التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٠
يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٤١
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٤٢
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٣
إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ
٤٤
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٤٥
وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٤٦
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٤٧
وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٤٨
-المائدة

البحر المحيط

السَّحْت والسحُت بسكون الحاء وضمها الحرام، سمي بذلك لأنه يسحت البركة أي يذهبها. يقال: سحته الله أي أهلكه، ويقال: أسحته، وقرىء بهما في قوله: { { فيسحتكم بعذاب } [طه: 61] أي يستأصلكم ويهلككم، ومنه قول الفرزدق:

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتاً أو مجلف

ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين، وسحت بإسكان الحاء. وقال الفراء: أصل السحت كلب الجوع ويقال: فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلقى أبداً إلا خائفاً، وهو راجع لمعنى الهلاك.

الحبر: بفتح الحاء وكسرها العالم، وجمعه الأحبار. وكان أبو عبيد ينكر ذلك ويقول: هو بفتح الحاء. وقال الفراء: هو بالكسر، واختار أبو عبيد الفتح. وتسمى هذه السورة سورة الأحبار، ويقال: كعب الأحبار. والحبر بالكسر الذي يكتب به، وينسب إليه الحبري الحبار. ويقال: كتب الحبر لمكان الحبر الذي يكتب به، وسمي حبراً لتحسينه الخط وتبيينه إياه. وقيل: سمي حبراً لتأثيره في الموضع الذي يكون به من الحبار وهو الأثر.

العين: حاسة الرؤية وهي مؤنثة، وتجمع في القلة على أعين وأعيان، وفي الكثرة على عيون. وقال الشاعر:

ولكنني أغدو عليّ مفاضة دلاص كأعيان الجراد المنظم

ويقال للجاسوس: ذو العينين، والعين لفظ مشترك بين معان كثيرة ذكرها اللغويون. الأنف: معروف والجمع آناف وأنف وأنوف.

المهيمن: الشاهد الرقيب على الشيء الحافظ له، وهو اسم فاعل من هيمن قالوا: ولم يجيء على هذا الوزن إلا خمسة ألفاظ: هيمن، وسيطر، وبيطر، وحيمر، وبيقر، ذكر هذا الخامس الزجاجي في شرحه خطبة أدب الكاتب، ومعناه: سار من الحجاز إلى اليمن، ومن أفق إلى أفق. وهيمن بنا أصل. وذهب بعض اللغويين إلى أنّ مهيمناً اسم فاعل من أمن غيره من الخوف قال: فأصله مأمن قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة اجتماع الهمزتين فصار مؤيمن، ثم أبدلت الهمزة الأولى هاء كما قالوا: اهراق في اراق، وهياك في إياك، وهذا تكلف لا حاجة إليه، وقد ثبت نظير هذا الوزن في ألفاظ فيكون هذا منها. وأيضاً فالهمزة في مؤمن اسم فاعل من آمن قد سقطت كراهة اجتماع الهمزتين، فلا يدعي أنها أقرت وأبدل منها. وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة من أنه تصغير مؤمن، وأبدلت همزته هاء، فقد كتب إليه أبو العباس المبرد يحذره من هذا القول. واعلم أنّ أسماء الله تعالى لا تصغر. الشرعة: السنة والطريقة شرع يشرع شرعاً أي سنّ، والشارع الطريق الأعظم، ومنزل شارع إذا كان بابه قد شرع إلى طريق نافذ. المنهاج والمنهج: الطريق الواضح، ونهج الأمر استبان، ونهجت الطريق أبنته وأوضحته، ونهجت الطريق سلكته.

{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } روي عن أبي هريرة وابن عباس وجماعة: أن سبب نزولها أنّ يهودياً زنى بيهودية، قيل: بالمدينة. وقيل: بغيرها من أرض الحجاز، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم وطمعوا أن يكون غير الرجم حدهما، وكان في التوراة رجم، فأنكروا ذلك أن يكون في التوراة وافتضحوا إذ أحضروها، وحكم الرسول فيهما بالرجم وأنفذه. وقال قتادة: السبب أنّ بني النضير كانوا إذا غزوا بني قريظة، فإن قتل قرظي نضيرياً قتل به، أو نضيري قرظياً أعطى الدية. وقيل: كانت دية القرظي على نصف دية النضيري، فلما جاء الرسول المدينة طلبت قريظة الاستواء لأنهما ابناء عم، وطلبت الحكومة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت بنو النضير: إنْ حكم بما نحن عليه فخذوه، وإلا فاحذروا. وقال السدي: نزلت في رجل من الأنصار وهذا بعيد من مساق الآية. وذكروا أن هذا الرجل هو أبو لبابة بن عبد المنذر، أشارت إليه قريظة يوم حصرهم علام ينزل من الحكم، فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح. وقال الشعبي: نزلت في قوم من اليهود قتل واحد منهم آخر، فكلفوا رجلاً من المسلمين أن يسأل الرسول قالوا: فإنْ أفتى بالدية قبلنا، وإن أفتى بالقتل لم نقبل. وهذا نحو من قول قتادة في النضير وقريظة.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة، وكان في ذكر المحاربين أنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً، أمره تعالى أن لا يحزن ولا يهتم بأمر المنافقين، وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به وبمن معه الدوائر ونصبهم له حبائل المكروه، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض. ونصب المحاربة لله ولرسوله وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم. ونداؤه تعالى له: يا أيها الرسول هنا، وفي { { يا أيها الرسول بلغ } [المائدة: 67] ويا أيها النبي في مواضع تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال: { { يا آدم اسكن } [البقرة: 35] و { { يا نوح اهبط } [هود: 48] { { يا ابراهيم قد صدّقت الرؤيا } [الصافات: 104 - 105] { { يا موسى إني اصطفيتك } [الأعراف: 144] { { يا عيسى إني متوفيك } [آل عمران: 55] { { يا يحيى خذ الكتاب } [مريم: 12]. وقال مجاهد وعبد الله بن كثير: من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، هم اليهود المنافقون، وسماعون للكذب هم اليهود. والمعنى على هذا: لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود بإظهار ما يلوح لهم من آثار الكفر وهو كيدهم للإسلام وأهله، فإنّ ناصرك عليهم ويقال: أسرع فيه السبب، وأسرع فيه الفساد، إذا وقع فيه سريعاً. ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه. أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها، وتكون من الأولى والثانية على هذا تنبيهاً وتقسيماً للذين يسارعون في الكفر، ويكون سماعون خبر مبتدأ محذوف أي: هم سماعون، والضمير عائد على المنافقين وعلى اليهود. ويدل على هذا المعنى قراءة الضحاك: سماعين، وانتصابه على الذم نحو قوله:

أقارع عوف لا أحاول غيرها وجوه قرود تبتغي من تخادع

ويجوز أن يكون: { { ومن الذين هادوا } [النساء: 46] استئنافاً، وسماعون مبتدأ وهم اليهود، وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا والمعنى: أنهم لم يجاوز قولهم أفواههم، إنما نطقوا بالإيمان خاصة دون اعتقاد. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى: لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود، وصفهم بأنهم قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلزاماً منهم ذلك من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها، فهم يقولون بأفواههم: نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوا وجحدوا ما فيها من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما ينكرونه. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا { وما أولئك بالمؤمنين } ويجيء على هذا التأويل قوله: من الذين قالوا كأنه قال: ومنهم، ولكنْ صرّح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدّل التوراة على علم منها انتهى. وهو احتمال بعيد متكلف، وسماعون من صفات المبالغة، ولا يراد به حقيقة السماع إلا إن كان للكذب مفعولاً من أجله، ويكون المعنى: إنهم سماعون منك أقوالك من أجل أن يكذبوا عليك، وينقلون حديثك، ويزيدون مع الكلمة أضعافها كذباً. وإن كان للكذب مفعولاً به لقوله: سماعون، وعدى باللام على سبيل التقوية للعامل، فمعنى السماع هنا قبولهم ما يفتريه أحبارهم ويختلقونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولهم: الملك يسمع كلام فلان، ومنه "سمع الله لمن حمده" وتقدم ذكر الخلاف في قراءة يحزنك ثلاثياً ورباعياً. وقرأ السلمي: يسرعون بغير ألف من أسرع. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر: للكذب بكسر الكاف وسكون الذال. وقرأ زيد بن عليّ: الكذب بضم الكاف والذال جمع كذوب، نحو صبور وصبر، أي: سماعون للكذب الكذب.

{ سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } فيحتمل أن يكون المعنى: سماعون لكذب قوم آخرين لم يأتوك أي كذبهم، والذين لم يأتوه يهود فدك. وقيل: يهود خيبر. وقيل: أهل الرأيين. وقيل: أهل الخصام في القتل والدية. ويحتمل أن يكون المعنى: سماعون لأجل قوم آخرين، أي هم عيون لهم وجواسيس يسمعون منك وينقلون لقوم آخرين، وهذا الوصف يمكن أن يتصف به المنافقون، ويهود المدينة. وقيل: السماعون بنو قريظة، والقوم الآخرون يهود خيبر. وقيل لسفيان بن عيينة: هل جرى ذكر الجاسوس في كتاب الله؟ فقال: نعم. وتلا هذه الآية سماعون لقوم آخرين، لم يأتوك: صفة لقوم آخرين. ومعنى لم يأتوك: لم يصلوا إلى مجلسك وتجافوا عنك لما فرط منهم من شدّة العداوة والبغضاء، فعلى هذا الظاهر أن المعنى: هم قائلون من الأحبار كذبهم وافتراؤهم، ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك.

{ يحرّفون الكلم من بعض مواضعه } قرئ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام أي: يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعها الله فيها. قال ابن عباس والجمهور: هي حدود الله في التوراة، وذلك أنهم غيروا الرجم أي: وضعوا الجلد مكان الرجم. وقال الحسن: يغيرون ما يسمعون من الرسول عليه السلام بالكذب عليه. وقيل: بإخفاء صفة الرسول. وقيل: بإسقاط القود بعد استحقاقه. وقيل: بسوء التأويل. قال الطبري: المعنى يحرفون حكم الكلام، فحذف للعلم به انتهى. ويحتمل أن يكون هذا وصفاً لليهود فقط، ويحتمل أن يكون وصفاً لهم وللمنافقين فيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم، لأن مبادىء كذبهم يكون من أشياء قيلت وفعلت، وهذا هو الكذب الذي يقرب قبوله. ومعنى من بعد مواضعه: قال الزجاج من بعد أن وضعه الله مواضعه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه.

{ يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } الإشارة بهذا قيل: إلى التحميم والجلد في الزنا. وقيل: إلى قبول الدية في أمر القتل. وقيل: على إبقاء عزة النضير على قريظة، وهذا بحسب الاختلاف المتقدم في سبب النزول. وقال الزمخشري: إن أوتيتم، هذا المحرّف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق، واعملوا به انتهى. وهو راجع لواحد مما ذكرناه، والفاعل المحذوف هو الرسول أي: إن أتاكم الرسول هذا.

{ وإن لم تؤتوه فاحذروا } أي: وإنْ أفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم من قبوله فهو الباطل والضلال. وقيل: فاحذروا أن تعلموه بقوله السديد. وقيل: أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به. وقيل: فاحذروا أن تسألوه بعدها، والظاهر الأول لأنه مقابل لقوله: فخذوه. فالمعنى: وإن لم تؤتوه وأتاكم بغيره فاحذروا قبوله.

{ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } قال الحسن وقتادة: فتنته أي عذابه بالنار. ومنه يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون. وقال الزجاج: فضيحته. وقيل: اختباره لما يظهر به أمره. وقيل: إهلاكه. وقال ابن عباس ومجاهد: كفره وإضلاله، يقال: فتنه عن دينه صرفه عنه، وأصله فلن يقدر على دفع ما يريد الله منه. وقال الزمخشري: ومن يرد الله فتنته تركه مفتوناً وخذلانه، فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً انتهى. وهذا على طريقة الاعتزال. وهذه الجملة جاءت تسلية للرسول وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر. وقطعاً لرجائه من فلاحهم.

{ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } أي سبق لهم في علم الله ذلك، وأن يكونوا مدنسين بالكفر. وفي هذا وما قبله ردّ على القدرية والمعتزلة. وقال الزمخشري: أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع ولا تنجع فيها. إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي.

{ لهم في الدنيا خزي } أي ذل وفضيحة. فخزي المنافقين بهتك سترهم وخوفهم من القتل إن اطلع على كفرهم المسلمون، وخزي اليهود تمسكنهم وضرب الجزية عليهم، وكونهم في أقطار الأرض تحت ذمّة غيرهم وفي إيالته. وقال مقاتل: خزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي بني النضير بإجلائهم.

{ ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وصف بالعظم لتزايده فلا انقضاء له، أو لتزايد ألمه أو لهما.

{ سماعون للكذب أكالون للسحت } قال الحسن: يسمعون الكلام ممن يكذب عندهم في دعواه فيأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان: هم اليهود ويسمعون الكذب، وهو قول بعضهم لبعض: محمد كاذب ليس بنبي، وليس في التوراة الرجم، وهم يعلمون كذبهم. وقيل: الكذب هنا شهادة الزور انتهى. وهذا الوصف إن كان قوله أوّلاً: سماعون للكذب، وصفاً لبني إسرائيل.

وتقدم أن السحت المال الحرام. واختلف في المراد به هنا، فعن ابن مسعود: أنه الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن الكلب، والنرد، والخمر، والخنزير، والميتة، والدم، وعسب الفحل، وأجرة النائحة والمغنية، والساحر، وأجر مصوّر التماثيل، وهدية الشفاعة. قالوا وسمي سحتاً المال الحرام لأنه يسحت الطاعات أو بركة المال أو الدين أو المروءة وعن ابن مسعود ومسروق: أن المال المأخوذ على الشفاعة سحت. وعن الحسن: أنّ ما أكل الرجل من مال من له عليه دين سحت. وقيل لعبد الله: كنا نرى أنه ما أخذ على الحكم يعنون الرشا، قال: ذلك كفر، قال تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }. وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم يعزل، وفي الحديث: " كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به" وقال علي وأبو هريرة: كسب الحجام سحت، يعني أنه يذهب المروءة، وما ذكر في معنى السحت فهو من أمثلة المال الذي لا يحل كسبه.

ومن أعظم السحت الرشوة في الحكم، وهي المشار إليها في الآية. كان اليهود يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. وعن الحسن: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها، وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب. وقرأ النحويان وابن كثير: السحت بضمتين. وقرأ باقي السبعة: بإسكان الحاء. وزيد بن علي وخارجة بن مصعب عن نافع: بفتح السين وإسكان الحاء، وقرىء بفتحتين. وقرأ عبيد بن عمير: بكسر السين وإسكان الحاء، فبالضم والكسر والفتحتين اسم المسحوت كالدهن والرّعي والنبض، وبالفتح والسكون مصدر أريد به المفعول كالصيد بمعنى المصيد، أو سكنت الحاء طلباً للخفة.

{ فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } أي فإن جاؤوك للحكم بينهم فأنت مخير بين أن تحكم، أو تعرض. والظاهر بقاء هذا الحكم من التخيير لحكام المسلمين. وعن عطاء، والنخعي، والشعبي، وقتادة، والأصم، وأبي مسلم، وأبي ثور: أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين، فإن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا أعرضوا. وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وعطاء الخراساني، وعمر بن عبد العزيز، والزهري: التخيير منسوخ بقوله: { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [المائدة: 49] فإذا جاؤوا فليس للإمام أن يردهم إلى أحكامهم. والمعنى عند غيرهم: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا اخترت الحكم بينهم دون الإعراض عنهم. وعن أبي حنيفة: إنْ احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام، وأقيم الحدّ على الزاني بمسلمة، والسارق من مسلم. وأما أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود، ويقولون: إنّ رجم اليهوديين كان قبل نزول الجزية. وقال ابن عطية: الأمة مجمعة على أنّ حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم، ويتسلط عليهم في تغيير، ومن ذلك حبس السلع المبيعة وغصب المال. فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها، وإنما هي دعاء ومحتملة، فهي التي يخير فيها الحاكم انتهى. وفيه بعض تلخيص. وظاهر الآية يدل على مجيء المتداعيين إلى الحاكم، ورضاهما بحكمه كاف في الإقدام على الحكم بينهما. وقال ابن القاسم: لا بد مع ذلك من رضا الأساقفة والرهبان، فإنْ رضي الأساقفة دون الخصمين، أو الخصمان دون الأساقفة، فليس له أن يحكم. وقال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والزهري، وغيرهم: فإن جاؤوك يعني أهل نازلة الزانيين، ثم الآية تتناول سائر النوازل. وقال قوم: في قتيل اليهود من قريظة والنضير. وقال قوم: التخيير مختص بالمعاهدين لازمة لهم. ومذهب الشافعي: أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه، لأنّ في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب عليه أن يحكم بينهم، بل يتخير في ذلك، وهو التخيير الذي في الآية وهو مخصوص بالمعاهدين. وروي عن الشافعي مثل قول عطاء والنخعي.

{ وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً } أي أنت آمن من ضررهم، منصور عليهم على كل حال. وكانوا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم، فالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضروه، فأمنه الله منهم، وأخبره أنهم ليسوا قادرين على شيء من ضرره.

{ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } أي: وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكم بين المسلمين. والقسط: هو المبين في قوله { { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [المائدة: 49]، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالقسط، فهو أمر معناه الخبر أي: فحكمك لا يقع إلا بالعدل، لأنك معصوم من اتباع الهوى.

{ إن الله يحب المقسطين } وأنت سيدهم، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم. وفيه حث على توخي القسط وإيثاره، حيث ذكر الله أنه يحب من اتصف به.

{ وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله } هذا تعجيب من تحكيمهم إياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه. وفي كتابهم الذي يدعون الإيمان به حكم الله تعالى نص جلي، فليسوا قاصدين حكم الله حقيقة، وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده صلى الله عليه وسلم رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعاً لأهوائهم، وأنهماكاً في شهواتهم. ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لا يؤمن به ولا بكتابه، فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه. وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس على وفق شهواتهم، فلأنْ يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى. والواو في: وعندهم، للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر، وقوله: فيها. حكم الله، حال من التوراة، وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي: كائناً فيها حكم الله. ويجوز أن يكون فيها في موضع رفع خبراً عن التوراة كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله. أو لا محل له، وتكون جملة مبينة، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره؟ وهذان الإعرابان للزمخشري.

{ ثم يتولون من بعد ذلك } أي من بعد تحكيمك الموافق لما في كتابهم، لأن التعجيب من التحكيم إنما كان بعد صدوره منهم، ثم تولوا عنه ولم يرضوا به. وقال ابن عطية: من بعد ذلك، أي من بعد حكم الله في التوراة وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله انتهى. وهذه الجملة مستأنفة أي: ثم هم يتولون بعد. وهي أخبار من الله بتوليهم على عادتهم في أنهم إذا وضح لهم الحق أعرضوا عنه وتولوا. قال الزمخشري: (فإن قلت): علام عطف ثم يتولون؟ (قلت): على يحكمونك انتهى. ويكون إذ ذاك داخلاً في الاستفهام الذي يراد به التعجب، أي ثمّ كيف يتولون بعد ذلك، فيكون قد تعجب من تحكيمهم إياه، ثم من توليهم عنه. أي: كيف رضوا به ثم سخطوه؟.

{ وما أولئك بالمؤمنين } ظاهره نفي الإيمان عنهم، أي: من حكم الرسول، وخالف كتابه، وأعرض عما حكم له، إذ وافى كتابه فهو كافر. وقيل: هو إخبار عنهم أنهم لا يؤمنون أبداً، فهو خبر عن المستقبل لا الماضي. وقيل: نفي الإيمان بالتوراة وبموسى عنهم. وقيل: هو تعليق بقوله: وكيف يحكمونك، أي اعجب لتحكيمهم إياك، وليسوا بمؤمنين بك، ولا معتقدين في صحة حكمك، وذلك يدل على أنهم إنما قصدهم تحصيل منافع الدنيا وأغراضهم الفاسدة دون اتباع الحق.

{ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } قال ابن مسعود، وابن عباس، والحسن: نزلت في الجاحدين حكم الله، وهي عامة في كل من جحد حكم الله. وقال البراء بن عازب: نزل { يا أيها لرسول - إلى - فأولئك هم الكافرون } في اليهود خاصة وذكر قصة رجم اليهوديين. وقيل لحذيفة: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } نزلت في بني إسرائيل؟ قال نعم. وقال الحسن وأبو مجلز وأبو جعفر: هي في اليهود. وقال الحسن: هي علينا واجبة. وقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما نزلت هذه الآية:: "نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان" وفي الآية ترغيب لليهود بأن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم، وتنبيه المنكرين لوجوب الرجم. وقال جماعة: الهدى والنور سواء، وكرر للتأكيد. وقال قوم: ليسا سواء، فالهدى محمول على بيان الأحكام، والنور والبيان للتوحيد والنبوة والمعاد. قال الزمخشري: يهدي للعدل والحق، ونور يبين ما استبهم من الأحكام. وقال ابن عطية: الهدى الإرشاد المعتقد والشرائع، والنور ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها. وقيل: المعنى فيها بيان أمر الرسول وما جاءوا يستفتون فيه.

{ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } ظاهر قوله: النبيون، الجمع. قالوا: وهم من لدن موسى إلى عيسى. وقال عكرمة: محمد ومن قبله من الأنبياء. وقيل: النبيون الذين هم على دين ابراهيم. وقال الحسن والسدي: هو محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك حين حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كقوله: { { أم يحسدون الناس } [النساء: 54] { والذين أسلموا } وصف مدح الأنبياء كالصفات التي تجري على الله تعالى، وأريد بإجرائها التعريض باليهود والنصارى، حيث قالت اليهود: إن الأنبياء كانوا يهوداً، والنصارى قالت: كانوا نصارى، فبين أنهم كانوا مسلمين، كما كان ابراهيم عليه السلام. ولذلك جاء: { { هو سماكم المسلمين من قبل } [الحج: 78] ونبه بهذا الوصف أنّ اليهود والنصارى بعداء من هذا الوصف الذي هو الإسلام، وأنه كان دين الأنبياء كلهم قديماً وحديثاً. والظاهر أنّ الذين هادوا متعلق بقوله: يحكم بها النبيون. وقيل: بأنزلنا. وقيل: التقدير هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون. وفي قوله: للذين هادوا، تنبيه على أنهم ليسوا مسلمين، بل هم بعداء من ذلك. واللام في للذين هادوا إذا علقت بيحكم للاختصاص، فيشمل من يحكم له ومن يحكم عليه. وقيل: ثم محذوف أي: للذين هادوا وعليهم. وقيل: اللام بمعنى على، أي على الذين هادوا.

{ والربانيون والأحبار } هما بمعنى واحد، وهم العلماء. قاله الأكثرون ومنهم: ابن قتيبة والزجاج. وقال مجاهد: الربانيون الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار. وقال السدي: الربانيون العلماء، والأحبار الفقهاء. وقال ابن زيد: الربانيون الولاة، والأحبار العلماء. وقيل: الربانيون علماء النصارى، والأحبار علما اليهود، وقد تقدم شرح الرباني. وقال الزمخشري: والربانيون والأحبار الزهاد، والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا، دين اليهود. وقال السدي: المراد هنا بالربانيين والأحبار الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهما ربانياً، والآخر حبراً، وكانا قد أعطيا النبي عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به، فسألهما عن أمر الرجم فأخبراه به على وجهه، فنزلت الآية مشيرة إليهما. قال ابن عطية: وفي هذا نظر. والرواية الصحيحة أن ابنا صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم، وفضحهم فيه عبد الله بن سلام، وإنما اللفظ في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم، فلم يسم حبراً ولا ربانياً انتهى.

{ بما استحفظوا من كتاب الله } الباء في بما للسبب، وتتعلق بقوله: يحكم. واستفعل هنا للطلب، والمعنى: بسبب ما استحفظوا. والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي: بسبب ما طلب الله منهم حفظهم لكتاب الله وهو التوراة، وكلفهم حفظها، وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها، وقد أخذ الله على العلماء حفظ الكتاب من وجهين: أحدهما: حفظه في صدورهم ودرسه بألسنتهم. والثاني: حفظه بالعمل بأحكامه واتباع شرائعه. وهؤلاء ضيعوا ما استحفظوا حتى تبدلت التوراة. وفي بناء الفعل للمفعول وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفل بحفظ التوراة، بل طلب منهم حفظها وكلفهم بذلك، فغيروا وبدلوا وخالفوا أحكام الله بخلاف كتابنا، فإنّ الله تعالى قد تكفل بحفظه، فلا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير. قال تعالى: { { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر: 9] وقيل: الضمير في استحفظوا عائد على الربانيين والأحبار فقط. والذين استحفظهم التوراة هم الأنبياء.

