التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ
٦٩
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ
٧٠
قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ
٧١
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ
٧٢
أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ
٧٣
قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
٧٤
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ
٧٥
أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ
٧٦
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
٧٧
ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ
٧٨
وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ
٧٩
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
٨٠
وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ
٨١
وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ
٨٢
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ
٨٣
وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ
٨٤
وَٱجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ
٨٥
وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ
٨٦
وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ
٨٧
يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ
٨٨
إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
٨٩
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
٩٠
وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ
٩١
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ
٩٢
مِن دُونِ ٱللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ
٩٣
فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُونَ
٩٤
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ
٩٥
قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ
٩٦
تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٩٧
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٩٨
وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ ٱلْمُجْرِمُونَ
٩٩
فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ
١٠٠
وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ
١٠١
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٠٢
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
١٠٣
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
١٠٤
-الشعراء

البحر المحيط

لما كانت العرب لها خصوصية بإبراهيم عليه السلام، أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم قصصه، وما جرى له مع قومه. ولم يأت في قصة من قصص هذه السورة أمره عليه السلام بتلاوة قصة إلا في هذه، وإذ: العامل فيه. قال الحوفي: أتل، ولا يتصور ما قال إلا بإخراجه عن الظرفية وجعله بدلاً من نبأ، واعتقاد أن العامل في البدل والمبدل منه واحد. وقال أبو البقاء: العامل في إذ نبأ. والظاهر أن الضمير في { وقومه } عائد على إبراهيم. وقيل: على أبيه، أي وقوم أبيه، كما قال: { { إني أراك وقومك في ضلال مبين } [الأنعام: 74]. وما: استفهام بمعنى التحقير والتقرير. وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا يعبدونه ليس مستحقاً للعبادة، لما ترتب على جوابهم من أوصاف معبوداتهم التي هي منافية للعبادة. ولما سألهم عن الذي يعبدونه، ولم يقتصروا على ذكره فقط، بل أجابوا بالفعل ومتعلقه وما عطف عليه من تمام صفتهم مع معبودهم، فقالوا: { نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين }: على سبيل الابتهاج والافتخار، فأتوا بقصتهم معهم كاملة، ولم يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم: أصناماً، كما جاء: { { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } [النحل: 30] { { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } [البقرة: 219] ولذلك عطفوا على ذلك الفعل قولهم: { فنظل }. قال: كما تقول لرئيس: ما تلبس؟ فقال: ألبس مطرف الخز فأجر ذيوله، يريد الجواب: وحاله مع ملبوسه. وقالوا: فنظل، لأنهم كانو يعبدونهم بالنهار دون الليل. ولما أجابوا إبراهيم، أخذ يوقفهم على قلة عقولهم، باستفهامه عن أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى.

وقرأ الجمهور: { يسمعونكم }، من سمع؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدّت إلى واحد، نحو: سمعت كلام زيد، وإن دخلت على غير مسموع، فمذهب الفارسي أنها تتعدى إلى اثنين، وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع، نحو: سمعت زيداً يقرأ. والصحيح أنها تتعدى إلى واحد، وذلك الفعل في موضع الحال، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. وهنا لم تدخل إلا على واحد، ولكنه ليس بمسموع، فتأولوه على حذف مضاف تقديره: هل يسمعونكم، تدعون؟ وقيل: { هل يسمعونكم } بمعنى: يجيبونكم. وقرأ قتادة، ويحيـى بن يعمر: بضم الياء وكسر الميم من أسمع، والمفعول الثاني محذوف تقديره: الجواب، أو الكلام. وإذ: ظرف لما مضى، فإما أن يتجاوز فيه فيكون بمعنى إذا، وإما أن يتجاوز في المضارع فيكون قد وقع موقع الماضي، فيكون التقدير: هل سمعوكم إذ دعوتم؟ وقد ذكر أصحابنا أن من قرائن صرف المضارع إلى الماضي إضافة إذ إلى جملة مصدرة بالمضارع، ومثلوا بقوله: { { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } [الأحزاب: 37] أي وإذ قلت. وقال الزمخشري: وجاء مضارعاً مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية التي كنتم تدعونهم فيها، وقولوا: هل سمعوا، أو اسمعوا قط؟ وهذا أبلغ في التبكيت. انتهى. وقرىء: بإظهار ذال إذ وبإدغامها في تاء تدعون. قال ابن عطية: ويجوز فيه قياس مذكر، ولم يقرأ به أحد؛ والقياس أن يكون اللفظ به، إذ تدعون. فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل، فكثرة المتماثلات. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه يجوز فيه قياس مذكر لا يجوز، لأن ذلك الإبدال، وهو إبدال التاء دالاً، لا يكون إلا في افتعل، مما فاؤه ذال أو زاي أو دال، نحو: إذدكر، وازدجر، وادهن، أصله: اذتكر، وازتجر، وادتهن؛ أو جيم شذوذ، قالوا: اجد مع في اجتمع، ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال، ومثلوا بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت: فزد، وفي جلدت: جلدّ، ومن تاء تولج شذوذاً قالوا: دولج، وتاء المضارعة ليست شيئاً مما ذكرنا، فلا تبدل تاءه. وقول ابن عطية: والذي منع من هذا اللفظ إلى آخره، يدل على أنه لولا ذلك لجاز إبدال تاء، المضارعة دالاً وإدغام الذال فيها، فكنت تقول: إذ تخرج: ادّخرج، وذلك لا يقوله أحد، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء، فتقول: اتخرج.

