التفاسير

< >
عرض

لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
١٢٨
وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٢٩
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ أَضْعَٰفاً مُّضَٰعَفَةً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٣٠
وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
١٣١
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
١٣٢
-آل عمران

البحر المحيط

{ ليس لك من الأمر شيء } اختلف في سبب النزول وملخصه: أنه لعن ناساً أو شخصاً عين أنه عتبة بن أبي وقاص، أو أشخاصاً دعا عليهم وعينوا: أبا سفيان، والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية. أو قبائل عين منها: لحيان، ورعل، وذكوان، وعصية. أو هم بسبب الذين انهزموا يوم أحد، أو استأذن ربه أن يدعو. ودعا يوم أحد حين شجَّ في وجهه، وكسرت رباعيته، ورمي بالحجارة، حتى صرع لجنبه، فلحقه ناس من فلاحهم، ومال إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم، فنزلت. فعلى هذه الأسباب يكون معنى الآية: التوقيف على أن جميع الأمور إنما هي لله، فيدخل فيها هداية هؤلاء وإقرارهم على حالة. وفي خطابه: دليل على صدور أمر منه أو هم به، أو استئذان في الدعاء كما تقدّم ذكره، وأن عواقب الأمور بيد الله. قال الكوفيون: نسخت هذه الآية القنوت على رعل وذكوان وعصية وغيرهم من المشركين. وقال السخاوي: ليس هذا شرط الناسخ، لأنه لم ينسخ قرآناً.

{ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } قيل: هو عطف على ما قبله من الأفعال المنصوبة. ويكون قوله: ليس لك من الأمر شيء جملة اعتراضية، والمعنى: أن الله مالك أمرهم، فإما أنْ يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل: أن مضمرة بعد أو، بمعنى: إلا أن، وهي التي في قولهم: لألزمنك أو تقضيني حقي، والمعنى: أنه ليس له من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم بالإسلام فيسر بهداهم، أو يعذبهم بقتل وأسر في الدنيا، أو بنار في الآخرة، فيستشفى بذلك ويستريح. وعلى هذا التأويل تكون الجملة المنفية للتأسيس، لا للتأكيد. وقيل: أو يتوب معطوف على الأمر. وقيل: على شيء. أي: ليس لك من الأمر، أو من توبتهم، أو تعذيبهم شيء. أو ليس لك من الأمر شيء أو توبتهم. والظاهر من هذه التخاريج الأربعة هو الأول. وأبعد من ذهب إلى أن قوله: ليس لك من الأمر، أي أمر الطائفتين اللتين همتا أن تفشلا.

وقال ابن بحر: من الأمر أي، من هذا النصر، وإنما هو من الله كما قال: { { وما رميت إذ رميت } [الأَنفال: 17] وقيل: المراد بالأمر أمر القتال. والظاهر الحمل على العموم، والأمور كلها لله تعالى.

وقرأ أبي: أو يتوب عليهم أو يعذبهم برفعهما على معنى: أو هو يتوب عليهم، ثم نبه على العلة المقتضية للتعذيب بقوله: فإنهم ظالمون، وأتى بأنْ الدالة على التأكيد في نسبة الظلم إليهم.

{ ولله ما في السموات وما في الأرض } لمّا قدم ليس لك من الأمر شيء، بيَّن أن الأمور إنما هي لمن له الملك، والملك فجاء بهذه الجملة مؤكدة للجملة السابقة. وتقدم شرح هذه الجملة. وما: إشارة إلى جملة العالم وما هيأته، فلذلك حسنت ما هنا.

{ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } لما تقدّم قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم، أتى بهذه الجملة موضحةً أن تصرفاته تعالى على وفق مشيئته، وناسب البداءة بالغفران، والإرداف بالعذاب ما تقدم من قوله: { أو يتوب عليهم أو يعذبهم }، ولم يشرط في الغفران هنا التوبة. إذ يغفر تعالى لمن يشاء من تائب وغير تائب، ما عدا ما استثناه تعالى من الشرك. وقال الزمخشري ما نصه عن الحسنرحمه الله : يغفر لمن يشاء بالتوبة، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين. ويعذب من يشاء، ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب. وعن عطاء: يغفر لمن يتوب إليه، ويعذب من لقيه ظالماً وأتباعه قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، تفسير بين لمن يشاء، فإنهم المتوب عليهم أو الظالمون. ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن آيات الله تعالى، فيخبطون خبط عشواء، ويطيبون أنفسهم بما يفترون. عن ابن عباس من قولهم: يهب الذنب الكبير لمن يشاء، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير. انتهى كلامه. وهو مذهب المعتزلة. وذلك أن من مات مصراً على كبيرة لا يغفر الله له. وما ذكره عن الحسن لا يصح ألبتّة. ومذهب أهل السنة؛ أنّ الله تعالى يغفر لمن يشاء وإنْ مات مصرًّا على كبيرة غير تائب منها.

{ والله غفور رحيم } في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } قال ابن عطية: هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد، ولا أحفظ شيئاً في ذلك مروياً انتهى.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة: أنّه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم، واستطرد لذكر قصة أحد. وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين، وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار، نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا قطعاً لمخالطة الكفار ومودّتهم، واتخاذ إخلاء منهم، لا سيما والمؤمنون في أول حال الإسلام ذوو إعسار، والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار. وكان أيضاً أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية، كما جاء في الحديث: "إن الله تعالى لا يستجيب لمن مطعمه حرام ومشربه حرام إذا دعا" "وأن آكل الحرام يقول إذا حج: لبيك وسعديك. فيقول الله له: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك" فناسب ذكر هذه الآية هنا.

وقيل: ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والإمداد مقروناً بالصبر والتقوى، فبدأ بالأهم منها وهو: ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل، وأمر بالتقوى، ثم بالطاعة. وقيل: لما قال تعالى:{ ولله ما في السموات وما في الأرض } وبيّن أنّ ما فيهما من الموجودات ملك له، ولا يجوز أنْ يتصرّف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه. وآكلُ الربا متصرّف في ماله بغير الوجه الذي أمر، نبَّه تعالى على ذلك، ونهى عما كانوا في الإسلام مستمرّين عليه من حكم الجاهلية، وقد تقدم الربا في سورة البقرة.

وانتصب أضعافاً، فانهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها، كان الطالب يقول: أتقضي أم تربي، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين، لأنه إذا لم يجد وفاء زاد في الدين، وزاد في الأصل. وأشار بقوله: مضاعفة، إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاماً بعد عام. والربا محرم جميع أنواعه، فهذه الحال لا مفهوم لها، وليست قيداً في النهي، إذ ما لا يقع أضعافاً مضاعفة مساوٍ في التحريم لما كان أضعافاً مضاعفة. وقد تقدم الكلام في نسبة الآكل إلى الربا في البقرة.

وقيل: المضاعفة منصرفة إلى الأموال. فإن كان الربا في السن يرفعونها ابنة مخاض بابنة لبون، ثم حقة، ثم جذعة، ثم رباع، هكذا إلى فوق. وإن كان في النقود فمائة إلى قابل بمائتين، فإن لم يوفهما فأربعمائة. والأضعاف: جمع ضعف، وهو من جموع القلة. فلذلك أردفه بالمضاعفة. { واتقوا الله لعلكم تفلحون } لما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا، أمر بتقوى الله إذ هي الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهى الشرع عنه. ثم ذكر أنّ التقوى سبب لرجاء الفلاح وهو الفوز، وأمر بها مطلقاً لا مقيداً بفعل الربا، لأنه لما نهى عن الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية الله تعالى، فلم يأت واتقوا الله في أكل الربا بل أمروا بالتقوى، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة. { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } لما تقدم "واتقوا الله" والذوات لا تتقى، فإنما المتقي محذوف أوضحه في هذه الآية. فقال: واتقوا النار. والألف واللام في النار للجنس، فيجوز أن تكون النار التي وعد بها آكل الربا أخف من نار الكافر، أي أعدّ جنسها للكافرين. ويجوز أنّ تكون للعهد، فيكون آكل الربا قد توعد بالنار التي يعذب بها الكافر. وقيل: توعد أكلة الربا بنارالكفرة، إذ النار سبع طبقات: العليا منها وهي جهنم للعصاة، والخمس للكفار، والدرك الأسفل للمنافقين. فأكلة الربا يعذبون بنار الكفار، لا بنار العصاة. وقال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا.

