيل: النعاس، وهو الذي يتقدّم النوم من الفتور قال الشاعر:

وسنان أقصدَه النعاس فرنقت في عينه سِنَة وليس بنائم

ويبقى مع السنة بعض الذهن، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن، وهذا البيت يظهر منه التفرقة بين السنة والنوم. وقال ابن زيد: الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى ربما جرد السيف على أهله، وهذا الذي قاله، ابن زيد ليس بمفهوم من كلام العرب؛ قال المفضل: السنة ثقل في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب.

الكرسي: آلة من الخشب أو غيره معلومة، يقعد عليها، والياء فيه كالياء في: قمري، ليست للنسب، وجمعه كراسي، وسيأتي تفسيره بالنسبة إلى الله تعالى. آده الشيء يؤده: أثقله، وتحمل منه مشقة قال الشاعر:

ألاَ ما لسلمى اليوم بت جديدها وضنَّت، وما كان النوال يؤدها

الغي: مقابل الرشد، يقال غوى الرجل يغوى أي: ضل في معتقد أو رأي، ويقال: أغوى الفصيل إذا بشم، وإذا جاع على الضدّ.

الطاغوت: بناء مبالغة من طغى يطغى، وحكى الطبري يطغو إذا جاوز الحدّ بزيادة عليه، ووزنه الأصلي: فعلوت، قلب إذ أصله: طغووت، فجعلت اللام مكان العين، والعين مكان اللام، فصار: طوغوت، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، فصار: طاغوت، ومذهب أبي علي أنه مصدر: كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع. ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه إسم جنس يقع للكثير والقليل، وزعم أبو العباس أنه جمع، وزعم بعضهم أن التاء في طاغوت بدل من لام الكلمة، ووزنه: فاعول.

العروة: موضع الإمساك وشدّ الأيدي والتعلق، والعروة شجرة تبقى على الجذب لأن الإبل تتعلق بها في الخصب مِن: عَرَوْتُهُ: ألممت به متعلقاً، واعتراه التم: تعلق به.

الانفصام: الانقطاع، وقيل الانكسار من غير بينونة، والقصم بالقاف الكسر ببينونة، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة.

{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر اصطفاء طالوت على بني اسرائيل، وتفضل داود عليهم بايتائه الملك والحكمة وتعليمه، ثم خاطب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، بأنه من المرسلين، وكان ظاهر اللفظ يقتضي التسوية بين المرسلين، بين بأن المرسلين متفاضلون أيضاً، كما كان التفاضل بين غير المرسلين: كطالوت وبني اسرائيل.

و: تلك، مبتدأ وخبره: الرسل، و: فضلنا، جملة حالية، وذو الحال: الرسل، والعامل فيه إسم الإشارة. ويجوز أن يكون: الرسل، صفة لاسم الإشارة، أو عطف بيان، وأشار بتلك التي للبعيد لبعد ما بينهم من الأزمان وبين النبي صلى الله عليه وسلم، قيل الإشارة إلى الرسل الذين ذكروا في هذه السورة، أو للرسل التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأولى أن تكون إشارة إلى المرسلين في قوله: { وإنك لمن المرسلين } [البقرة: 252، يس: 3] ولا يلزم من ذلك علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم، بل أخبر أنه من جملة المرسلين، وأن المرسلين فضل الله بعضهم على بعض، وأتى: بتلك، التي للواحدة المؤنثة، وإن كان المشار إليه جمعاً، لأنه جمع تكسير، وجمع التكسير حكمه حكم الواحدة المؤنثة في الوصف، وفي عود الضمير، وفي غير ذلك، وكان جمع تكسير هنا لاختصار اللفظ، ولإزالة قلق التكرار، لأنه لو جاء: أولئك المرسلون فضلنا، كان اللفظ فيه طول، وكان فيه التكرار. والالتفات في: نتلوها، وفي: فضلنا، لأنه خروج إلى متكلم من غائب، إذ قبله ذكر لفظ: الله، وهو لفظ غائب.

والتضعيف في: فضلنا، للتعدية، و: على بعض، متعلق بفضلنا، قيل: والتفضيل بالفضائل بعد الفرائض أو الشرائع على غير ذي الشرائع، أو بالخصائص كالكلام.

وقال الزمخشري: { فضلنا بعضهم على بعض } لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات. انتهى. وفيه دسيسة اعتزالية.

ونص تعالى في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض في الجملة دون تعيين مفضول. وهكذا جاء في الحديث: "أنا سيد ولد آدم" . وقال: "لا تفضلوني على موسى" وقال: "لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى" .

{ منهم من كلم الله } قرأ الجمهور بالتشديد ورفع الجلالة، والعائد على: من، محذوف تقديره من كلمه وقرىء بنصب الجلالة والفاعل مستتر في: كلم، يعود على: من، ورفع الجلالة أتم في التفضيل من النصب، إذ الرفع يدل على الحضور والخطاب منه تعالى للمتكلم، والنصب يدل على الحضور دون الخطاب منه. وقرأ أبو المتوكل، وأبو نهشل، وابن السميفع: كالم الله بالألف ونصب الجلالة من المكالمة، وهي صدور الكلام من اثنين، ومنه قيل: كليم الله أي، مكالمه فعيل بمعنى مفاعل: كجليس وخليط. وذكر التفضيل بالكلام وهو من أشرف تفضيل حيث جعله محلاً لخطابه ومناجاته من غير سفير، وتضافرت نصوص المفسرين هنا على أن المراد بالمكلم هنا هو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، "وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي مرسل؟ فقال: نعم نبي مكلم" . وقد صح في حديث الإسراء حيث ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقام تأخر عنه فيه جبريل، أنه جرت بينه صلى الله عليه وسلم وبين ربه تعالى مخاطبات ومحاورات، فلا يبعد أن يدخل تحت قوله: { منهم من كلم الله }: موسى وآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه قد ثبت تكليم الله لهم.

وفي قوله: { كلم الله } التفات، إذ هو خروج إلى ظاهر غائب من ضمير متكلم، لما في ذكر هذا الاسم العظيم من التفخيم والتعظيم، ولزوال قلق تكرار ضمير المتكلم، إذ كأن يكون: فضلنا، وكلمنا، ورفعنا، وآتينا.

{ ورفع بعضهم درجات } هو محمد صلى الله عليه وسلم، أو إبراهيم، أو إدريس صلى الله عليهم، ثلاثة أقوال، قالوا: والأول أظهر، وهو قول مجاهد. قال ابن عطية: ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيداً للأول. انتهى. ويعنى أنه توكيد لقوله { فضلنا بعضهم على بعض }. وقال الزمخشري: { ورفع بعضهم درجات } أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة، والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية وأكثر، ولو لم يؤت إلاَّ القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات.