{ أو ينفعونكم بتقربكم إليهم ودعائكم إياهم. أو يضرون } بترك عبادتكم إياهم، فإذا لم ينفعوا ولم يضروا، فما معنى عبادتكم لها؟ { قالوا بل وجدنا } هذه حيدة عن جواب الاستفهام، لأنهم لو قالوا: يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا، فضحوا أنفسهم بالكذب الذي لا يمتري فيه، ولو قالوا: يسمعوننا ولا يضروننا، لسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض، فعدلوا إلى التقليد البحث لآبائهم في عبادتها من غير برهان ولا حجة. والكاف في موضع نصب بيفعلون، أي يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعل الذي يفعله، وهو عبادتهم؛ والحيدة عن الجواب من علامات انقطاع الحجة. وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعاً وإقراراً بالعجز.

{ وآباؤكم الأقدمون }: وصفهم بالأقدمين دلالة على ما تقادم عبادة الأصنام فيهم، وإذ كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليه السلام، فزمان من بعده؟ وعدو: يكون للمفرد والجمع، كما قال: { { هم العدو فاحذرهم } [المنافقون: 4] قيل: شبه بالمصدر، كالقبول والولوع. قال الزمخشري: وإنما قال: { عدو لي }، تصوراً للمسألة في نفسه على معنى: أي فكرت في أمري، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولاً، وبنى عليها تدبير أمره، لينظروا ويقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه، ليكون أدنى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال: فإنه عدو لكم، لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنصوح. ما لا يبلغ التصريح، لأنه ربما يتأمل فيه، فربما قاده التأميل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله عنه، أن رجلاً واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب؛ وسمع رجل ناساً يتحدثون عن الحجر فقال: ما هو بيتي ولا بيتكم. انتهى. وهو كلام فيه تكثير على عادته، وذهاب من ذهب إلى أن قوله: { فإنهم عدو لي }، من المقلوب والأصل: فإني عدو لهم، لأن الأصنام لا تعادي لكونها جماداً، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. ألا ترى إلى قوله: { { كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً } [مريم: 82]، فهذا معنى العداوة، ولأن المغري على عداوتها عدو الإنسان، وهو الشيطان. وقيل: لأنه تعالى يحيـي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا من عبدتهم ويوبخوهم. وقيل: هو على حذف، أي: فإن عبادهم عدو لي. والظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير. وقال الجرجاني: تقديره: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين، فإنهم عدو لي، وإلا: بمعنى دون وسوى. انتهى. فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون، ولا حاجة إلى هذا التقدير لصحة أن يكون مستثنى من قوله: { فإنهم عدو لي }. وجعله جماعة منهم الفراء، واتبعه الزمخشري استثناء منقطعاً، أي لكن رب العالمين، لأنهم فهموا من قوله: ما كنتم تعبدون أنهم الأصنام. وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلاً على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله، وأجازوا في { الذي خلقني } النصب على الصفة لرب العالمين، أو بإضمار، أعني: والرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون { الذي خلقني } رفعاً بالابتداء، { فهو يهدين }: ابتداء وخبر في موضع الخبر عن الذي، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط. انتهى. وليس الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص، ولا يتخيل فيه العموم، فليس نظير: الذي يأتيني فله درهم، وأيضاً ليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى إبراهيم.

