التفاسير

< >
عرض

قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ
١
بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ
٢
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ
٣
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
٤
بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ
٥
أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ
٦
وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٧
تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ
٨
وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ
٩
وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ
١٠
رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ
١١
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ
١٢
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ
١٣
وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
١٤

البحر المحيط

هذه السورة مكية، قال ابن عطية: بإجماع من المتأولين. وقال صاحب التحرير: قال ابن عباس، وقتادة: مكية إلا آية، وهي قوله تعالى: { ولقد خلقنا السماوات والأرض } [ق: 38] الآية. ومناسبتها لآخر ما قبلها، أنه تعالى أخبر أن أولئك الذين قالوا آمنا، لم يكن إيمانهم حقاً، وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: { بل عجبوا أن جاءهم منذر }. وعدم الإيمان أيضاً يدل على إنكار البعث، فلذلك أعقبه به. وق حرف هجاء، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولاً متعارضة، لا دليل على صحة شيء منها، فأطرحت نقلها في كتابي هذا.

{ والقرآن } مقسم به و{ المجيد } صفته، وهو الشريف على غيره من الكتب، والجواب محذوف يدل عليه ما بعده، وتقديره: أنك جئتهم منذراً بالبعث، فلم يقبلوا. { بل عجبوا }، وقيل: ما ردوا أمرك بحجة. وقال الأخفش، والمبرد، والزجاج: تقديره لتبعثن. وقيل: الجواب مذكور، فعن الأخفش قد علمنا ما تنقص الأرض منهم؛ وعن ابن كيسان، والأخفش: ما يلفظ من قول؛ وعن نحاة الكوفة: بل عجبوا، والمعنى: لقد عجبوا. وقيل: إن في ذلك لذكرى، وهو اختيار محمد بن علي الترمذي. وقيل: ما يبدل القول لديّ، وهذه كلها أقوال ضعيفة. وقرأ الجمهور: قاف بسكون الفاء، ويفتحها عيسى، ويكسرها الحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال؛ وبالضم: هارون وابن السميفع والحسن أيضاً؛ فيما نقل ابن خالويه. والأصل في حروف المعجم، إذا لم تركب مع عامل، أن تكون موقوفة. فمن فتح قاف، عدل إلى الحركات؛ ومن كسر، فعلى أصل التقاء الساكنين؛ ومن ضم، فكما ضم قط ومنذ وحيث.

{ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم }: إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا صدقه وأمانته ونصحه، فكان المناسب أن لا يعجبوا، وهذا مع اعترافهم بقدرة الله تعالى، فأي بعد في أن يبعث من يخوف وينذر بما يكون في المآكل من البعث والجزاء. والضمير في { بل عجبوا } عائد على الكفار، ويكون قوله: { فقال الكافرون } تنبيهاً على القلة الموجبة للعجب، وهو أنهم قد جبلوا على الكفر، فلذلك عجبوا. وقيل: الضمير عائد على الناس، قيل: لأن كل مفطور يعجب من بعثة بشر رسولاً من الله، لكن من وفق نظر فاهتدى وآمن، ومن خذل ضل وكفر؛ وحاج بذلك العجب والإشارة بقولهم: { هذا شيء عجيب }، الظاهر أنها إلى مجيء منذر من البشر. وقيل: إلى ما تضمنه الإنذار، وهو الإخبار بالبعث. وقال الزمخشري: وهذا إشارة إلى المرجع. انتهى، وفيه بعد.

وقرأ الجمهور: { أئذأ } بالاستفهام، وهم على أصولهم في تحقيق الثانية وتسهيلها والفصل بينهما. وقرأ الأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، وابن وثاب، والأعمش، وابن عتبة عن ابن عامر: إذا بهمزة واحدة على صورة الخبر، فجاز أن يكون استفهاماً حذفت منه الهمزة، وجاز أن يكونوا عدلوا إلى الخبر وأضمر جواب إذا، أي إذا متنا وكنا تراباً رجعنا. وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب رجع بعيد على تقدير حذف الفاء، وقد أجاز بعضهم في جواب الشرط ذلك إذا كان جملة اسمية، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة. وأما في قراءة الاستفهام، فالظرف منصوب بمضمر، أي: أنبعث إذا متنا؟ وإليه الإشارة بقوله ذلك، أي البعث.

