التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ بِٱلْحَقِّ فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ
٤١
ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٤٢
أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ
٤٣
قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٤٤
وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
٤٥
قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
٤٦
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ
٤٧
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٤٨
-الزمر

البحر المحيط

أشمأز ، قال أبو زيد: زعر. قال غيره: نقبض كراهة ونفوراً. قال الشاعر:

إذا عض الثقاف بها اشمأزت وولته عشوزيته زبونا

لما كان عليه السلام يعظم عليه عدم إيمانهم ورجوعهم إلى ما أنزل الله تعالى عليه، سلاه تعالى عن ذلك، وأخبره أنه أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن، مصحوباً بالحق، وهو دين الإسلام، للناس: أي لأجلهم، إذ فيه تكاليفهم. { فمن اهتدى }: فثواب هدايته إنما هو له، { ومن ضل }: فعقاب ضلاله إنما هو عليه، { وما أنت عليهم بوكيل }: أي فتجبرهم على الإيمان. قال قتادة: بوكيل: بحفيظ. وقال الزمخشري: للناس: لأجل حاجتهم إليه، ليبشروا وينذروا. فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية، فلا حاجة لي إلى ذلك، فأنا الغني. فمن اختار الهدى، فقد نفع نفسه؛ ومن اختار الضلالة، فقد ضرها، وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى. فإن التكليف مبني على الاختيار دون الإجبار. انتهى، وهو على مذهب المعتزلة.

ولما ذكر تعالى أنه أنزل الكتاب على رسوله بالحق للناس، نبه على أنه من آياته الكبرى يدل على الوحدانية، لا يشركه في ذلك صنم ولا غيره، فقال: { الله يتوفى الأنفس حين موتها }، والأنفس هي الأرواح. وقيل: النفس غير الروح، قاله ابن عباس. فالروح لها تدبير عالم الحياة، والنفس لها تدبيه عالم الإحساس. وفرقت فرقة بين نفس التمييز ونفس التخييل. والذي يدل عليه الحديث واللغة أن النفس والروح مترادفان، وأن فراق ذلك من الجسد هو الموت. ومعنى يتوفى النفس: يميتها، والتي: أي والأنفس التي لم تمت في منامها، أي يتوفاها حين تنام، تشبيهاً للنوام بالأموات. ومنه: { { وهو الذي يتوفاكم بالليل } [الأَنعام: 60]. فبين الميت والنائم قدر مشترك، وهو كونهما لا يميزان ولا يتصرفان. فيمسك من قضى عليها الموت الحقيقي، ولا يردها في وقتها حية؛ ويرسل النائمة لجسدها إلى أجل ضربه لموتها. وقيل: { يتوفى الأنفس }: يستوفيها ويقبضها، وهي الأنفس التي يكون معها الحياة والحركة. ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وهي أنفس التمييز، قالوا: فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس. والنائم يتنفس، وكون النفس تقبض، والروح في الجسد حالة النوم، بدليل أنه يتقلب ويتنفس، هو قول الأكثرين. ودل على التغاير وكونها شيئاً واحداً هو قول ابن جبير وأحد قولي ابن عباس؛ والخوض في هذا، وطلب إدراك ذلك على جليته عناء ولا يوصل إلى ذلك. { إن في ذلك }: أي في توفي الأنفس مائتة ونائمة، وإمساكها وإرسالها إلى أجل، { لآيات }: لعلامات دالة على قدرة الله وعلمه، { لقوم } يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون. وقرأ الجمهور: { قضى } مبنياً للفاعل، { الموت }: نصباً؛ وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وعيسى، وحمزة، والكسائي: مبنياً للمفعول؛ الموت: رفعاً. فأم منقطعة تقدر ببل والهمزة، وهو تقرير وتوبيخ. وكانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عندنا، والشفاعة إنما هي لمن ارتضاه الله وبإذنه تعالى، وهذا مفقود في آلهتهم. وأولو معناه: أيتخذونهم شفعاءهم بهذه المثابة من كونهم لا يعقلون ولا يملكون شيئاً، وذلك عام النقص، فكيف يشفع هؤلاء؟ وتقدم لنا الكلام في أولو في سورة البقرة. وقال ابن عطية: متى دخلت ألف الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت معنى التقرير. انتهى. وإذا كانوا لا يملكون شيئاً، فكيف يملكون الشفاعة؟ وقال الزمخشري: أي ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئاً قط حتى يملكوا الشفاعة، ولا عقل لهم. انتهى. فأتى بقوله: قط، بعد قوله: لا يملكون، وليس بفعل ماض، وقط ظرف يستعمل مع الماضي لا مع غيره، وقد تكرر للزمخشري هذا الاستعمال، وليس باستعمال عربي.

