التفاسير

< >
عرض

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
٣٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
٣٧
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ
٣٨
فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ
٣٩
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ
٤٠
وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
٤١
يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ
٤٢
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ
٤٣
يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ
٤٤
نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ
٤٥

البحر المحيط

أي كثيراً. { أهلكنا }: أي قبل قريش. { هم أشدّ منهم بطشاً }، لكثرة قوتهم وأموالهم. وقرأ الجمهور: { فنقبوا }، بفتح القاف مشددة، والظاهر أن الضمير في نقبوا عائد على كم، أي دخلوا البلاد من أنقابها. والمعنى: طافوا في البلاد. وقيل: نقروا وبحثوا، والتنقيب: التنقير والبحث. قال امرؤ القيس في معنى التطواف:

وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب

وروي: وقد طوفت. وقال الحارث بن خلدة:

نقبوا في البلاد من حذر الموت وجالوا في الأرض كل مجال

وفنقبوا متسبب عن شدة بطشهم، فهي التي أقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه. ويجوز أن يعود الضمير في فنقبوا على قريش، أي فنقبوا في أسفارهم في بلاد القرون، فهل رأوا محيصاً حتى يؤملوه لأنفسهم؟ ويدل على عود الضمير على أهل مكة قراءة ابن عباس، وابن يعمر، وأبي العالية، ونصر بن يسار، وأبي حيوة، والأصمعي عن أبي عمرو: بكسر القاف مشدّدة على الأمر لأهل مكة، أي فسيحوا في البلاد وابحثوا. وقرىء: بكسر القاف خفيفة، أي نقبت أقدامهم وأخفاف إبلهم، أو حفيت لكثرة تطوافهم في البلاد، من نقب خف البعير إذا انتقب ودمى. ويحتمل أن يكون { هل من محيص } على إضمار القول، أي يقولون هل من محيص من الهلاك؟ واحتمل أن لا يكون ثم قول، أي لا محيص من الموت، فيكون توفيقاً وتقريراً.

{ إن في ذلك }: أي في إهلاك تلك القرون، { لذكرى }: لتذكرة واتعاظاً، { لمن كان له قلب }: أي واع، والمعنى: لمن له عقل وعبر عنه بمحله، ومن له قلب لا يعي، كمن لا قلب له. وقرأ الجمهور: { أو ألقى السمع }، مبنياً للفاعل، والسمع نصب به، أي أو أصغى سمعه مفكراً فيه، و{ شهيد }: من الشهادة، وهو الحضور. وقال قتادة: لمن كان له، قيل: من أهل الكتاب، فيعتبر ويشهد بصحتها لعلمه بذلك من التوراة، فشهيد من الشهادة. وقرأ السلمي، وطلحة، والسدي، وأبو البرهشيم: أو ألقى مبنياً، للمفعول، السمع: رفع به، أي السمع منه، أي من الذي له قلب. وقيل: المعنى: أو لمن ألقي غيره السمع وفتح له أذنه ولم يحضر ذهنه، أي الملقي والفاتح والملقى له والمفتوح أذنه حاضر الذهن متفطن. وذكر لعاصم أنها قراءة السدي، فمقته وقال: أليس يقول يلقون السمع؟

{ ولقد خلقنا السموات والأرض }: نزلت في اليهود تكذيباً لهم في قولهم: إنه تعالى استراح من خلق السموات والأرض، { في ستة أيام }: يوم السبت، واستلقى على العرش، وقيل: التشبيه الذي وقع في هذه الأمة إنما أخذ من اليهود. { وما مسنا من لغوب }: احتمل أن تكون جملة حالية، واحتمل أن تكون استئنافاً؛ واللغوب: الإعياء. وقرأ الجمهور: بضم اللام، وعلي، والسلمي، وطلحة، ويعقوب، بفتحها، وهما مصدران، الأول مقيس وهو الضم، وأما الفتح فغير مقيس، كالقبول والولوع، وينبغي أن يضاف إلى تلك الخمسة التي ذكرها سيبويه، وزاد الكسائي الوزوع فتصير سبعة.

{ فاصبر }، قيل: منسوخ بآية السيف، { على ما يقولون }: أي اليهود وغيرهم من الكفار قريش وغيرهم، { وسبح بحمد ربك }، أي فصلّ، { قبل طلوع الشمس }، هي صلاة الصبح، { وقبل الغروب }: هي صلاة العصر، قاله قتادة وابن زيد والجمهور. وقال ابن عباس: قبل الغروب: الظهر والعصر. { ومن الليل }: صلاة العشاءين، { وقبل الغروب }: ركعتان قبل المغرب. وفي صحيح مسلم، عن أنس ما معناه: أن الصحابة كانوا يصلونها قبل المغرب. وقال قتادة: ما أدركت أحداً يصليها إلا أنساً وأبا برزة الأسلمي. وقال بعض التابعين: كان الصحابة يهبون إليهما كما يهبون إلى المكتوبة. وقال ابن زيد: هي العشاء فقط. وقال مجاهد: هي صلاة الليل. { وأدبار السجود }، قال أبو الأحوص: هو التسبيح في أدبار الصلوات. وقال عمر، وعليّ، وأبو هريرة، والحسن، والشعبي، وإبراهيم، ومجاهد، والأوزاعي: هما ركعتان بعد المغرب. وقال ابن عباس: هو الوتر بعد العشاء. وقال ابن عباس، ومجاهد أيضاً، وابن زيد: النوافل بعد الفرائض. وقال مقاتل: ركعتان بعد العشاء، يقرأ في الأولى: { { قل يا أيها الكافرون } [الكافرون: 1]، وفي الثانية: { قل هو الله أحد } [الإخلاص: 1]. وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر، وشيبة، وعيسى، والأعمش، وطلحة، وشبل، وحمزة، والحرميان: وإدبار بكسر الهمزة، وهو مصدر، تقول: أدبرت الصلاة، انقضت ونمت. وقال الزمخشري وغيره: معناه ووقت انقضاء السجود، كقولهم: آتيك خفوق النجم. وقرأ الحسن والأعرج وباقي السبعة: بفتحها، جمع دبر، كطنب وأطناب، أي وفي أدبار السجود: أي أعقابه. قال أوس بن حجر:

على دبر الشهر الحرام فأرضنا وما حولها جدب سنون تلمع

{ واستمع }: أمر بالاستماع، والظاهر أنه أريد به حقيقة الاستماع، والمستمع له محذوف تقديره: واستمع لما أخبر به من حال يوم القيامة، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "يا معاذ اسمع ما أقول لك" ، ثم حدثه بعد ذلك. وانتصب { يوم } بما دل عليه ذلك. { يوم الخروج }: أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور. وقيل: مفعول استمع محذوف تقديره: نداء المنادي. وقيل تقديره: نداء الكافر بالويل والثبور. وقيل: لا يحتاج إلى مفعول، إذ حذف اقتصاراً، والمعنى: كن مستمعاً، ولا تكن غافلاً معرضاً. وقيل معنى واستمع: وانتظر، والخطاب لكل سامع. وقيل: للرسول، أي ارتقبه، فإن فيه تبين صحة ما قلته، كما تقول لمن تعده بورود فتح: استمع كذا وكذا، أي كن منتظراً له مستمعاً، فيوم منتصب على أنه مفعول به. وقرأ ابن كثير: المنادى بالياء وصلاً ووقفاً، ونافع، وأبو عمرو؛ بحذف الياء وقفاً، وعيسى، وطلحة، والأعمش، وباقي السبعة: بحذفها وصلاً ووقفاً اتباعاً لخط المصحف، ومن أثبتها فعلى الأصل، ومن حذفها وقفاً فلأن الوقف تغيير يبدل فيه التنوين ألفاً نصباً، والتاء هاء، ويشدّد المخفف، ويحذف الحرف في القوافي. والمنادي في الحديث: "أن ملكاً ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة هلموا إلى الحشر والوقوف بين يدي الله تعالى" . { من مكان قريب }: وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق. قيل: والمنادي إسرافيل، ينفخ في الصور وينادي. وقيل: المنادي جبريل. وقال كعب، وقتادة وغيرهما: المكان صخرة بيت المقدس، قال كعب: قربها من السماء بثمانية عشر ميلاً، كذا في كتاب ابن عطية، وفي كتاب الزمخشري: باثني عشر ميلاً، وهي وسط الأرض. انتهى، ولا يصح ذلك إلا بوحي.

{ يوم يسمعون }: بدل من { يوم ينادي }، و{ الصيحة }: صيحة المنادي. قيل: يسمعون من تحت أقدامهم. وقيل: من تحت شعورهم، وهي النفخة الثانية، و{ بالحق } متعلق بالصيحة، والمراد به البعث والحشر. { ذلك }: أي يوم النداء والسماع، { يوم الخروج } من القبور، وقيل: الإشارة بذلك إلى النداء، واتسع في الظرف فجعل خبراً عن المصدر، أو يكون على حذف، أي ذلك لنداء نداء يوم الخروج، أو وقت النداء يوم الخروج. وقرأ نافع، وابن عامر: تشقق بشدّ الشين؛ وباقي السبعة: بتخفيفها. وقرىء: تشقق بضم التاء، مضارع شققت على البناء للمفعول، وتنشق مضارع انشقت. وقرأ زيد بن علي: تشقق بفك الإدغام، ذكره أبو عليّ الأهوازي في قراءة زيد بن عليّ من تأليفه، ويوم بدل من يوم الثاني. وقيل: منصوب بالمصدر، وهو الخروج. وقيل: المصير، وانتصب { سراعاً } على الحال من الضمير في عنهم، والعامل تشقق. وقيل: محذوف تقديره يخرجون، فهو حال من الواو في يخرجون، قاله الحوفي. ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملاً في { يوم تشقق }. { ذلك حشر علينا يسير }: فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة، وهو علينا، أي يسير علينا، وحسن ذلك كون الصفة فاصلة. وقال الزمخشري: { علينا يسير }، تقديم الظرف يدل على الاختصاص، يعني لا يتيسر مثل ذلك اليوم العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال: { { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } [لقمان: 28]. انتهى، وهو على طريقه في أن تقديم المفعول وما أشبهه من دلالة ذلك على الاختصاص، وقد بحثنا معه في ذلك في سورة الفاتحة في { إياك نعبد } [الفاتحة: 5].

{ نحن أعلم بما يقولون }: هذا وعيد محض للكفار وتهديد لهم، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم. { وما أنت عليهم بجبار }: بمتسلط حتى تجبرهم على الإيمان، قاله الطبري. وقيل: التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم. { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد }: لأن من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدّق بوقوعه لا يذكر، إذ لا تنفع فيه الذكرى، كما قال: { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } [الذاريات: 55]، وختمت بقوله: { فذكر بالقرآن }، كما افتتحت بـ{ ق والقرآن }.