{ رجع بعيد }، أي مستبعد في الأوهام والفكر. وقال الزمخشري: وإذا منصوب بمضمر معناه: أحين نموت ونبلى نرجع؟ انتهى. وأخذه من قول ابن جني، قال ابن جني: ويحتمل أن يكون المعنى: أئذا متنا بعد رجعنا، فدل رجع بعيد على هذا الفعل، ويحل محل الجواب لقولهم أئذا. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع، وهو الجواب، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث، والوقف قبله على هذا التفسير حسن. فإن قلت: فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع؟ قلت: ما دل عليه المنذر من المنذر به، وهو البعث. انتهى. وكون ذلك رجع بعيد بمعنى مرجوع، وأنه من كلام الله تعالى، لا من كلامهم، على ما شرحه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب.

{ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم }: أي من لحومهم وعظامهم وآثارهم، قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور، وهذا فيه رد لاستبعادهم الرجع، لأن من كان عالماً بذلك، كان قادراً على رجعهم. وقال السدي: أي ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم، وهذا يتضمن الوعيد. { وعندنا كتاب حفيظ }: أي حافظ لما فيه جامع، لا يفوت منه شيء، أو محفوظ من البلى والتغير. وقيل: هو عبارة عن العلم والإحصاء. وفي الخبر الثابت أن الارض تأكل ابن آدم إلا عجب الذنب، وهو عظم كالخردلة منه يركب ابن آدم.

{ بل كذبوا بالحق لما جاءهم }: وقدروا قبل هذا الإضراب جملة يكون مضروباً عنها، أي ما أجادوا النظر، بل كذبوا. وقيل: لم يكذبوا المنذر، بل كذبوا، والغالب أن الإضراب يكون بعد جملة منفية. وقال الزمخشري: بل كذبوا: إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات. انتهى. وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأول، وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جواباً للقسم، فلا يكون قبل الثانية ما قدروه من قولهم: ما أجادوا النظر، { بل كذبوا بالحق }، والحق: القرآن، أو البعث، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الإسلام، أقوال. وقرأ الجمهور: { لما جاءهم }: أي لم يفكروا فيه، بل بأول ما جاءهم كذبوا؛ والجحدري: لما جاءهم، بكسر اللام وتخفيف الميم، وما مصدرية، واللام لام الجر، كهي في قولهم كتبته لخمس خلون أي عند مجيئهم إياه. { فهم في أمر مريج }، قال الضحاك، وابن زيد: مختلط: مرة ساحر، ومرة شاعر، ومرة كاهن. قال قتادة: مختلف. وقال الحسن: ملتبس. وقال أبو هريرة: فاسد. ومرجت أمانات الناس: فسدت، ومرج الدين: اختلط. قال أبو واقد:

ومرج الدين فأعددت له مسرف الحارك محبوك الكند

وقال ابن عباس: المريج: الأمر المنكر، وعنه أيضاً مختلط، وقال الشاعر:

فجالت والتمست لها حشاها فخر كأنه خوط مريج

والأصل فيه الاضطراب والقلق. مرج الخاتم في أصبعي، إذا قلق من الهزال. ويجوز أن يكون الأمر المريج، باعتبار انتقال أفكارهم فيما جاء به المنذر قائلاً عدم قبولهم أول إنذاره إياهم، ثم العجب منهم، ثم استبعاد البعث الذي أنذر به، ثم التكذيب لما جاء به. { أفلم ينظروا } حين كفروا بالبعث وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى آثار قدرة الله تعالى في العالم العلوي والسفلي، { كيف بنيناها } مرتفعة من غير عمد، { وزيناها } بالنيرين وبالنجوم، { وما لها من فروج }: أي من فتوق وسقوف، بل هي سليمة من كل خلل.