{ وكانوا عليه شهداء } الظاهر أنّ الضمير عائد على كتاب الله أي: كانوا عليه رقباء لئلا يبدل. والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى، وكان بينهما ألف نبي للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائهم عليهم ما اشتهوه من الجلد. وقيل: الهاء تعود على الحكم أي: وكانوا شهداء على الحكم. وقيل: عائد على الرسول أي: وكانوا شهداء على أنه نبي مرسل.

{ فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } هذا نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم، وإذهابهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل بخشية سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد من الغرماء والأصدقاء. ولا تستعطوا بآيات الله ثمناً قليلاً وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة فهلكوا. وهذا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن معناه: لا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بالرجم، واخشون في كتمان ذلك. ولما كان الإقدام على تغيير أحكام الله سببه شيئآن: الخوف، والرغبة، وكان الخوف أقوى تأثيراً من الرغبة، قدم النهي عن الخوف على النهي عن الرغبة والطمع. والظاهر أنّ هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية، والقول لعلماء بني إسرائيل. وقال مقاتل: الخطاب ليهود المدينة قيل لهم: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم، واخشوني في كتمانه انتهى. وهذا وإن كان خطاباً لعلماء بني إسرائيل، فإنه يتناول علماء هذه الأمة. وقال ابن جريج: هو خطاب لهذه الأمة أي لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس، فلم يقولوا الحق.

{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ظاهر هذا العموم، فيشمل هذه الأمة وغيرهم ممن كان قبلهم، وإن كان الظاهر أنه في سياق خطاب اليهود، وإلى أنها عامة في اليهود وغيرهم. ذهب ابن مسعود، وابراهيم، وعطاء، وجماعة ولكنْ كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق يعني: إنّ كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر، وكذلك ظلمه وفسقه لا يخرجه ذلك عن الملة قاله: ابن عباس وطاووس. وقال أبو مجلز: هي مخصوصة باليهود والنصارى وأهل الشرك وفيهم نزلت. وبه قال: أبو صالح قال: ليس في الإسلام منها شيء. وروي في هذا حديث عن البراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:: "أنها الثلاثة في الكافرين" قال عكرمة، والضحاك: هي في أهل الكتاب، وقاله: عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وذكر أبو عبيدة هذه الأقوال فقال: إنّ بشراً من الناس يتأوّلون الآيات على ما لم تنزل عليه، وما أنزلت هذه الآيات إلا في حيين من يهود قريظة والنضير، وذكر حكاية القتل بينهم. وقال الحسن: نزلت في اليهود وهي علينا واجبة. وقيل لحذيفة: أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل؟ فقال: نعم، الإخوة لكم بنو إسرائيل أن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة، لتسلكن طريقهم قدّ الشرك، وعن ابن عباس، واختاره ابن جرير: إنّ الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب، وعنه نعم القوم أنتم ما كان من حلو فلكم، وما كان من مرّ فهو لأهل الكتاب. من جحد حكم الله كفر، ومن لم يحكم به وهو مقر به ظالم فاسق. وعن الشعبي: الكافرون في أهل الإسلام، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى. وكأنه خصص كل عام منها بما تلاه، إذ قبل الأولى: { فإن جاؤك فاحكم بينهم } و { فإن حكمت فاحكم } { وكيف يحكمونك } و { يحكم بها النبيون } وقبل الثانية: { وكتبنا عليهم فيها } وقبل الثالثة: وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه } الآية. وقال الزمخشري: ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به، فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون، وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها انتهى. وقال السدّي: من خالف حكم الله وتركه عامداً وتجاوزه وهو يعلم، فهو من الكافرين حقاً، ويحمل هذا على الجحود، فهو الكفر ضد الإيمان كما قال: ابن عباس. واحتجت الخوارج بهذه الآية على أنّ كل من عصى الله تعالى فهو كافر، وقالوا: هي نص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافراً. وأجيبوا: بأنها نزلت في اليهود، فتكون مختصة بهم. وضعف بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومنهم من قال: تقديره ومن لم يحكم بما أنزل الله من هؤلاء الذين سبق ذكرهم قبل، وهذا ضعيف، لأنّ من شرط وهي عام، وزيادة ما قدر زيادة في النقص، وهو غير جائز. وقيل: المراد كفر النعمة، وضعف بأنّ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدّين. وقال ابن الأنباري: فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار، وضعف بأنه عدول عن الظاهر. وقال عبد العزيز بن يحيـى الكناني: ما أنزل صيغة عموم، فالمعنى: من أتى بضد حكم الله في كل ما أنزل الله، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل وهو العمل، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق. وضعف بأنه لو كان كذلك لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفاتهم حكم الله في الرجم. وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم، فدل على سقوطه هذا. وقال عكرمة: إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف أنه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاد، فهو حاكم بما أنزل الله، لكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية.

{ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن الرجم، وغيره اليهود، وبين هنا أنّ في التوراة: أن النفس بالنفس وغيره اليهود أيضاً، ففضلوا بني النضير على بني قريظة، وخصوا إيجاب القود على بني قريظة دون بني النضير. ومعنى وكتبنا: فرضنا. وقيل: قلنا والكتابة بمعنى القول ويجوز أن يراد الكتابة حقيقة، وهي الكتابة في الألواح، لأن التوراة مكتوبة في الألواح، والضمير في فيها عائد على التوراة، وفي: عليهم، على الذين هادوا. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم: بنصب، والعين وما بعدها من المعاطيف على التشريك في عمل أنّ النصب، وخبر أنّ هو المجرور، وخبر والجروح قصاص. وقدَّر أبو عليّ العامل في المجرور مأخوذ بالنفس إلى آخر المجرورات، وقدره الزمخشري أولاً: مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلها بغير حق، وكذلك العين مفقوأة بالعين، والأنف مجدوع بالأنف، والأذن مأخوذة مقطوعة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن. وينبغي أن يحمل قول الزمخشري: مقتولة ومفقوأة ومجدوع مقطوعة على أنه تفسير المعنى لا تفسير الإعراب، لأن المجرور إذا وقع خبراً لا بد أن يكون العامل فيه كوناً مطلقاً، لا كوناً مقيداً. والباء هنا باء المقابلة والمعاوضة، فقدر ما يقرب من الكون المطلق وهو مأخوذ. فإذا قلت: بعت الشاء شاة بدرهم، فالمعنى مأخوذ بدرهم، وكذلك { الحر بالحر والعبد بالعبد } [البقرة: 178]. التقدير: الحر مأخوذ بالحر، والعبد مأخوذ بالعبد. وكذلك هذا الثوب بهذا الدرهم معناه مأخوذ بهذا الدرهم. وقال الحوفي: بالنفس يتعلق بفعل محذوف تقديره: يجب، أو يستقر. وكذا العين بالعين وما بعدها مقدر الكون المطلق، والمعنى: يستقر قتلها بقتل النفس. وقرأ الكسائي: برفع والعين وما بعدها. وأجاز أبو عليّ في توجيه الرفع وجوهاً. الأول: أنّ الواو عاطفة جملة على جملة، كما تعطف مفرداً على مفرد، فيكون والعين بالعين جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية وهي: وكتبنا، فلا تكون تلك الجمل مندرجة تحت كتبنا من حيث اللفظ، ولا من حيث التشريك في معنى الكتب، بل ذلك استئناف إيجاب وابتداء تشريع. الثاني: أنّ الواو عاطفة جملة على المعنى في قوله: أن النفس بالنفس، أي: قل لهم النفس بالنفس، وهذا العطف هو من العطف على التوهم، إذ يوهم في قوله: أنَّ النفس بالنفس، إنه النفس بالنفس، والجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى، لا من حيث اللفظ. الثالث: أن تكون الواو عاطفة مفرداً على مفرد، وهو أن يكون: والعين معطوفاً على الضمير المستكن في الجار والمجرور، أي بالنفس هي والعين وكذلك ما بعدها. وتكون المجرورات على هذا أحوالاً مبينة للمعنى، لأن المرفوع على هذا فاعل، إذ عطف على فاعل.