وتابع أبو البقاء الحوفي في إعرابه هذا، لكنه لم يقل: ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط. فإن كان أراد ذلك، فليس بجيد لما ذكرناه، وإن لم يرده، فلا يجوز ذلك إلا على زيادة الفاء، على مذهب الأخفش في نحو: زيد فاضربه؛ الذي خلقني بقدرته فهو يهدين إلى طاعته. وقيل: إلى جنته. وقال الزمخشري: فهو يهدين، يريد أنه حين أتم خلقه، ونفخ فيه الروح عقب هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى ما يصلحه ويعينه، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصاً؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة؟ وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الإرتضاع؟ إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد. انتهى. والظاهر أن قوله: { يطعمني ويسقين }: الطعام المعروف المعهود، والسقي المعهود، وفيه تعديد نعمة الرزق. وقال أبو بكر الوراق: يطعمني بلا طعام، ويسقيني بلا شراب، كما جاء أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو، فلم يكن التركيب الذي هو خلقني، ولما كانت الهداية قد يمكن ادعاؤها. والإطعام والسقي كذلك أكد بهو في قوله: { فهو يهدين والذي هو يطعمني }، وذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة ويستمر به نظام الخلق، وهو الغذاء والشرب. ولما كان ذلك سبباً لغلبة إحدى الكيفيات على الأخرى بزيادة الغذاء أو نقصانه، فيحدث بذلك مرض ذكر نعمته، بإزالة ما حدث من السقم، وأضاف المرض إلى نفسه، ولم يأت التركيب: وإذا أمرضني، وإن كان تعالى هو الفاعل لذلك وإبراهيم عليه السلام عدد نعم الله تعالى عليه والشفاء محبوب والمرض مكروه. ولما لم يكن المرض منها، لم يضفه إلى الله. وعن جعفر الصادق، ولعله لا يصح: وإذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة. وقال الزمخشري: وإنما قال: مرضت دون أمرضني، لأن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قال الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم، ولما كان الشفاء قد يعزى إلى الطيب، وإلى الدواء على سبيل المجاز؛ كما قال: { { فيه شفاء للناس } [النحل: 69] أكد بقوله: { فهو يشفين }: أي الذي هو يهدين ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره.

ولما كانت الإماتة بعد البعث، لا يمكن إسنادها إلا إلى الله، لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ الإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة، وكذلك لم يحتج إلى تأكيد في: { والذي أطمع }. وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني وما بعده، وهي رواية عن نافع. والطمع عبارة عن الرجاء، وإبراهيم عليه السلام كان جازماً بالمغفرة. فقال الزمخشري: لم يجزم القول بالمغفرة، وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفاً بهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. انتهى. ورده الرازي قال: لأن حاصله يرجع إلى أنه، ونطق بكلمة لا أذكرها، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة، وهو باطل قطعاً. وقال الجبائي: أراد به سائر المؤمنين، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون. ورده الرازي بأن جعل كلام الواحد من كلام غيره، مما يبطل نظم الكلام. وقال الحسن: المراد بالطمع اليقين. وقال الرازي: لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا، حيث قلنا: إنه لا يجب على الله شيء، وإنه يحسن منه كل شيء، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله. وقال ابن عطية: أوقف عليه الصلاة والسلام نفسه على الطمع في المغفرة، وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته.

وقرأ الجمهور: { خطيئتي } على الإفراد، والحسن: خطاياي على الجمع، وذهب الأكثرون إلى أنها قوله: { { إني سقيم } [الصافات: 89] و { { بل فعله كبيرهم } [الأنبياء: 63] وهي أختي في سارة. وقالت فرقة: أراد بالخطيئة اسم الجنس، قدرها في كل أمره من غير تعيين. قال ابن عطية: وهذا أظهر عندي، لأن تلك الثلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعاريض. وقال الزمخشري: المراد ما يندر منه في بعض الصغائر، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين، وهي قوله وذكر الثلاثة ثم قال وما هي إلا معاريض، كلام وتخيلات للكفرة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت: إذا لم يندر منهم إلا الصغائر، وهي تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا، وطمع أن يغفر له؟ قلت: الجواب ما سبق، أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله: اطمع، ولم يجزم القول. انتهى. و{ يوم الدين }: ظرف، والعامل فيه يغفر، والغفران، وإن كان في الدنيا، فأثره لا يتبين إلا يوم الجزاء، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى. وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئة على تلك الثلاث، لأن نسبة ما لا يطابق إلى إبراهيم غير جائز، وحمله على سبيل التواضع قال: لأنه إن طابق في هذا الموضع زال الإشكال، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به، لأجل تنزيهه عن المعصية. قال: والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى خطأ. فإن من باع جوهرة تساوي ألفاً بدينار، قيل: أخطأ، وترك الأولى على الأنبياء جائز. انتهى، وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة.

وقدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله تعالى، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي طلبته ومسألته، ثم سأله تعالى فقال: { رب هب لي حكماً }، فدل على أن تقديم الثناء على المسألة من المهمات. والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق. وقيل: الحكم: الحكمة والنبوة، لأنها حاصلة تلو طلب النبوة، لأن النبي ذو حكمة وذو حكم بين الناس. وقال أبو عبد الله الرازي: لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأنها حاصلة، فلو طلب النبوة لكانت مطلوبة، إما عين الحاصلة أو غيرها. والأول محال، لأن تحصيل الحاصل محال، والثاني محال، لأنه يمنع أن يكون الشخص الواحد نبياً مرتين، بل المراد من الحكم ما هو كمال النبوة العملية، وذلك بأن يكون عالماً بالخير لأجل العمل به. انتهى. وقال ابن عطية: وقد فسر الحكم بالحكمة والنبوة، قال: ودعاؤه عليه السلام في مثل هذا هو في التثبت والدوام. وإلحاقه بالصالحين: توفيقه لعمل ينتظمه في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة. وقد أجابه تعالى حيث قال: { { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } } [البقرة: 130].

قال أبو عبد الله الرازي: وإنما قدّم قوله: { هب لي حكماً } على قوله: { وألحقني بالصالحين }، لأن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية، لأنه يمكنه أن يعلم الحق، وإن لم يعمل به، وعكسه غير ممكن، لأن العلم صفة الروح، والعمل صفة البدن، وكما أن الروح أشرف من البدن، كذلك العلم أفضل من الإصلاح. انتهى. ولسان الصدق، قال ابن عطية: هو الثناء وتخليد المكانة بإجماع من المفسرين. وكذلك أجاب الله دعوته، فكل ملة تتمسك به وتعظمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. قال مكي: وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، فأجيبت الدعوة في محمد عليه السلام، وهذا معنى حسن، إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ. انتهى. ولما طلب سعادة الدنيا، طلب سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث، لأنه الذي يقسم في الدنيا شبه غنيمة الدنيا بغنيمة الآخرة، وقال تعالى: { { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً } [مريم: 63].

ولما فرغ من مطالب الدنيا والآخرة لنفسه، طلب لأشد الناس التصاقاً به، وهو أصله الذي كان ناشئاً عنه، وهو أبوه، فقال: { واغفر لأبي }، وطلبه المغفرة مشروط بالإسلام، وطلب المشروط يتضمن طلب الشرط، فحاصله أنه دعا بالإسلام. وكان وعده ذلك يوضحه قوله: { { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو } [التوبة: 114] أي الموافاة على الكفر تبرأ منه. وقيل: كان قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً، تقية وخوفاً، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، ولذلك قال في دعائه: { واغفر لأبي إنه كان من الضالين }. فلولا اعتقاده أنه في الحال ليس بضال ما قال ذلك. { ولا تخزني }: إما من الخزي، وهو الهوان، وإما من الخزاية، وهي الحياء. والضمير في { يبعثون } ضمير العباد، لأنه معلوم، أو ضمير { الضالين }، ويكون من جملة الاستغفار، لأنه يكون المعنى: يوم يبعث الضالون. وأتى فيهم: { يوم لا ينفع } بدل من: { يوم يبعثون }. { مال ولا بنون }: أي كما ينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه. وقيل: المراد بالبنين جميع الأعوان. وقيل: المعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها، فقصد من ذلك الذكر العظيم والأكثر، لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا. والظاهر أن الاستثناء منقطع، أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه. قال الزمخشري: ولك أن تجعل الاستثناء منقطعاً، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف، وهو الحال المراد بها السلامة، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى. انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى حذف مضاف، كما ذكر، إذ قدرناه، لكن { من أتى الله بقلب سليم } ينفعه ذلك، وقد جعله الزمخشري في أول توجيهه متصلاً بتأويل قال: إلا من أتى الله: لا حال من أتى الله بقلب سليم، وهو من قوله:

تحيــة بينهــم ضــرب وجيــع

وما ثوابه إلا السيف، ومثاله أن يقال: هل لزيد مال وبنون؟ فيقول: ماله وبنوه سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. انتهى. وجعله بعضهم استثناء مفرغاً، فمن مفعول، والتقدير: لا ينفع مال ولا بنون أحداً إلا من أتى الله بقلب سليم، فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر، وبنوه الصلحاء، إذ كان أنفقه في طاعة الله، وأرشد بنيه إلى الدين، وعلمهم الشرائع وسلامة القلب، خلوصه من الشرك والمعاصي، وعلق الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين. وقال سفيان: هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره، وهذا يقتضي عمومه اللفظ، ولكن السليم من الشرك هو الأعم. وقال الجنيد: بقلب لديغ من خشية الله، والسليم: اللديغ. وقال الزمخشري: هو من بدع التفاسير وصدق.

