التفاسير

< >
عرض

وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧١
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ
١٧٢
أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ
١٧٣
وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٧٤
وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ
١٧٥
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
١٧٦
سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ
١٧٧
مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
١٧٨
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ
١٧٩
وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٨٠
وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
١٨١
وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨٢
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
١٨٣
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
١٨٤
أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
١٨٥
مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١٨٦
يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨٧
-الأعراف

البحر المحيط

النّتق الجذب بشدة وفسّره بعضهم بغايته وهو القلع وتقول العرب نتقت الزبدة من فم القربة والناتق الرّحم التي تقلع الولد من الرجل. وقال النابغة:

لم يحرموا حسن الفداء وأمّهم طفحت عليك بناتق مذكار

وفي الحديث "عليكم بزواج الأبكار فإنهن انتق أرحاماً وأطيب أفواهاً وأرضى باليسير" . الانسلاخ: التعري من الشيء حتى لا يعلق به منه شيء ومنه شيء ومنه انسلخت الحية من جلدها. الكلب حيوان معروف ويجمع في القلة على أكلب وفي الكثرة على كلام وشذوا في هذا الجمع فجمعوه بالألف والتاء فقالوا كلابات، وتقدّمت هذه المادة في { { مكلبين } [المائدة: 4] وكرّرناها لزيادة فائدة، لهث الكلب يلهث بفتح الهاءين ماضياً ومضارعاً والمصدر لهثاً ولهثاً بالضم أخرج لسانه وهي حالة له في التعب والراحة والعطش والريّ بخلاف غيره من الحيوان فإنه لا يلهث إلا من إعياء وعطش، لحد وألحد لغتان قيل بمعنى واحد هو العدول عن الحقّ والإدخال فيه ما ليس منه قاله ابن السكيت، وقال غيره: العدول عن الاستقامة والرّباعي أشهر في الاستعمال من الثلاثي وقال الشاعر:

ليس الأمير بالشحيح الملحد

ومنه لحد القبر وهو الميل إلى أحد شقيه ومن كلامهم ما فعل الواحد قالوا: لحده اللاحد، وقيل ألحد بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى قاله الكسائي، متن متانة اشتدّ وقوي، أيان ظرف زمان مبني لا يتصرف وأكثر استعماله في الاستفهام ويليه الاسم مرفوعاً بالابتداء والفعل المضارع لا الماضي بخلاف متى فإنهما يليانه قال تعالى: { { أيان يبعثون } [النحل: 21، النمل: 65] و { { أيان مرساها } [النازعات: 42] قال الشاعر:

أيان تقضي حاجتي أيانا أما ترى لفعلها إبانا

وتستعمل في الجزاء فتجزم المضارعين وذلك قيل فيها ولم يحفظ سيبويه لكن حفظه غيره وأنشدوا قوله الشاعر:

إذا النعجة العجفاء باتت بقفرة فأيّان ما تعدل بها الريح تنزل

وقال غيره:

أيان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا

وقال ابن السّكيت: يقال هذا خلف صدق وهذا خلف سوء ويجوز هؤلاء خلف صدق وهؤلاء خلف سوء واحدة وجمعه سواء، وقال الشاعر:

إنا وحدنا خلفاً بئس الخلف عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف

انتهى. وقد جمع في الردى بين اللغتين في هذا البيت، وقال النضر بن شميل: التحريك والإسكان معاً في القرآن الردى وأما الصالح فبالتحريك لا غير وأكثر أهل اللغة على هذا إلا الفرّاء وأبا عبيدة فإنهما أجازا الإسكان في الصالح والخلف أما مصدر خلف ولذلك لا يثنّي ولا يجمع ولا يؤنث وإن ثنى وجمع وأنّث ما قبله وإما جمع خالف كراكب وركب وشارب وشرب قاله ابن الأنباري، وليس بشيء لجريانه على المفرد واسم الجمع لا يجري على المفرد، قال ابن عباس وابن زيد: هنا هم اليهود، قال الزمخشري: وهم الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ورثوا الكتاب } التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرأونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحريم والتحليل ولا يعملون بها، وقال الطبري هم أبناء اليهود وعن مجاهد أنهم النصار وعنه أنهم هؤلاء الأمة، وقرأ الحسن: { ورثوا } بضم الواو وتشديد الراء وعلى الأقوال يتخرّج { الكتاب } أهو التوراة أو الإنجيل والقرآن و{ عرض هذا الأدنى } هو ما يأخذونه من الرِّشا والمكاسب الخبيثة والعرض ما يعرض ولا يثبت وفي قوله: عرض هذا الأدنى تخسيس لما يأخذونه وتحقير له وأنهم مع علمهم بما في كتابهم من الوعيد على المعاصي يقدّمون لأجل العامة على تبديل الكتاب وتحريفه كما قال تعالى: { { ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً } [البقرة: 79] والأدنى من الدنو وهو القرب لأن ذلك قريب منقضٍ زائل، قال الزمخشري: وإما من دنو الحال وسقوطها وقلّتها، ويقولون { سيغفر لنا } قطع على الله بغفران معاصيهم أي لا يؤاخدنا الله بذلك والمناسب إذ ورثوا الكتاب أن يعملوا بما فيه وأنه إن قضي عليهم بالمعصية أن لا يجزموا بالمغفرة وهم مصرون على ارتكابها، و{ لنا } في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله، وقيل ضمير مصدر يأخذون أي { سيغفر } هو أي الأخذ { لنا }.

{ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه }. الظاهر أن هذا استئناف إخبار عنهم بانهماكهم في المعاصي وإن أمكنهم الرّشا والمكاسب الخبيثة لم يتوقفوا عن أخذها ثانية، ودائماً فهم مصرُّون على المعاصي غير مكترثين بالوعيد كما جاء والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله والعرض بفتح الراء متاع الدنيا قاله أبو عبيدة، يقال: إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البرّ والفاجر، والعرض بسكون الراء الدراهم والدنانير التي هي رؤوس الأموال وقيم المتلفات، قال السدّي: كانوا يعيرون القاضي فإذا ولّى المعير ارتشى، وقيل كانوا لو أتاهم من الخصم الأجر رشوة أخذوها ونقضوا بالرشوة الثانية ما قضوا بالرشوة الأولى. وقال الشاعر:

إذا ما صبّ في القنديل زيت تحوّلت القضية للمقندل

وقال آخر:

لم يفتح الناس أبواباً ولا عرفوا أجدى وأنجح في الحاجات من طبق
إذا تعمم بالمنديل في طبق لم يخش نبوة بواب ولا غلق

ولهذه الأمة من هذه الآية نصيب وافر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتسلكنّ سنن من قبلكم" ومن اختبر حال علمائها وقضاتها ومفتيها شاهد بالعيان ما أخبر به الصادق، وقال الزمخشري: الواو للحال يعني في وإن يأتهم أي يرجون المغفرة وهم مصرّون عائدون إلى مثل قولهم غير ناسين وغفران الذنوب لا يصحّ إلا بالتوبة والمصرّ لا غفران له انتهى، وجمله على جعل الواو للحال لا للعطف مذهب الاعتزال والظاهر ما قدّمناه ولا يردّ عليه بأن جملة الشرط لا تقع حالاً لأنّ ذلك جائز.

{ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يِقولوا على الله إلا الحقّ ودرسوا ما فيه }. هذا توبيخ وتقرير لما تضمنه الكتاب من أخذ الميثاق لا يكذبون على الله. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحقّ برشوة فيخرجون له كتاب الله ويحكمون له به فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له وأضيف الميثاق إلى الكتاب لأنه ذكر فيه { أن لا يقولوا على الله إلا الحقّ }، وقال بعضهم: هو قولهم { سيغفر لنا } ولا يتعين ذلك بل هو أعم من هذا القول وغيره فيندرج فيه الجزم بالغفران وغيره و{ أن لا يقولوا } في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب، وقال الزمخشري: هو عطف بيان لميثاق الكتاب ومعناه الميثاق المذكور في الكتاب وفيه إنّ إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله تعالى وتقول ما ليس بحق عليه وإن فسّر { ميثاق الكتاب } بما تقدم ذكره كان { أن لا يقولوا } مفعولاً له ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون مفسّرة ولا يقولوا نهياً، كأنه قيل ألم يقل لكم لا تقولوا على الله إلا الحق، وقال أيضاً: قبل ذلك { ميثاق الكتاب } يعني قوله في التوراة من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة وكسر فتحة همزتها لغة سليم وهي عندي حرف بسيط لا مركب وجامد لا مشتق وذكر صاحب كتاب اللوامح أن أيّان في الأصل كان أيّ أوان فلما كثر دوره حذفت الهمزة على غير قياس ولا عوض وقلبت الواو ياء فاجتمعت ثلاث ياءات فحذفت إحداها فصارت على ما رأيت انتهى، وزعم أبو الفتح أنه فعلان وفعلال مشتق من أي ومعناه أي وقت وأي فعل من أويت إليه لأنّ البعض آو إلى الكل متساند إليه وامتنع أن يكون فعالاً وفعالاً من أين لأن أيّان ظرف زمان وأين ظرف مكان فأوجب ذلك أن يكون من لفظ أي لزيادة النون ولأن أيان استفهام كما أن أياً كذلك والأصل عدم التركيب وفي أسماء الاستفهام والشرط الجمود كمتى وحيثما وأنى وإذا، رسا يرسو ثبت. الحفي المستقصي للشيء المحتفل به المعتني، وفلان حفي بي بارّ معتن. وقال الشاعر:

فلما التقينا بين السيف بيننا لسائلة عنا حفيّ سؤالها

وقال آخر:

سؤال حفي عن أخيه كأنه بذكرته وسنان أو متواسن

والإحفاء الاستقصاء ومنه احفاء الشارب والحافي أي حفيت قدميه للاستقصاء في السّير والحفاوة البر واللطف.

{ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم } أي جذبنا الجبل بشدة و{ فوقهم } حال مقدرة والعامل فيها محذوف تقديره كائناً فوقهم إذ كانت حالة النتق لم تقارن الفوقية لكنه صار فوقهم، وقال الحوفي وأبو البقاء: { فوقهم } ظرف لنتقنا ولا يمكن ذلك إلا أن ضمن { نتقنا } معنى فعل يمكن أن يعمل في { فوقهم } أي رفعنا بالنتق الجبل فوقهم فيكون كقوله { { ورفعنا فوقهم الطور } [النساء: 154] والجملة من قوله { كأنه ظلة } في موضع الحال والمعنى كأنه عليهم ظلّة والظلّة ما أظلّ من سقيفة أو سحاب وينبغي أن يحمل التشبيه على أنه بظلة مخصوصة لأنه إذا كان كلّ ما أظل يسمى ظلة فالجبل فوقهم صار ظلة وإذا صار ظلّة فكيف يشبه بظلة فالمعنى والله أعلم كأنه حالة ارتفاعه عليهم ظلة من الغمام وهي الظلة التي ليست تحتها عمد بل إمساكها بالقدرة الإلهية وإن كانت أجراماً بخلاف الظلّة الأرضية فإنها لا تكون إلا على عمد فلما دانت هذه الظلمة الأرضية فوقهم بلا عمد شبهت بظلة الغمام التي ليست بلا عمد، وقيل: اعتاد البشر هذه الأجرام الأرضية ظللاً إذ كانت على عمد فلما كان الجبل مرتفعاً على غير عمد قيل: { كأنه ظلة } أي كأنه على عمد وقرىء طلة بالطاء من أطل عليه إذ أشرف { وظنوا } هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين، وقال المفسّرون: معناه أيقنوا، وقال الزمخشري: علموا وليس كذلك بل هو غلبة ظن مع بقاء الرّجاء إلا أن قيد ذلك بقيد أن لا يعقلوا التوراة، فإنه يكون بمعنى الإتقان، وتقدّم ذكر سبب رفع الجبل فوقهم في تفسير قوله { { ورفعنا فوقكم الطور } [البقرة: 93] في البقرة فأغنى عن إعادته وقد كرره المفسرون هنا الزمخشري وابن عطية وغيرهما وذكر الزمخشري: هنا عند ذكر السبب أنه لما نشر موسى عليه السلام الألواح وفيها كتاب الله تعالى لم يبقَ شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهوديّاً يقرأ التوراة إلاّ اهتز وأنغض لها رأسه انتهى، وقد سرت هذه النزعة إلى أولاد المسلمين فيما رأيت بديار مصر تراهم في المكتب إذا قرأوا القرآن يهتزون ويحركون رؤوسهم وأما في بلادنا بالأندلس والغرب فلو تحرّك صغير عند قراءة القرآن أدبه مؤدّب المكتب وقال له لا تتحرك فتشبه اليهود في الدراسة.

{ خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون }. قرأ الأعمش { واذكروا } بالتشديد من الإذكار، وقرأ ابن مسعود وتذكروا وقرىء وتذكروا بالتشديد بمعنى وتذكّروا وتقدّم تفسير هذه الجمل في البقرة.

{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } روي في الحديث من طرق أخذ من ظهر آدم ذرّيته وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو متكلف في التأويل وأحسن ما تكلم به على هذه الآية ما فسره به الزمخشري قال من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته وواحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه { أشهدهم على أنفسهم } وقررهم وقال { ألست بربكم } وكأنهم { قالوا بلى } أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي كلام العرب ونظيره قول الله عز وجل { { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيَكون } [النحل: 40]. { { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قَالتا آتينا طائعين } [فصلت: 11]. وقول الشاعر:

إذا قالت الانساع للبطن الحقي تقول له ريح الصّبا قرقار

ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى وأن تقولوا مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن تقولوا يوم القيامة وتقديره إنا كنا عن هذا غافلين لم ننبه عليه أو كراهة أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لأنّ نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم، (فإن قلت): بنو آدم وذرياتهم من هم، قلت: عني ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا: { { عزير ابن الله } [التوبة: 30] وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى: { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عطفت عليها هي والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها وذلك على قوله { { واسألهم عن القرية } [الأعراف: 163] { وإذ قالت أمة منهم } { وإذ تأذن ربّك } { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } { واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } انتهى كلام الزمخشري وهو بسط كلام من تقدمه، قال ابن عطية: قال قوم الآية مشيرة إلى هذا التأويل الذي في الدنيا وأخذ بمعنى أوجد وأن الاشهادين عند بلوغ المكلّف وهو قد أعطى الفهم ونصبت له الصفة الدالة على الصانع ونحالها الزجاج وهو معنى تحتمله الألفاظ انتهى، والقول بظاهر الحديث يطرق إلى القول بالتناسخ فيجب تأويله ومفعول { أخذ } ذرياتهم قاله الحوفي ويحتمل في قراءة الجميع أن يكون مفعول أخذ محذوفاً لفهم المعنى و{ ذرّياتهم } بدل من ضمير { ظهورهم } كما أنّ { من ظهورهم } بدل من قوله { بني آدم } والمفعول المحذوف هو الميثاق كما قال: { { وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } [النساء: 154] { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } [البقرة: 83] وتقدير الكلام: وإذ أخذ ربك من ظهور ذرّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله وإفراده بالعبادة واستعار أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كان الميثاق لصعوبته وللارتباط به والوقوف عنده شيء ثقيل يحمل على الظهر وهذا من تمثيل المعنى بالجزم { وأشهدهم على أنفسهم } بما نصب لهم من الأدلة قائلاً { ألست بربكم قالوا بلى }، وقرأ العربيان ونافع: { ذرياتهم } بالجمع وتقدّم إعرابه، وقرأ باقي السبعة ذرّيتهم مفرداً بفتح التاء ويتعيّن أن يكون مفعولاً بأخذ وهو على حذف مضاف أي ميثاق ذرياتهم وإنما كان أخذ الميثاق من ذرية بني آدم لأنّ بني آدم لصلبه لم يكن فيهم مشرك وإنما حدث الإشراك في ذريتهم.

{ شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين }. أي قال الله شهدنا عليكم أو قال الله والملائكة قاله السدّي، أو قالت الملائكة أو شهد بعضهم على بعض أقوال ومعنى عن هذا عن هذا الميثاق والإقرار بالربوبيّة.

{ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم }. المعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان إحداهما: كنا غافلين والأخرى: كنا أتباعاً لأسلافنا فكيف نهلك والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلّنا فوقعت الشهادة لتنقطع عنهم الحجج، وقرأ أبو عمرو إن يقولوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بالتاء على الخطاب.

{ أفتهلكنا بما فعل المبطلون }. هذا من تمام القول الثاني أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتقدمهم فيه وتركه سنة لنا والمعنى أنه تعالى أزال عنهم الاحتجاج بتركيب العقول فيهم وتذكيرهم ببعثة الرسل إليهم فقطع بذلك أعذارهم. { وكذلك نفصل الآيات } أي مثل هذا التفصيل الذي فصّلنا فيه الآيات السابقة نفصل الآيات اللاحقة فالكل على نمط واحد في التفصيل والتوضيح لأدلّة التوحيد وبراهينه. { ولعلهم يرجعون } عن شركهم وعبادة غير الله إلى توحيده وعبادته بذلك التفصيل والتوضيح وقرأت فرقة يفصل بالياء أي يفصل هو أي الله تعالى.

{ واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } أي { واتلُ } على من كان حاضراً من كفار اليهود وغيرهم ولما كان تعالى قد ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته وذكر إقرارهم بذلك وإشهادهم على أنفسهم ذكر حال من آمن به، ثم بعد ذلك كفر كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطلعوا عليه من كتب الله المنزلة وتبشيرها به، وذكر صفاته فلما بعث كفروا به فذكروا أن ما صدر منهم هو طريقة لأسلافهم اتبعوها واختلف المفسرون في هذا الذي آتاه الله آياته { فانسلخ منها } فقال عكرمة: هو كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء، وقال عبادة بن الصامت: هم قريش أتتهم أوامر الله ونواهيه والمعجزات فانسلخوا من الآيات ولم يقبلوها فعلى هذين القولين يكون { الذي } مفرداً أريد به الجمع، وقال الجمهور: هو شخص معين، فقيل: هو بلعم، وقيل: هو بلعام وهو رجل من الكنعانيين أوتي بعض كتب الله، وقيل: كان يعلم اسم الله الأعظم واختلف في اسم أبيه. وقال ابن مسعود: هو أبره. وقال ابن عباس باعوراء، وقال مجاهد والسدّي: باعرويه روى أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى وقال: كيف أدعو على من معه الملائكة فألحوا عليه حتى فعل وقد طول المفسرون في قصته وذكروا ما الله أعلم به، وقيل هو رجل من علماء بني إسرائيل، وقال ابن مسعود: بعثه موسى عليه السلام نحو مدين داعياً إلى الله وإلى شريعته وعلم من آيات الله ما يدعونه فكان مجاب الدعوة فلما فارق دين موسى سلخ الله منه الآيات، وقيل: اسمه ناعم كان في زمن موسى وكان بحبت اسم بلد كان إذا نظر رأى العرش وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين يكتبون عنه وهو أوّل من صنف كتاباً إنه ليس للعالم صانع، وقيل هو رجل من بني إسرائيل أعطى ثلاث دعوات مستجابة يدعو بها في مصالح العباد فجعلها كلها لامرأته وكانت قبيحة فسألته فدعا الله فجعلها جميلة فمالت إلى غيره فدعا الله عليها فصارت كلبة نباحة وكان لها منها بنون فتضرّعوا إليه فدعا الله فصارت إلى حالتها الأولى

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وابن المسيّب وزيد بن أسلم وأبو روق: وهو أميّة بن أبي الصلت الثقفي قرأ الكتب وعلم أنه سيبعث نبي من العرب ورجا أن يكون إياه وكان ينظم الشعر في الحكم والأمثال فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حسده ووفد على بعض الملوك وروي أنه جاء يريد الإسلام فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه فقال من قتل هؤلاء فقيل: محمد فقال: لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء فارتد ورجع وقال: الآن حلت لي الخمر وكان قد حرم الخمر على نفسه فلحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات وقدّمت أخته فارعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنشدها من شعره فأنشدته عدّة قصائد فقال صلى الله عليه وسلم: "آمن شعره وكفر قلبه وهو الذي قال فيه تعالى { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها }"

. وقال سعيد بن المسيب أيضاً: هو أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الفاسق وكان ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح وهو الذي بني له المنافقون مسجد الضرار جرت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم محاورة فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداً وأرسل إلى المنافقين أنِ استعدوا بالقوة والسلاح ثم أتى قيصر واستجاشه ليخرج محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة فمات بالشام طريداً شريداً وحيداً، وقيل: غير هذا والأولى في مثل هذا إذا ورد عن المفسرين أن تحمل أقاويلهم على التمثيل لا على الحصر في معين فإنه يؤدي إلى الاضطراب والتناقض والخلاف في { آتيناه آياتنا } مترتب على من عنى الذي آتيناه أذلك اسم الله الأعظم أو الآيات من كتب الله أو حجج التوحيد أو من آيات موسى أو العلم بمجيء الرسول والانسلاخ من الآيات مبالغة في التبري منها والبعد أي لم يعمل بما اقتضته نعمتنا عليه من إتيانه آياتنا جعل كأنه كان ملتبساً بها كالثوب فانسلخ منها وهذا من إجراء المعنى مجرى الجزم وقول من قال: إنه من المقلوب أي إلا انسلخت الآيات عنه لا ضرورة تدعو إليه، وقال سفيان: إن الرجل ليذنب ذنباً فينسى باباً من العلم.

وقرأ الجمهور: { فأتبعه الشيطان } من أتبع رباعياً أي لحقه وصار معه وهي مبالغة في حقه إذ جعل كأنه هو إمام للشيطان يتبعه وكذلك { { فأتبعه شهاب ثاقب } [الصافات: 10] أي عدا وراءه، قال القتبي تبعه من خلفه واتبعه أدركه ولحقه كقوله: { { فاتبعوهم مشرقين } [الشعراء: 60] أي أدركوهم فعلى هذا يكون متعدياً إلى واحد وقد يكون اتبع متعدّياً إلى اثنين كما قال تعالى: وأتبعناهم ذرّياتهم بإيمان فيقدر هذا { فأتبعه الشيطان } خطواته أي جعله الشيطان يتبع خطواته فتكون الهمزة فيه للتعدي إذ أصله تبع هو خطوات الشيطان، وقرأ طلحة بخلاف والحسن فيما روى عنه هارون { فاتبعه } مشدّداً بمعنى تبعه، قال صاحب كتاب اللوامح: بينهما فرق وهو أن تبعه إذا مشى في أثره واتبعه إذا واراه مشياً فأما { فأتبعه } بقطع الهمزة فمما يتعدّى إلى مفعولين لأنه منقول من تبعه وقد حذف في العامة أحد المفعولين، وقيل فأتبعه بمعنى استتبعه أي جعله له تابعاً فصار له مطيعاً سامعاً، وقيل معناه: تبعه شياطين الإنس أهل الكفر والضلال، { فكان من الغاوين } يحتمل أن تكون { كان } باقية الدلالة على مضمون الجملة واقعاً في الزمان الماضي ويحتمل أن تكون كان بمعنى صار أي صار من الضالين الكافرين، قال مقاتل: من الضالين، وقال الزجاج: من الهالكين الفاسدين.

{ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه }. أي ولو أردنا أن نشرفه ونرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا { ولكنه أخلد إلى الأرض } أي ترامى إلى شهوات الدنيا ورغب فيها واتبع ما هو ناشىء عن الهوى وجاء الاستدراك هنا تنبيهاً على السبب الذي لأجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ممن أوتي الهدى فآثره وأتبعه و{ أخلد } معناه رمى بنفسه إلى الأرض أي إلى ما فيها من الملاذ والشهوات قال معناه ابن عباس ومجاهد والسدّي، ويحتمل أن يريد بقوله { أخلد إلى الأرض } أي مال إلى السفاهة والرذالة كما يقال: فلان في الحضيض عبارة عن انحطاط قدره بانسلاخه من الآيات قال معناه الكرماني. قال أبو روق: غلب على عقله هواه فاختار دنياه على آخرته، وقال قوم: معناه لرفعناه بها لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك والضمير في { بها } عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدىء وصف حاله بقوله { ولكنه أخلد }، وقال ابن أبي نجيح { لرفعناه } لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها والضمير للآيات ثم ابتدىء وصف حاله والتفسير الأول أظهر وهو مرويّ عن ابن عباس وجماعة ولم يذكر الزمخشري غيره وهو الذي يقتضيه الاستدراك لأنه على قول الإهلاك بالمعصية أو التوفي قبل الوقوع فيها لا يصحّ معنى الاستدراك والضمير في { لرفعناه } في هذه الأقوال عائد على الذي أوتي الآيات وإن اختلفوا في الضمير في { بها } على ما يعود وقال قوم الضمير في { لرفعناه } على الكفر المفهوم مما سبق وفي { بها } عائد على الآيات أي ولو شئنا لرفعنا الكفر بالآيات وهذا المعنى روي عن مجاهد وفيه بعد وتكلّف.

قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع؟ (قلت): المعنى ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل ولو لزمها لرفعناه بها ألا ترى إلى قوله ولكنه { أخلد إلى الأرض } فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون { ولو شئنا } في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: { ولو شئنا لرفعناه } ولكنا لم نشأ انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.

{ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } أي فصفته { إن تحمل عليه } الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يحملها كصفة الكلب إن كان مطروداً لهث وإن كان رابضاً لهث قاله ابن عباس، وقيل: شبه المتهالك على الدنيا في قلقه واضطرابه على تحصيلها ولزومه ذلك بالكلب في حالته هذه التي هي ملازمة له حالة تهييجه وتركه وهي كونه لا يزال لا هنا وهي أخس أحواله وأرذلها كما أن المتهالك على الدنيا لا يزال تعباً قلقاً في تحصيلها قال الحسن هو مثل المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع أعطي أو لم يعط كالكلب يلهث طرداً وتركاً انتهى، وفي كتاب الحيوان دلت الآية على أن الكلب أخس الحيوان وأذله لضرب الخسة في المثل به في أخسّ أحواله ولو كان في جنس الحيوان ما هو أخس من الكلب ما ضرب المثل إلا به، قال ابن عطية: وقال الجمهور إنما شبه في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها أيضاً ضالاً لم تنفعه فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه أو تركه دون حمل عليه، وقال السدّي وغيره هذا الرجل خرج لسانه على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب، وقال الزمخشري: وكان حق الكلام أن يقال { ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض } فحططناه ووضعنا منزلته فوقع قوله: { فمثله كمثل الكلب } موقع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخسّ أحواله وأرذلها في معنى ذلك انتهى وفي قوله وكان حق الكلام إلى آخره سوء أدب على كلام الله تعالى وأما قوله فوقع قوله { فمثله } إلى آخره فليس واقعاً موقع ما ذكر لكن قوله { ولكنه أخلد إلى الأرض } وقع موقع فحططناه إلا أنه لما ذكر الإحسان إليه أسند ذلك إلى ذاته الشريفة فقال { آتيناه آياتنا ولو شئنا لرفعناه بها } ولما ذكر ما هو في حق الشخص إساءة أسنده إليه فقال { فانسلخ منها } وقال: { ولكنه أخلد إلى الأرض } والله تعالى في الحقيقة هو الذي سلخه من الآيات وأخلده إلى الأرض فجاء على حد قوله { { فأردت أن أعيبها } [الكهف: 79] وقوله: { { فأراد ربك أن يبلغا } [الكهف: 82] في نسبة ما كان حسناً إلى الله ونسبة ما كان بخلافه إلى الشخص وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال أي لاهثاً في الحالتين قاله الزمخشري وأبو البقاء.

وقال بعض شراح كتاب المصباح: وأما الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضع الحال فلا يقال جاءني زيد إن يسأل يعظ على الحال بل لو أريد ذلك لجعلت الجملة الشرطية خبراً عن ضمير ما أريد الحال عنه نحو جاء زيد هو وإن يسأل يعط فيكون الواقع موقع الحال هو الجملة الإسمية لا الشرطية، نعم قد أوقعوا الجمل المصدرة بحرف الشرط موقع الحال ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط وتلك الجملة لم تخلُ من أن يُعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف والأول ترك الواو مستمرّ فيه نحو أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله { { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } [البقرة: 6] وأما الثاني فلا بدّ من الواو نحو أتيتك وإن لم تأتني ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة انتهى فقوله { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } من قبيل الأول لأن الحمل عليه والترك نقيضان.

{ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } أي ذلك الوصف وصف { الذين كذبوا بآياتنا } صفته كصفة الكلب لاهثاً في الحالتين فكما شبّه وصف المؤتى الآيات المنسلخ منها بالكلب في أخسّ حالاته كذلك شبّه به المكذبون بالآيات حيث أوتوها وجاءتهم واضحات تقتضي التصديق بها فقابلوها بالتكذيب وانسلخوا منها واحتمل { ذلك } أن يكون إشارة لمثل المنسلخ وأن يكون إشارة لوصف الكلب واحتمل أن تكون أداة التشبيه محذوفة من ذلك أي صفة ذلك صفة الذين كذبوا واحتمل أن تكون محذوفة من { مثل القوم } أي ذلك الوصف وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل { الذين كذبوا بآياتنا } ويكون أبلغ في ذمّ المكذبين حيث جعلوا أصلاً وشبه بهم، قال ابن عطية: أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالّين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالهم ولم ينتفعوا بذلك فمثلهم كمثل الكلب، وقال الزمخشري: { كذبوا بآياتنا } من اليهود بعدما قرؤوا بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به، وقال ابن عباس: يريد كفار مكة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله ثم جاءهم من لا يشك في صدقه وديانته ونبوته فكذبوه فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل الكلب الذي يلهث على كل حال انتهى، وتلخص أهؤلاء القوم المكذبون بالآيات عامّ أم خاص باليهود أم بكفار مكة أقوال ثلاثة والأظهر العموم.

{ فاقصص القصص لعلهم يتفكّرون }. أي فاسرد أخبار القرون الماضية كخبر بلعام أو من فسّر به المنسلخ إذ هو من القصص الذي لا يعلمه إلا من درس الكتب إذ هو من خفي أخبارهم ففي إخبارك بذلك أعظم معجز { لعلهم يتفكرون } فيما جرى على المكذبين فيكون ذلك عبرة لهم ورادعاً عن التكذيب وأن يكونوا أخباراً شنيعة تقصّ كما قصّ خبر ذلك المنسلخ.

{ ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا } { ساء } بمعنى بئس وتقدم لنا أن أصلها التعدّي تقول: ساءني الشيء يسوءني ثم لما استعملت استعمال بئس بنيت على فعل وجرت عليها أحكام بئس و{ مثلاً } تمييز للضمير المستكنّ في ساء فاعلاً وهو مفسر بهذا التمييز وهو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها ولا يثنّي ولا يجمع على مذهب البصريين وعن الكوفيين خلاف مذكور في النحو ولا بد أن يكون المخصوص بالذمّ من جنس التمييز فاحتيج إلى تقدير حذف أما في التمييز أي ساء أصحاب مثل القوم وأما في المخصوص أي ساء مثلاً مثل القوم وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة، وقال أبو عبد الله الرازي ظاهره يقتضي أن يكون ذلك المثل موصوفاً بالسوء وذلك غير جائز لأن هذا المثل ذكره الله تعالى فكيف يكون موصوفاً بالسوء فوجب أن يكون الموصوف بالسوء ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها حتى صاروا في التمثيل لذلك بمنزلة الكلب اللاهث انتهى وليس كما ذكر ليس هنا ضرب مثل والمثل لفظ مشترك بين الوصف وبين ما يضرب مثلاً والمراد هنا الوصف فمعنى { مثله كمثل الكلب } أي وصفه وصف الكلب وليس هذا من ضرب المثل بل كما قال { { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [البقرة: 17] أي صفتهم كصفة الذي استوقد وكقوله { مثل الجنة التي وعد المتقون } [الرعد: 35] أي صفتها وإذا تقرر هذا فقوله ساء مثلاً معناه بئس وصفاً فليس من ضرب المثل في شيء، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش: ساء مثل بالرفع { القوم } بالخفض واختلف على الجحدري فقيل: كقراءة الأعمش، وقيل: بكسر الميم وسكون الثاء وضم اللام مضافاً إلى { القوم } والأحسن في قراءة المثل بالرفع أن يكتفى به ويجعل من باب التعجب نحو لقضو الرجل أي ما أسوأ مثل القوم ويجوز أن يكون كبئس على حذف التمييز على مذهب من يجيزه التقدير ساء مثل القوم أو على أن يكون المخصوص { الذين كذبوا } على حذف مضاف أي بئس مثل القوم مثل { الذين } كذبوا لتكون الذين مرفوعاً إذ قام مقام مثل المحذوف لا مجروراً صفة للقوم على تقدير حذف التمييز.

{ وأنفسهم كانوا يظلمون } يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة ويحتمل ن يكون استئناف إخبار عنهم بأنهم كانوا يظلمون أنفسهم والزمخشري على طريقته في أنّ تقديم المفعول يدلّ على الحصر فقدره وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، قال: وتقديم المفعول به لاختصاص كأنه قيل وخصُّوا أنفسهم بالظلم ولم يتعدّ إلى غيرها.