{ والأرض مددناها }: بسطناها، { وألقينا فيها رواسي }، أي جبالاً ثوابت تمنعها من التكفؤ، { من كل زوج }: أي نوع، { بهيج }: أي حسن المنظر بهيج، أي يسر من نظر إليه. وقرأ الجمهور: { تبصرة وذكرى } بالنصب، وهما منصوبان بفعل مضمر من لفظهما، أي بصر وذكر. وقيل: مفعول من أجله. وقرأ زيد بن علي: تبصرة بالرفع، وذكر معطوف عليه، أي ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة، والمعنى: يتبصر بذلك ويتذكر، { كل عبد منيب }: أي راجع إلى ربه مفكر في بدائع صنعه. { ماء مباركاً }: أي كثير المنفعة، { وحب الحصيد }: أي الحب الحصيد، فهو من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، كما يقوله البصريون، والحصيد: كل ما يحصد مما له حب، كالبر والشعير. { باسقات }: أي طوالاً في العلو، وهو منصوب على الحال، وهي حال مقدرة، لأنها حالة الإنبات، لم تكن طوالاً. وباسقات جمع. { والنخل } اسم جنس، فيجوز أن يذكر، نحو قوله: { { نخل منقعر } [القمر: 20]، وأن يؤنث نحو قوله تعالى: { { نخل خاوية } [الحاقة: 7]، وأن يجمع باعتبار إفراده، ومنه باسقات، وقوله: { وينشىء السحاب الثقال } [الرعد: 12]. والجمهور: باسقات بالسين. وروى قطبة بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قرأ: باصقات بالصاد، وهي لغة لبني العنبر، يبدلون من السين صاداً إذا وليتها، أو فصل بحرف أو حرفين، خاء أو عين أو قاف أو طاء. { لها طلع }: تقدم شرحه عند { من طلعها قنوان دانية } [الأَنعام: 99].

{ نضيد }: أي منضود بعضه فوق بعض، يريد كثرة الطلع وتراكمه، أي كثرة ما فيه من الثمر. وأول ظهور الثمر في الكفرى هو أبيض ينضد كحب الرمان، فما دام ملتصقاً بعضه ببعض فهو نضيد، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد. و{ رزقاً } نصب على المصدر، لأن معنى: وأنبتنا رزقنا، أو على أنه مفعول له. وقرأ الجمهور: { ميتاً } بالتخفيف؛ وأبو جعفر، وخالد: بالتثقيل، والإشارة في ذلك إلى الإحياء، أي الخروج من الأرض أحياء بعد موتكم، مثل ذلك الحياة للبلدة الميت، وهذه كلها أمثلة وأدلة على البعث.

وذكر تعالى في السماء ثلاثة: البناء والتزين ونفي الفروج، وفي الأرض ثلاثة: المد وإلقاء الرواسي والإنبات. قابل المد بالبناء، لأن المد وضع والبناء رفع. وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب، لارتكاز كل واحد منهما. والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج، فلا شق فيها. ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقي أصله، وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة، وعلى ما اختلط من جنسين، فبعض الثمار فاكهة لا قوت، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت.

ولما ذكر تعالى قوله: { بل كذبوا بالحق لما جاءهم }، ذكر من كذب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتقدم الكلام على مفردات هذه الآية هذه الآية وقصص من ذكر فيها. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وطلحة، ونافع: الأيكة بلام التعريف؛ والجمهور: ليكة. { كل كذب الرسل }: أي كلهم، أي جميعهم كذب؛ وحمل على لفظ كل، فأفرد الضمير في كذب. وقال الزمخشري: يجوز أن يراد به كل واحد منهم. انتهى. والتنوين في كل تنوين عوض من المضاف إليه المحذوف. وأجاز محمد بن الوليد، وهو من قدماء نحاة مصر، أن يحذف التنوين من كل جعله غاية، ويبنى على الضم، كما يبنى قبل وبعد، فأجاز كل منطلق بضم اللام دون تنوين، ورد ذلك عليه الأخفش الصغير، وهو علي بن سليمان. { فحق وعيد }: أي وجب تعذيب الأمم المكذبة وإهلاكهم، وفي ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتهديد لقريش ومن كذب الرسول.