الخطاب الظاهر أنه عام، والمقصود الكفار منكر والبعث، وقفهم على قدرته تعالى. { أشد خلقاً }: أي أصعب إنشاء، { أم السماء }، فالمسؤول عن هذا يجيب ولا بد السماء، لما يرى من ديمومة بقائها وعدم تأثيرها. ثم بين تعالى كيفية خلقها. { رفع سمكها }: أي جعل مقدارها بها في العلوّ مديداً رفيعاً مقدار خمسمائة عام، والسمك: الارتفاع الذي بين سطح السماء التي تليها وسطحها الأعلى الذي يلى ما فوقها، { فسواها }: أي جعلها ملساء مستوية، ليس فيها مرتفع ولا منخفض، أو تممها وأتقن إنشاءها بحيث أنها محكمة الصنعة. { وأغطش }: أي أظلم، { ليلها }. { وأخرج }: أبرز ضوء شمسها، كقوله تعالى:
{ والشمس وضحاها } [الشمس: 1] وقولهم: وقت الضحى: الوقت الذي تشرق فيه الشمس. وأضيف الليل والضحى إلى السماء، لأن الليل ظلها، والضحى هو نور سراجها. { والأرض بعد ذلك }: أي بعد خلق السماء وما فعل فيها، { دحاها }: أي بسطها، فخلق الأرض ثم السماء ثم دحا الأرض. وقرأ الجمهور: { والأرض }، { والجبال } بنصبهما؛ والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال: برفعهما؛ وعيسى: برفع الأرض. وأضيف الماء والمرعى إلى الأرض لأنهما يظهران منها. والجمهور: { متاعاً } بالنصب، أي فعل ذلك تمتيعاً لكم؛ وابن أبي عبلة: بالرفع، أي ذلك متاع. وقال الزمخشري: فإن قلت: فهلا أدخل حرف العطف على أخرج؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون معنى { دحاها }: بسطها ومهدها للسكنى، ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها. والثاني: أن يكون أخرج حالاً بإضمار قد، كقوله:
{ { أو جاءوكم حصرت صدورهم } [النساء: 90] انتهى. وإضمار قد قول للبصريين ومذهب الكوفيين. والأخفش: أن الماضي يقع حالاً، ولا يحتاج إلى إضمار قد، وهو الصحيح. ففي كلام العرب وقع ذلك كثيراً. انتهى. { ومرعاها }: مفعل من الرعي، فيكون مكاناً وزماناً ومصدراً، وهو هنا مصدر يراد به اسم المفعول، كأنه قيل: ومرعيها: أي النبات الذي يرعى. وقدم الماء على المرعى لأنه سبب في وجود المرعى، وشمل { ومرعاها } ما يتقوت به الآدمي والحيوان وغيره، فهو في حق الآدمي استعارة، ولهذا قيل: دل الله سبحانه وتعالى بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح، لأنه من الماء. { فإذا جاءت الطامة }، قال ابن عباس والضحاك: القيامة. وقال ابن عباس أيضاً والحسن: النفخة الثانية. وقال القاسم: وقت سوق أهل الجنة إليها، وأهل النار إليها، وهو معنى قول مجاهد. { يوم يتذكر الإنسان ما سعى }: أي عمله الذي كان سعى فيه في الدنيا. وقرأ الجمهور: { وبُرِّزت } مبني للمفعول مشدد الراء، { لمن يرى } بياء الغيبة: أي لكل أحد، فيشكر المؤمن نعمة الله. وقيل: { لمن يرى } هو الكافر؛ وعائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار: مبنياً للفاعل مخففاً وبتاء، يجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم، أي لمن ترى من أهلها، وأن يكون إخبار عن الجحيم، فهي تاء التأنيث. قال تعالى:
{ إذا رأتهم من مكان بعيد } [الفرقان: 12] وقال أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو: وبرزت مبنياً ومخففاً، و { يوم يتذكر }: بدل من { فإذا }؛ وجواب إذا، قال الزمخشري: فإن الأمر كذلك. وقيل: عاينوا وعلموا. ويحتمل أن يكون التقدير: انقسم الراؤون قسمين، والأولى أن يكون الجواب: فأما وما بعده، كما تقول: إذا جاءك بنو تميم، فأما العاصي فأهنه، وأما الطائع فأكرمه. { طغى }: تجاوز الحد في عصيانه، { وآثر الحياة الدنيا } على الآخرة، وهي مبتدأ أو فصل. والعائد على من من الخبر محذوف على رأي البصريين، أي المأوى له، وحسن حذفه وقوع المأوى فاصلة. وأما الكوفيون فمذهبهم أن أل عوض من الضمير. وقال الزمخشري: والمعنى فإن الجحيم مأواه، كما تقول للرجل: غض الطرف، تريد طرفك؛ وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره، تركت الإضافة. ودخول حرف التعريف في المأوى، والطرف للتحريف لأنهما معرفان. انتهى. وهو كلام لا يتحصل منه الرابط العائد على المبتدأ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين، ولم يقدر ضميراً محذوفاً، كما قدره البصريون، فرام حصول الربط بلا رابط.