وفي هدا الإبهام من تفخيم فضله، وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم، أو بعضكم! يريد به الذي تُعورِفَ واشْتُهِرَ بنحوه من الأفعال، فيكون، أفخم من التصريح به، وأنوه بصاحبه.

وسئل الحطيئة عن أشعر الناس، فذكر، زهيراً والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث. أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي، لم يفخم أمره.

ويجوز أن يريد: إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولى العزم من الرسل. انتهى كلام الزمخشري. وهو كلام حسن.

وقال غيره: وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه بعث إلى الناس كافة، وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد، وهو أعظم الناس أمة، وختم به باب النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه، ومن معجزاته، وباهر آياته. وقال بعض أهل العلم: إنه أوتي صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف معجزة وخصيصة، وما أوتي نبي معجزة إلاَّ أوتي محمد صلى الله عليه وسلم مثلها وزاد عليهم بآيات.

وانتصاب: درجاتٍ، قيل على المصدر، لأن الدرجة بمعنى الرفعة، أو على المصدر الذي في موضع الحال، أو على الحال على حذف مضاف، أي: ذوي درجات، أو على المفعول الثاني لرفع على طريق التضمين لمعنى: بلغ، أو على إسقاط حرف الجر، فوصل الفعل وحرف الجر، إما: على، أو: في، أو: إلى. ويحتمل أن يكون بدل اشتمال، أي: ورفع درجات بعضهم، والمعنى على درجات بعض.

{ وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } تقدّم الكلام على تفسير هذه الجملة بعد قوله: { ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل } [البقرة: 87] فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وخص من كلمه الله وعيسى من بين الأنبياء لما أوتيا من الآيات العظيمة، والمعجزات الباهرة، ولأن آيتيهما موجودتان، فتخصيصهما بالذكر طعن على تابعيهما حيث لم ينقادوا لهذين الرسولين العظيمين، ووقع منهم المنازعة والخلاف.

ونص هنا لعيسى على الآيات البينات تقبيحاً لأفعال اليهود حيث أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من الآيات الواضحة، ولما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي ما لم يؤته أحد من كثرة المعجزات وعظمها، وكان المشهود له بإحراز قصبات السبق، حف ذكره بذكر هذين الرسولين العظيمين، ليحصل لكل منهما بمجاورة ذكره الشرف، إذ هو بينهما واسطة عقد النبوّة، فينزل منهما منزلة واسطة العقد التي يزدان بها ما جاورها من اللآليء، وتنوع هذا التقسيم ولم يرد على أسلوب واحد، فجاءت الجملة الأولى من مبتدأ وخبر مصدرة بمن الدالة على التقسيم، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير اسم الله، لا لفظه، لقربه، إذ لو أسند إلى الظاهر لكان منهم من كلم الله، ورفع الله، فكان يقرب التكرار، فكان الإضمار أحسن.

وفي الجملتين: المفضل منهم لا معين بالأسم، لكن يعين الأول صلة الموصول، لأنها معلومة عند السامع، ويعين الثاني ما أخبر به عنه، وهو أنه مرفوع على غيره من الرسل بدرجات، وهذه الرتبة ليست إلاَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير المتكلم على سبيل الإلتفات، إذ قبله غائب، وكل هذا يدل على التوسع في افانين البلاغة وأساليب الفصاحة.

{ ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات } قيل: في الكلام حذف، التقدير: فاختلف أممهم واقتتلوا ولو شاء الله، ومفعول شاء محذوف تقديره: أن لا تقتتلوا، وقيل: أن لا يأمر بالقتال، قاله الزجاج. وقال مجاهد: أن لا تختلفوا الإختلاف الذي هو سبب القتال، وقيل: ولو شاء الله أن يضطرهم إلى الإيمان فلم يقتتلوا، وقال أبو عليّ بأن يسلبهم القوى والعقول التي يكون بها التكليف، ولكن كلفهم فاختلفوا بالكفر والإيمان. وقال عليّ بن عيسى: هذه مشيئة القدرة، مثل: { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } [يونس: 99] ولم يشأ ذلك، وشاء تكليفهم فاختلفوا وقال الزمخشري: ولو شاء الله مشيئة إلجاء وقسر، وجواب لو: ما اقتتل، وهو فعل منفي بما، فالفصيح أن لا يدخل عليه اللام كما في الآية، ويجوز في القليل أن تدخل عليه اللام، فتقول: لو قام زيد لما قام عمرو، و: من بعدهم صلة للذين، فيتعلق بمحذوف أي: الذين كانوا من بعدهم، والضمير عائد على الرسل، وقيل: عائد على موسى وعيسى وأتباعهما.

وظاهر الكلام أنهم القوم الذين كانوا من بعد جميع الرسل، وليس كذلك، بل المراد: ما اقتتل الناس بعد كل نبي، فلف الكلام لفاً لم يفهمه السامع وهذا كما تقول: اشتريت خيلاً ثم بعتها، وإن كنت قد اشتريتها فرساً فرساً وبعته، وكذلك هذا، إنما اختلف بعد كل نبي، و: من بعد، قيل: بدل من بعدهم، والظاهر أنه متعلق بقوله ما اقتتل، إذ كان في البينات، وهي الدلائل الواضحة، ما يفضي إلى الاتفاق وعدم التقاتل، وغنية عن الاختلاف الموجب للتقاتل.

{ ولكن اختلفوا } هذا الاستدراك واضح لأن ما قبلها ضدّ لما بعدها، لأن المعنى: لو شاء الاتفاق لا تفقوا، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا.

{ فمنهم من آمن ومنهم من كفر } من آمن بالتزامه دين الرسل واتباعهم، ومن كفر باعراضه عن اتباع الرسل حسداً وبغياً واستئثاراً بحطام الدنيا.

{ ولو شاء الله ما اقتتلوا } قيل: الجملة تكررت توكيداً للأولى، قاله الزمخشري. وقيل: لا توكيد لاختلاف المشيئتين، فالأولى: ولو شاء الله أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول، والثانية: ولو شاء الله أن يأمر المؤمنين بالقتال، ولكن أمر وشاء أن يقتتلوا، وتعلق بهذه الآية مثبتو القدر ونافوه، ولم يزل ذلك مختلفاً فيه حتى كان الأعشى في الجاهلية نافياً حيث قال:

استأثر الله بالوفاء وبالعد ل وولى الملامة الرجلا

وكان لبيد مثبتاً حيث قال:

من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضل

{ ولكن الله يفعل ما يريد } هذا يدل على أن ما أراد الله فعله فهو كائن لا محالة، وإن ارادة غيره غير مؤثرة، وهو تعالى المستأثر بسر الحكمة فيما قدّر وقضى من خير وشر، وهو فعله تعالى. وقال الزمخشري: ولكنّ الله يفعل ما يريد من الخذلان والعصمة، وهذا على طريقة الاعتزالية.

