التفاسير

< >
عرض

كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٥
كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
١٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
١٩
لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ
٢٠
لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
٢١
هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ
٢٢
هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٢٣
هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢٤
-الحشر

البحر المحيط

{ كمثل }: خبر مبتدأ محذوف، أي مثلهم، أي بني النضير { كمثل الذين من قبلهم قريباً }: وهم بنو قينقاع، أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة قبل بني النضير فكانوا مثلاً لهم، قاله ابن عباس؛ أو أهل بدر الكفار، فإنه عليه الصلاة والسلام قتلهم، فهم مثلهم في أن غلبوا وقهروا. وقيل: الضمير في { من قبلهم } للمنافقين، و { الذين من قبلهم }: منافقو الأمم الماضية، غلبوا ودلوا على وجه الدهر، فهؤلاء مثلهم. ويبعد هذا التأويل لفظة { قريباً } أن جعلته متعلقاً بما قبله، وقريباً ظرف زمان وإن جعلته معمولاً لذاقوا، أي ذاقوا وبال أمرهم قريباً من عصيانهم، أي لم تتأخر عقوبتهم في الدنيا، كما لم تتأخر عقوبة هؤلاء. { ولهم عذاب أليم } في الآخرة.

{ كمثل الشيطان }: لما مثلهم بمن قبلهم، ذكر مثلهم مع المنافقين، فالمنافقون كالشيطان، وبنو النضير كالإنسان، والجمهور: على أن الشيطان والإنسان اسما جنس يورطه في المعصية ثم يفر منه. كذلك أغوى المنافقون بني النضير، وحرضوهم على الثبات، ووعدوهم النصر. فلما نشب بنو النضير، خذلهم المنافقون وتركوهم في أسوأ حال. وقيل: المراد استغواء الشيطان قريشاً يوم بدر. وقوله لهم: { { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } [الأنفال: 48] إلى قوله: { { إني بريء منكم } [الأنفال: 48] وقيل: التمثيل بشيطان مخصوص مع عابد مخصوص استودع امرأة، فوقع عليها فحملت، فخشي الفضيحة، فقتلها ودفنها. سول له الشيطان ذلك، ثم شهره، فاستخرجت فوجدت مقتولة؛ وكان قال إنها ماتت ودفنتها، فعلموا بذلك، فتعرض له الشيطان وقال: اكفر واسجد لي وأنا أنجيك، ففعل وتركه عند ذلك وقال: أنا بريء منك. وقول الشيطان: { إني أخاف الله } رياء، ولا يمنعه الخوف عن سوء يوقع ابن آدم فيه. وقرأ الجمهور: { عاقبتهما } بنصب التاء؛ والحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم: برفعهما. والجمهور: { خالدين } بالياء حالاً، و { في النار } خبر أن؛ وعبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة: بالألف، فجاز أن يكون خبر أن، والظرف ملغى وإن كان قد أكد بقوله: { فيها }، وذلك جائز على مذهب سيبويه، ومنع ذلك أهل الكوفة، لأنه إذا أكد عندهم لا يلغى. ويجوز أن يكون في النار خبراً، لأن { خـالدين } خبر ثان، فلا يكون فيه حجة على مذهب سيبويه.