{ من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } لما تقدم ذكر المهتدين والضالين حبر تعالى: أنه هو المتصرف فيهم بما شاء من هداية وضلال وتقرّر من مذهب أهل السنة أنه تعالى هو خالق الهداية والضلال في العبد وللمعتزلة في هذا ونظائره تأويلات، قال الجبائي: وهو اختيار القاضي { من يهد الله } إلى الجنة والثواب في الآخرة { فهو المهتدي } في الدنيا السالك طريق الرشد فيما كلف فبين أنه لا يهدي إلى الثواب في الآخرة إلا من هذا وصفه ومن يضلله عن طريق الجنة { فأولئك هم الخاسرون }، وقال بعضهم: في الكلام حذف أي { من يهد الله } فيقبل ويهتدي بهداه { فهو المهتدي ومن يضلل } بأن لم يقبل فهو الخاسر، وقال بعضهم: المراد من وصفه الله بأنه مهتدٍ { فهو المهتدي } لأنّ ذلك مدح ومدح الله لا يحصل إلا في حق من كان موصوفاً بذلك { ومن يضلل } أي ومن يصفه بكونه ضالاًّ فهو الخاسر، وقال بعضهم: من آتيناه الألطاف وزيادة الهدى { فهو المهتد } { ومن يضلل } عن ذلك لما تقدم منه بسوء اختياره فأخرج لهذا السبب تلك الألطاف من أن تؤثر فيه فهو الخاسر وهذه التأويلات كلها متكلفة بعيدة وظاهر الآية يرد على القدرية والمعتزلة و { فهو المهتدى } حمل على لفظ من و { فأولئك هم الخاسرون } حمل على معنى من وحسنه كونه فاصلة رأس آية.

{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس }. هذا إخبار منه تعالى بأنه خلق لجهنم كثيراً من الصنفين، ومناسبة هذا لما قبله أنه لما ذكر أنه هو الهادي وهو المضلّ أعقبه بذكر من خلق للخسران والنار وذكر أوصافهم فيما ذكر وفي ضمنه وعيد الكفار والمعنى لعذاب جهنم واللام للصيرورة على قول من أثبت لها هذا المعنى أو لما كان مآلهم إليها جعل ذلك سبباً على جهة المجاز فقد رد ابن عطية قول من زعم أنها للصيرورة، فقال: وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه، وأما هنا فالفعل قصد به ما يصير الأمر إليه من سكناهم لجهنم انتهى، وإنما ذهب إلى أنها لام العاقبة والصيرورة لأنه تعالى قال { { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56] فإثبات كونها للعلة ينافي قوله { إلا ليعبدون } وأنشدوا دليلاً على إثبات معنى الصيرورة للام قول الشاعر:

ألا كل مولود فللموت يولد ولست أرى حيّاً لحي يخلد

وقول الآخر:

فللموت تغدو الوالدات سخالها كما لخراب الدّهر تبنى المساكن

ودعوى القلب فيه وإنّ تقديره ولقد ذرأنا جهنم لكثير غير سديد لأنّ القلب لا يكون إلا في الشعر على الصحيح ولفظة كثير لا تشعر بالأكثر ولكن ثبت في الحديث أن بعث النار أكثر لقول الله لآدم أخرج بعث النار من ذريتك فأخرج من كل ألف تسعة وتسعين وتسعمائة وهؤلاء المخلوقون لجهنم هم الذين طبع الله على قلوبهم فلا يتأتى منهم إيمان البتة وتفسير ابن جبير: انهم أولاد الزنا ليس بجيد.

{ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها }. لما كانوا لا يتدبرون شيئاً من الآيات ولا ينظرون إليها نظر اعتبار ولا يسمعونها سماع تفكر جعلوا كأنهم فقدوا الفقه بالقلوب والإبصار بالعيون والسماع بالآذان وليس المراد نفي هذه الإدراكات عن هذه الحواس وإنما المراد نفي الانتفاع بها فيما طلب منهم من الإيمان. وقال مسكين الدرامي:

أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الستر
وأصمّ عن ما كان بينهما عمداً وما بالسمع لي وقر

وفسّر مجاهد هذا فقال: { لا يفقهون بها } شيئاً من أمور الآخرة { ولا يبصرون بها } الهدى { ولا يسمعون بها } الحق انتهى، وفي قوله { لهم قلوب لا يفقهون بها } دليل على أن القلب آلة للفقه والعلم كما أن العين آلة للإبصار والأذن آلة للسماع، وقال الزمخشري: وجعلهم لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وإنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغّلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار، ومنه كتاب عمر إلى خالد بن الوليد: بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دلوكاً عجن بخمر وإني لأظنكم يا آل المغيرة ذرء النار. ويقال لمن كان غريقاً في بعض الأمور ما خلق فلان إلا للنار والمراد وصف أحوالهم في عظم ما أقدموا عليه في تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه النبي الموعود وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم كأنهم خلقوا للنار انتهى، وهو تكثير في الشرح.

{ أولئك كالأنعام } أي في عدم الفقه في العواقب والنظر للاعتبار والسماع للتفكر ولا يهتمون بغير الأكل والشرب.

{ بل هم أضلّ } قال الزمخشري: { بل هم أضلّ } سبيلاً من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبّر، وقيل الأنعام تبصر منافعها من مضارها فتلزم بعض ما تبصره وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار، وقال ابن عطية: حكم عليهم بأنهم أضل لأن الأنعام ركب في بنيتها وخلقتها أن لا تفكر في شيء وهؤلاء هم معدُّون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرفاً من النظر فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضلّ على هذا انتهى، وقيل { هم أضلّ } لأنهم يعصون والأنعام لا تعصي، وقيل الأنعام تعرف ربها وتسبح له والكفار لا يعرفونه ولا يدعونه وروي: كل شيء أطوع لله من ابن آدم، وقال أبو عبد الله الرازي: الإنسان وسائر الحيوان يشاركه في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة والباطنة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر وإنما يحصل الامتياز بين الإنسان وغيره بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فلما أعرض الكفار من أغراض أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام، ثم قال: { بل هم أضل } لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل الفضائل والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها ومن أعرض عن اكتساب الفضئل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أحسن حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز فلهذا قال: { بل هم أضلّ } انتهى.

وقيل: الأنعام تفرّ إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها والكافر يهرب عن ربه الذي أنعمه عليه لا تحصي، وقيل: الأنعام تضل إذا لم يكن معها مرشد وقلما تضلّ إذا كان معها وهؤلاء قد جاءتهم الرسل وأنزلت عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال انتهى، وأقول هذا الإضراب ليس على جهة الإبطال للخبر السابق من تشبيههم بالأنعام ولا يجوز أن تكون جهة المبالغة في الضلال هي جهة التشبيه لأنه يؤدي إلى كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل في حق الله تعالى وكلام من تقدم من المفسرين يدل على أنه تعالى شبّههم بالأنعام فيما ذكر وأنهم أضل من الأنعام فيما وقع التشبيه فيه وهو لا يجوز لما ذكرناه فالمعوّل عليه أن جهة التشبيه مخالفة لجهة المبالغة في الضلال وأن هذا الإضراب ليس على سبيل الإبطال بمدلول الجملة السابقة { بل هم أضلّ } إضراب دال على الانتقال من إخبار إلى إخبار فالجملة الأولى شبههم بالأنعام في انتفاء منافع الإدراكات المؤدية إلى امتثال ما جاءت به الرسل والجملة الثانية أثبتت لهم المبالغة في ضلال طريقهم التي يسلكونها فالموصوف بالمبالغة في الضلال طريقهم وحذف التمييز وتقديره: { بل هم أضل } طريقاً منهم ويبين هذا قوله تعالى: { { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام } [الفرقان: 44] أي في انتفاء السمع للتدبر والعقل { بل هم أضلّ سبِيلاً } أي بل سبيلهم أضلّ فالمحكوم عليه أوّلاً غير المحكوم عليه آجراً والمحكوم به أيضاً مختلف.

{ أوْلئك هم الغافلون } هذه الجملة بيّن تعالى بها سبب كونهم أضلّ من الأنعام وهو الغفلة. وقال عطاء: عن ما أعدّ الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب.

{ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } قال مقاتل: دعا رجل الله تعالى في صلاته ومرة دعا الرحمن، فقال أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربّاً واحداً فما بال هذا يدعو اثنين فنزلت، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه ذرأ كثيراً من الجنّ والإنس للنار ذكر نوعاً منهم وهم { الذين يلحدون في أسمائه } وهم أشدّ الكفار عتباً أبو جهل وأضرابه وأيضاً لما نبه على أن دخولهم جهنم هو للغفلة عن ذكر الله والمخلص من العذاب هو ذكر الله أمر بذكر الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا والقلب إذا غفل عن ذكر الله وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في الحرص، وانتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة، وقد وجدنا ذلك بالذوق حتى إن أحدهم ليصلي الصلوات كلها قضاء في وقت واحد فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله تعالى تخلص من آفات الغفلة وامتثل ما آمره الله به واجتنب ما نهى عنه.