قيل: وتضمنت هذه الآية الكريمة من أنواع البلاغة: التقسيم، في قوله: { منهم من كلم الله } بلا واسطة، ومنهم من كلمه بواسطة، وهذا التقسيم اقتضاه المعنى، وفي قوله { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } وهذا التقسيم ملفوظ به. و: الاختصاص، مشاراً إليه ومنصوباً عليه، و: التكرار، في لفظ البينات، وفي { ولو شاء الله ما اقتتلوا } على أحد التأويلين. و: الحذف، في قوله { منهم من كلم الله } أي كفاحاً وفي قوله { يفعل ما يريد } يعني من هداية من شاء وضلالة من شاء.

{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما ذكر أن الله تعالى أراد الاختلاف إلى مؤمن وكافر، وأراد الاقتتال، وأمر به المؤمنين، وكان الجهاد يحتاج صاحبه إلى الإعانة عليه، أمر تعالى بالنفقة من بعض ما رزق، فشمل النفقة في الجهاد، وهي، وإن لم ينص عليها، مندرجة في قوله: أنفقوا، وداخلة فيها دخولاً أولياً، إذ جاء الأمر بها عقب ذكر المؤمن والكافر واقتتالهم، قال ابن جريج، والأكثرون: الآية عامّة في كل صدقة واجبة أو تطوع. وقال الحسن: هي في الزكاة، والزكاة منها جزء للمجاهدين، وقاله الزمخشري، قال: أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به { من قبل أن يأتي يوم } لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق، لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه، ولا خلة حتى تسامحكم أخلاؤكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات، لأن الشفاعة ثَمّ في زيادة الفضل لا غير، { والكافرون هم الظالمون } أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون، فقال: والكافرون، للتغليظ، كما قال في آخر آية الحج: ومن كفر، مكان: ومن لم يحج، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار، في قوله { { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة } [فصلت: 6 - 7] انتهى كلامه.

ورُدَّ قوله بأنه ليس في الآية وعيد، فكأنه قيل: حصلوا منافع الآخرة حين تكون في الدنيا، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة، وقول الزمخشري: لأن الشفاعة ثَمَّ في زيادة الفضل لا غير، هو قول المعتزلة، لأن عندهم أن الشفاعة لا تكون للعصاة، فلا يدخلون النار، ولا للعصاة الذين دخلوا النار، فلا يخرجون منها بالشفاعة.

وقيل: المراد منه الإنفاق في الجهاد، ويدل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد، فكأن المراد منه الانفاق في الجهاد، وهو قول الأصم.

قال ابن عطية: وظاهر هذه الآية أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل خير، وصلة رحم، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية { والكافرون هم الظالمون } أي: فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال. انتهى كلامه.

وندب تعالى العبد إلى أن ينفق مما رزقه، والرزق، وإن تناول غير الحلال، فالمراد منه هنا الحلال، و: مما رزقناكم، متعلق بقوله: أنفقوا، و: ما، موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: رزقناكموه، وقيل: ما مصدرية أي: من رزقنا إياكم، و: من قبل، متعلق: بأنفقوا، أيضاً، واختلف في مدلول: مِنْ: فالأولى: للتبعيض، والثانية: لابتداء الغاية، وزعم بعضهم أنها تتعلق: برزقناكم.

{ من قبل أن يأتي يوم } حذر تعالى من الإمساك قبل أن يأتي هذا اليوم، وهو يوم القيامة.

{ لا بيع فيه } أي: لا فدية فيه لأنفسكم من عذاب الله، وذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة وأخذ البدل، وقيل: لا فداء عمّا منعتم من الزكاة تبتاعونه تقدمونه عن الزكاة يومئذ. وقيل: لا بيع فيه للأعمال فتكتسب.

{ ولا خلة } أي: لا صداقة تقتضي المساهمة، كما كان ذلك في الدنيا، والمتقون بينهم في ذلك اليوم خلة، لكن لا نحتاج إليها، وخلة غيرهم لا تغني من الله شيئاً.

{ ولا شفاعة } اللفظ عام والمراد الخصوص، أي: ولا شفاعة للكفار، وقال تعالى: { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } [الشعراء: 100 - 101] أو: ولا شفاعة إلاَّ بإذن الله، قال تعالى: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلاَّ لمن أذن له } [سبأ: 23] وقال: { ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى } [الأنبياء: 28] فعلى الخصوص بالكفار لا شفاعة لهم ولا منهم، وعلى تأويل الإذن: لا شفاعة للمؤمنين إلاَّ بإذنه. وقيل: المراد العموم، والمعنى أن انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده لا يكون يوم القيامة ألبتة، وأما الشفاعة التي توجد بالإذن من الله تعالى فحقيقتها رحمة الله، لكن شرف تعالى الذي أذن له في أن يشفع.

وقد تعلق بقوله: ولا شفاعة، منكرو الشفاعة، واعتقدوا أن هذا نفي لأصل الشفاعة، وقد أثبتت الشفاعة في الآخرة مشروطة بإذن الله ورضاه، وصح حديث الشفاعة الذين تلقته الأمّة بالقبول، فلا التفات لمن أنكر ذلك.

وقرأ ابن كثير، ويعقوب، وأبو عمرو: بفتح الثلاثة من غير تنوين، وكذلك: { لا بيع فيه ولا خلال } في إبراهيم [31] و: { لا لغو فيها ولا تأثيم } في الطور [23] وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، وقد تقدّم الكلام على إعراب الاسم بعد: لا، مبنياً على الفتح، ومرفوعاً منوناً، فأغنى ذلك عن إعادته.

والجملة من قوله: لا بيع، في موضع الصفة، ويحتاج إلى إضمار التقدير: ولا شفاعة فيه، فحذف لدلالة: فيه، الأولى عليه.

{ والكافرون هم الظالمون } يعني الجائرين الحدّ، و: هم، يحتمل أن يكون بدلاً من: الكافرون، وأن يكون مبتدأ، وأن يكون فصلاً. قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: والكافرون، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون، ولو نزل هكذا لكان قد حكم على كل ظالم، وهو من يضع الشيء في غير موضعه، بالكفر، فلم يكن ليخلص من الكفر كل عاص إلاَّ من عصمه الله من العصيان.

