التفاسير

< >
عرض

مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
٨٠
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ وَٱللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
٨١
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً
٨٢
وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٣
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً
٨٤
مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً
٨٥
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً
٨٦
-النساء

البحر المحيط

التبييت قال الأصمعي وأبو عبيدة وأبو العباس: كل أمر قضي بليل، قيل: قد بيت. وقال الزجاج: كل أمر مكر فيه أو خيض بليل فقد بيت. وقال الشاعر:

أتوني فلم أرض ما بيتوا وكانوا أتوني بأمر نكر

وقال الأخفش: العرب تقول للشيء إذا قدر: بيت. وقال أبو رزين: بيت ألف. وقيل: هيـىء وزور. وقيل: قصد، ومنه قول الشاعر:

لما تبيتنا أخا تميم أعطى عطاء اللحز اللئيم

أي: قصدنا. وقيل: التبييت التبديل بلغة طيـىء، قال شاعرهم:

وتبييـت قــولي عنــد المليــــك قاتلك الله عبداً كفوراً

التدبر: تأمل الأمر والنظر في إدباره وما يؤول إليه في عاقبته، ثم استعمل في كل تأمل. والدبر: المال الكثير، سمي بذلك لأنه يبقى للإعقاب وللإدبار قاله: الزجاج وغيره.

الإذاعةُ: إظهار الشيء وإفشاؤه يقال: ذاع، يذيع، وأذاع، ويتعدى بنفسه وبالباء، فيكون إذ ذاك أذاع في معنى الفعل المجرّد. قال أبو الأسود:

أذاعوا به في الناس حتى كأنه بعلياء نار أوقدت بثقوب

الاستنباط: الاستخراج، والنبط الماء يخرج من البئر أول ما تحفر، والانباط والاستنباط إخراجه. وقال الشاعر:

نعم صادقاً والفاعل القائل الذي إذا قال قولاً انبط الماء في الثرى

وقال ابن الأعرابي: يقال للرّجل إذا كان بعيد العز والمنعة ما يجد عدوه له: نبطاً. قال كعب:

قريب تراه لا ينال عدوّه له نبطاً آبى الهوان قطوب

والنبط الذين يستخرجون المياه والنبات من الأرض. وقال الفراء: نبط مثل استنبط، ونبط الماء ينبُط بضم الباء وفتحها. التحريض: الحث. التنكيل: الأخذ بأنواع العذاب وترديده على المعذب، وكأنه مأخوذ من النكل وهو: القيد. الكفل: النصيب، والنصيب في الخير أكثر استعمالاً. والكفل في الشر أكثر منه في الخير. المقيت: المقتدر. قال الزبير بن عبد المطلب:

وذي ضغن كففت النفس عنه وكان على إساءته مقيتاً

أي مقتدراً. وقال السموءل:

ليت شعري واشعرت إذا ما قربوها منشورة ودعيت
أتى الفصل ثم عليّ إذا حو سبت أني على الحساب مقيت

وقال أبو عبيدة: المقيت الحاضر. وقال ابن فارس: المقيت المقتدر، والمقيت: الحافظ والشاهد. وقال النحاس: هو مشتق من القوت، والقوت مقدار ما يحفظ به الإنسان من التلف. التحية قال عبد الله بن إدريس: هي الملك وأنشد:

أوّم بها أبا قابوس حتى أنيخ على تحيته بجندي

وقال الأزهري: التحية بمعنى الملك، وبمعنى البقاء، ثم صارت بمعنى السلامة. انتهى. ووزنها تفعلة، وليس الإدغام في هذا الوزن واجباً على مذهب المازني، بل يجوز الإظهار كما قالوا: أعيية بالإظهار، وأعية بالإدغام في جمع عيي. وذهب الجمهور إلى أنه يجب الإدغام في تحية، والكلام على المذهبين مذكور في كتب النحو.

{ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } قال صلى الله عليه وسلم: "من أحبني فقد أحب الله" فاعترضت اليهود فقالوا: هذا محمد يأمر بعبادة الله، وهو في هذا القول مدع للربوبية فنزلت. وفي رواية: قال المنافقون لقد قارب الشرك. وفي رواية: قالوا ما يريد هذا الرجل إلا أن يتخذ رباً كما اتخذت النصارى عيسى. وتعلق الطاعتين لأنّه لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهى إلا عن ما نهى الله عنه، فكانت طاعته في ذلك طاعة الله. ومن تولى بنفاق أو أمر فما أرسلناك هذا التفات، إذ لو جرى على الرسول لكان فما أرسله. والحافظ هنا المحاسب على الأعمال، أو الحافظ للأعمال، أو الحافظ من المعاصي، أو الحافظ عن التولي، أو المسلط من الحفاظ أقوال. وتتضمن هذه الآية الإعراض عمن تولى، والترك رفقاً من الله، وهي قبل نزول القتال.

{ ويقولون طاعة } نزلت في المنافقين باتفاق. أي: أمرتهم بشيء قالوا طاعة، أي: أمرنا طاعة، أو منا طاعة. قال الزمخشري: ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة، وهذا من قول المرتسم سمعاً وطاعة، وسمع وطاعة، ونحوه قول سيبويه. وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمداً لله وثناء عليه، كأنه قال: أمري وشأني حمد الله. ولو نصب حمد الله وثناء عليه كان على الفعل، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها انتهى. ولا حاجة لذكر ما لم يقرأ به ولا لتوجيهه ولا لتنظيره بغيره، خصوصاً في كتابه الذي وضعه على الاختصار لا على التطويل.

{ فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول } أي إذا خرجوا من عندك رووا وسووا أي: طائفة منهم غير الذي تقوله لك يا محمد من إظهار الطاعة، وهم في الباطن كاذبون عاصون، فعلى هذا الضمير في تقول عائد على الطائفة، وهو قول ابن عباس. وقيل: يعود على الرسول أي: غير الذي تقوله وترسم به يا محمد، وهو الخلاف والعصيان المشتمل عليه بواطنهم. ويؤيد هذا التأويل قراءة عبد الله بيت مبيت منهم يا محمد. وقرأ يحيـى بن يعمر يقول: بالياء، فيحتمل أن يكون الضمير للرسول، ويكون التفاتاً إذ خرج من ضمير الخطاب في من عندك، إلى ضمير الغيبة. ويحتمل أن يعود على الطائفة، لأنها في معنى القوم أو الفريق، وخص طائفته بالتبيين لأنه لم يكونوا ليجتمعوا كلهم في دار واحدة، أو لأنه إخبار عن من علم الله أنه يبقى على كفره ونفاقه. وأدغم حمزة وأبو عمرو بيت طائفة، وأظهر الباقون.

{ والله يكتب ما يبيتون } أي: يكتبه في صحائف أعمالهم حسبما تكتبه الحفظة ليجازوا به. وقال الزجاج: يكتبه في كتابه إليك، أي: ينزله في القرآن ويعلم به ويطلع على سرهم. وقيل: يكتب يعلم عبر بالكتابة عن العلم، لأنه من ثمراتها.

{ فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً } هذا مؤكد لقوله:{ ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } أي لا تحدث نفسك بالانتقام منهم. وليس المعنى فاعرض عن دعوتهم إلى الإيمان وعن وعظهم. وقال الضحاك: معنى أعرض عنهم لا تخبر بأسمائهم فيجاهروك بالعداوة بعد المجاملة في القول، ثم أمره بإدامة التوكل عليه، هو ينتقم لك منهم، وهذا أيضاً قبل نزول القتال.

{ أفلا يتدبرون القرآن } قرأ الجمهور: يتدبرون بياء وتاء بعدها على الأصل. وقرأ ابن محيصن: بإدغام التاء في الدال، وهذا استفهام معناه الإنكار أي: فلا يتأملون ما نزل عليك من الوحي ولا يعرضون عنه، فإنه في تدبره يظهر برهانه ويسطع نوره ولا يظهر ذلك لمن أعرض عنه ولم يتأمله.

{ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } الظاهر أن المضمر في فيه عائد على القرآن، وهذا في علم البيان الاحتجاج النظري، وقوم يسمونه المذهب الكلامي. ووجه هذا الدليل أنه ليس من متكلم كلاماً طويلاً إلا وجد في كلامه اختلاف كثير، إما في الوصف واللفظ، وإما في المعنى بتناقض أخبار، أو الوقوع على خلاف المخبر به، أو اشتماله على ما لا يلتئم، أو كونه يمكن معارضته. والقرآن العظيم ليس فيه شيء من ذلك، لأنه كلام المحيط بكل شيء مناسب بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء، وتظافر صدق أخبار، وصحة معان، فلا يقدر عليه إلا العالم بما لا يعلمه أحد سواه.

قال ابن عطية: فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافاً فالواجب أن يتهم نظره، ويسأل من هو أعلم منه. وما ذهب إليه بعض الزنادقة المعاندين من أنّ فيه أحكاماً مختلفة وألفاظاً غير مؤتلفة فقد أبطل مقالتهم علماء الإسلام، وما جاء في القرآن من اختلاف في تفسير وتأويل وقراءة وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وعام وخاص ومطلق ومقيد فليس هو المقصود في الآية، بل هذه من علوم القرآن الدالة على اتساع معانيه، وأحكام مبانيه. وذهب الزجاج إلى أنَّ الضمير في فيه عائد على ما يخبره به الله تعالى مما يبيتون ويسرون، والمعنى: أنّك تخبرهم به على حد ما يقع، وذلك دليل على أنه من عند الله غيب من الغيوب. وفي ذكر تدبر القرآن ردّ على من قال من الرافضة: إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم.

{ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } روى مسلم من حديث ابن عباس عن عمر: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه، فدخل عمر المسجد فسمع الناس يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: أطلقت نساءك؟ قال: لا. فخرج فنادى: ألا إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فنزلت". وكان هو الذي استنبط الأمر، وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن الرسول كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت، أو غلبت، تحدثوا بذلك وأفشوه ولم يصبروا حتى يكون هو المحدث به، فنزلت. والضمير في: جاءهم على المنافقين، قاله ابن عباس والجمهور. أو على ناس من ضعفة المؤمنين قاله: الحسن والزجاج. ولم يذكر الزمخشري غيره أو عليهما نقله ابن عطية، أو على اليهود قاله بعضهم. والأمر من الأمن أو الخوف فوز السرية بالظفر والغنيمة، أو الخيبة والنكبة، فيبادرون بإفشائه قبل أن يخبر الرسول بذلك. أو ما كان ينزل من الوحي بالوعظ بالظفر، أو بتخفيف من جهة الكفار، كان يسر النبي عليه السلام ذلك إليهم فيفشونه، وكان في ذلك مضرّة على المسلمين، أو ما يعزم عليه النبي من الوداعة والأمان لقوم، والخوف الخبر يأتي أنّ قوماً يجمعون للنبي صلى الله عليه وسلم فيخاف المسلمون منهم قاله: الزجاج، والماوردي، وأبو سليمان الدمشقي. وقال ابن عطية: المعنى أنّ المنافقين كانوا يشرئبون إلى سماع ما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم في سراياه، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين، أو فتح عليهم، حقروها وصغروا شأنها انتهى. والضمير في به عائد على الأمر، قيل: ويجوز أن يعود على الأمن أو الخوف، ووحد الضمير لأن، أو تقتضي أحدهما.

{ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } أي: ولو ردُّوا الأمر الذي بلغهم إلى الرسول وأولي الأمر وهم: الخلفاء الأربعة ومن يجري على سننهم، قاله: ابن عباس، أو أبو بكر، وعمر خاصة، قاله: عكرمة. أو أمراء السرايا قاله: السدي، ومقاتل، وابن زيد. أو العلماء من الصحابة قاله: الحسن، وقتادة، وابن جريج. والمعنى: لو أمسكوا عن الخوض فيما بلغهم، واستقصوا الأمر من الرسول وأولي الأمر، لعلم حقيقة ذلك الأمر الوارد من له بحث ونظر وتجربة، فأخبروهم بحقيقة ذلك، وأنّ الأمر ليس جارياً على أول خبر يطرأ.