ولما انقضى في هذه السورة، وصف المنافقون واليهود. وعظ المؤمنين، لأن الموعظة بعد ذكر المصيبة لها موقع في النفس لرقة القلوب والحذر مما يوجب العذاب، وكرر الأمر بالتقوى على سبيل التوكيد، أو لإختلاف متعلق بالتقوى. فالأولى في أداء الفرائض، لأنه مقترن بالعمل؛ والثانية في ترك المعاصي، لأنه مقترن بالتهديد والوعيد. وقرأ الجمهور: { ولتنظر }: أمراً، واللام ساكنة؛ وأبو حيوة ويحيـى بن الحارث: بكسرها. وروي ذلك عن حفص، عن عاصم والحسن: بكسرها وفتح الراء، جعلها لام كي. ولما كان أمر القيامة كائناً لا محالة، عبر عنه بالغد، وهو اليوم الذي يلي يومك على سبيل التقريب. وقال الحسن وقتادة: لم يزل يقر به حتى جعله كالغد، ونحوه: { { كأن لم تغن بالأمس } [يونس: 24]، يريد تقريب الزمان الماضي. وقيل: عبر عن الآخرة بالغد، كأن الدنيا والآخرة نهاران، يوم وغد. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بقوله: { لغد }: ليوم الموت، لأنه لكل إنسان كغده. وقال مجاهد وابن زيد: بالأمس الدنيا وغد الآخرة. وقال الزمخشري: أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة، كأنه: قيل لغد لا يعرف كنهه لعظمه. انتهى. وقرأ الجمهور: { لا تكونوا } بتاء الخطاب؛ وأبو حيوة: بياء الغيبة، على سبيل الالتفات. وقال ابن عطية: كناية عن نفس التي هي اسم الجنس؛ { كالذين نسوا }: هم الكفار، وتركوا عبادة الله وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى، وهذا تنبيه على فرط غفلتهم واتباع شهواتهم؛ { فأنساهم أنفسهم }، حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب، وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب. عوقبوا على نسيان جهة الله تعالى بأن أنساهم أنفسهم. قال سفيان: المعنى حظ أنفسهم، ثم ذكر مباينة الفريقين: أصحاب النار في الجحيم، وأصحاب الجنة في النعيم، كما قال: { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } [السجدة: 18] وقال تعالى: { { أم نجعل المتقين كالفجار }

[ص: 28]. { لو أنزلنا هـذا القرآن على جبل }: هذا من باب التخييل والتمثيل، كما مر في قوله تعالى: { إنا عرضنا الأمانة على السماوات } [الأحزاب: 72] ودل على ذلك: { { وتلك الأمثال نضربها للناس } [العنكبوت: 43] والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وعدم تأثره لهذا الذي لو أنزل على الجبل لتخشع وتصدع. وإذا كان الجبل على عظمه وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع، فابن آدم كان أولى بذلك، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر. وقرأ طلحة: مصدعاً، بإدغام التاء في الصاد؛ وأبو السمال وأبو دينار الأعرابي: القدوس بفتح القاف؛ والجمهور: بالفك والضم. وقرأ الجمهور: المؤمن بكسر الميم، اسم فاعل من آمن بمعنى أمن. وقال ثعلب: المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا. وقال النحاس: أو في شهادتهم على الناس يوم القيامة. وقيل: المصدق نفسه في أقواله الأزلية. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وقيل، أبو جعفر المدني: المؤمن بفتح الميم. قال أبو حاتم: لا يجوز ذلك، لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به وكان جائزاً، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأومن. وقال الزمخشري: يعني المؤمن به على حذف حرف الجر، كما تقول في قوم موسى من قوله: { واختار موسى قومه } [الأعراف: 155] المختارون. { المهيمن }: تقدم شرحه. { الجبار }: القهار الذي جبر خلقه على ما أراد. وقيل: الجبار: الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق، ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق، وقال امرؤ القيس:

سوابق جبار أتيت فروعه وعالين قنواناً من البسر أحمرا

وقال ابن عباس: هو العظيم، وجبروته: عظمته. وقيل: هو من الجبر، وهو الإصلاح. جبرت العظم: أصلحته بعد الكسر. وقال الفراء: من أجبره على الأمر: قهره، قال: ولم أسمع فعالاً من أفعل إلا في جبار ودراك. انتهى، وسمع أسار فهو أسار. { المتكبر }: المبالغ في الكبرياء والعظمة. وقيل: المتكبر عن ظلم عباده، { الخالق }: المقدر لما يوجده. { البارىء }: المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة، { المصور }: الممثل. وقرأ عليّ وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميفع: المصور بفتح الواو والراء، وانتصب مفعولاً بالباري، وأراد به جنس المصور. وعن علي؛ فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول، نحو: الضارب الغلام.