{ الله لا إله إلاَّ هو الحي القيوم } هذه الآية تسمى آية الكرسي لذكره فيها، وثبت في (صحيح مسلم) من حديث أبيّ أنها أعظم آية، وفي (صحيح البخاري) من حديث أبي هريرة: أن قارئها إذا آوى إلى فراشه لن يزال عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وورد أنها تعدل ثلث القرآن، وورد أنا ما قرئت في دار إلاَّ اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين يوماً، وورد أن من قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره، والأبيات حوله، وورد: أن سيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي، وفضلت هذا التفضيل لما اشتملت عليه من توحيد الله وتعظيمه، وذكر صفاته العلا، ولا مذكور أعظم من الله، فذكره أفضل من كل ذكر.

قال الزمخشري: وبهذا يعلم: أن أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم العدل والتوحيد، ولا ينفرنك عنه كثرة أعدائه فـ:

إن العرانين تلقاها محسدة

انتهى كلامه. وأهل العدل والتوحيد الذين أشار إليهم هم المعتزلة، سموا أنفسهم بذلك قال بعض شعرائهم من أبيات:

إن أنصر التوحيد والعدل في كل مقام باذلاً جهدي

وهذا الزمخشري لغلوه في محبة مذهبه يكاد أن يدخله في كل ما يتكلم به، وإن لم يكن مكانه.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه فضل بعض الأنبياء على بعض، وأن منهم من كلمه، وفسر بموسى عليه السلام، وأنه رفع بعضهم درجات، وفسر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونص على عيسى عليه السلام، وتفضيل المتبوع يفهم منه تفضيل التابع، وكانت اليهود والنصارى قد أحدثوا بعد نبيهم بدعاً في أديانهم وعقائدهم، ونسبوا الله تعالى إلى ما لا يجوز عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، فكان منهم العرب، وكانوا قد اتخذوا من دون الله آلهة وأشركوا، فصار جميع الناس المبعوث إليهم صلى الله عليه وسلم على غير استقامة في شرائعهم وعقائدهم، وذكر تعالى أن الكافرين هم الظالمون، وهم الواضعون الشيء غير مواضعه، أتى بهذه الآية العظيمة الدالة على إفراد الله بالوحدانية، والمتضمنة صفاته العلا من: الحياة، والاستبداد بالملك، واستحالة كونه محلاً للحوادث، وملكه لما في السماوات والأرض، وامتناع الشفاعة عنده إلاَّ بإذنه، وسعة علمه، وعدم إحاطة أحد بشيء من علمه إلاَّ بإرادته، وباهر ما خلق من الكرسي العظيم الاتساع، ووصفه بالمبالغة العلو والعظيمة، إلى سائر ما تضمنته من أسمائه الحسنى وصفاته العلا، نبههم بها على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد، وعلى طرح ما سواها.

وتقدّم الكلام على لفظة: الله، وعلى قوله: لا إله إلا هو، فأغنى عن إعادته.

الحي: وصف وفعله حيي، قيل: وأصله: حيو، فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، وأدغمت في الياء، وقيل: أصله فيعل، فخفف كميت في ميت، ولين في لين، وهو وصف لمن قامت به الحياة، وهو بالنسبة إلى الله تعالى من صفات الذات حي بحياة لم تزل ولا تزول، وفسر هنا بالباقي، قالوا: كما في قول لبيد:

فاما تريني اليوم أصبحت سالماً فلست بأحيا من كلاب وجعفر

أي: فلست بأبقى، وحكى الطبري عن قوم أنه، يقال: حي كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، وحكي أيضاً عن قوم: أنه حي لا بحياة، وهو قول المعتزلة، ولذلك قال الزمخشري. الحي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه، وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر. انتهى كلامه، وعنى بالمتكلمين متكلمي مذهبه، والكلام على وصف الله بالحياة مذكور في كتب أصول الدين.

وقرأ الجمهور: القيوم، على وزن فيعول، أصله قيووم اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء وقرأ ابن مسعود، وابن عمر، وعلقمة، والنخعي والأعمش: القيام وقرأ علقمة أيضاً: القيم، كما تقول: ديور وديّار وقال أمية:

لم تخلقِ السماءُ والنجوم والشمس معها قمر يعوم
قدرها المهيمن القيُّوم والحشر والجنة والنعيم
إلاَّ لأمر شأنه عظيم

ومعناه: أنه قائم على كل شيء بما يجب له، بهذا فسره مجاهد، والربيع، والضحاك. وقال ابن جبير: الدائم الوجود. وقال ابن عباس: الذي لا يزول ولا يحول، وقال قتادة: القائم بتدبير خلقه. وقال الحسن: القائم على كل نفس بما كسبت. وقيل: العالم بالأمور، من قولهم: فلان يقوم بهذا الكتاب أي: يعلم ما فيه. وقيل: هو مأخوذ من الاستقامة وقال أبو روق: الذي لا يبلى. وقال الزمخشري: الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه. وهذه الأقوال تقارب بعضها بعضاً.

وقالوا: فيعول، من صيغ المبالغة، وجوّزوا رفع الحي على أنه صفة للمبتدأ الذي هو: الله، أو على أنه خبر بعد خبر، أو على أنه بدل من: هو، أو من: الله تعالى، أو: على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو، أو: على أنه مبتدأ والخبر: لا تأخذه، وأجودها الوصف، ويدل عليه قراءة من قرأ: الحيَّ القيومَ بالنصب، فقطع على إضمار: أمدح، فلو لم يكن وصفاً ما جاز فيه القطع، ولا يقال: في هذا الوجه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر، لأن ذلك جائز حسن، تقول: زيد قائم العاقل.

{ لا تأخذه سنة ولا نوم } يقال: وسن سنة ووسناً، والمعنى: أنه تعالى لا يغفل عن دقيق ولا جليل، عبر بذلك عن الغفلة لأنه سببها، فأطلق اسم السبب على المسبب قال ابن جرير: معناه لا تحله الآفات والعاهات المذهلة عن حفظ المخلوقات، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع، وهذا هو مفهوم الخطاب، كما قال تعالى: { ولا تقل لهما أف } [الإسراء: 23] وقيل: نزه نفسه عن السنة والنوم لما فيها من الراحة، وهو تعالى لا يجوز عليه التعب والاستراحة. وقيل: المعنى لا يقهره شيء ولا يغلبه، وفي المثل: النوم سلطان قال الزمخشري: وهو تأكيد للقيوم، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً. ومنه حديث موسى أنه سأل الملائكة، وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية: أينام ربُّنا؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا تتركوه ينام. ثم قال: خذ بيدك قارورتين مملوؤتين، فأخذهما، وألقى الله عليه، النعاس، فضرب إحداهما عن الأخرى فانكسرتا، ثم أوحى إليه: قل لهؤلاء إني أمسك السماوات والأرض بقدرتي، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا. انتهى. هكذا أورد الزمخشري هذا الخبر، وفيه أنه سأل الملائكة، وكان ذلك يعني السؤال من قومه، كطلب الرؤية، يعني أن طلب الرؤية هو عنده من باب المستحيل، كما استحال النوم في حقه تعالى، وهذا من عادته في نصرة مذهبه، يذكره حيث لا تكون الآية تتعرض لتلك المسألة.