{ قل لله الشفاعة جميعاً }: فهو مالكها، يأذن فيها لمن يشاء ثم أتى بعام وهو: { له ملك السموات والأرض }، فاندرج فيه ملك الشفاعة. ولما كانت الشفاعة من غيره موقوفة على إذنه، كانت الشفاعة كلها له. ولما أخبر أنه له ملك السموات والأرض، هددهم بقوله: { ثم إليه ترجعون }، فيعلمون أنهم لا يشفعون، ويخيب سعيكم في عبادتهم. وقال الزمخشري: معناه له ملك السموات والأرض اليوم، ثم إليه ترجعون يوم القيامة، فلا يكون الملك في ذلك إلا له، فله ملك الدنيا والآخرة.

{ وإذا ذكر الله وحده }: أي مفرداً بالذكر، ولم يذكر مع آلهتهم. وقيل: إذا قيل لا إله إلا الله، { وإذا ذكر الذين من دونه }، وهي الأصنام. والاشمئزاز والاستبشار متقابلان غاية، لأن الاشمئزاز: امتلاء القلب غماً وغيظاً، فيظهر أثره، وهو الانقباض في الوجه، والاستبشار: امتلاؤه سروراً، فيظهر أثره، وهو الانبساط، والتهلل في الوجه. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما العامل في وإذا ذكر؟ قلت: العامل في إذا الفجائية تقديره: وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا الاستبشار. وقال الحوفي: { إذا هم يستبشرون }، إذا مضافة إلى الابتلاء والخبر، وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه، والتقدير: إذا كان ذلك هم يستبشرون، فيكون هم يستبشرون العامل في إذا، المعنى: إذا كان ذلك استبشروا. انتهى. أما قول الزمخشري: فلا أعلمه من قول من ينتمي للنحو، وهو أن الظرفين معمولان لعامل واحد، ثم إذا الأولى ينتصب على الظرف، والثانية على المفعول به. وأما قول الحوفي فبعيد جدًّا عن الصواب، إذ جعل إذا مضافة إلى الابتداء والخبر، ثم قال: وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه، فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هم يستبشرون؟ وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحدث فيه، وقد تقدم لنا في مواضع إذا التي للمفاجأة جواباً لإذا الشرطية، وقد قررنا في علم النحو الذي كتبناه أن إذا الشرطية ليست مضافة إلى الجملة التي تليها، وإن كان مذهب الأكثرين، وأنها ليست بمعمولة للجواب، وأقمنا الدليل على ذلك، بل هي معمولة للفعل الذي يليها، كسائر أسماء الشرطية الظرفية، وإذا الفجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط، كالفاء؛ وهي معمولة لما بعدها. إن قلنا إنها ظرف، سواء كان زماناً أو مكاناً. ومن قال إنها حرف، فلا يعمل فيها شيء، فإذا الأولى معمولة لذكرهم، والثانية معمولة ليستبشرون. ولما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر الله، واستبشارهم بذكر الأصنام، أمره أن يدعو بأسماء الله العظمى من القدرة والعلم ونسبة الحكم إليه، إذ غيره لا قدرة له ولا علم تام ولا حكم، وفي ذلك وصف لحالهم السيىء ووعيد لهم وتسلية للرسول عليه السلام. وتقدم الكلام في { اللهم } في سورة آل عمران.

{ ولو أن للذين ظلموا }: تقدم الكلام على تشبيهه في العقود. { وبدا لهم من الله }: أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة، حسب ضلالاتهم وتخيلاتهم فيما يعتقدونه. فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة، ظهر لهم خلاف ما كانوا يظنون، وما كان في حسابهم. وقال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء من هذه الآية. { وحاق بهم ما كانوا }: أي جزاء ما كانوا وما فيما كسبوا، يحتمل أن تكون بمعنى الذي، أي سيئات أعمالهم، وأن تكون مصدرية، أي سيئات كسبهم. والسيئات: أنواع، العذاب سميت سيئات، كما قال: { { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [الشورى: 40].