النداء بـ { يا أيها الذين آمنوا }، إن كان للمؤمنين حقيقة، فالاستفهام يراد به التلطف في العتب، وإن كان للمنافقين، فالمعنى { يا أيها الذين آمنوا }: أي بألسنتهم، والاستفهام يراد به الإنكار والتوبيخ وتهكم بهم في إسناد الإيمان إليهم، ولم يتعلق بالفعل وحده. ووقف عليه بالهاء أو بسكون الميم، ومن سكن في الوقف فلإجرائه مجرى الوقف، والظاهر انتصاب { مقتاً } على التمييز، وفاعل { كبر }: أن { تقولوا }، وهو من التمييز المنقول من الفاعل، والتقدير: كبر مقت قولكم ما لا تفعلون. ويجوز أن يكون من باب نعم وبئس، فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالتمييز، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم، أي بئس مقتاً قولكم كذا، والخلاف الجاري في المرفوع في: بئس رجلاً زيد، جار في { أن تقولوا } هنا، ويجوز أن يكون في كبر ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: { لم تقولون }، أي كبر هو، أي القول مقتاً، ومثله
{ كبرت كلمة } [الكهف: 5]، أي ما أكبرها كلمة، وأن تقولوا بدل من المضمر، أو خبر ابتداء مضمر. وقيل: هو من أبنية التعجب، أي ما أكبره مقتاً. وقال الزمخشري: قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله:غـلت نـاب كـليب بـواؤهـا
ومعنى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظرائه وأشكاله، وأسند إلى { أن تقولوا } ونصب { مقتاً } على تفسيره، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشدّ البغض، ولم يقتصر على أن جعل البغض كثيراً حتى جعل أشدّه وأفحشه، وعند الله أبلغ من ذلك، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته. انتهى. وقال ابن عطية: والمقت: البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت. انتهى. وقال المبرد: رجل ممقوت ومقيت، إذا كان يبغضه كل أحد. انتهى. وقرأ زيد بن عليّ: يقاتلون بفتح التاء. وقيل: قرىء يقتلون، وانتصب صفاً على الحال، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين، كأنهم فيء في تراصهم من غير فرجة ولا خلل، بنيان رص بعضه إلى بعض. والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص. وقيل: المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. قيل: وفيه دليل على فضل القتال راجلاً، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة؛ وصفاً وكأنهم، قال الزمخشري: حالان متداخلان. وقال الحوفي: كأنهم في موضع النعت لصفاً. انتهى. ويجوز أن يكونا حالين من ضمير يقاتلون. ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل، وهو راجع إلى الكذب، فإن ذلك في معنى الإذاية للرسول عليه الصلاة والسلام، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه: { لم تؤذونني }، وإذايتهم له كان بانتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحاتهم عليه ما ليس لهم اقتراحه، { وقد تعلمون }: جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه، فرتبوا على علمهم أنه رسول الله ما لا يناسب العلم وهو الإذاية، وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المضارع، والمضارع هنا معناه المضي، أي وقد علمتم، كقوله:
{ قد يعلم ما أنتم عليه } [النور: 64] أي قد علم، { قد نرى تقلب } [البقرة: 144] وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل، { فلما زاغوا } عن الحق، { أزاغ الله قلوبهم }. قال الزمخشري: بأن منع ألطافه، { والله لا يهدي القوم الفاسقين }: لا يلطف بهم، لأنهم ليسوا من أهل اللطف. وقال غيره: أسند الزيغ إليهم، ثم قال: { أزاغ الله } كقوله تعالى: { نسوا الله فأنساهم أنفسهم } [الحشر: 19] وهو من العقوبة على الذنب بالذنب، بخلاف قوله: { ثم تاب عليهم ليتوبوا } [التوبة: 118]. ولما ذكر شيئاً من قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، ذكر أيضاً شيئاً من قصة عيسى عليه السلام. وهناك قال: { يا قوم } لأنه من بني إسرائيل، وهنا قال عيسى: { يا بني إسرائيل } من حيث لم يكن له فيهم أب، وإن كانت أمه منهم. ومصدقاً ومبشراً: حالان، والعامل رسول، أي مرسل، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من كتب الله الإلهية، ولمن تأخر من النبي المذكور، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته.