{ وأما من خاف مقام ربه }: أي مقاماً بين يدي ربه يوم القيامة للجزاء؛ وفي إضافة المقام إلى الرب تفخيم للمقام وتهويل عظيم واقع من النفوس موقعاً عظيماً. قال ابن عباس: خافه عندما هم بالمعصية فانتهى عنها. { ونهى النفس عن الهوى }: أي عن شهوات النفس، وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بمحمود. قال سهل: لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين. وقال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه. وقال عمران الميرتليّ:
فخالف هواها واعصها إن من يطع هوى نفسه تنزع به كل منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به في مصرع أي مصرع
وقال الفضيل: أفضل الأعمال خلاف الهوى، وهذا التفضيل هو عام في أهل الجنة وأهل النار. وعن ابن عباس: نزل ذلك في أبي جهل ومصعب بن عمير العبدري، رضي الله تعالى عنه. وعنه أيضاً: { فأما من طغى }، فهو أخ لمصعب بن عمير، أسر فلم يشدوا وثاقه، وأكرموه وبيتوه عندهم؛ فلما أصبحوا حدثوا مصعباً، فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً فأوثقوه. { وأما من خاف مقام ربه } فـ "مصعب بن عمير، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أُحد حين تفرّق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، وهي السهام. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطاً في دمه قال: عند الله أحتسبك، وقال لأصحابه: لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما، وإن شراك نعله من ذهب" . قيل: واسم أخيه عامر. وفي الكشاف، وقيل: الآيتان نزلتا في أبي عزير بن عمير ومصعب بن عمير، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أُحد، ووقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه. انتهى. { يسألونك }: أي قريش، وكانوا يلحون في البحث عن وقت الساعة، إذ كان يتوعدهم بها ويكثر من ذلك، فنزلت هذه الآية. { أيان مرساها }: متى إقامتها؟ أي متى يقيهما الله ويثبتها ويكونها؟ وقيل: أيان منتهاها ومستقرها؟ كما أن مرسى السفينة ومستقرها حيث تنتهي إليه. { فيم أنت من ذكراها }، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة كثيراً، فلما نزلت هذه الآية. انتهى. والمعنى: في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها؟ أي لست من ذلك في شيء، { إنما أنت منذر }. { إلى ربك منتهاها }: أي انتهاء علم وقتها، لم يؤت علم ذلك أحداً من خلقه. وقيل: { فيم } إنكار لسؤالهم، أي فيم هذا السؤال؟ ثم قال: { أنت من ذكراها }، وعلامة من علاماتها، فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها.
{ إنما أنت منذر من يخشاها }: أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون إنذارك لطفاً به في الخشية منها. انتهى. وهذا القول حكاه الزمخشري وزمكه بكثرة ألفاظه، وهو تفكيك للكلام وخروج عن الظاهر المتبادر إلى الفهم، ولم يخله من دسيسة الاعتزال. وقرأ الجمهور: { منذر من } بالإضافة. وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وأبو عمر في رواية وابن مقسم: منذر بالتنوين. وقال الزمخشري: وقرىء منذر بالتنوين، وهو الأصل والإضافة تخفيف، كلاهما يصلح للحال والاستقبال؛ فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، كقولك: هو منذر زيد أمس. انتهى. أما قوله: وهو الأصل، يعني التنوين، فهو قول قد قاله غيره ممن تقدم. وقد قررنا في هذا الكتاب، وفيما كتبناه في هذا العلم أن الأصل الإضافة، لأن العمل إنما هو بالشبه، والإضافة هي أصل في الأسماء. وأما قوله: فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، فهذا فيه تفصيل وخلاف مذكور في علم النحو. وخص { من يخشاها } لأنه هو المنتفع بالإنذار. { كأنهم يوم يرونها }: تقريب وتقرير لقصر مقامهم في الدنيا. { لم يلبثوا }: لم يقيموا في الدنيا، { إلا عشية }: يوم أو بكرته، وأضاف الضحى إلى العشية لكونها طرفي النهار. بدأ بذكر أحدهما، فأضاف الآخر إليه تجوّزاً واتساعاً، وحسن الإضافة كون الكلمة فاصلة، والله سبحانه وتعالى أعلم.