قال الزمخشري: هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال والاستبطان للأمور، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوفٍ وخللٍ أذاعوا به، وكانت إذاعتهم مفسدة. ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله، وإلى أولي الأمر منهم وهم: كبار الصحابة البصراء بالأمور، أو الذين كانوا يؤمرون منهم لعلمه، لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه أي: الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. وقيل: كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار، فيذيعونه فينشر، فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة، ولو ردوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم، وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه، وما يأتون ويدرون فيه. وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنوناً غير معلوم الصحة فيذيعونه، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر، وقالوا: نسكت حتى نسمعه منهم، ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع؟ لعلمه الذين يستنبطونه منهم لعلم صحته، وهل هو مما يذيع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي: يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم انتهى كلامه.

وهذه كلها تأويلات حسنة، وأجراها على نسق الكلام هذا التأويل الأخير وهو: أنّ المعنى إذا طرأ خبر بأمن المسلمين أو خوف، فينبغي أن لايشاع، وأن يردّ إلى الرسول وأولي الأمر، فإنهم يخبرون عن حقيقة الأمر فيعلمه من يسألهم، ويستخرج ذلك من جهتهم، لأنّ ما أخبر به الرسول وأولوا الأمر إذ هم مخبرون عنه حق لا شك فيه. وقال أبو بكر الرازي: في هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، لأنه أمر بردّ الحوادث إلى الرسول في حياته إذ كانوا بحضرته، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته، والمنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه، فثبت بذلك أنَّ من الأحكام ما هو مودع في النص قد كلف الوصول إلى علمه بالاستدلال والاستنباط. وطوَّل الرازي في هذه المسألة اعتراضاً وانفصالاً واستقرأ من الآية أحكاماً.

قال: ويدل على بطلان قول القائل بالإمامة: لأنه لو كان كل شيء من الأحكام منصوصاً عليه يعرفه الإمام لزال موضع الاستنباط، وسقط الرد إلى أولي الأمر، بل كان الواجب الرّد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص. وقال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير لأقوال أئمة التفسير ما نصه في ذلك الكتاب: وقد لاح لي في هذه الآية أنّ في الكلام حذفاً وتقديماً وتأخيراً وأنَّ هذا الكلام متعلق بالذي قبله مردود إليه، ويكون التقدير: أفلا يتدبرون القرآن، ولو تدبروه لعلموا أنه من كلام الله، والمشكل عليهم من متشابهه لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم يعني: لعلم معنى ذلك المتشابه الذين يستنبطونه منهم من أهل العلم بالكتاب إلا قليلاً، وهو ما ستأثر الله به من علم كتابه ومكنون خطابه. ثم قال: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، والذي حسن لهم ذلك وزينه الشيطان، ثم التفت إلى المؤمنين فقال: { ولولا فضل الله عليكم } الآية وقد أشار إلى شيء من هذا أبو طالب المكي في كتابه المعروف بقوت القلوب، وقال: إن قوله: { إلا قليلاً } متصل بقوله { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } وعلى هذا يكون الاستنباط استخراجاً من معنى اللفظ المتشابه بنوع من النظرة والاجتهاد والتفكر انتهى كلامه. وهو كما ترى تركيب ونظم غير تركيب القرآن ونظمه، وكثيراً ما يذكر هذا الرجل في القرآن تقديماً وتأخيراً، وأغرب من ذلك أنه يجعله من أنواع علم البيان، وأصحابنا وحذاق النحويين يجعلونه من باب ضرائر الأشعار، وشتان ما بين القولين. وقرأ أبو السمال: لعلمه بسكون اللام. قال ابن عطية: وذلك مثل شجر بينهم انتهى. وليس مثله لأنّ تسكين علم قياس مطرد في لغة تميم، وشجر ليس قياساً مطرداً، إنما هو على سبيل الشذوذ. وتسكين علم مثل التسكين في قوله:

فإن تبله يضجر كما ضجر بازل من الادم دبرت صفحتاه وغاربه

{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } هذا خطاب للمؤمنين باتفاق من المتأولين قاله: ابن عطية. قال: والمعنى لولا هداية الله لكم وإرشاده لبقيتم على كفركم وهو اتباع الشيطان. وقيل: الفضل الرسول. وقيل: الإسلام. وقيل: القرآن. وقيل: في الرحمة أنها الوحي. وقيل: اللطف. وقيل: النعمة. وقيل: التوفيق. والظاهر أنّ الاستثناء هو من فاعل اتبعتم. قال الضحاك: هدى الكل منهم للإيمان، فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك، ولا عنت له شبهة ارتياب، وذلك هو القليل، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر، فلولا فضل الله بتجريد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان، ويكون الفضل معيناً أي: رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، لأن الكل إنما هدي بفضل الله على الإطلاق.

وقال قوم: إلا قليلاً إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم، أدركوا بعقولهم معرفة الله ووحدوه قبل أن يبعث الرسول، كزيد بن عمرو بن نفيل أدرك فساد ما عليه اليهود والنصارى والعرب، فوحد الله وآمن به، فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً إذ ليس مندرجاً في المخاطبين بقوله: لاتبعتم.

وقال قوم: الاستثناء إنما هو من الاتباع، فقدره الزمخشري: إلا اتباعاً قليلاً، فجعله مستثنى من المصدر الدال عليه الفعل وهو لاتبعتم. وقال ابن عطية: في تقدير أن يكون استثناء من الاتباع قال: أي لاتبعتم الشيطان كلكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها، ففسره في الاستثناء بالمتبع فيه، فيكون استثناء من المتبع فيه المحذوف لا من الاتباع، ويكون استثناء مفرّعاً، والتقدير: لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا قليلاً من الأشياء فلا تتبعونه فيه. فإن كان ابن عطية شرح من حيث المعنى فهو صحيح، لأنه يلزم من الاستثناء الاتباع القليل أن يكون المتبع فيه قليلاً، وإن كان شرح من حيث الصناعة النحوية فليس بجيد، لأن قوله: إلا اتباعاً قليلاً، لا يرادف إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها. وقال قوم: قوله إلا قليلاً عبارة عن العدم، يريد: لاتبعتم الشيطان كلكم. قال ابن عطية: وهذا قول قلق، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قلما تنبت كذا، بمعنى لا تنبته. لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها، ولكن ذكره الطبري انتهى. وهذا الذي ذكره ابن عطية صحيح، ولكن قد جوزه هو في قوله: { ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً } [النساء: 46] ولم يقلق عنده هناك ولا رده، وقد رددناه عليه هناك فيطالع ثمة.

وقيل: إلا قليلاً مستثنى من قوله: أذاعوا به، والتقدير: أذاعوا به إلا قليلاً، قاله: ابن عباس وابن زيد، واختاره: الكسائي، والفراء، وأبو عبيد، وابن حرب، وجماعة من النحويين، ورجحه الطبري. وقيل: مستثنى من قوله: لعلمه الذين يستنبطونه منهم، قاله: الحسن، وقتادة، واختاره ابن عيينة. وقال مكي: ولولا فضل الله عليكم أي: رحمته ونعمته إذ عافاكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين الذين وصفهم بالتبييت، والخلاف لاتبعتم الشيطان هو خطاب للذين قال لهم: { { خذوا حذركم فانفروا ثبات } [النساء: 71] وقيل: الخطاب عام، والقليل المستثنى هم أمة الرسول، لأنهم قليل بالنسبة إلى الكفار. وفي الحديث الصحيح: "ما أنتم إلا كالرقمة البيضاء في الثور الأسود" .

{ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين } قيل: نزلت في بدر الصغرى. دعا الناس إلى الخروج، وكان أبو سفيان وعادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت. فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده.