قال الزمخشري: التي هي أحسن الأسماء لأنها لا تدل على معان حسنة من تحميد وتقديس وغير ذلك انتهى، فالحسنى هي تأنيث الأحسن ووصف الجمع الذي لا يعقل بما يوصف به الواحدة كقوله { { ولى فيها مأرب أخرى } [طه: 18] وهو فصيح ولو جاء على المطابقة للجمع لكان التركيب الحسن على وزن الأخر كقوله { { فعدّة من أيام أخر } [البقرة: 185] لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه ويوصف بجمع المؤنثات وإن كان المفرد مذكّراً، وقيل: { الحسنى } مصدر وصف به، قال ابن عطية: و { والأسماء } هاهنا: بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره انتهى. ولا تحرير فيما قال لأنّ التسمية مصدر والمراد هنا الألفاظ التي تطلق على الله تعالى وهي الأوصاف الدالة على تغاير الصفات لا تغاير الموصوف كما تقول جاء زيد الفقيه الشجاع الكريم وكون الاسم الذي أمر تعالى أن يدعى به حسناً هو ما قرره الشرع ونص عليه في إطلاقه على الله ومعنى { فادعوه بها } أي نادوه بها كقولك: يا الله يا رحمن يا مالك وما أشبه ذلك، وقال الزمخشري: فسمّوه بتلك الأسماء جعله من باب دعوت ابني عبد الله أي سميته بهذا الاسم واختلف في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ولا تتعلق به شبهة ولا اشتراك إلا أنه لم يرد منصوصاً هل يطلق ويسمى الله تعالى به فنصّ القاضي أبو بكر الباقلاني على الجواز ونصّ أبو الحسن والأشعري على المنع، وبه قال الفقهاء والجمهور وهو الصواب واختلف أيضاً في الأفعال التي في القرآن كقوله تعالى: { { الله يستهزئ بهم } [البقرة: 15] { { ويمكرون ويمكر الله } [الأنفال: 30] هل يطلق عيه منه تعالى اسم فاعل مقيد بمتعلقه فيقال الله مستهزىء بالكافرين وماكر بالذين يمكرون فجوّز ذلك فرقة ومنعت منه فرقة وهو الصواب وأما إطلاق اسم الفاعل بغير قيده فالإجماع على منعه، وروى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة النص على تسعة وتسعين اسماً مسرودة اسماً اسماً، قال ابن عطية: وفي بعضها شذوذ وذلك الحديث ليس بالمتواتر وإن كان قد قال فيه أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من طريق حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث وإنما المتواتر منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة" . ومعنى أحصاها عدّها وحفظها وتضمّن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والعبرة في معانيها وهذا حديث البخاري انتهى، وتسمية هذا الحديث متواتراً ليس على اصطلاح المحدثين في المتواتر وإنما هو خبر آحاد.

وفي بعض دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا حنان يا منان" ولم يردا في جامع الترمذي وقد صنّف العلماء في شرح أسماء الله الحسنى كأبي حامد الغزالي وابن الحكم بن برجان وأبي عبد الله الرازي وأبي بكر بن العربي وغيرهم، قال الزمخشري: ويجوز أن يراد ولله الأوصاف الحسنى وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق وصفوه بها { وذروا الذين يلحدون } في صفاته فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها، وقيل: معنى قوله { وذروا الذين يلحدون في أَسمائه } اتركوهم ولا تحاجّوهم ولا تعرضوا لهم قاله ابن زيد فتكون الآية على هذا منسوخة بالقتال، وقيل: معناه الوعيد كقوله { ذرني ومن خلقت وحيداً } [المدثر: 11] وقوله { { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } [الحجر: 3] وقال الزمخشري واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه كما سمعنا البدو بجهلهم يقولون: يا أبا المكارم يا أبيض الوجه يا سخيّ، أو أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى نحو أن يقولوا: يا الله ولا يقولوا: يا رحمن، وقيل: معنى الإلحاد في أسمائه تسميتهم أوثانهم اللات نظراً إلى اسم الله تعالى والعزى نظراً إلى العزيز قاله مجاهد، ويسمون الله أبا وأوثانهم أرباباً ونحو هذا، وقال ابن عباس: معنى { يلحدون } يكذّبون، وقال قتادة: يشركون، وقال الخطابي: الغلط في أسمائه والزّيغ عنها إلحاد، وقرأ حمزة: { يلحدون } بفتح الياء والحاء وكذا في النحل والسجدة وهي قراءة ابن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى، وقرأ باقي السبعة بضم الياء وكسر الحاء فيهنّ و { سيجزون } وعيد شديد واندرج تحت قوله { ما كانوا يعملون } الإلحاد في أسمائه وسائر أفعالهم القبيحة.

{ وممن خلقنا أمة يهدون بالحقّ وبه يعدلون } لما ذكر من ذرأ للنار ذكر مقابلهم وفي لفظة { وممن } دلالة على التبعيض وأن المعظم من المخلوقين ليسوا هداة إلى الحق ولا عادلين به، قيل: هم العلماء والدعاء إلى الدين، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب قاله ابن الكلبي وروي عن قتادة وابن جريج، وقيل: هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان، وقال ابن عباس: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعليه أكثر المفسرين وروي في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: "هذه لكم، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها" { ومن قوم موسى } الآية وعنه صلى الله عليه وسلم: "إن من أمتي قوماً على الحقّ حتى ينزل عيسى ابن مريم" والظاهر أن هذه الجملة أخبر فيها أن ممن خلق أمة موصوفون بكذا فلا يدل على تعيين لا في أشخاص ولا في أزمان وصلحت لكل هاد بالحقّ من هذه الأمة وغيرهم وفي زمان الرسول وغيره، كما أنّ مقابلها في قوله { ولقد ذرأنا لجهنم } لا يدلّ على تعيين أشخاص ولا زمان وإنما هذا تقسيم للمخلوق للنار والمخلوق للجنة ولذلك قيل: إنّ في الكلام محذوفاً تقديره { وممن خلقنا } يدلّ عليه إثبات مقابله في قوله { ولقد ذرأنا لجهنم }.

وقال الجبائي: هذه الآية تدل على أن لا يخلو زمان البتة ممن يقوم بالحق ويعمل به ويهذي إليه وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل انتهى، والآية لا تدل على ما زعم الجبائي وما قاله مخالف لما روي من أنه لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله ولا تقوم الساعة حتى يسري على كتاب الله فلا يبقي منه حرف أو كما قال: { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون }. قال الخليل بن أحمد: سنطوي أعمارهم في اغترار منهم، وقال أبو عبيدة: الاستدراج أن تدرج إلى الشيء في خفية قليلاً قليلاً ولا تهجم عليه وأصله من الدرجة وذلك أنّ الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة ومنه درج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء ودرج القوم ماتوا بعضهم في أثر بعض، وقال ابن قتيبة: هو أن يذيقهم من بأسه قليلاً قليلاً من { حيث لا يعلمون } ولا يتابعهم به ولا يجاهرهم، وقال الأزهري سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون وذلك أن الله تعالى يفتح باباً من النعة يغتبطون به ويركنون إليه ثم يأخذهم على غرّتهم أغفل ما يكون انتهى ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه والمعنى سنسترقهم شيئاً بعد شيء ودرجة بعد درجة بالنعم عليهم والإمهال لهم حتى يغترّوا ويظنّوا أنهم لا ينالهم عقاب، وقال الجبائي { سنستدرجهم } إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلمون استدراجاً لهم إلى ذلك فيجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل ويجوز أن يكون عذاب الآخرة، وقال الزمخشري: ومعنى { سنستدرجهم } سنستدينهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع انهماكهم في الغيّ فكلما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجدّدوا معصيةً فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن مواترة النعم أثرة من الله وتقريب، وإنما هي خذلان منه وتبعيد فهذا استدراج الله نعوذ بالله تعالى منه، من حيث لا يعلمون قيل: بالاستدراج، وقيل: بالهلاك، وقرأ النخعي وابن وثاب: سيستدرجهم بالياء فاحتمل أن يكون من باب الالتفات واحتمل أن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من { كذّبوا } أي سيستدرجهم هو أي التكذيب قال الأعشى: في الاستدراج:

فلو كنت في جبّ ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهزه وتعلم أني عنكم غير مفحم

{ وأملى لهم إنّ كيدي متين } معطوف على { سنستدرجهم } فهو داخل في الاستقبال وهو خروج من ضمير التكلم بنون العظمة إلى ضمير تكلم المفرد والمعنى أؤخرهم ملاوة من الدهر أي مدة فيها طول والملاوة بفتح الميم وضمها وكسرها ومنه { { واهجرني مليّاً } [مريم: 46] أي طويلاً وسمي فعله ذلك بهم كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان، قال ابن عباس: يريد أنّ مكري شديد، وقيل: إن عذابي وسماه كيداً لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون والمتين من كل شيء القوي يقال: متن متانه وهذا إخبار عن المكذبين عموماً، وقيل: نزلت في المستهزئين من قريش قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة، وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر أن كيدي بفتح الهمزة على معنى لأجل { أنّ كيدي }، وقرأ الجمهور بكسرها على الاستئناف.