وأورد غيره هذا الخبر "عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر، قال وقع في نفس موسى: هل ينام الله" ؟ وساق الخبر قريباً من معنى ما ذكره الزمخشري.

قال بعض معاصرينا: هذا حديث وضعه الحشوية، ومستحيل أن سأل موسى ذلك عن نفسه أو عن قومه، لأن المؤمن لا يشك في أن الله ينام أو لا ينام، فكيف الرسل؟ انتهى كلامه.

وفائدة تكرار: لا، في قوله: ولا نوم، انتفاؤهما على كل حال، إذ لو أسقطت، لا: لاحتمل انتفاؤهما بقيد الاجتماع، تقول: ما قام زيد وعمرو، بل أحدهما، ولا يقال: ما قام زيد ولا عمرو، بل أحدهما.

وتقدّم قول من جعل هذه الجملة خبراً لقوله: الحي، على أن يكون: الحي، مبتدأ، ويجوز أن يكون خبراً عن الله، فيكون قد أخبره بعده إخباراً، على مذهب من يجيز ذلك، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة في موضع الحال من الضمير المستكن في القيوم، أي: قيوم بأمر الخلق غير غافل.

{ له ما في السماوات وما في الأرض } يصح أن يكون خبراً بعد خبر، ويصح أن يكون استئناف خبر، كما يصح ذلك في الجملة التي قبلها. و: ما، للعموم تشمل كل موجود، و: اللام، للملك أخبر تعالى أن مظروف السماوات والأرض ملك له تعالى، وكرر: ما، للتوكيد. وكان ذكر المظروف هنا دون ذكر الظرف، لأن المقصود نفي الإلهية عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره، لأن ما عبد من دون الله من الأجرام النيرة التي في السماوات: كالشمس، والقمر، والشعرى؛ والأشخاص الأرضية: كالأصنام، وبعض بني آدم، كل منهم ملك لله تعالى، مربوب مخلوق.

وتقدّم أنه تعالى خالق السماوات والأرض، فلم يذكرهما كونه مالكاً لهما استغناء بما تقدّم.

{ من ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه } كان المشركون يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند الله، وكانوا يقولون: إنما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى. وفي هذه الآية أعظم دليل على ملكوت الله، وعظم كبريائه، بحيث لا يمكن أن يقدم أحد على الشفاعة عنده إلاَّ بإذن منه تعالى، كما قال تعالى: { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن } [النبأ: 38] ودلت الآية على وجود الشفاعة بإذنه تعالى، والإذن هنا معناه الأمر، كما ورد: إشفع تشفع، أو العلم أو التمكين إن شفع أحد بلا أمر.

و: من، رفع على الابتداء، وهو استفهام في معنى النفي، ولذلك دخلت: إلاَّ، في قوله: إلا بإذنه، وخبر المبتدأ قالوا: ذا، ويكون الذي نعتاً لذا، أو بدلاً منه، وعلى هذا الذي قالوا يكون: ذا، اسم إشارة، وفي ذلك بعد، لأن: ذا، إذا كان اسم إشارة وكان خبراً عن: من، استقلت بهما الجملة، وأنت ترى احتياجها إلى الموصول بعدها.

والذي يظهر أن: من، الاستفهامية ركب معها: ذا، وهو الذي يعبر عنها بعض النحويين أن: ذا، لغو، فيكون: من ذا، كله في موضع رفع بالابتداء، والموصول بعدهما هو الخبر، إذ به يتم معنى الجملة الابتدائية، و: عنده، معمول: ليشفع، وقيل: يجوز أن يكون حالاً من الضمير في يشفع، فيكون التقدير: يشفع مستقراً عنده، وضعف بأن المعنى على يشفع إليه. وقيل: الحال أقوى لأنه إذا لم يشفع من هو عنده وقريب منه، فشفاعة غيره أبعد، و: بإذنه، متعلق: بيشفع، والباء للمصاحبة، وهي التي يعبر عنها بالحال، أي: لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له.

{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } الضمير يعود على: ما، وهم الخلق، وغلب من يعقل، وقيل: الضميران في: أيديهم وخلفهم، عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: { له ما في السماوات وما في الأرض } قاله ابن عطية، وجوّز ابن عطية أن يعود على ما دل عليه: من ذا، من الملائكة والأنبياء. وقيل: على الملائكة، قاله مقاتل، و: ما بين أيديهم، أمر الآخرة، و: ما خلفهم، أمر الدنيا. قاله ابن عباس، وقتادة، أو العكس قاله مجاهد، وابن جريح، والحكم بن عتبة، والسدّي وأشياخه.

و: ما بين أيديهم، هو ما قبل خلقهم، و: ما خلفهم، هو ما بعد خلقهم، أو: ما بين أيديهم، ما أظهروه، و: ما خلفهم، ما كتموه. قاله الماوردي، أو: ما بين أيديهم، من السماء إلى الأرض، و: ما خلفهم، ما في السماوات. أو: ما بين أيديهم، الحاضر من أفعالهم وأحوالهم، و: ما خلفهم، ما سيكون. أو: عكسه، ذكر هذين القولين تاج القرّاء في تفسيره.

أو: ما بين أيدي الملائكة من أمر الشفاعة، وما خلفهم من أمر الدنيا أو بالعكس قاله مجاهد. أو ما فعلوه وما هم فاعلوه، قاله مقاتل.

والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات وكنى بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به، كما تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، وأنت تعني بذلك جميع جسده، واستعيرت الجهات لأحوال المعلومات، فالمعنى أنه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات، لا يعزب عنه شيء، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما خلفهم شيء معين. كما ذهبوا إليه.

{ ولا يحيطون بشيء من علمه } الإحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته، والاشتمال عليه، والعلم هنا المعلوم لأن علم الله الذي هو صفة ذاته لا يتبعض، كما جاء في حديث موسى والخضر: ما نقص علمي وعلمك من علمه إلاَّ كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، والاستثناء يدل على أن المراد بالعلم المعلومات، وقالوا: اللهم اغفر علمك فينا، أي معلومك، والمعنى: لا يعلمون من الغيب الذي هو معلوم الله شيئاً إلاَّ ما شاء أن يُعلمهم، قاله الكلبي. وقال الزجاج: إلا بما أنبأ به الأنبياء تثبيتاً لنبوتّهم.