"وروي أن الحواريين قالوا: يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم، أمة أحمد صلى الله عليه وسلم، حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم بالقليل من العمل" . وأحمد علم منقول من المضارع للمتكلم، أو من أحمد أفعل التفضيل، وقال حسان:صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد
وقال القشيري: بشر كل نبي قومه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والله أفرد عيسى بالذكر في هذا الموضع لأنه آخر نبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، فبين أن البشارة به عمت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام. والظاهر أن الضمير المرفوع في { جاءهم } يعود على عيسى لأنه المحدث عنه. وقيل: يعود على أحمد. لما فرغ من كلام عيسى، تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك على سبيل الإخبار للمؤمنين، أي فلما جاء المبشر به هؤلاء الكفار بالمعجزات الواضحة قالوا: { هذا سحر مبين }. وقرأ الجمهور: سحر، أي ما جاء به من البينات. وقرأ عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب: ساحر، أي هذا الحال ساحر. وقرأ الجمهور: يدعى مبنياً للمفعول؛ وطلحة: يدعى مضارع ادعى مبنياً للفاعل، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به، لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدى بإلى. وقال الزمخشري: أيضاً، وقرأ طلحة بن مصرف: وهو يدعى بشد الدال، بمعنى يدعى دعاه وادعاه، نحو لمسه والتمسه. { يريدون } الآية: تقدم تفسير نظيرها في سورة التوبة. وقال الزمخشري: أصله:
{ يريدون أن يطفئوا } [التوبة: 32] كما جاء في سورة براءة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لأكرمك، كما زيدت اللام في: لا أبا لك، تأكيداً لمعنى الإضافة في: لا أبا لك. انتهى. وقال نحوه ابن عطية، قال: واللام في قوله: { ليطفئوا } لام مؤكدة، دخلت على المفعول لأن التقدير: يريدون أن يطفؤا، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم، تقول: لزيد ضربت، ولرؤيتك قصرت. انتهى. وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر، بل الأكثر: زيداً ضربت، من: لزيد ضربت. وأما قولهما إن اللام للتأكيد، وأن التقدير أن يطفؤا، فالإطفاء مفعول { يريدون }، فليس بمذهب سيبويه والجمهور. وقال ابن عباس وابن زيد: هنا يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول. وقال السدي: يريدون دفع الإسلام بالكلام. وقال الضحاك: هلاك الرسول صلى الله عليه وسلم بالأراجيف. وقال ابن بحر: إبطال حجج الله بتكذيبهم. وعن ابن عباس: سبب نزولها أن الوحي أبطأ أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا، اطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم نوره، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم، فنزلت واتصل الوحي. وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن: { متم } بالتنوين، { نوره } بالنصب؛ وباقي السبعة والأعمش: بالإضافة. وقرأ الجمهور: { تنجيكم } مخففاً؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر: مشدداً. والجمهور: { تؤمنون }، { وتجاهدون }؛ وعبد الله: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا أمرين؛ وزيد بن علي بالتاء، فيهما محذوف النون فيهما. فأما توجيه قراءة الجمهور، فقال المبرد: هو بمعنى آمنوا على الأمر، ولذلك جاء يغفر مجزوماً. انتهى، فصورته صورة الخبر، ومعناه الأمر، ويدل عليه قراءة عبد الله، ونظيره قوله: اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه، أي ليتق الله، وجيء به على صورة الخبر. قال الزمخشري: للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين، ونظيره قول الداعي: غفر الله لك ويغفر الله لك، جعلت المغفرة لقوة الرجاء، كأنها كانت ووجدت. انتهى. وقال الأخفش: هو عطف بيان على تجارة، وهذا لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر، ثم حذف أن فارتفع الفعل كقوله:
ألا أيهـذا الـزاجـري احضـر الـوغـا