وقال الزجاج: والمعنى واتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا. وقيل: اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان وتستوجبون به النار. وكان أبو حنيفة يقول: هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب محارمه. قال الزمخشري: وقد أمد ذلك أتبعه من تعليق رجاء المؤمن لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله، ومن تأمل هذه الآيات وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة، والتمني على الله تعالى. وفي ذكره تعالى لعل وعسى في نحو هذه المواضع، وإن قال الناس ما قالوا ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى، وصعوبة إصابة رضا الله عز وجل، وعزّة التوصل إلى رحمته وثوابه انتهى. كلامه وهو جار على مذهبه من تقنيط العاصي غير التائب من رحمة ربه، وولوعه بمذهبه يجعله يحمل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله، أو ما هو بعيد عنها. وتقدم شرح أعدت للكافرين في أوائل البقرة.

{ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } قيل: أطيعوا الله في الفرائض، والرسول في السنن. وقيل: في تحريم الربا، والرسول فيما بلغكم من التحريم. وقيل: وأطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به وينهاكم عنه. فإن طاعة الرسول طاعة الله قال تعالى: { { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [النساء: 80] وقال المهدوي: ذكر الرسول زيادة في التبيين والتأكيد والتعريف بأن طاعته طاعة الله. وقال ابن إسحاق: هذه الآية هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد، وانهزام من فرَّ، وزوال الرماة من مركزهم. وقيل: صيغتها الأمر ومعناها العتب على المؤمنين فيما جرى منهم من أكل الربا، والمخالفة يوم أحد. والرحمة من الله إرادة الخير لعبيده، أو ثوابهم على أعمالهم.

وقد تضمنت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبديع. من ذلك العام المراد به الخاص: في من أهلك، قال الجمهور: أراد به بيت عائشة. فالاختصاص في: والله سميع عليم، وفي: فليتوكل المؤمنون، وفي: ما في السموات وما في الأرض، وفي: يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء خص نفسه بذلك كقوله: { { ومن يغفر الذنوب إلا الله } [آل عمران: 135] { { نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } [الحجر: 49] وفي { العزيز الحكيم } لأن العز من ثمرات النصر، والتدبير الحسن من ثمرات الحكمة.

والتشبيه: في ليقطع طرفاً، شبه من قتل منهم وتفرّق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه وانخرم نظامه، وفي: ولتطمئن قلوبكم شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه باطمئنان الرّجل الساكن الحركة. وفي: فينقلبوا خائبين شبه رجوعهم بلا ظفر ولا غنيمة بمن أمل خيراً من رجل فأمّه، فأخفق أمله وقصده. والطباق: في نصركم وأنتم أذلة، النصر إعزاز وهو ضد الذل. وفي: يغفر ويعذب، الغفران ترك المؤاخذة والتعذيب المؤاخذة بالذنب. والتجوز بإطلاق التثنية على الجمع في: أن يفشلا. وبإقامة اللام مقام إلى في: ليس لك أي إليك، أو مقام على: أي ليس عليك. والحذف والاعتراض في مواضع اقتضت ذلك والتجنيس المماثل في: أضعافاً مضاعفة. وتسمية الشيء بما يؤول إليه في: لا تأكلوا سمَّى الأخذ أكلاً، لأنه يؤول إليه.