و: بشيء، وبما شاء، متعلقان: بيحيطون، وصار تعلق حرفي جر من جنس واحد بعامل واحد لأن ذلك على طريق البدل، نحو قولك: لا أمر بأحد إلاَّ بزيد، والأولى أن تقدر مفعول شاء أن يحيطوا به، لدلالة قوله: ولا يحيطون على ذلك.

{ وسع كرسيه السماوات والأرض } قرأ الجمهور وسع بكسر السين، وقرىء شاذا بسكونها، وقرىء أيضاً شاذا وسع بسكونها وضم العين، والسماوات والأرض بالرفع مبتدأ، وخبراً، والكرسي: جسم عظيم يسع السماوات والأرض، فقيل: هو نفس العرش، قاله الحسن. وقال غيره: دون العرش وفوق السماء السابعة، وقيل: تحت الأرض كالعرش فوق السماء، عن السدّي وقيل: الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم، أو: ملك آخر عظيم القدر. وقيل: السلطان والقدرة، والعرب تسمي أصل كل شيء الكرسي، وسمي الملك بالكرسي لأن الملك في حال حكمه وأمره ونهيه يجلس عليه فسمي باسم مكانه على سبيل المجاز. قال الشاعر:

قد علم القدّوس مولى القدس أن أبا العباس أولى نفس
في معدن الملك القديم الكرسي

وقيل: الكرسي العلم. لأن موضع العالم هو الكرسي، سميت صفة الشيء باسم مكانه على سبيل المجاز، ومنه يقال للعلماء: كراسي، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، ومنه الكراسة، وقال الشاعر:

تحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب

أي: ترجع، وقيل: الكرسي السر قال الشاعر:

مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه ولا بكرسيّ علم الله مخلوق

وقيل: الكرسي: ملك من الملائكة يملأ السموات والأرض، وقيل: قدرة الله، وقيل: تدبير الله، حكاهما الماوردي، وقال: هو الأصل المعتمد عليه. قال المغربي: من تكرس الشيء تراكب بعضه على بعض، وأكرسته أنا، قال العجاج:

يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا قال نعم أعرفه وأكرسا

وقال آخر:

نحن الكراسي لا تعد هوازن أمثالنا في النائبات ولا الأشد

وقال الزمخشري: وفي قوله: { وسع كرسيه } أربعة أوجه: أحدها: أن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلاَّ تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة، ولا قعود، ولا قاعد، لقوله: { { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } [الزمر: 67] من غير تصور قبضة وطيّ ويمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه، وتمثيل حسيّ. ألا ترى إلى قوله: { وما قدروا الله حق قدره } [الزمر: 67] انتهى ما ذكره في هذا الوجه.

واختار القفال معناه قال: المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله تعالى وكبريائه وتعزيزه، خاطب الخلق في تعريف ذاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم.

وقيل: كرسي لؤلؤ، طول القائمة سبعمائة سنة، وطول الكرسي حيث لا يعلمه العالمون. ذكره ابن عساكر في تاريخه، عن عليّ بن أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله.

قال ابن عطية: والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، والعرش أعظم منه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السماوات السبع في الكرسي إلاَّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس" . وقال أبو ذرّ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسيّ في العرش إلاَّ كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض" . وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله. إنتهى كلامه.

{ ولا يؤوده حفظهما } قرأ الجمهور: يؤوده بالهمز، وقرىء شاذاً بالحذف، كما حذفت همزة أناس، وقرىء أيضاً: يووده، بواو مضمومة على البدل من الهمزة أي: لا يشقه، ولا يثقل عليه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، وغيرهم. وقال أبان بن تغلب: لا يتعاظمه حفظهما، وقيل: لا يشغله حفظ السماوات عن حفظ الأرضين، ولا حفظ الأرضين عن حفظ السماوات.

والهاء تعود على الله تعالى، وقيل: تعود على الكرسي، والظاهر الأول لتكون الضمائر متناسبة لواحد ولا تختلف، ولبعد نسبة الحفظ إلى الكرسي.

{ وهو العلي العظيم } عليّ في جلاله، عظيم في سلطانه. وقال ابن عباس: الذي كمل في عظمته، وقيل: العظيم المعظّم، كما يقال: العتيق في المعتق، قال الأعشى:

وكأنّ الخمر العتيق من الاسـ فنط ممزوجة بماء زلال

وأنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف قبل الخلق وبعد فنائهم، إذ لا معظم له حينئذ، فلا يجوز هذا القول. وقيل: والجواب أنها صفة فعل: كالخلق والرزق، فلا يلزم ما قالوه. وقيل: العلي الرفيع فوق خلقه، المتعالي عن الأشباه والأنداد، وقيل: العالي من: علا يعلو: ارتفع، أي: العالي على خلقه بقدرته، والعظيم ذو العظمة الذي كل شيء دونه، فلا شيء أعظم منه. قال الماوردي: وفي الفرق بين العلي والعالي وجهان: أحدهما: ان العالي هو الموجود في محل العلو، والعلي هو مستحق للعلو. الثاني: أن العالي هو الذي يجوز أن يشارك، والعلي هو الذي لا يجوز أن يشارك، فعلى هذا الوجه يجوز أن يوصف الله بالعليّ لا بالعالي، وعلى الأول يجوز أن يوصف بهما، وقيل: العلي: القاهر الغالب للأشياء، تقول العرب: علا فلان فلاناً غلبه وقهره. قال الشاعر:

فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومنه { إن فرعون علا في الأرض } [القصص: 4] وقال الزمخشري: العلي الشأن العظيم الملك والقدرة. إنتهى. وقال قوم: العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه أن لا يحكى. وقال أيضاً: العلي يراد به علو القدر والمنزلة، لا علو المكان، لأن الله منزه عن التحيز. إنتهى.

قال الزمخشري: فان قلت: كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف؟

قلت: ما منها جملة إلاَّ وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبين، فلو توسط بينهما عطف لكان كما تقول العرب: بين العصا ومحائها، فالأولى: بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه؛ والثانية: لكونه مالكاً لما يدبره. والثالثة: لكبرياء شأنه، والرابعة: لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى. والخامسة: لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، أو: بجلاله وعظيم قدره. إنتهى كلامه.

