التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
١٨
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ
١٩
قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ
٢٠
فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢١
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
٢٢
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٣
قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ
٢٤
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ
٢٥
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ
٢٦
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
٢٧
قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ
٢٨
قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ
٢٩
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ
٣٠
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٣١
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ
٣٢
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ
٣٣
-الشعراء

البحر المحيط

ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون، ولم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال له: ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له: { ألم نر بك فينا وليداً } وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره: فأتيا فرعون، فقالا له ذلك. ولما بادهه موسى بأنه رسول رب العالمين، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما جاء به من عنده، ويذكره بحالة الصغر والمنّ عليه بالتربية. والوليد الصبي، وهو فعيل بمعنى مفعول، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة. وقرأ أبو عمرو في رواية: من عمرك، بإسكان الميم، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه. وقرأ الجمهور: فعلتك، بفتح الفاء، إذ كانت وكزة واحدة، والشعبي: بكسر الفاء، يريد الهيئة، لأن الوكزة نوع من القتل. عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال، حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي، وعظم ذلك بقوله: { وفعلت فعلتك التي فعلت }، لأن هذا الإبهام، بكونه لم يصرح أنها القتل، تهويل للواقعة وتعظيم شأن. { وأنت من الكافرين }: يجوز أن يكون حالاً، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك، والأنبياء عليهم السلام معصومون. ويجوز أن يكون إخباراً مستأنفاً من فرعون، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان، قاله ابن زيد؛ أو من الكافرين بي في أنني إلهك، قاله الحسن؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه الآن، قاله السدي.

{ قال فعلتها إذاً }: إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل، إذ كان الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية، لأنه فيه إزهاق النفس. قال ابن عطية: إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ. انتهى. وليس بصلة، بل هي حرف معنى. وقوله وكأنها بمعنى حينئذ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ. وقال الزمخشري: فإن قلت: إذاً جواب وجزاء معاً، والكلام وقع جواباً لفرعون، فكيف وقع جزاء؟ قلت: قول فرعون: { وفعلت فعلتك } فيه معنى: إنك جازيت نعمتي بما فعلت؛ فقال له موسى: نعم فعلتها، مجازياً لك تسليماً لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. انتهى. وهذا الذي ذكره من أن إذاً جواب وجزاء معاً، هو قول سيبويه، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جواباً وجزاء معاً، وقد تكون جواباً فقط دون جزاء. فالمعنى اللازم لها هو الجواب، وقد يكون مع ذلك جزاء. وحملوا قوله: { فعلتها إذاً } من المواضع التي جاءت فيها جواباً لآخر، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجواباً، وهذا كله محرر فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح، ولا قول الأكثرين.

{ وأنا من الضالين }، قال ابن زيد: معناه من الجاهلين، بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه. وقال أبو عبيدة: من الناسين، ونزع لقوله: { { أن تضل إحداهما } [البقرة: 282]. وفي قراءة عبد الله، وابن عباس: وأنا من الجاهلين، ويظهر أنه تفسير للضالين، لا قراءة مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال الزمخشري: من الفاعلين فعل أولي الجهل، كما قال يوسف لإخوته: { { إذ أنتم جاهلون } [يوسف: 89] أو المخلصين، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل، أو الذاهبين عن تلك الصفة. انتهى. وقيل: من الضالين، يعني عن النبوة، ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس عليّ فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. ومن غريب ما شرح به أن معنى { وأنا من الضالين }، أي من المحبين لله، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله. قيل: والضلال يطلق ويراد به المحبة، كما في قوله: { { إنك لفي ضلالك القديم } [يوسف: 95] أي في محبتك القديمة. وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد أفرد في: تمنها وعبدت، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، وإنما منه ومن ملئه المذكورين قبل { أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون }، وهم كانوا قوماً يأتمرون لقتله. ألا ترى إلى قوله: { { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج } [القصص: 20]. وقرأ الجمهور: لما حرف وجوب لوجوب، على قول سيبويه، وظرفاً بمعنى حين، على مذهب الفارسي. وقرأ حمزة في رواية: لما بكسر اللام وتخفيف الميم، أي يخوفكم. وقرأ عيسى: حكماً بضم الكاف؛ والجمهور: بالإسكان. والحكم: النبوة. { وجعلني من المرسلين }: درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول. وقيل: الحكم: العلم والفهم.