وهذان الوجهان الأخيران ضعيفان: لأن الأول منهما هو المعطوف على التوهم، وهو لا ينقاس، إنما يقال منه ما سمع. والثاني منهما فيه العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير فصل بينه وبين حرف العطف، ولا بين حرف العطف والمعطوف بلا، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا في الضرورة، وفيه لزوم هذه الأحوال. والأصل في الحال أن لا تكون لازمة. وقال الزمخشري: الرفع للعطف على محل: أنّ النفس، لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا، وإما أنّ معنى الجملة التي هي قولك: النفس بالنفس، مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة يقول: كتبت الحمد لله، وقرأت سورة أنزلناها. وكذلك قال الزجاج: لو قرىء أنّ النفس لكان صحيحاً انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري هو الوجه الثاني من توجيه أبي علي، إلا أنه خرج عن المصطلح فيه، وهو أن مثل هذا لا يسمى عطفاً على المحل، لأن العطف على المحل هو العطف على الموضع، وهذا ليس من العطف على الموضع، لأن العطف على الموضع هو محصور وليس هذا منه، وإنما هو عطف على التوهم. ألا ترى أنا لا نقول أن قوله: أنّ النفس بالنفس في موضع رفع، لأن طالب الرفع مفقود، بل نقول: إنّ المصدر المنسبك من أنّ واسمها وخبرها لفظه وموضعه واحد وهو النصب، والتقدير: وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس، إمّا لإجراء كتبنا مجرى قلنا، فحكيت بها الجملة: وإمّا لأنهما مما يصلح أن يتسلط الكتب فيها نفسه على الجملة لأنّ الجمل مما تكتب كما تكتب المفردات، ولا نقول: إن موضع أنّ النفس بالنفس وقع بهذا الاعتبار.

وقرأ العربيان وابن كثير: بنصب والعين، والأنف، والأذن، والسن، ورفع والجروح. وروي ذلك عن: نافع. ووجه أبو علي: رفع والجروح على الوجوه الثلاثة التي ذكرها في رفع والعين وما بعدها. وروي أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ أنّ النفس بتخفيف أنْ، ورفع العين وما بعدها فيحتمل أن وجهين: أحدهما: أن تكون مصدرية مخففة من أنّ، واسمها ضمير الشأن وهو محذوف، والجملة في موضع رفع خبر أنّ فمعناها معنى المشدّدة العاملة في كونها مصدرية. والوجه الثاني: أن تكون أنْ تفسيرية التقدير أي: النفس بالنفس، لأن كتبنا جملة في معنى القول. وقرأ أبيّ بنصب النفس، والأربعة بعدها. وقرأ: وأنْ الجروح قصاص بزيادة أن الخفيفة، ورفع الجروح. ويتعين في هذه القراءة أن تكون المخففة من الثقيلة، ولا يجوز أن تكون التفسيرية من حيث العطف، لأن كتبنا تكون عاملة من حيث المشدّدة غير عاملة من حيث التفسيرية، فلا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك، فإذا لم يكن عمل فلا تشريك. وقرأ نافع: والأذن بالأذْن بإسكان الذال معرفاً ومنكراً ومثنى حيث وقع. وقرأ الباقون: بالضم. فقيل: هما لغتان، كالنكر والنكر. وقيل: الإسكان هو الأصل، وإنما ضم اتباعاً. وقيل: التحريك هو الأصل، وإنما سكن تخفيفاً.

ومعنى هذه الآية: أن الله فرض على بني إسرائيل أنّ من قتل نفساً بحد أخذ نفسه، ثم هذه الأعضاء كذلك، وهذا الحكم معمول به في ملتنا إجماعاً. والجمهور على أنّ قوله أنّ النفس بالنفس عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وقال قوم: يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي، وبه قال أبو حنيفة: وأجمعوا على أنّ المسلم لا يقتل بالمستأمن ولا بالحربي، ولا يقتل والد بولده، ولا سيد بعبده. وتقتل جماعة بواحد خلافاً لعلي، وواحد بجماعة قصاصاً، ولا يجب مع القود شيء من المال. وقال الشافعي: يقتل بالأول منهم وتجب دية الباقين، قد مضى الكلام في ذلك في البقرة في قوله: { { كتب عليكم القصاص في القتلى } [البقرة: 178] الآية. وقال ابن عباس: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت. وقال أيضاً: رخص الله تعالى لهذه الأمة ووسع عليها بالدية، ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم. وقال الثوري: بلغني عن ابن عباس أنه نسخ { { الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد } [البقرة: 178] قوله: أن النفس بالنفس، والظاهر في قوله: النفس بالنفس العموم، ويخرج منه ما يخرج بالدليل، ويبقى الباقي على عمومه. والظاهر في قوله: العين بالعين فتفقأ عين الأعور بعين من كان ذا عينين، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وروي عن عثمان وعمر في آخرين: أن عليه الدية. وقال مالك: إن شاء فقأ وإن شاء أخذ الدية كاملة. وبه قال: عبد الملك بن مروان، وقتادة، والزهري، والليث، ومالك، وأحمد، والنخعي. وروى نصف الدية عن: عبد الله بن المغفل، ومسروق، والنخعي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والشافعي. قال ابن المنذر: وبه نقول. وتفقأ اليمنى باليسرى، وتقلع الثنية بالضرس، وعكسهما لعموم اللفظ، وبه قال ابن شبرمة. وقال الجمهور: هذا خاص بالمساواة، فلا تؤخذ يمنى بيسرى مع وجودها إلا مع الرضا. ولو فقأ عيناً لا يبصر بها فعن زيد بن ثابت: فيها مائة دينار، وعن عمر: ثلث ديتها. وقال مسروق، والزهري، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر: فيها حكومة. ولو أذهب بعض نور العين وبقي بعض، فمذهب أبي حنيفة: فيها الارش. وعن علي: اختبار بصره، ويعطى قدر ما نقص من مال الجاني.

وفي الأجفان كلها الدية، وفي كل جفن ربع الدية قاله: زيد بن ثابت، والحسن، والشعبي، وقتادة، وابراهيم، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي. وقال الشعبي: في الجفن الأعلى ثلث الدية، وفي الأسفل ثلثاها.

واختلف فيمن قطع أنفاً هل يجري فيها القصاص أم لا؟ فقال أبو حنيفة: إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه، وإنما فيه الدية. وروي عن أبي يوسف: أن في ذلك القصاص إذا استوعب. واختلف في كسر الأنف: فمالك يرى القود في العمد منه، والاجتهاد في الخطأ. وروي عن نافع: لا دية فيه حتى يستأصله. وروي عن علي: أنه أوجب القصاص في كسره. وقال الشافعي: إن جبر كسره ففيه حكومة، وما قطع من المارن بحسابه، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي، وبه قال الشافعي: وفي المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف الدية كاملة، قاله: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابه. والمارن ما لان من الأنف، والأرنبة والروثة طرف المارن. ولو أفقده الشم أو نقصه: فالجمهور على أنّ فيه حكومة عدل.

والأذن بالأذن يقتضي وجوب القصاص إذا استوعب، فإن قطع بعضها ففيه القصاص إذا عرف قدره. وقال الشافعي: في الأذنين الدية، وفي إحداهما نصفها. وقال مالك: في الأذنين حكومة، وإنما الدية في السمع، ويقاس نقصاه كما يقاس في البصر. وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها.