{ أو لم يتفكّروا ما بصاحبهم من جنة إنّ هو إلا نذير مبِين } قال الحسن وقتادة: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد ليلاً على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش يا بني فلان يا بني يحذرهم ويدعوهم إلى الله تعالى، فقال بعض الكفار حين أصبحوا: هذا مجنون بات يصوّت حتى الصباح، وكانوا يقولون: شاعر مجنون فنفى الله عز وجل عنه ما قالوه، ثم أخبر أنه محذر من عذاب الله والآية باعثة لهم على التفكر في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وانتفاء الجنة عنه وهذا الاستفهام قيل: معناه التوبيخ، وقيل: التحريض على التأمل والجنة كما قال تعالى { { من الجنة والناس } [الناس: 6] والمعنى من مس جنة أو تخبيط جنة، وقيل: هي هيئة كالجلسة والركبة أريد بها المصدر أي ما بصاحبهم من جنون والظاهر أن { يتفكروا } معلّق عن الجملة المنفيّة وهي في موضع نصب بيتفكروا بعد إسقاط حرف الجر لأن التفكر من أعمال القلوب فيجوز تعليقه والمعنى أو لم يتأملوا ويتدبروا في انتفاء هذا الوصف عن الرسول فإنه منتف لا محالة ولا يمكن لمن أنعم الفكر في نسبة ذلك إليه، وقيل ثم مضمر محذوف أي فيعلموا ما بصاحبهم من جنة قالوا الحوفي، وزعم أن تفكّروا لا تعلّق لأنه لا يدخل على الجمل قال: ودلّ التفكر على العلم، وقال أصحابنا: إذا كان فعل القلب يتعدى بحرف جر قدرت الجملة في موضع جر بعد إسقاط حرف الجر ومنهم من زعم أنه يضمن الفعل الذي تعدى بنفسه إلى واحد أو بحرف جر إلى واحد معنى ما يتعدى إلى اثنين فتكون الجملة في موضع المفعولين فعلى هذين الوجهين لا حاجة إلى هذا المضمر الذي قدّره الحوفي، وقيل تمّ الكلام على قوله { يتفكروا } ثم استأنف إخباراً بانتفاء الجنة وإثبات النذارة، وقال أبو البقاء: في ما وجهان أحدهما: أنها باقية وفي الكلام حذف تقديره أو لم يتفكروا في قولهم به جنة، والثاني أنها استفهام أي أو لم يتفكروا أي شيء بصاحبهم من الجنون مع انتظام أقواله وأفعاله، وقيل هي بمعنى الذي تقديره أو لم يتفكروا في ما بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم انتهى وهي تخريجات ضعيفة ينبغي أن ينزه القرآن عنها وتفكر مما ثبت في اللسان تعليقه فلا ينبغي أن يعدل عنه.

{ أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء } لما حضّهم على التفكر في حال الرسول وكان مفرعاً على تقرير دليل التوحيد أعقب بما يدل على التوحيد ووجود الصانع الحكيم والملكوت الملك العظيم وتقدّم شرح ذلك في قوله { { أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء } [الأنعام: 75] ولم يتقصر على ذكر النظر في الملكوت بل نبه على أنّ كل فرد فرد من الموجودات محل للنظر والاعتبار والاستدلال على الصانع الحكيم ووحدانيته كما قال الشاعر:

وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه الواحد

{ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } و{ أن } معطوف على { ما } في قوله و{ ما خلق } وبخوا على انتفاء نظرهم في ملكوت السموات والأرض وهي أعظم المصنوعات وأدلتها على عظمة الصانع ثم عطف عليه شيئاً عاماً وهو قوله وما خلق الله من شيء فاندرج السموات والأرض في ما خلق ثم عطف عليه شيئاً يخصّ أنفسهم وهو انتفاء نظرهم وتفكرهم في أنّ أجلهم قد اقترب فيبادرهم الموت على حالة الغفلة عن النظر في ما ذكر فيؤول أمرهم إلى الخسار وعذاب النار نبههم على الفكر في اقتراب الأجل لعلهم يبادرون إليه وإلى طلب الحق وما يخلّصهم من عذاب الله قبل مقانصة الأجل وأجلهم وقت موتهم، وقال الزمخشري: يجوز أن يراد باقتراب الأجل اقتراب الساعة { وأن } هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وخبرها عسى وما تعلقت به وقد وقع خبر الجملة غير الخبرية في مثل هذه الآية وفي مثل { { والخامسة أن غضب الله عليها } [النور: 9] فغضب الله عليها جملة دعاء وهي غير خبرية فلو كانت { أن } مشددة لم تقع { عسى } ولا جملة الدعاء لها لا يجوز علمت أن زيداً عسى أن يخرج ولا علمت أن زيداً لعنه الله وأنت تريد الدعاء وأجاز أبو البقاء أن تكون { أن } هي المخففة من الثقيلة وأن تكون مصدرية يعني أن تكون الموضوعة على حرفين وهي الناصبة للفعل المضارع وليس بشيء لأنهم نصوا على أنها توصل بفعل متصرّف مطلقاً يعنون ماضياً ومضارعاً وأمراً فشرطوا فيه التصرّف، و{ عسى } فعل جامد فلا يجوز أن يكون صلة لأن و{ عسى } هنا تامة وأن يكون فاعل بها نحو قولك عسى أن تقوم واسم { يكون }. قال الحوفي: { أجلهم } وقد اقترب الخبر، وقال الزمخشري وغيره: اسم يكون ضمير الشأن فيكون { قد اقترب أجلهم } في موضع نصب في موضع خبر { يكون } و{ أجلهم } فاعل باقترب وما أجازه الحوفي فيه خلاف فإذا قلت كان يقوم زيد فمن النحويين من زعم أنّ زيداً هو الاسم ويقوم في موضع نصب على الخبر ومنهم من منع ذلك ويجعل في ذلك ضمير الشأن والجواز اختيار ابن مالك والمنع اختيار ابن عصفور وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة التقسيم والدلائل في شرحنا لكتاب التسهيل.

{ فبأي حديث بعده يؤمنون } معنى هذه الجملة وما قبلها توقيفهم وتوبيخهم على أنه لم يقع منهم نظر ولا تدبّر في شيء من ملكوت السموات والأرض ولا في مخلوقات الله تعالى ولا في اقتراب آجالهم ثم قال { فبأيّ حديث } أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذ لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة ونحوه قول الشاعر:

فعن أي نفس بعـد نفسي أقاتل

والمعنى إذا لم أقاتل عن نفسي فكيف أقاتل عن غيرها ولذلك إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذي هو الصدق المحض وفيه نجاتهم وخلاصهم فكيف يصدقون بحديث غيره والمعنى أنه ليس من طباعهم التصديق بما فيه خلاصهم والضمير في { بعده } للقرآن أو الرسول وقصته وأمره أو الأجل إذ لا عمل بعد الموت أقوال ثلاثة. قال الزمخشري: (فإن قلت): بم يتعلق قوله { فبأي حديث بعده يؤمنون }، (قلت): بقوله: { عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت ما ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا.

{ من يضلل الله فلا هادي له }. نفى نفياً عامّاً أن يكون هاد لمن أضله الله فتضمن اليأس من إيمانهم والمقت بهم.