ومناسبة هذه الآية هي: أنه لما ذكر في الآيات قبلها تثبيطهم عن القتال، واستطرد من ذلك إلى أنَّ الموت يدرك كل أحد ولو اعتصم بأعظم معتصم، فلا فائدة في الهرب من القتال، وأتبع ذلك بما أتبع من سوء خطاب المنافقين للرسول عليه السلام، وفعلهم معه من إظهار الطاعة بالقول وخلافها بالفعل، وبكتهم في عدم تأملهم ما جاء به الرسول من القرآن الذي فيه كتب عليهم القتال، عاد إلى أمر القتال. وهكذا عادة كلام العرب تكون في شيء ثم تستطرد من ذلك إلى شيء آخر له به مناسبة وتعلق، ثم تعود إلى ذلك الأول.

والفاء هنا عاطفة جملة كلام على جملة كلام يليه، ومن زعم أنّ وجه العطف بالفاء هو أن يكون متصلاً بقوله: { { وما لكم لا تقاتلون } [النساء: 75] أو بقوله: { فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } [النساء: 114] وهو محمول على المعنى على تقدير شرط أي: إن أردت الفوز فقاتل. أو معطوفة على قوله: { { فقاتلوا أولياء الشيطان } [النساء: 76] فقد أبعد. وظاهر الأمر أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، ويؤكده: لا تكلف إلا نفسك. وحمله الزمخشري على تقدير شرط، قال: أي إن أفردوك وتركوك وحدك لا تكلف إلا نفسك وحدها أن تقدمها للجهاد، فإنّ الله هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف انتهى. وسبقه إليه الزجاج قال: أمره بالجهاد وإن قاتل وحده، لأنه ضمن له النصرة. وقال ابن عطية: لم نجد قط في خبر أنّ القتال فرض على النبي دون الأمة مرة ما، فالمعنى ــ والله أعلم ــ أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه: أي: أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فقاتل في سبيل الله، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر، أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي" وقول أبي بكر وقت الردة: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي.

ومعنى لا تكلف إلا نفسك: أي: لا تكلف في القتال إلا نفسك، فقاتل ولو وحدك. وقيل: المعنى إلا طاقتك ووسعك. والنفس يعبر بها عن القوّة يقال: سقطت نفسه أي قوته. وقرأ الجمهور: لا تكلف خبراً مبنياً للمفعول، قالوا: والجملة في موضع الحال، ويجوز أن يكون إخباراً من الله لنبيه، لا حالاً شرع له فيها أنه لا يكلف أمر غيره من المؤمنين، إنما يكلف أمر نفسه فقط. وقرىء: لا نكلف بالنون وكسر اللام، ويحتمل وجهي الإعراب: الحال والاستئناف. وقرأ عبد الله بن عمر: لا تكلف بالتاء وفتح اللام، والجزم على جواب الأمر. وأمره تعالى بحث المؤمنين على القتال، وتحريك هممهم إلى الشهادة.

{ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } قال عكرمة وغيره: عسى من الله واجبه، ومن البشر متوقعة مرجوّة. والذين كفروا: هم كفار قريش، وقد كف الله تعالى بأسهم، وبدا لأبي سفيان ترك القتال. وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم. وقيل: كف البأس يكون عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام. وقيل: ذلك يوم الحديبية. وقيل: هي فيمن ضربت عليهم الجزية. والجمهور على ما قدمناه من أنّ ذلك كان عند خروجهم إلى بدر الصغرى. والظاهر في هذا أنه لا يتقيد كف بأس الذين كفروا بما ذكروا، والتخصيص بشيء يحتاج إلى دليل.

{ والله أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً } هذا تقوية لقلوب المؤمنين، وأنّ بأس الله أشدّ من بأس الكفار. وقد رجى كف بأسهم، ثم ذكر ما أعد لهم من النكال، وأن الله تعالى هو أشد عقوبة. فذكر قوّته وقدرته عليهم، وما يؤول إليه أمرهم من التعذيب. قال الحسن وقتادة: وأشد تنكيلاً أي عقوبة فاصحة، والأظهر أن أفعل التفضيل هنا على بابها. وقيل: هو من باب العسل أحلى من الخل، لأن بأسهم بالنسبة إلى بأسه تعالى ليس بشيء.

{ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها } قال قوم: من يكن شفيعاً لوتر أصحابك يا محمد في الجهاد فيسعفهم في جهاد عدوّهم يكن له نصيب من الجهاد أو من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين، فتلك حسنة، وله نصيب منها. وحملهم على هذا التأويل ما تقدم من ذكر القتال والأمر به، وقال قريباً منه الطبري. وقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: هي في حوائج الناس، فمن يشفع لنفع فله نصيب، ومن يشفع لضر فله كفل.

وقال الزمخشري: الشفاعة الحسنة هي التي روعي فيها حق مسلم، ودفع عنه بها شر، أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله، ولم يؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود الله، ولا حق من الحقوق. والسيئة ما كان بخلاف ذلك انتهى. وهذا بسط ما قاله الحسن، قال: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي. وقيل: الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلم لأنها في معنى الشفاعة إلى الله تعالى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك النصيب" ولدعوة على المسلم بضد ذلك. وقال ابن السائب ومقاتل: الشفاعة الحسنة هنا الصلح بين الاثنين، والسيئة الإفساد بينهما والسعي بالنميمة. وقيل: الشفاعة الحسنة أن يشفع إلى الكافر حتى يوضح له من الحجج لعله يسلم، والسيئة أن يشفع إلى المسلم عسى يرتد أو ينافق. والظاهر أنّ من للسبب أي: نصيب من الخير بسببها، وكفل من الشر بسببها. وتقدم في المفردات أن الكفل النصيب. وسمي المجازي.

وقال أبان بن تغلب: الكفل المثل. وقال الحسن وقتادة: هو الوزر والإثم، وغاير في النصيب فذكره بلفظ الكفل في الشفاعة السيئة، لأنه أكثر ما يستعمل في الشر، وإن كان قد استعمل في الخير لقوله: { { يؤتكم كفلين من رحمته } [الحديد: 28] قالوا: وهو مستعار من كفل البعير، وهو كساء يدار على سنامه ليركب عليه، وسمي كفلاً لأنه لم يعم الظهر، بل نصيباً منه.

{ وكان الله على كل شيء مقيتاً } أي: مقتدراً قاله السدّي وابن زيد والكسائي. وقال ابن عباس ومجاهد: حفيظاً وشهيداً. وقال عبد الله بن كثير: واصباً قيماً بالأمور. وقيل: المحيط. وقيل: الحسيب. وقيل: المجازي. وقيل: المواظب للشيء الدائم عليه. قال ابن كثير: وهو قول ابن عباس أيضاً. وهذه أقوال متقاربة لاستلزام بعضها معنى بعض. وقال الطبري في قوله: إني على الحساب مقيت، إنه من غير هذه المعاني المتقدّمة، وإنه بمعنى موقوت. وهذا يضعفه أن يكون بناء اسم الفاعل بمعنى بناء اسم المفعول. وقال غيره: معناه مقتدر.

{ وإذا حييتم بتحية فيحوا بأحسن منها أو ردّوها } الظاهر أن التحية هنا السلام، وأنّ المسلم عليه مخير بين أن يرد أحسن منها، أو أن يردها يعني مثلها، فأو هنا للتخيير. وقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن زيد: بأحسن منها إذا كان مسلماً، أو ردوها إذا كان يسلم عليك كافر فاردد، وإن كان مجوسياً فتكون أو هنا للتنويع. والذي يظهر أنّ الكافر لا يرد عليه مثل تحيته، لأن المشروع في الرد عليهم أن يقال لهم: وعليكم، ولا يزادوا على ذلك، فيكون قوله: وإذا حييتم معناه: وإذا حياكم المسلمون، وإلى هذا ذهب. عطاء. وعن الحسن: ويجوز أن يقال للكافر: وعليك السلام، ولا يقل: ورحمة الله، فإنها استغفار، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله فقيل له، فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ وكأن من قال بهذا أخذ بعموم وإذا حييتم، لكن ذلك مخالف للنص النبوي من قوله: "فقولوا وعليكم" وكيفية رد الأحسن أنه إذا قال: سلام عليك، فيقول: عليك السلام ورحمة الله. فإذا قال: سلام عليك ورحمة الله قال: عليك السلام ورحمة الله وبركاته. فإذا قال المسلم هذا بكماله رد عليه مثله. وروي عن عمر، وابن عباس، وغيرهما: أن غاية السلام إلى البركة.

