التفاسير

< >
عرض

وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا
١
فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً
٢
فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ذِكْراً
٣
إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ
٤
رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَارِقِ
٥
إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ
٦
وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ
٧
لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ
٨
دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ
٩
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
١٠
-الصافات

البحر المحيط

هذه السورة مكية، ومناسبة أولها لآخر يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى، وأنه هو منشئهم، وإذا تعلقت إرادته بشيء، كان ذكر تعالى وحدانيته، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجوداً وعدماً إلا بكون المريد واحداً، وتقدم الكلام على ذلك في قوله: { { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأَنبياء: 22].

وأقسم تعالى بأشياء من مخلوقاته فقال: { والصافات }. قال ابن مسعود، وقتادة، ومسروق: هم الملائكة، تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً؛ وقيل: تصف أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله. وقيل: من يصف من بني آدم في قتال في سبيل الله، أو في صلاة وطاعة. وقيل: والطير صافات. والزاجرات، قال مجاهد، والسدي: الملائكة تزجر السحاب وغيرها من مخلوقات الله تعالى. وقال قتادة: آيات القرآن لتضمنه النواهي الشرعية؛ وقيل: كل ما زجر عن معاصي الله. والتاليات: القارئات. قال مجاهد: الملائكة يتلون ذكره. وقال قتادة: بنو آدم يتلون كلامه المنزل وتسبيحه وتكبيره. وقال مجاهد: الملائكة يتلون ذكره. قال الزمخشري: ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات، فالزاجرات بالموعظة والنصائح، فالتاليات آيات الله، والدارسات شرائعه؛ أو بنفوس قراء القرآن في سبيل الله التي تصف الصفوف، وتزجر الخيل للجهاد، وتتلوا الذكر مع ذلك لا يشغلها عنه تلك الشواغل. انتهى. وقال ما معناه: إن الفاء العاطفة في الصافات، إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله:

يا لهف زيابة للحارث الصا بح، فالغانم، فالآيب

أي الذي صبح فغنم فآب؛ وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأفضل، واعمل الأحسن فالأجمل؛ وإما على ترتيب موصوفاتها في ذلك، كقولك: رحم الله المحلقين فالمقصرين. فأما هنا، فإن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتيب الصافات في التفاضل، فإذا كان الموحد الملائكة، فيكون الفضل للصف، ثم الزجر، ثم التلاوة؛ وإما على العكس، وإن تليت الموصوف، فترتب في الفضل، فتكون الصافات ذوات فضل، والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلاً، أو على العكس. انتهى. ومعنى العكس في المكانين: أنك ترتقي من أفضل إلى فاضل إلى مفضول؛ أو تبدأ بالأدنى، ثم بالفاضل، ثم بالأفضل. وأدغم ابن مسعود، ومسروق، والأعمش، وأبو عمرو، وحمزة: التاآت الثلاثة. والجملة المقسم عليها تضمنت وحدانيته تعالى، أي هو واحد من جميع الجهات التي ينظر فيها المتفكرون خبر بعد خبر، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار، أو خبر مبتدأ محذوف، وهو أمدح، أي هو رب.

وذكر المشارق لأنها مطالع الأنوار، والإبصار بها أكلف، وذكرها يغني عن ذكر المغارب، إذ ذاك مفهوم من المشارق، والمشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً، وكذلك المغارب. تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. وثني في { { رب المشرقين ورب المغربين } [الرحمن: 17]، باعتبار مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وقال ابن عطية: أراد تعالى مشارق الشمس ومغاربها، وهي مائة وثمانون في السنة، فيما يزعمون، من أطول أيام السنة إلى أقصرها.

ثم أخبر تعالى عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، وانتظام التزيين أن جعلها حفظاً وحذراً من الشيطان. انتهى. والزينة مصدر كالسنة، واسم لما يزان به الشيء، كالليقة اسم لما يلاق به الدواة. وقرأ الجمهور: { بزينة الكواكب } بالإضافة، فاحتمل المصدر مضافاً للفاعل، أي بأن زانت السماء الكواكب، ومضافاً للمفعول، أي بأن زين الله الكواكب. واحتمل أن يكون ما يزان به، والكواكب بيان للزينة، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به، أو مما زينت الكواكب من إضاءتها وثبوتها. وقرأ ابن مسعود، ومسروق: بخلاف عنه؛ وأبو زرعة، وابن وثاب، وطلحة: بزينة منوناً، الكواكب بالخفض بدلاً من زينة. وقرأ ابن وثاب، ومسروق: بخلاف عنهما؛ والأعمش، وطلحة، وأبو بكر: بزينه منوناً، الكواكب نصباً، فاحتمل أن يكون بزينة مصدراً، والكواكب مفعول به، كقوله: { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً } [البلد: 14]. واحتمل أن يكون الكواكب بدلاً من السماء، أي زينا كواكب السماء. وقرأ زيد بن علي بتنوين زينة، ورفع الكواكب على خبر مبتدأ، أي هو الكواكب، أو على الفاعلية بالمصدر، أي بأن زينت الكواكب. ورفع الفاعل بالمصدر المنون، زعم الفراء أنه ليس بمسموع، وأجاز البصريون ذلك على قلة. وقال ابن عباس: { بزينة الكواكب }: بضوء الكواكب؛ قيل: ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة، كشكل الثريا، وبنات نعش، والجوزاء، وغير ذلك، ومطالعها ومسايرها. وخص { السماء الدنيا } بالذكر، لأنها التي تشاهد بالأبصار؛ والحفظ من الشياطين، إنما هو فيها وحدها. وانتصب { وحفظاً } على المصدر، أي وحفظناها حفظاً، أو على المفعول من أجله على زيادة الواو، أو على تأخير العامل، أي ولحفظها زيناها بالكواكب، وحملاً على معنى ما تقدم، لأن المعنى: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً: وكل هذه الأقوال منقولة، والمارد تقدم شرحه في قوله: { شيطاناً مريداً } [النساء: 117] في النساء، وهناك جاء { مريداً }، وهنا { مارد }، مراعاة للفواصل.