يريد: أن احضر، فلما حذف أن ارتفع الفعل، فكان تقدير الآية { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم }: إيمان بالله ورسوله وجهاد. وقال ابن عطية: { تؤمنون } فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون. انتهى، وهذا ليس بشيء، لأن فيه حذف المبتدأ وحذف أنه وإبقاء الخبر، وذلك لا يجوز. وقال الزمخشري: وتؤمنون استئناف، كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال: تؤمنون، ثم اتبع المبرد فقال: هو خبر في معنى الأمر، وبهذا أجيب بقوله: { يغفر لكم }. انتهى. وأما قراءة عبد الله فظاهرة المعنى وجواب الأمر يغفر، وأما قراءة زيد فتتوجه على حذف لام الأمر، التقدير: لتؤمنوا، كقول الشاعر:قلت لبواب على بابها تأذن لي أني من أحمائها
يريد: لتأذن، ويغفر مجزوم على جواب الأمر في قراءة عبد الله وقراءة زيد، وعلي تقدير المبرد. وقال الفراء: هو مجزوم على جواب الاستفهام، وهو قوله: { هل أدلكم }، واستبعد هذا التخريج. قال الزجاج: ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقال المهدوي: إنما يصح حملاً على المعنى، وهو أن يكون تؤمنون وتجاهدون عطف بيان على قوله: { هل أدلكم }، كأن التجارة لم يدر ما هي، فبينت بالإيمان والجهاد، فهي هما في المعنى، فكأنه قال: هل تؤمنون وتجاهدون؟ قال: فإن لم تقدر هذا التقدير لم يصح، لأنه يصير: إن دللتم يغفر لكم، والغفران إنما يجب بالقبول والإيمان لا بالدلالة. وقال الزمخشري نحوه، قال: وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد، فكأنه قال: هل تتحرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟ انتهى، وتقدم شرح بقية الآية. ولما ذكر تعالى ما يمنعهم من الثواب في الآخرة، ذكر ما يسرهم في العاجلة، وهي ما يفتح عليهم من البلاد. { وأخرى }: صفة لمحذوف، أي ولكم مثوبة أخرى، أو نعمة أخرى عاجلة إلى هذه النعمة الآجلة. فأخرى مبتدأ وخبره المقدر لكم، وهو قول الفراء، ويرجحه البدل منه بقوله: { نصر من الله }، و { تحبونها } صفة، أي محبوبة إليكم. وقال قوم: وأخرى في موضع نصب بإضمار فعل، أي ويمنحكم أخرى؛ ونصر خبر مبتدأ، أي ذلك، أو هو نصر. وقال الأخفش: وأخرى في موضع جر عطفاً على تجارة، وضعف هذا القول لأن هذه الأخرى ليست مما دل عليه، إنما هي من الثواب الذي يعطيهم الله على الإيمان والجهاد بالنفس والمال. وقرأ الجمهور: { نصر } بالرفع، وكذا { وفتح قريب }؛ وابن أبي عبلة: بالنصب فيها ثلاثتها، ووصف أخرى بتحبونها، لأن النفس قد وكلت بحب العاجل، وفي ذلك تحريض على ما يحصل ذلك، وهو الإيمان والجهاد. وقال الزمخشري: وفي تحبونها شيء من التوبيخ على محبة العاجل، قال: فإن قلت: لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً؟ قلت: يجوز أن ينصب على الاختصاص، أو على ينصرون نصراً ويفتح لكم فتحاً، أو على { يغفر لكم } و { يدخلكم جنات } ويؤتكم أخرى نصراً وفتحاً قريباً. فإن قلت علام عطف قوله: { وبشر المؤمنين }؟ قلت: على { تؤمنون }، لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك. انتهى.
{ كونوا أنصار الله }: ندب المؤمنين إلى النصرة ووضع لهم هذا الاسم، وإن كان قد صار عرفاً للأوس والخزرج، وسماهم الله به. وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان: أنصاراً لله بالتنوين؛ والحسن والجحدري وباقي السبعة: بالإضافة إلى الله، والظاهر أن كما في موضع نصب على إضمار، أي قلنا لكم ذلك كما قال عيسى. وقال مكي: نعت لمصدر محذوف، والتقدير: كونوا كوناً. وقيل: نعت لأنصاراً، أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال: { من أنصاري إلى الله }. انتهى. والحواريون اثنا عشر رجلاً، وهم أول من آمن بعيسى، بثهم عيسى في الآفاق، بعث بطرس وبولس إلى رومية، وأندارس ومتى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس، وبوقاس إلى أرض بابل، وفيليس إلى قرطاجنة وهي إفريقية، ويحنس إلى أقسوس قرية أصحاب الكهف، ويعقوبين إلى بيت المقدس، وابن بليمن إلى أرض الحجاز وتستمر إلى أرض البربر وما حولها، وفي بعض أسمائهم إشكال من جهة الضبط، فليلتمس ذلك من مظانه. { فأيدنا الذين آمنوا بعيسى على عدوّهم }: وهم الذين كفروا بعيسى، { فأصبحوا ظاهرين }: أي قاهرين لهم مستولين عليهم. وقال زيد بن عليّ وقتادة: ظاهرين: غالبين بالحجة والبرهان. وقيل: أيدنا المسلمين على الفرقتين الضالتين، والله أعلم.