{ ويذرهم في طغيانهم يعمهون }. قرأ الحسن وقتادة وأبو عبد الرحمن وأبو جعفر والأعرج وشيبة والحرميان وابن عامر ونذرهم بالنون ورفع الراء وأبو عمرو وعاصم بالياء ورفع الراء وهو استئناف إخبار قطع الفعل أو أضمر قبله ونحن فيكون جملة اسمية، وقرأ ابن مصرّف والأعمش والأخوان وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم بالياء والجزم وروى خارجة عن نافع بالنون والجزم وخرج سكون الراء على وجهين أحدهما أنه سكن لتوالي الحركات كقراءة { { وما يشعركم } [الأنعام: 109] وينصركم فهو مرفوع والآخر أنه مجزوم عطفاً على محل فلا هادي له فإنه في موضع جزم فصار مثل قوله { { فهو خير لكم } [التوبة: 3] ونكفر في قراءة من قرأ بالجزم في راء ونكفر. ومثل قول الشاعر:

أنّى سلكت فإنني لك كاشح وعلى انتقاصك في الحياة وازدد

{ يسـألونك عن الساعة أيان مرساها } الضمير في { يسألونك } لقريش قالوا يا محمد إنا قرابتك فأخبرنا بوقت الساعة، وقال ابن عباس: الضمير لليهود، قال حسل بن أبي بشير وشمويل بن زيدان ان كنت نبيّاً فأخبرنا بوقت الساعة فإنا نعرفها فإن صدقت آمنا بك فنزلت، ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر التوحيد والنبوة والقضاء والقدر أتبع ذلك بذكر المعاد وأيضاً فلما تقدّم قوله { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } وكان ذلك باعثاً على المبادرة إلى التوبة أتى بالسؤال عن الساعة ليعلم أنّ وقتها مكتوم عن الخلق فيكون ذلك سبباً للمسارعة إلى التوبة و{ الساعة } القيامة موت من كان حينئذ حيّاً وبعث الجميع فيقع عليه اسم الساعة واسم القيامة و{ الساعة } من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وقرأ الجمهور { أيّان } بفتح الهمزة والسلمي بكسرها حيث وقعت وتقدم أنها لغة قومه سليم و{ مرساها } مصدر أي متى إرساؤها وإثباتها إقرارها والرّسو ثبات الشيء الثقيل ومنه رسا الجبل وأرسيت السفينة والمرسا المكان الذي ترسو فيه، وقال الزمخشري: { مرساها } إرساؤها أو وقت إرسائها أي إثباتها وإقرارها انتهى، وتقديره أو وقت إرسائها ليس بجيد لأنّ { أيان } اسم استفهام عن الوقت فلا يصحّ أن يكون خبراً عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير في أي وقت وقت إرسائها و{ أيان مرساها } مبتدأ وحكى ابن عطية عن المبرّد أن { مرساها } مرتفع بإضمار فعل ولا حاجة إلى هذا الإضمار و{ أيان مرساها } جملة استفهامية في موضع البدل من { الساعة } والبدل على نية تكرار العامل وذلك العامل معلق عن العمل لأنّ الجملة فيها استفهام ولما علق الفعل وهو يتعدى بعن صارت الجملة في موضع نصب على إسقاط حرف الجر فهو بدل في الجملة على موضع عن الساعة لأنّ موضع المجرور نصب ونظيره في البدل قولهم عرفت زيداً أبو من هو على أحسن المذاهب في تخريج هذه المسألة أعني في كون الجملة الاستفهامية تكون في موضع البدل.

{ قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو }. أي الله استأثر بعلمها ولما كان السؤال عن الساعة عموماً ثم خصص بالسؤال عن وقتها جاء الجواب عموماً عنها بقوله { قل إنما علمها عند ربي } ثم خصصت من حيث الوقت فقيل { لا يجليها لوقتها إلا هو } وعلم الساعة من الخمس التي نصّ عليها من الغيب أنه تعالى لا يعلمها إلا الله والمعنى لا يظهرها ويكشفها لوقتها الذي قدّر أن تكون فيه إلا هو قالوا: وحكمة إخفائها أنهم يكونون دائماً على حذر فإخفاؤها أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك، وقال الزمخشري: لا يجليها لوقتها إلا هو أي لا تزال خفية ولا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها بغتة { لا يجليها } بالخبر عنها، قل: مجيئها أحد من خلقه لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها انتهى، وهو كلام فيه تكثير وعجمة.

{ ثقلت في السماوات والأرض } قال ابن جريج معناه { ثقلت } على { السموات والأرض } أنفسها لتفطر السماوات وتبدّل الأرض ونسف الجبال، وقال الحسن { ثقلت } لهيبتها والفزع منها على أهل السماوات والأرض، وقال السدي: معنى { ثقلت } خفيت { في السماوات والأرض } فلم يعلم أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين متى تكون وما خفي أمره ثقل على النفوس انتهى، ويعبّر بالثقل عن الشدة والصعوبة كما قال: و { يذرون وراءهم يوماً ثقيلاً } [الإنسان: 27] أي شديداً صعباً وأصله أن يتعدى بعلى تقول ثقل عليّ هذا الأمر، وقال الشاعر:

ثقيل على الأعداء

فإما أن يدّعي أنّ في بمعنى على كما قال بعضهم في قوله { { ولأصلبنكم في جذوع النخل } [طه: 71] أي ويضمن ثقلت معنى يتعدى بفي، وقال الزمخشري: أي كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة وودّ أن يتجلى له علمها وشقّ عليه خفاؤها وثقل عليه أو ثقلت فيهما لأن أهلهما يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها ولأنّ كل شيء لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلة فيهما.

{ لا تأتيكم إلا بغتة } أي فجأة على غفلة منكم وعدم شعور بمجيئها وهذا خطاب عام لكل الناس وفي الحديث "أن الساعة لتهجم والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يسوم سائمته والرجل يخفض ميزانه ويرفعه" . { يسألونك كأنك حفي عنها } قال ابن عباس والسدي ومجاهد: { كأنك حفي } بسؤالهم أي محبّ له وعن ابن عباس أيضاً: كأنك يعجبك سؤالهم عنها وعنه أيضاً كأنك مجتهد في السؤال مبالغ في الإقبال على ما تسأل عنه، وقال ابن قتيبة: كأنك طالب علمها، وقال مجاهد أيضاً والضحاك وابن زيد: معناه { كأنك حفي } بالسؤال { عنها } والاشتغال بها حتى حصلت عليها أي تحبه وتؤثرة أو بمعنى أنك تكره السؤال لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به ولم يؤته أحداً. وقال ابن عطية: أي محتف ومحتفل، وقال الزمخشري: كأنك عالم بها وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها لأنّ من بالغ في السؤال عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه وهذا التركيب معناه المبالغة ومنه إحفاء الشارب واحتفاء النعل استئصاله وأحفى في المسألة ألحف وحفي بفلان وتحفى به بالغ في البرّ به انتهى، وعنها إما أن يتعلق بيسألونك أي يسألونك عنها وتكون صلة { حفي } محذوفة والتقدير كأنك حفي بها أي معتن بشأنها حتى علمت حقيقتها ووقت مجيئها أو كأنك حفيّ بهم أو معتن بأمرهم فتجيبهم عنها لزعمهم أن علمها عندك وحفي لا يتعدى بعن قال تعالى: { { إنه كان بي حفياً } [مريم: 47] فعداه بالباء وإما أن يتعلق بحفي على جهة التضمين لأنّ من كان حفياً بشيء أدركه وكشف عنه فالتقدير كأنك كاشف بحفاوتك عنها وإما أن تكون عن بمعنى الباء كما تكون الباء بمعنى عن في قوله، فإن تسألوني بالنساء فإنني، أي عن النساء، وقرأ عبد الله كأنك حفيّ بها بالباء مكان عن أي عالم بها بليغ في العلم بها.

{ قل إنما علمها عند الله } أي علم مجيئها في علم الله وظرفية { عند } مجازية كما تقول النحو عند سيبويه أي في علمه وتكرير السؤال والجواب على سبيل التوكيد ولما جاء به من زيادة قوله { كأنك حفي عنها }. { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } قال الطبري: { لا يعلمون } أن هذا الأمر لا يعلمه إلا الله بل يظنّ أكثرهم أنه مما يعلمه البشر، وقيل: { لا يعلمون } أن القيامة حق لأنّ أكثر الخلق ينكرون المعاد ويقولون { { إن هي إلا حياتنا الدنيا } [الأنعام: 29] الآية. وقيل: { لا يعلمون } أي أخبرتك أن وقتها لا يعلمه إلا الله. وقيل { لا يعلمون } السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها والأظهر قول الطبري.