وتضمنت هذه الآية الكريمة صفات الذات، منها: الوحدانية، بقوله: لا إله إلا هو، والحياة، الدالة على البقاء بقوله: الحي، و: القدرة، بقوله: القيوم، واستطرد من القيومية لانتفاء ما يؤول إلى العجز، وهو ما يعرض للقادر غيره تعالى من الغفلة والآفات، فينتفي عنه وصفه بالقدرة إذ ذاك، واستطرد من القيومية الدالة على القدرة إلى ملكه وقهره وغلبته لما في السماوات والأرض، إذ الملك آثار القدرة، إذ للمالك التصرف في المملوك. و: الإرادة، بقوله: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } فهذا دال على الإختيار والإرادة، و: العلم بقوله: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ثم سلب عنهم العلم، إلاَّ إن أعلمهم هو تعالى، فلما تكملت صفات الذات العلا، واندرج معها شيء من صفات الفعل وانتفى عنه تعالى أن يكون محلاً للحوادث، ختم ذلك بكونه: العلي القدر العظيم الشأن.

{ لا إكراه في الدين } ذكر في سبب نزولها أقوال مضمون أكثرها: أن بعض أولاد الأنصار تنصر، وبعضهم تهوّد، فأراد آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت. وقال أنس: نزلت فيمن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسلم». فقال: أجدني كارهاً.

واختلف أهل العلم في هذه الآية: أهي منسوخة؟ أم ليست بمنسوخة؟ فقيل: هي منسوخة، وهي من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف، وقال قتادة، والضحاك: هي محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية، قالا: أمر بقتال أهل الأوثان لا يقبل منهم إلاَّ الإسلام أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية. ومذهب مالك: أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش، فتكون الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب. وقال الكلبي: لا إكراه بعد إسلام العرب، ويقبل الجزية. وقال الزجاج: لا تنسبوا إلى الكراهة من أسلم مكرهاً، يقال: أكفره نسبه إلى الكفر. قال الشاعر:

وطائفة قد أكفروني بحبهم وطائفة قالوا: مسيء ومذنب

وقيل: لا يكره على الإسلام من خرج إلى غيره. وقال أبو مسلم، والقفال: معناه أنه ما بنى تعالى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار، ويدل على هذا المعنى أنه لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً، قال بعد ذلك: لم يبق عذر في الكفر إلاَّ أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وهذا ما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الإبتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الإبتلاء. ويؤكد هذا قوله بعد: { قَد تبين الرشد من الغي } يعني: ظهرت الدلائل ووضحت البينات، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة، ولذلك قال الزمخشري: لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والإختيار، ونحوه قوله: { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } [يونس: 99] أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكنه لم يفعل، وبنى الأمر على الأختيار.

والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده، والألف واللام للعهد، وقيل: بدل من الإضافة أي: في دين الله.

{ قد تبين الرشد من الغيّ } أي: استبان الإيمان من الكفر، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام.

وقرأ الجمهور: الرشد، على وزن القفل، والحسن: الرشد، على وزن العنق. وأبو عبد الرحمن: الرشد، على وزن الجبل، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي، والحسن ومجاهد. وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن: الرشاد، بالألف.

والجمهور على إدغام دال، قد، في: تاء، تبين. وقرىء شاذاً بالإظهار، وتبين الرشد، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه، ولا موضع لها من الإعراب.

{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } الطاغوت: الشيطان. قاله عمر، ومجاهد، والشعبي، والضحاك، وقتادة، والسدّي. أو: الساحر، قاله ابن سيرين، وأبو العالية. أو: الكاهن، قاله جابر، وابن جبير، ورفيع، وابن جريح. أو: ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك: كفرعون، ونمروذ، قاله الطبري. أو: الأصنام، قاله بعضهم.

وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها.

قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. إنتهى.

وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله، لأن الكفر بها هو رفضها، ورفض عبادتها، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية، مما كان مشتبهاً به، سابقاً له قبل الإيمان، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه.

وجواب الشرط: فقد استمسك، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه، وإن كان مستقبلاً في المعنى لانه جواب الشرط، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه، و: بالعروة، متعلق باستمسك، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك. قال الزمخشري: وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر، والاستدلال بالمشاهد المحسوس، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده والتيقن.

والمشبه بالعروة الإيمان، قاله: مجاهد. أو: الإسلام قاله السدّي أو: لا إله إلا الله، قاله ابن عباس، وابن جبير، والضحاك، أو: القرآن، قاله السدّي أيضاً، أو: السنة، أو: التوفيق. أو: العهد الوثيق. أو: السبب الموصل إلى رضا الله وهذه أقوال متقاربه.

{ لا انفصام لها } لا انكسار لها ولا انقطاع، قال الفراء: الانفصام والانقصام هما لغتان، وبالفاء أفصح، وفرق بعضهم بينهما، فقال: الفصم انكسار بغير بينونة، والقصم انكسار ببينونة.

وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من العروة، وقيل: من الضمير المستكن في الوثقى، ويجوز أن يكون خبراً مستأنفاً من الله عن العروة، و: لها، في موضع الخبر، فتتعلق بمحذوف أي: كائن لها.

{ والله سميع عليم } أتى بهذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده الجنان، فناسب هذا ذكر هذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وقيل: سميع لدعائك يا محمد، عليم بحرصك واجتهادك.

{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } الولي، هنا الناصر والمعين أو المحب أو متولى أمورهم، ومعنى: آمنوا، أرادوا أن يؤمنوا، والظلمات: هنا الكفر، والنور الإيمان، قاله قتادة، والضحاك، والربيع. قيل: وجمعت الظلمات لاختلاف الضلالات، ووحد النور لأن الإيمان واحد.

والإخراج هنا إن كان حقيقة فيكون مختصاً بمن كان كافراً ثم آمن، وإن كان مجازاً فهو مجاز عن منع الله إياهم من دخولهم في الظلمات. قال الحسن: معنى يخرجهم يمنعهم، وإن لم يدخلوا، والمعنى أنه لو خلا عن توفيق الله لوقع في الظلمات، فصار توفيقه سبباً لدفع تلك الظلمة، قالوا: ومثل هذه الاستعارة شائع سائغ في كلامهم، كما قال طفيل الغنوي:

فإن تكنِ الأيام أحسنَّ مرة إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب

قال الواقدي: كل شيء في القرآن من الظلمات والنور فإنه أراد به الكفر والإيمان غير التي في الأنعام، وهو: { وجعل الظلمات والنور } [الأنعام: 1] فإنه أراد به الليل والنهار.

وقال الواسطي: يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى آدابها: كالرضا والصدق والتوكل والمعرفة والمحبة.

وقال أبو عثمان: يخرجهم من ظلمات الوحشة والفرقة إلى نور الوصلة والإلفة.