وفي الآية دليل على أنّ الرد واجب لأجل الأمر، ولا يدل على وجوب البداءة، بل هي سنة مؤكدة، هذا مذهب أكثر العلماء. والجمهور على أنْ لا يبدأ أهل الكتاب بالسلام، وشذ قوم فأباحوا ذلك. وقد طول الزمخشري وغيره بذكر فروع كثيرة في السلام، وموضوعها علم الفقه. وذهب مجاهد: إلى تخصيص هذه التحية بالجهاد، فقال: إذا حييتم في سفركم بتحية الإسلام { { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً } [النساء: 94] فإن أحكام الإسلام تجري عليهم. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك: أن هذه الآية في تشميت العاطس، والرد على المشمت. وضعف ابن عطية وغيره من أصحاب مالك هذا القول. قال ابن عطية: لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة. أما أنّ الرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك، انتهى. وذهب قوم إلى أنّ المراد بالتحية هنا الهداية واللطف، وقال: حق من أعطى شيئاً من ذلك أن يعطى مثله أو أحسن منه. قال ابن خويز منداد: يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب، وقد شحن بعض الناس تأليفه هنا بفروع من أحكام القتال والسلام، وتشميت العاطس، والهدايا، وموضوعها علم الفقه وذكروا أيضاً في ما يدخل في التحية مقارناً للسلام، واللقاء والمصافحة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها وفعلها مع السلام والمعانقة، وأول من سنها ابراهيم عليه السلام، والقبلة. وعن الحسن في قوله تعالى: { رحماء بينهم } [الفتح: 29] قال: كان الرجل يلقى أخاه فما يفارقه حتى يلزمه ويقبله. وعن عليّ قبلة الولد رحمة، وقبلة المرأة شهوة، وقبلة الوالدين برّ، وقبلة الأخ دين، وقبلة الإمام العادل طاعة، وقبلة العالم إجلال الله تعالى. قال القشيري: في الآية تعليم لهم حسن العشرة وآداب الصحبة، وأنَّ من حملك فضلاً صار ذلك في ذمتك قرضاً، فإنْ زدت على فعله وإلا فلا تنقص عن مثله.

{ إن الله كان على كل شيء حسيباً } أي: حاسباً من الحساب، أو محسباً من الاحساب، وهو الكفاية. فإما فعيل للمبالغة، وإما بمعنى مفعل.

وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع أنواعاً الالتفات في قوله: فما أرسلناك. والتكرار في: من يطع فقد أطاع، وفي: بيت ويبيتون، وفي: اسم الله في مواضع، وفي: أشد، وفي: من يشفع شفاعة. والتجنيس المماثل في: يطع وأطاع، وفي: بيت ويبيتون، وفي: حييتم فحيوا. والمغاير في: وتوكل ووكيلاً، وفي: من يشفع شفاعة، وفي: وإذا حييتم بتحية. والاستفهام المراد به الإنكار في: أفلا يتدبرون. والطباق في: من الأمن أو الخوف، وفي: شفاعة حسنة وشفاعة سيئة. والتوجيه في: غير الذي تقول. والاحتجاج النظري ويسمى المذهب الكلامي في: ولو كان من عند غير الله. وخطاب العين والمراد به الغير في: فقاتل. والاستعارة في: في سبيل الله، وفي: أن يكف بأس. وافعل في: غير المفاضلة في أشد. وإطلاق كل على بعض في: بأس الذين كفروا واللفظ مطلق والمراد بدر الصغرى. والحذف في عدة مواضع تقتضيها الدلالة.