{ لا يسمعون إلا الملأ الأعلى }: كلام منقطع مبتدأ اقتصاصاً لما عليه حال المسترقة للسمع، وأنهم لا يقدرون أن يستمعوا أو يسمعوا، وهم مقذوفون بالشهب مبعدون عن ذلك، إلا من أمهل حتى خطف الخطفة واسترق استراقة، فعندها تعاجله الملائكة باتباع الشهاب الثاقب. ولا يجوز أن يكون لا يسمعون صفة ولا استئنافاً جواباً لسائل سأل لم يحفظ من الشياطين، لأن الوصف كونهم لا يسمعون، أو الجواب لا معنى للحفظ من الشياطين على تقديرهما، إذ يصير المعنى مع الوصف: وحفظاً من كل شيطان مارد غير سامع أو مسمع، وكذلك لا يستقيم مع كونه جواباً. وقول من قال: إن الأصل لأن لا يسمعوا، فحذفت اللام وإن، فارتفع الفعل، قول متعسف يصان كلام الله عنه. وقرأ الجمهور: لا يسمعون: نفي سماعهم، وإن كانوا يسمعون بقوله: { { إنهم عن السمع لمعزولون } [الشعراء: 212]، وعداه بإلى لتضمنه معنى الإصغاء. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه؛ وابن وثاب، وعبد الله بن مسلم، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص: بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون، أدغمت التاء في السين، وتقتضي نفي التسمع. وظاهر الأحاديث أنهم يتسمعون حتى الآن، لكنهم لا يسمعون؛ وإن سمع أحد منهم شيئاً لم يفلت حرساً وشهباً من وقت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الرجم في الجاهلية أحق، فأما كانت ثمرة التسمع هو السمع، وقد انتفى السمع بنفي التسمع في هذه القراءة لانتفاء ثمرته، وهو السمع. و{ الملأ الأعلى } يعم الملائكة، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض. وقال ابن عباس: هم أشراف الملائكة، وعنه كتابهم.

{ ويقذفون }: يرمون ويرجمون، { من كل جانب }: أي من كل جهة يصعدون إلى السماء منها، والمرجوم بها هي التي يراها الناس تنقض، وليست بالكواكب الجارية في السماء، لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا، قاله مكي والنقاش. وقرأ محبوب عن ابن عمرو: ويقذفون مبنياً للفاعل، ودحوراً مصدر في موضع الحال. قال مجاهد: مطرودين، أو مفعول من أجله، أي ولو يقذفون للطرد، أو مصدر ليقذفون، لأنه متضمن معنى الطرد، أي ويدحرون من كل جانب دحوراً، ويقذفون من كل جانب قذفاً. فإما أن يكون التجوز في ويقذفون، وإما في دحوراً. وقرأ عليّ، والسلمي، وابن أبي عبلة، والطبراني عن رجاله عن أبي جعفر: دحوراً، بنصب الدال، أي قذفاً دحوراً، بنصب الدال. ويجوز أن يكون مصدراً، كالقبول والولوغ، إلا أن هذه ألفاظ ذكر أنها محصورة. والواصب: الدائم، قاله السدّي وأبو صالح، وتقدّم في سورة النحل. ويقال: وصب الشيء وصوباً: دام. وقال مجاهد: الموجع، ومنه الوصب، كأن المعنى: أنهم في الدنيا مرجومون، وفي الآخرة معذبون. ويجوز أن يكون هذا العذاب الدائم لهم في الدنيا، وهو رجمهم دائماً، وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع.

{ إلا من خطف الخطفة }: من بدل من الضمير في لا يسمعون، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء، أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف. وقرأ الجمهور: خطف ثلاثياً بكسر الطاء. وقرأ الحسن، وقتادة: بكسر الخاء والطاء مشددة. قال أبو حاتم: ويقال هي لغة بكر بن وائل وتميم بن مرة. وقرىء: خطف بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة، ونسبها ابن خالويه إلى الحسن وقتادة وعيسى، وعن الحسن أيضاً التخفيف. وأصله في هاتين القراءتين اختطف، ففي الأول لما سكنت للإدغام، والخاء ساكنة، كسرت لالتقاء الساكنين، فذهبت ألف الوصل وكسرت الطاء اتباعاً لحركة الخاء. وعن ابن عباس: خطف بكسر الخاء والطاء مخففة، اتبع حركة الخاء لحركة الطاء، كما قالوا نعم. وقرىء: فاتبعه، مخففاً ومشدداً. والثاقب، قال السدي وقتادة: هو النافذ بضوئه وشعاعه المنير.