{ وأزلفت الجنة }: قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها. { وبرزت الحجيم }: أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم كقوله: { { فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله } [الملك: 27] وذلك على سبيل التوبيخ. هل ينفعونكم بنصرهم إياكم، أو ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها، إذ هم وأنتم وقود النار؟ وقرأ الأعمش: فبرزت بالفاء، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه، وذلك لأن الواو للجمع، فيمكن أن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر، وهو من تقديم الرحمة على العذاب، وهو حسن، لولا أن رسم المصحف بالواو. وقرأ مالك بن دينار: { وبرزت } بالفتح والتخفيف؛ { الجحيم } بالرفع، بإسناد الفعل إليها اتساعاً. ولما وبخهم وقرعهم، أخبر عن حال يوم القيامة، وجيء في ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت. وقيل: { فكبكبوا }، لتحقق وقوع ذلك، وإن كان لم يقع. والضمير في: فكبكبوا عائد على الأصنام، أجريت مجرى من يعقل. قال الكرماني: فكبكبوا: قذفوا فيها. وقيل: جمعوا. وقيل: هدروا. وقيل: نكسوا على رؤوسهم يموج بعضهم في بعض. وقيل: ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى يستقروا في قعرها. { والغاوون }: هم الكفرة الذين شملتهم الغواية. وقيل: الضمير يعود على الكفار، والغاوون: الشياطين. { وجنود إبليس }: قبيلة، وكل من تبعه فهو جند له وعون. وقال السدّي: هم مشركو العرب، والغاوون: سائر المشركين. وقيل: هم القادة والسفلة، قالوا: أي عباد الأصنام، والجملة بعده حال، والمقول جملة القسم ومتعلقه، والخطاب في { نسويكم } للأصنام على جهة الإقرار والاعتراف بالحق. قال ابن عطية: أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى، الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم. انتهى. وقوله: إن كنا إلا ضالين، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح، وإن أراد أن إن هنا نافية، واللام في لفي بمعنى إلا، فليس مذهب البصريين، وإنما هو مذهب الكوفيين. ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي المخففة من الثقيلة، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة.

{ وما أضلنا إلا المجرمون }: أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم: { { أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } [الأحزاب: 67]. وقال السدي: هم الأولون الذين اقتدوا بهم. وقيل: المجرمون: الشياطين، وقيل: من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس. وقال ابن جريج: إبليس وابن آدم القاتل، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي. وحين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان، وشفاعة الصديق في صديقه خاصة، قالوا على جهة التلهف والتأسف، { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم }. وقال ابن جريج: شافعين من الملائكة وصديق من الناس. ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانة عند المشفوع عنده، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة ونصرة، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ونفي الشفعاء. والصديق يحتمل أن يكون نفياً لوجودهم إذ ذاك، وهم موجودون للمؤمنين، إذ تشفع الملائكة وتتصادق المؤمنون، كما قال: { { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين } [الزخرف: 67]، أو ذلك على حسب اعتقادهم في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله، وأن لهم أصدقاء من الإنس والشياطين، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع، لأن ما لا ينفع، حكمه حكم المعدوم، فصار المعنى: فما لنا من نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء، وجمع الشفعاء لكثرتهم في العادة. ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع في ورطة من لا يعرفه، وأفرد الصديق لقلته، وأريد به الجمع؟ إذ يقال: هم صديق، أي أصدقاء، كما يقال: هم عدو، أي أعداء. والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني، وفنكون الجواب، كأنه قيل: يا ليت لنا كرة فنكون. وقيل: هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره، فيكون قوله: { فنكون } معطوفاً على كرة، أي فكونا من المؤمنين، وجواب لو محذوف، أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء، أو لخلصنا من العذاب. والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول إبراهيم، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من حال قومه.

وقال ابن عطية: وهذه الآيات من قوله: { يوم لا ينفع مال ولا بنون } هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام، وهي إخبار من الله عز وجل، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه. انتهى. وكان ابن عطية قد أعرب { يوم لا ينفع } بدلاً من { يوم يبعثون }، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام، وجعل بعضه من كلام إبراهيم، وبعضه من كلام الله، لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخر من لفظ الأول، أو الأول. وعلى كلا التقديرين، لا يصح أن يكون من كلام الله، إذ يصير التقدير: ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون. والإشارة بقوله { إن في ذلك لآية } إلى قصة إبراهيم عليه السلام ومحاورته لقومه. { وما كان أكثرهم }: أي أكثر قوم إبراهيم. بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه إياه عليه السلام.