{ وتلك نعمة تمنها عليّ }: وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: { ألم نر بك فينا وليداً }؛ وذكر بهذا آخراً على ما بدأ به فرعون في قوله: { ألم نر بك }. والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة، كأنه يقول: وتربيتك لي نعمة عليّ من حيث عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولداً، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي. وإلى هذا التأويل ذهب السدّي والطبري. وقال قتادة: هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة، كأنه يقول: أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك. وقرأ الضحاك: وتلك نعمة ما لك أن تمنها، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله. والقول الأول فيه إنصاف واعتراف. وقال الأخفش: والفراء: قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار، وحذفت لدلالة المعنى عليها، ورده النحاس بأنها لا تحذف، لأنها حرف يحدث معها معنى، إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئاً، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع أفعال الشك، وحكى: ترى زيداً منطلقاً، بمعنى: ألا ترى؟ وكان الأخفش الأصغر يقول: أخذه من ألفاظ العامة. وقال الضحاك: الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي، فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ علي بما لا يجب أن تمنّ به. وقيل: اتخاذك بني إسرائيل عبيداً أحبط نعمتك التي تمنّ بها. وقال الزمخشري: وأبي، يعني موسى عليه السلام، أن يسمي نعمته أن لا نعمة، حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت. وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيداً، يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبداً، قال الشاعر:

علام يعبدني قومي وقد كثرت فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان

فإن قلت: وتلك إشارة إلى ماذا؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها؛ ومحل أن عبدت الرفع، عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى: { { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } [الحجر: 66] والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في موضع نصب، المعنى أنها صارت نعمة عليّ، لأن عبدت بني إسرائيل، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم. انتهى. وقال الحوفي: { أن عبدت بني إسرائيل } في موضع نصب مفعول من أجله. وقال أبو البقاء: بدل، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين، لم يسأل إذ ذاك فيقول: { وما رب العالمين }؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي. فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل، وكان في قوله: { رسول رب العالمين } دعاء إلى الإقرار بربوبية الله، وإلى طاعة رب العالم، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده. والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة، وكان عالماً بالله. ويدل عليه: { { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } [الإسراء: 102] ولكنه تعامى عن ذلك طلباً للرياسة ودعوى الإلهية، واستفهم بما استفهاماً عن مجهول من الأشياء. قال مكي: كما يستفهم عن الأجناس، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن. انتهى. والموضع الآخر قوله: { { فمن ربكما يا موسى } [طه: 49] ولما سأله فرعون، وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية، ولم يمكن الجواب بالماهية، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها، وهي ربوبية السموات والأرض وما بينهما. وقال الزمخشري: وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، { { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]. وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشاً عن حقيقة الخاصة ما هي، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالاً بأفعاله الخاصة على ذلك؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون، ويدل عليه الكلام، أن كون سؤاله إنكاراً لأن يكون للعالمين رب سواه، ألا ترى أنه يعلم حدوثه بعد العدم؟ وأنه محل للحوادث؟ وأنه لم يدعّ الإلهية إلا في محل ملكه مصر؟ وأنه لم يكن ملك الأرض؟ بل كان فيها ملوك غيره، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام؟ وأنه كان مقراً بالله تعالى في باطن أمره؟ وجاء قوله: { وما بينهما } على التثنية، والعائد عليه الضمير مجموع اعتباراً للجنسين: جنس السماء، وجنس الأرض؛ كما ثنى المظهر في قوله:

بيـن رمـاحي مـالك ونهشـل

اعتباراً للجنسين: وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال: كان عالماً بالله ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة. وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله، وهو قوله: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء } الآية. ويحتمل أنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار، ثم اعتقد أنه بمنزلة إله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم. ويحتمل أن يقال: كان على مذهب الحلولية القائلين: بأن ذات الإله تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهاً. انتهى. ومعنى: { إن كنتم موقنين }: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح، نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفعكم؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله. وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد.