وقال الزمخشري: آمنوا أرادوا أن يؤمنوا، تلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان، أو: الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم، بما يهديهم ويوفقهم لها من حلها، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين. انتهى. فيكون على هذا القول: آمنوا على حقيقته.

{ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } قال مجاهد، وعبدة بن أبي لبابة، نزلت في قوم آمنوا بعيسى، فلما جاء محمد عليه السلام كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات.

وقال الكلبي يخرجونهم من إيمانهم بموسى عليه السلام واستفتاحهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى كفرهم به، وقيل: من فطرة الإسلام، وقيل: من نور الإقرار بالميثاق، وقيل: من الإقرار باللسان إلى النفاق. وقيل: من نور الثواب في الجنة إلى ظلمة العذاب في النار. وقيل: من نور الحق إلى ظلمة الهوى. وقيل: من نور العقل إلى ظلمة الجهل.

وقال الزمخشري: من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة.

وقال ابن عطية: لفظ الآية مستغن عن التخصيص، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، وذلك أن كان من آمن منهم فالله وليه، أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود الداعي، النبي المرسل، فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من الإيمان، إذ هو معد، وأهل للدخول فيه، وهذا كما تقول لمن منعك الدخول في أمر: أخرجتني يا فلان من هذا الأمر، وإن كنت لم تدخل فيه ألبتة. انتهى.

والمراد بالطاغوت: الصنم، لقوله: { رب إنهنّ أضللن كثيراً من الناس } [إبراهيم: 36] وقيل: الشياطين والطاغوت اسم جنس.

وقرأ الحسن: الطواغيت بالجمع.

وقد تباين الإخبار في هاتين الجملتين، فاستفتحت آية المؤمنين باسم الله تعالى، وأخبر عنه بأنه ولي المؤمنين تشريفاً لهم إذ بدىء في جملتهم باسمه تعالى، ولقربه من قوله: { والله سميع عليم } واستفتحت آية الكافرين بذكرهم نعياً عليهم، وتسمية لهم بما صدر منهم من القبيح. ثم أخبر عنهم بأن أولياءهم الطاغوت، ولم يصدّر الطاغوت استهانة به، وأنه مما ينبغي أن لا يجعل مقابلاً لله تعالى، ثم عكس الإخبار فيه فابتدأ بقوله: أولياؤهم، وجعل الطاغوت خبراً. كأن الطاغوت هو مجهول. أعلم المخاطب بأن أولياء الكفار هو الطاغوت، والأحسن في: يخرجهم ويخرجونهم أن لا يكون له موضع من الإعراب، لأنه خرج مخرج التفسير للولاية، وكأنه من حيث إن الله ولي المؤمنين بين وجه الولاية والنصر والتأييد، بأنها إخراجهم من الظلمات إلى النور، وكذلك في الكفار.

وجوّزوا أن يكون: يخرجهم، حالاً والعامل فيه: ولي، وأن يكون خبراً ثانياً، وجوّزوا أن يكون: يخرجونهم، حالاً والعامل فيه معنى الطاغوت. وهو نظير ما قاله أبو عليّ: من نصب: نزّاعة، على الحال، والعامل فيها: لظى، وسنذكره في موضعه إن شاء الله و: من، و: إلى، متعلقان بيخرج.

{ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } تقدّم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته.

وذكروا في هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة وعلم البيان، منها في آية الكرسي: حسن الافتتاح لأنها افتتحت بأجل أسماء الله تعالى، وتكرار اسمه في ثمانية عشر موضعاً، وتكرير الصفات، والقطع للجمل بعضها عن بعض، ولم يصلها بحرف العطف. والطباق: في قوله { الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } فإن النوم موت وغفلة، والحي القيوم يناقضه. وفي قوله: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون } والتشبيه: في قراءة من قرأ { وسع كرسيه السماوات والأرض } أي كوسع، فإن كان الكرسي جرماً فتشبيه محسوس بمحسوس، أو معنى فتشبيه معقول بمحسوس.

ومعدول الخطاب في { لا إكراه في الدين } إذا كان المعنى لا تكرهوا على الدين أحداً. والطباق: أيضاً في قوله { قد تبين الرشد من الغي } وفي قوله: { آمنوا وكفروا } وفي قوله { من الظلمات إلى النور } والتكرار: في الإخراج لتباين تعليقهما، والتأكيد: بالمضمر في قوله: { هم فيها خالدون }.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة الإشارة إلى الرسل المذكورين في قوله: { وإنك لمن المرسلين } وأخبر تعالى أنه فضل بعضهم على بعض، فذكر أن { منهم من كلم الله } وفسر بموسى عليه السلام، وبدىء به لتقدّمه في الزمان، وأخبر أنه { رفع بعضهم درجات } وفسر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ثالثاً عيسى بن مريم، فجاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً بين هذين النبيين العظيمين، فكان كواسطة العقد، ثم ذكر تعالى أن اقتتال المتقدمين بعد مجيء البينات هو صادر عن مشيئته.

ثم ذكر اختلافهم وانقسامم إلى مؤمن وكافر، وأنه تعالى يفعل ما يريد، ثم أمر المؤمنين بالإنفاق مما رزقهم من قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه توسل بصداقة ولا شفاعة.

ثم ذكر أن الكافرين هم المجاوزون الحد الذي حده الله تعالى، ثم ذكر تعالى أنه هو المتوحد بالإلهية، وذلك عقيب ذكر الكافرين. وذكر أتباع موسى عليهما السلام.

ثم سرد صفاته العلا وهي التي يجب أن تعتقد في الله تعالى من كونه واحداً حياً قائماً بتدبير الخلق، لا يلحقه آفة، مالكاً للسماوات والأرض، عالماً بسرائر المعلومات، لا يعلم أحد شيئاً من علمه إلاَّ بما يشاء هو تعالى، وذكر عظيم مخلوقاته، وأن بعضها، وهو الكرسي، يسع السماوات والأرض، ولا يثقل ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض.

ثم ذكر أنه بعد وضوح صفاته العلا فـ { لا إكراه في الدين } إذ قد تبينت طرق الرشاد من طرق الغواية، ثم ذكر أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله فهو مستمسك بالعروة الوثقى، عروة الإيمان، ووصفها بالوثقى لكونها لا تنقطع ولا تنفصم، واستعار للإيمان عروة إجراء للمعقول مجرى المحسوس، ثم ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين أخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وأن الكافرين أولياؤهم الأصنام والشياطين، وهم على العكس من المؤمنين، ثم أخبر عن الكفار أنهم أصحاب النار وأنهم مخلدون فيها والحالة هذه، والله أعلم بالصواب.