التفاسير

< >
عرض

مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١١
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
١٢
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤
إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٥
فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٦
إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ
١٧
عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١٨
-التغابن

البحر المحيط

الظاهر إطلاق المصيبة على الرزية وما يسوء العبد، أي في نفس أو مال أو ولد أو قول أو فعل، وخصت بالذكر، وإن كان جميع الحوادث لا تصيب إلا بإذن الله. وقيل: ويحتمل أن يريد بالمصيبة الحادثة من خير وشر، إذ الحكمة في كونها بأذن الله. وما نافية، ومفعول أصاب محذوف، أي ما أصاب أحداً، والفاعل من مصيبة، ومن زائدة، ولم تلحق التاء أصاب، وإن كان الفاعل مؤنثاً، وهو فصيح، والتأنيث لقوله تعالى: { { ما تسبق من أمة أجلها } [الحجر: 5، المؤمنون: 43] وقوله: { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } [الرعد: 38 ، غافر: 78] أي بإرادته وعلمه وتمكينه. { ومن يؤمن بالله }: أي يصدق بوجوده ويعلم أن كل حادثة بقضائه وقدره، { يهد قلبه } على طريق الخير والهداية. وقرأ الجمهور: يهد بالياء، مضارعاً لهدى، مجزوماً على جواب الشرط. وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة: بالنون؛ والسلمي والضحاك وأبو جعفر: يهد مبنياً للمفعول، قلبه: رفع؛ وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار: يهدأ بهمزة ساكنة، قلبه بالرفع: يطمئن قلبه ويسكن بإيمانه ولا يكون فيه اضطراب. وعمرو بن فايد: يهدا بألف بدلاً من الهمزة الساكنة؛ وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً: يهد بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة الساكنة وإبدال الهمزة ألفاً في مثل يهدأ ويقرأ، ليس بقياس خلافاً لمن أجاز ذلك قياساً، وبنى عليه جواز حذف تلك الألف للجازم، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى:

جزى متى يظلم يعاقب بظلمه سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم

أصله: يبدأ، ثم أبدل من الهمزة ألفاً، ثم حذفها للجازم تشبيهاً بألف يخشى إذا دخل الجازم.

ولما قال تعالى: { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله }، ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وحذر مما يلحق الرجل من امرأته وولده بسبب ما يصدر من بعضهم من العداوة، ولا أعدى على الرجل من زوجته وولده إذا كانا عدوين، وذلك في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فبإذهاب ماله وعرضه، وأما في الآخرة فبما يسعى في اكتسابه من الحرام لهما، وبما يكسبانه منه بسبب جاهه. وكم من امرأة قتلت زوجها وجذمت وأفسدت عقله، وكم من ولد قتل أباه. وفي التواريخ وفيما شاهدناه من ذلك كثير.

وعن عطاء بن أبي رباح: أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع أهله وولده، فثبطوه وشكوا إليه فراقة، فرق ولم يغز؛ ثم إنه ندم بمعاقبتهم، فنزلت: { يا أيها الذين آمنوا } الآية.

وقيل: آمن قوم بالله، وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، ولم يهاجروا إلا بعد مدة، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم، فنزلت. وقيل: قالوا لهم: أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم؟ فغضبوا عليهم وقالوا: لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير. فلما هاجروا، منعوهم الخير، فحبوا أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة. ومن في { من أزواجكم وأولادكم } للتبعيض، وقد توجد زوجة تسر زوجها وتعينه على مقاصده في دينه ودنياه، وكذلك الولد. وقال الشعب العبسي يمدح ولده رباطاً:

إذا كان أولاد الرجال حزازة فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
لنا جانب منه دميث وجانب إذا رامه الأعداء مركبه صعب
وتأخذه عند المكارم هزة كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب

وقال قرمان بن الأعرف في ابنه منازل، وكان عاقاً له، قصيدة فيها بعض طول منها:

وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
فلما رآني أحسب الشخص أشخصاًبعيداً وذا الشخص البعيد أقاربه
تعمد حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه

{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة }: أي بلاء ومحنة، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاء أعظم منهما. وفي باب العداوة جاء بمن التي تقتضي التبعيض، وفي الفتنة حكم بها على الأموال والأولاد على بعضها، وذلك لغلبة الفتنة بهما، وكفى بالمال فتنة قصة ثعلبة بن حاطب، أحد من نزل فيه، ومنهم من عاهد الله: { لئن آتانا من فضله } [التوبة: 75] الآيات. وقد شاهدنا من ذكر أنه يشغله الكسب والتجارة في أمواله حتى يصلي كثيراً من الصلوات الخمس فائتة. وقد شاهدنا من كان موصوفاً عند الناس بالديانة والورع، فحين لاح له منصب وتولاه، استناب من يلوذ به من أولاده وأقاربه، وإن كان بعض من استنابه صغير السن قليل العلم سيىء الطريقة، ونعوذ بالله من الفتن. وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة، { كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى } [العلق: 6 - 7] { { شغلتنا أموالنا وأهلونا } [الفتح: 11]. { والله عنده أجر عظيم }: تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة. والأجر العظيم: الجنة.

{ فاتقوا الله ما استطعتم }، قال أبو العالية: جهدكم. وقال مجاهد: هو أن يطاع فلا يعصى، { واسمعوا } ما توعظون به، { وأطيعوا } فيما أمرتم به ونهيتم عنه، { وأنفقوا } فيما وجب عليكم. و { خيراً } منصوب بفعل محذوف تقديره: وأتوا خيراً، أو على إضمار يكن فيكون خبراً، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي إنفاقاً خيراً، أو على أنه حال، أو على أنه مفعول بـ: وأنفقوا خيراً، أي مالاً، أقوال، الأول عن سيبويه.

ولما أمر بالإنفاق، أكده بقوله: { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً }، ورتب عليه تضعيف القرض وغفران الذنوب. وفي لفظ القرض تلطف في الاستدعاء، وفي لفظ المضاعفة تأكيد للبذل لوجه الله تعالى. ثم اتبع جوابي الشرط بوصفين: أحدهما عائد إلى المضاعفة، إذ شكره تعالى مقابل للمضاعفة، وحلمه مقابل للغفران. قيل: وهذا الحض هو في الزكاة المفروضة، وقيل، هو في المندوب إليه. وتقدم الخلاف في القراءة في { يوق } وفي { شح } وفي { يضاعفه }.