{ قال لمن حوله }: هم أشراف قومه. قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور، وكانت للملوك خاصة. { ألا تستمعون }: أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجباً، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم. قال ابن عطية: والفراعنة قبله كذلك، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية. انتهى. يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلهية، وأقاموا ملوكاً بمصر، من زمان المعز إلى زمان العاضد، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي الله عنه، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها: فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام، كان النصارى مستولين عليها، فاستنقذها منهم. { قال ربكم ورب آبائكم الأولين }: نبههم على منشئهم ومنشىء آبائهم، وجاء في قوله: الأولين، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم. وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلهية، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود، فمحال أن يكون وهو في العدم إلهاً لهم.

{ قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون }. قال أبو عبد الله الرازي: التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجود لذواتهم، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم، وعدمهم بعد وجودهم، فعند ذلك قال فرعون: ما قال يعني أن المقصود من سؤال ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فقال موسى عليه السلام: { رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون }: فعدل إلى طريق أوضح من الثاني، وذلك أنه أراد بالمشرق: طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب: غروب الشمس وزوال النهار.

وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة، وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله: { ربكم ورب آبائكم الأولين }، فأجابه نمروذ بقوله: { أنا أحيي وأميت } [البقرة: 258] فقال: { { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } [البقرة: 258] وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله: { رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون }: أي إن كنتم من العقلاء، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال ابن عطية: زاده موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها، وهي ربوبية المشرق والمغرب، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية. وقرأ مجاهد، وحميد، والأعرج: أرسل إليكم، على بناء الفاعل، أي أرسله ربه إليكم. وقرأ عبد الله، وأصحابه، والأعمش: رب المشارق والمغارب، على الجمع فيهما. ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج، رجع إلى الاستعلاء والغلب، وهذا أبين علامات الانقطاع، فتوعد موسى بالسجن حين أعياه خطابه: { قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين }. وقال الزمخشري: لما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه من جوابه، حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى قومه وظنن به، حيث سماه رسولهم، فلما ثلث احتد واحتدم، وقال: { لئن اتخذت إلهاً غيري }.

فإن قلت: كيف قال: أولاً: { إن كنتم موقنين }، وآخراً: { إن كنتم تعقلون }؟ قلت: لأين أولاً، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج، خاشن وعارض إن رسولكم لمجنون بقوله: { إن كنتم تعقلون }. فإن قلت: ألم يكن لأسجننك أخصر من { لأجعلنك من المسجونين } ومؤدّياً مؤدّاه؟ قلت: أما أخصر فنعم، وأما مؤدّياً مؤدّاه فلا، لأن معناه: لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً، لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أشد من القتل. انتهى. ولما كان عند موسى عليه السلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون، قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: { أو لو جئتك بشيء مبين }، أي يوضح لك صدقي، أفكنت تسجنني؟ قال الزمخشري: أو لو جئتك، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام، معناه: أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ انتهى. وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله: { { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } [البقرة: 170] فأغنى عن إعادته. وقال الحوفي: واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير، والمعنى: أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها؟.

ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له: { فأت به إن كنت من الصادقين }، إن لك رباً بعثك رسولاً إلينا. قال الزمخشري: وفي قوله: { إن كنت من الصادقين } دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة، والحكيم لا يصدق الكاذب. ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه مثل هذا، وخفي على ناس من أهل القبلة، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى. وتقديره: إن كنت من الصادقين فأت به، حذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه. وقدره الزمخشري: إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به. جعل الجواب المحذوف فعلاً ماضياً، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقولهم: أنت ظالم إن فعلت، تقديره: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وقال الحوفي: إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه، وجاز تقديم الجواب، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئاً. ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً تقديره فأت به. وقول الزمخشري: حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها. والمعجز عندهم هو ما كان خارقاً للعادة، ولا يكون إلا لنبي أو في زمان نبي، إن جرى على يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي، أو على سبيل الإرهاص لنبي.

{ فألقى عصاه }: رماها من يده، وتقدم الكلام على عصا موسى عليه السلام. والثعبان: أعظم ما يكون من الحيات. ومعنى { مبين }: ظاهر الثعبانية، ليست من الأشياء التي تزوّر بالشعبذة والسحر. { ونزع يده } من جيبه، { فإذا هي } تلألأ كأنها قطعة من الشمس. ومعنى { للناظرين }: أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضاً نورانياً. روي أنه لما أبصر أمر العصا قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده، فقال: ما هذه؟ قال: يدك، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.