والسن بالسن يقتضي أنّ القلع قصاص، وهذا لا خلاف فيه، ولو كسر بعضها. والأسنان كلها سواء: ثناياها، وأنيابها، وأضراسها، ورباعياتها، في كل واحدة خمس من الإبل من غير فضل. وبه قال: عروة، وطاووس، وقتادة، والزهري، والثوري، وربيعة، والأوزاعي، وعثمان البتي، ومالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وروي عن علي، وابن عباس، ومعاوية. وروى ابن المسيب عن عمر: أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض وذلك خمسون ديناراً، كل فريضة عشر دنانير، وفي الأضراس بعير بعير. قال ابن المسيب: فلو أصيب الفم كله في قضاء عمر نقصت الدية، أو في قضاء معاوية زادت، ولو كنت إنا لجعلتها في الأضراس بعيرين بعيرين. قال عمر: الأضراس عشرون، والأسنان اثنا عشر: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربع أنياب. والخلاف إنما هو في الأضراس لا في الأسنان، ففي قضاء عمر الدية ثمانون، وفي قضاء معاوية مائة وستون. وعلى قول ابن المسيب مائة، وهي الدية كاملة من الإبل. وقال عطاء في الثنيتين والرباعيتين والنابين: خمس خمس، وفيما بقي بعيران بعيران، أعلى الفم وأسفله سواء. ولو قلعت سن صبي لم يثغر فنبتت فقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا شيء على القالع. إلا أن مالكاً والشافعي قالا: إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من ارشها بقدر نقصها. وقالت طائفة: فيها حكومة، وروي ذلك عن الشعبي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. ولو قلعت سن كبير فأخذ ديتها ثم نبتت فقال مالك: لا يرد ما أخذ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يرد، والقولان عن الشافعي. ولو قلعت سن قوداً فردها صاحبها فالتحمت فلا يجب قلعها عند أبي حنيفة، وبه قال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: يجبر على القلع، به قال ابن المسيب، ويعيد كل صلاة صلاها بها. وكذا لو قطعت أذنه فردها في حرارة الدم فالتزقت، وروي هذا القول عن عطاء أبو بكر بن العربي قال: وهو غلط. ولو قلع سناً زائدة فقال الجمهور: فيها حكومة، فإن كسر بعضها أعطى بحساب ما نقص منها، وبه قال: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد. قال الأدفوي: وما علمت فيه خلافاً. وقال زيد بن ثابت: في السن الزائدة ثلث السن، ولو جنى على سن فاسودت ثم عقلها، روي ذلك عن زيد، وابن المسيب، وبه قال: الزهري، والحسن، وابن سيرين، وشريح، والنخعي، وعبد الملك بن مروان، وأبو حنيفة، ومالك، والثوري. وروي عن عمران: فيها ثلث ديتها، وبه قال: أحمد وإسحاق. وقال النخعي والشافعي وأبو ثور: فيها حكومة، فإن طرحت بعد ذلك ففيها عقلها، وبه قال الليث وعبد العزيز بن أبي سلمة، وإنْ اسود بعضها كان بالحساب قاله: الثوري.

والجروح قصاص أي ذات قصاص. ولفظ الجروح عام، والمراد به الخصوص، وهو ما يمكن فيه القصاص. وتعرف المماثلة ولا يخاف فيها على النقص، فإن خيف كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها. ومدلول: والجروح قصاص، يقتضي أن يكون الجرح بمثله، فإن لم يكن بمثله فليس بقصاص. واختلفوا في القصاص بين الرجال والنساء، وبين العبد والحر. وجميع ما عدا النفس هو من الجراحات التي أشار إليها بقوله: والجروح قصاص، لكنه فصل أول الآية وأجمل آخرها ليتناول ما نص عليه وما لم ينص، فيحصل العموم. معنى: وإن لم يحصل لفظاً. ومن جملة الجروح الشجاج فيما يمكن فيه القصاص، فلا خلاف في وجوبها فيه، وما لا فلا قصاص فيه كالمأمومة. وقال أبو عبيد: فليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة، لأنه ليس شيء منها له حد ينتهي إليه سواها، وأما غيرها من الشجاج ففيه ديته انتهى. وقال غيره: في الخارصة القصاص بمقدارها إذا لم يخش منها سراية، وأقاد ابن الزبير من المأمومة، وأنكر الناس عليه. قال عطاء: ما علمنا أحداً أقاد منها قبله. وأما الجروح في اللحم فقال: فقد ذكر بعض أهل العلم أن القصاص فيها ممكن بأن يقاس بمثل، ويوضع بمقدار ذلك الجرح.

{ فمن تصدق به فهو كفارة له } المتصدق صاحب الحق. ومستو في القصاص الشامل للنفس والأعضاء وللجروح التي فيها القصاص، وهو ضمير يعود على التصدق أي: فالتصدق كفارة للمتصدق، والمعنى: أنّ من تصدق بجرحه يكفر عنه، قاله: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وأبو الدرداء، وقتادة، والحسن، والشعبي. وذكر أبو الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة" وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي:» أنه يحط عنه من ذنوبه ما عفى عنه من الدية« وعن عبد الله بن عمر: يهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق. وقيل: الضمير في له عائد على الجاني وإنْ لم يتقدّم له ذكر، لكنه يفهم من سياق الكلام، ويدل عليه المعنى. والمعنى: فذلك العفو والتصدق كفارة للجاني يسقط عنه ما لزمه من القصاص. وكما أن القصاص كفارة كذلك العفو كفارة، وأجر العافي على الله تعالى قاله: ابن عباس، والسبيعي، ومجاهد، وابراهيم، والشعبي، وزيد بن أسلم، ومقاتل. وقيل: المتصدق هو الجاني، والضمير في له يعود عليه. والمعنى: إذا جنى جان فجهل وخفى أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن من نفسه، فذلك الفعل كفارة لذنبه. وقال مجاهد: إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب. وأصاب عروة عند الركن إنساناً وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة: أنا أصبتك، وأنا عروة بن الزبير، فإن كان يلحقك بها بأس فأنا بها. وعلى هذا القول يحتمل أن يكون تصدق تفعل من الصدقة، ويحتمل أن يكون من الصدق.

وقرأ أبي: فهو كفارة له يعني: فالتصدق كفارته، أي الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها، وهو تعظيم لما فعل لقوله: { { فأجره على الله } [الشورى: 40] وترغيب في العفو. وتأول قوم الآية على معنى: والجروح قصاص، فمن أعطى دية الجرح وتصدق به فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت. وفي مصحف أبي: ومن يتصدق به فإنه كفارة له.

{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } ناسب فيما تقدم ذكر الكافرين، لأنه جاء عقيب قوله: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } الآية ففي ذلك إشارة إلى أنه لا يحكم بجميعها، بل يخالف رأساً. ولذلك جاء: { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } وهذا كفر، فناسب ذكر الكافرين. وهنا جاء عقيب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجروح، فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية، وإشارة إلى ما كانوا قرروه من عدم التساوي بين بني النضير وبني قريظة.

{ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة } مناسبة هذه الآية قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ التوراة يحكم بها النبيون، ذكر أنه قفاهم بعيسى تنبيهاً على أنه من جملة الأنبياء، وتنويهاً باسمه، وتنزيهاً له عما يدعيه اليهود فيه، وأنه من جملة مصدقي التوراة.

ومعنى: قفينا، أتينا به، يقفو آثارهم أي يتبعها. والضمير في آثارهم يعود على النبيين من قوله: يحكم بها النبيون } وقيل: على الذين كتبت عليهم هذه الأحكام. وعلى آثارهم، متعلق بقفينا، وبعيسى متعلق به أيضاً. وهذا على سبيل التضمين أي: ثم جئنا على آثارهم بعيسى ابن مريم قافياً لهم، وليس التضعيف في قفينا للتعدية، إذ لو كان للتعدية ما جاء مع الباء المعدية، ولا تعدى بعلى. وذلك أن قفا يتعدى لواحد قال تعالى: { { ولا تقف ما ليس لك به علم } [الإسراء: 36] وتقول: قفا فلان الأثر إذا اتبعه، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى إلى اثنين منصوبين، وكان يكون التركيب: ثم قفينا على آثارهم عيسى ابن مريم، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول، وآثارهم المفعول الثاني، لكنه ضمن معنى جاء وعدي بالياء، وتعدى إلى آثارهم بعلى. وقال الزمخشري: قفيته مثل عقبته إذا اتبعته، ثم يقال: قفيته بفلان وعقبته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء.

(فإن قلت): فأين المفعول الأول في الآية؟ (قلت): هو محذوف، والظرف الذي هو على آثارهم كالسادّ مسده، لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه انتهى. وكلامه يحتاج إلى تأويل، وذلك أنه جعل قفيته المضعف بمعنى قفوته، فيكون فعل بمعنى فعل نحو: قدر الله، وقدر الله، وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل، ثم عداه بالباء، وتعدية المتعدي لمفعول بالباء لثان قلّ أن يوجد، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد. ولا يجوز فلا يقال: في طعم زيد اللحم، أطعمت زيداً باللحم، والصحيح أنه جاء على قلة تقول: دفع زيد عمراً، ثم تعديه بالباء فتقول: دفعت زيداً بعمرو. أي: جعلت زيداً يدفع عمراً، وكذلك صك الحجر الحجر. ثم تقول: صككت الحجر بالحجر أي جعلته يصكه. وأما قوله: المفعول الأول محذوف الظرف كالساد مسده فلا يتجه، لأنّ المفعول هو مفعول به صريح، ولا يسد الظرف مسده، وكلامه مفهم التضمين وإن لم يصرح به. ألا ترى إلى قوله: لأنه إذا قفى به أثره فقد قفى به إياه؟ وقول الزمخشري: فقد قفى به إياه فصل الضمير، وحقه أن يكون متصلاً، وليس من مواضع فصل لو قلت: زيد ضربت بسوط إيتاه لم يجز إلا في ضرورة شعر، فإصلاحه زيد ضربته بسوط، وانتصب مصدقاً على الحال من عيسى. ومعنى: لما بين يديه، لما تقدمه من التوراة لأنها جاءت قبله، كما أن الرسول بين يدي الساعة. وتقدم الكلام في هذا. وتصديقه إياها هو بكونه مقراً أنها كتاب منزل من الله حقاً واجب العمل به قبل ورود النسخ، إذ شريعته مغايرة لبعض ما فيها.

{ وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور } هذه الجملة معطوفة على قوله: وقفينا. وفيه تعظيم عيسى عليه السلام بأن الله آتاه كتاباً إلهيّاً. وتقدمت قراءة الحسن الإنجيل بفتح الهمزة، وما ذكروه في اشتقاقه إن كان عربياً.

وقوله: فيه هدى ونور، في موضع الحال، وارتفاع هدى على الفاعلية بالجار والمجرور، إذ قد اعتمد بأن. وقع حالاً لذي حال أي: كائناً فيه هدى. ولذلك عطف عليه { ومصدقاً لما بين يديه من التوراة } والضمير في يديه عائد على الإنجيل، والمعنى: أن عيسى وكتابه الذي أنزل عليه هما مصدقان لما تقدمهما من التوراة، فتظافر على تصديقه الكتاب الإلهي المنزل، والنبي المرسل المنزل عليه ذلك الكتاب. ومعنى كونه فيه هدى أنه يشتمل على دلائل التوحيد، وتنزيه الله عن الولد والصاحبة والمثل والضد، وعلى الإرشاد والدعاء إلى الله تعالى، وإلى إحياء أحكام التوراة، والنور هو ما فيه مما يستضاء به إذ فيه بيان أحكام الشريعة وتفاصيلها. قال ابن عطية: ومصدقاً حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى، فإنها جملة في موضع الحال انتهى. وإنما قال: إن مصدقاً، حال مؤكدة من حيث المعنى، لأنه يلزم من كون الإنجيل كتاباً إلاهيا أن يكون مصدقاً للكتب الإلهية، لكن قوله: معطوفة على الجملة التي هي فيه هدى، فإنها جملة في موضع الحال قول مرجوح، لأنّا قد بينا أنّ قوله: فيه هدى ونور من قبيل المفرد لا من قبيل الجملة، إذ قدرناه كائناً فيه هدى ونور، ومتى دار الأمر بين أن يكون الحال مفرداً أو جملة، كان تقدير المفرد أجود على تقدير أنه جملة يكون ذلك من القليل، لأنها جملة اسمية، ولم تأت بالواو، وإن كان يغني عن الرابط الذي هو الضمير، لكن الأحسْن والأكثر أن يأتي بالواو، حتى أنّ الفراء زعم أن عدم الواو شاذ، وإن كان ثم ضمير، وتبعه على ذلك الزمخشري. قال علي بن أبي طالب: ومصدقاً معطوف على مصدقاً الأول انتهى. ويكون إذ ذاك حالاً من عيسى، كرره على سبيل التوكيد، وهذا فيه بعد من جهة التركيب واتساق المعانى، وتكلفه أن يكون وآتيناه الإنجيل جملة حالية معطوفة على مصدّقاً.

{ وهدى وموعظة للمتقين } قرأ الضحاك: وهدى وموعظة بالرفع، وهو هدى وموعظة. وقرأ الجمهور: بالنصب حالاً معطوفة على قوله: ومصدقاً، جعله أولاً فيه هدى ونور، وجعله ثانياً هدى وموعظة. فهو في نفسه هدى، وهو مشتمل على الهدى، وجعله هدى مبالغة فيه إذ كان كتاب الإنجيل مبشراً برسول الله صلى الله عليه وسلم والدلالة منه على نبوته ظاهرة. ولما كانت أشد وجوه المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى ذلك، أعاد الله ذكر الهدى تقريراً وبياناً لنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفه بالموعظة لاشتماله على نصائح وزواجر بليغة، وخصصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما قال تعالى: { { هدى للمتقين } [البقرة: 2] فهم المقصودون في علم الله تعالى، وإن كان الجميع يدعي ويوعظ، ولكنه على غير المتقين عمى وحسرة، وأجاز الزمخشري أن ينتصب هدى وموعظة على أنهما مفعول لهما لقوله: وليحكم. قال: كأنه قيل: وللهدي والموعظة آتيناه الإنجيل، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام. وينبغي أن يكون الهدى والموعظة مسندين في المعنى إلى الله، لا إلى الإنجيل، ليتحد المفعول من أجله مع العامل في الفاعل، ولذلك جاء منصوباً. ولما كان: وليحكم، فاعله غير الله، أتى معدي إليه بلام العلة. ولاختلاف الزمان أيضاً، لأن الإيتاء قارن الهداية والموعظة في الزمان، والحكم خالف فيه لاستقباله ومضيه في الإيتاء، فعدى أيضاً لذلك باللام، وهذا الذي أجازه الزمخشري خلاف الظاهر. قال الزمخشري: فإن نظمت هدى وموعظة في سلك مصدّقاً فما تصنع بقوله: وليحكم؟ (قلت): أصنع به كما صنعت بهدى وموعظة، حين جعلتهما مفعولاً لهما، فأقدر: ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه انتهى. وهو جواب واضح.

{ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية، وقلنا لهم: احكموا، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع، أو بما أنزل الله فيه مخصوصاً بالدلائل الدالة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول الأصم، أو بخصوص الزمان إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره. فالمعنى: وليقرأه أهل الإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه، وهذا بعيد. وظاهر الأمر يرد قول من قال: إن عيسى كان متعبداً بأحكام التوراة. وقال تعالى: { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } ولهذا القائل أن يقول: بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة. والذي يظهر أن الأحكام في الإنجيل قليلة، وإنما أكثره زواجر. وتلك الأحكام المخالفة لأحكام التوراة أمروا بالعمل بها، ولهذا جاء: { { ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم } [آل عمران: 50].

وقرأ الجمهور: وليحكم بلام الأمر ساكنة، وبعض القراء يكسرها. وقرأ أبيّ: وأن ليحكم بزيادة أن قبل لام كي، وتقدّم كلام الزمخشري فيما يتعلق به. وقال ابن عطية: والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه انتهى. فعطف وليحكم على توهم علة ولذلك قال: ليتضمن الهدى. والزمخشري جعله معطوفاً على هدى وموعظة، على توهم النطق باللام فيهما كأنه قال: وللهدى والموعظة وللحكم أي: جعله مقطوعاً مما قبله، وقدر العامل مؤخراً أي: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه إياه. وقول الزمخشري أقرب إلى الصواب، لأن الهدي الأول والنور والتصديق لم يؤت بها على سبيل العلة، إنما جيء بقوله: فيه هدى ونور، على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً، وهذا معنى الحال، والحال لا يكون علة. فقول ابن عطية: ليتضمن كيت وكيت، وليحكم، بعيد.

{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ناسب هنا ذكر الفسق، لأنه خرج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله: وليحكم، وهو أمر. كما قال تعالى: { { اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه } [الكهف: 50] أي: خرج عن طاعة أمره تعالى. فقد اتضح مناسبة ختم الجملة الأولى بالكافرين، والثانية بالظالمين، والثالثة بالفاسقين. وقال ابن عطية: وتكرير هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التوكيد، وأصوب ما يقال فيها: أنها تعم كل مؤمن وكافر، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها. وقال القفال: هي لموصوف واحد كما تقول: من أطاع الله فهو البر، ومن أطاع فهو المؤمن، ومن أطاع فهو المتقي. وقيل: الأول في الجاحد، والثاني والثالث في المقر التارك. وقال الأصم: الأول والثاني في اليهود، والثالث في النصارى. وعلى قول ابن عطية يعم كل كافر ومؤمن، يكون إطلاق الكافرين والظالمين والفاسقين عليهم للاشتراك في قدر مشترك.

{ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك كلهم في أنها نزلت على موسى، فترك ذكره للمعرفة بذلك، ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإنجيل، فذكره ليقروا أنه من جملة الأنبياء، إذ اليهود تنكر نبوّته، وإذا أنكرته أنكرت كتابه، فنص تعالى عليه وعلى كتابه. ثم ذكر إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الكتاب، ومن أنزله مقرّراً لنبوّته وكتابه، لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه. وجاء هنا ذكر المنزل إليه بكاف الخطاب، لأنه أنص على المقصود. وكثيراً ما جاء ذلك بلفظ الخطاب لأنه لا يلبس البتة وبالحق: ملتبساً بالحق ومصاحباً له لا يفارقه، لما كان متضمناً حقائق الأمور، فكأنه نزل بها. ويحتمل أن يتعلق بأنزلنا أي: أنزلناه بأن حق ذلك، لا أنه وجب على الله، لكنه حق في نفسه. والألف واللام في الكتاب للعهد وهو القرآن بلا خلاف. وانتصب مصدقاً على الحال لما بين يديه، أي: لما تقدمه من الكتاب. الألف واللام فيه للجنس، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة، ويحتمل أن تكون للعهد، لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق، وإنما أريد نوع معلوم منه، وهو ما أنزل السماء سوى القرآن. والفرق بينهما أنه في الأوّل يحتاج إلى تقدير الصفة، وأنها حذفت، والتقدير: من الكتاب الإلهي. وفي الثاني لا يحتاج إلى هذا التقدير، لأن العهد في الاسم يتضمن الاسم به جميع الصفات التي للاسم، فلا يحتاج إلى تقدير حذف.

ومهيمناً عليه أي أميناً عليه، قاله ابن عباس في رواية التيمي، وابن جبير، وعكرمة، وعطاء، والضحاك، والحسن. وقال ابن جريج: القرآن أمين على ما قبله من الكتب، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدّقوا، وإلا فكذبوا. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: شاهداً. وبه قال الحسن أيضاً وقتادة، والسدّي، ومقاتل، وقال ابن زيد: مصدّقاً على ما أخبر من الكتب، وهذا قريب من القول الأول. وقال الخليل: المهيمن هو الرقيب الحافظ. ومنه قوله:

إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب

وحكاه الزجاج، وبه فسر الزمخشري قال: ومهيمناً رقيباً على سائر الكتب، لأنه يشهد لها بالصحة والبيان انتهى. وقال الشاعر:

مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد

فسر بالحافظ، وهذا في صفات الله. وأما في القرآن فمعناه أنه حافظ للدّين والأحكام. وقال الضحاك أيضاً: معناه قاضياً. وقال عكرمة أيضاً: معناه دالاً. وقال ابن عطية: وقد ذكر أقوالاً أنه شاهد، وأنه مؤتمن، وأنه مصدّق، وأنه أمين، وأنه رقيب، قال: ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنى بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحامله، فلا يدخل فيه ما ليس منه، والقرآن جعله الله مهيمناً على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرّفون إليها، فيصحح الحقائق ويبطل التحريف. وقرأ مجاهد وابن محيصن: ومهيمناً بفتح الميم الثانية، جعله اسم مفعول أي مؤمن عليه، أي: حفظ من التبديل والتغيير. والفاعل المحذوف هو الله أو الحافظ في كل بلد، لو حذف منه حرف أو حركة أو سكون لتنبه له وأنكر ذلك. وردّ ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه عائد على الكتاب الثاني. وفي قراءة اسم المفعول عائد على الكتاب الأول، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب الأول لأنه معطوف على مصدّقاً والمعطوف على الحال حال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال: معناه محمد مؤتمن على القرآن. قال الطبري: فعلى هذا يكون مهيمناً حالاً من الكاف في إليك. وطعن في هذا القول لوجود الواو في ومهيمناً، لأنها عطف على مصدّقاً، ومصدّقاً حال من الكتاب لا حال من الكاف، إذ لو كان حالاً منها لكان التركيب لما بين يديك بكاف الخطاب، وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عن نظم القرآن، وتقديره: وجعلناك يا محمد مهيمناً عليه أبعد. وأنكر ثعلب قول المبرد وابن قتيبة أنّ أصله مؤتمن.

{ فاحكم بينهم بما أنزل الله } ظاهره أنه أمر أن يحكم بما أنزل الله، وتقدم قول من قال: إنها ناسخة لقوله: { أو أعرض عنهم } وقول الجمهور: إنْ اخترت أن تحكم بينهم بما أنزل الله، وهذا على قول من جعل الضمير في بينهم عائداً على اليهود، ويكون على قول الجمهور أمر ندب، وإن كان الضمير للمتحاكمين عموماً، فالخطاب للوجوب ولا نسخ.

{ ولا تتبع أهواءهم } أي لا توافقهم في أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع، وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع.

{ عما جاءك من الحّق } الذي هو القرآن. وضمن تتبع معنى تنحرف، أو تنصرف، فلذلك عدي بعن أي: لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعاً أهواءهم، أو بسبب أهوائهم. وقال أبو البقاء: عما جاءك في موضع الحال أي: عادلاً عما جاءك، ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن، وهذا ليس بجيد. لأنّ عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالاً من الجنة، كما لا يصلح أن يكون خبراً، وإذا كان ناقصاً فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق، والكون المقيد لا يجوز حذفه.

{ لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } الظاهر أنّ المضاف إليه كل المحذوف هو: أمة أي: لكل أمّة. والخطاب في منكم للناس أي: أيها الناس لليهود شرعة ومنهاج، وللنصارى كذلك، قاله: عليّ، وقتادة والجمهور، ويعنون في الأحكام. وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد، وإيمان بالرسل، وكتبها وما تضمنته من المعاد، والجزاء الأخروي. وقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء شرائعهم مختلفة ثم قال: { { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [الأنعام: 90] والمعنى في المعتقدات. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء، لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال تنبيهاً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي: فاحفظ شرعك ومنهاجك لئلا تستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه انتهى. فيكون المحذوف المضاف إليه لكلّ نبي، أي: لكل نبيّ منكم أيها الأنبياء. والشرعة والمنهاج لفظان لمعنى واحد أي: طريقاً، وكرر للتوكيد كما قال الشاعر:

وهـند أتـى مـن دونهـا النـأي والبعـد

وقال ابن عباس والحسن وغيرهما: سبيلاً وسنة. وقال مجاهد: الشرعة والمنهاج دين محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون المعنى لكل منكم أيها الناس جعلنا هذا الدين الخالص فاتبعوه، والمراد بذلك إنّا أمرناكم باتباع دين محمد إذ هو ناسخ للأديان كلها. وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر. وقال ابن الأنباري: الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحاً وغير واضح، والمنهاج لا يكون إلا واضحاً. وقيل: الشرعة الدين، والمنهاج الدليل. وقيل: الشرعة النبي، والمنهاج الكتاب. قال ابن عطية: والمنهاج بناء مبالغة من النهج، ويحتمل أن يراد بالشرعة الأحكام، وبالمنهاج المعتقد أي هو واحد في جميعكم، وفي هذا الاحتمال بعد انتهى. قيل: وفي هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا. وقرأ النخعي وابن وثاب: شَرعة بفتح الشين، والظاهر أنّ جعلنا بمعنى صيرنا، ومفعولها الثاني هو لكل، ومنكم متعلق بمحذوف تقديره: أعني منكم. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون منكم صفة لكل، لأنَّ ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تشديد فيه للكلام، ويوجب أيضاً أن يفصل بين جعلتا وبين معمولها وهو شرعة انتهى. فيكون في التركيب كقولك: من كل ضربت تميمي رجلاً، وهو لا يجوز.

{ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكموها أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في الضلال. وقيل لجعلكم أمة واحدة على الحق.

{ ولكن ليبلوكم فيما آتاكم } أي: ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب. وقال الزمخشري: من الشرائع المختلفة، هل تعلمون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن الله تعالى لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة، أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل انتهى؟ وقال ابن جريج وغيره: ولكنه لم يشأ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع، فليس لهم إلا أن يجدوا في امتثال الأوامر.

{ فاستبقوا الخيرات } أي ابتدروا الأعمال الصالحة قاله: مقاتل. وهي التي عاقبتها أحسن الأشياء. وقال ابن عباس والضحاك: الخيرات الإيمان بالرسول.

{ إلى الله مرجعكم جميعاً } هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات، كأنه يقول: يظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته.

{ فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } أي فيخبركم بأعمالكم، وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب، وهو أخبار إيقاع. قال ابن جرير: قد بين ذلك في الدنيا بالدلالة والحجج، وغداً يبينه بالمجازاة انتهى. وبهذا التنبيه يظهر الفضل بين المحق والمبطل، والمسبق والمقصر في العمل. ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر، ولم يضمنها معنى أعلم فيعديها إلى ثلاثة.