قال ابن خالويه: { إذا السماء انشقت } بكسر التاء، عبيد عن أبي عمرو. وقال ابن عطية، وقرأ أبو عمرو: { انشقت }، يقف على التاء كأنه يشمها شيئاً من الجر، وكذلك في أخواتها. قال أبو حاتم: سمعت أعرابياً فصيحاً في بلاد قيس يكسر هذه التاءات، وهي لغة. انتهى. وذلك أن الفواصل قد تجري مجرى القوافي. فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي، تكسر في الفواصل؛ ومثال كسرها في القوافي قول كثير عزة:
وما أنا بالداعي لعزة بالردى ولا شامت أن نعل عزة زلت
وكذلك باقي القصيدة. وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف، كقوله تعالى: { { الظنونا } [الأحزاب: 10] و { الرسولا } [الأحزاب: 66] في سورة الأحزاب. وحمل الوصف على حالة الوقف أيضاً موجود في الفواصل. { وأذنت }: أي استمعت وسمعت أمره ونهيه، وفي الحديث: "ما أذن الله بشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن" . وقال الشاعر:صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقال قعنب:إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحاً وما هم أذنوا من صالح دفنوا
وقال الحجاف بن حكيم:أذنت لكـم لمـا سمعت هريركـم
وأذنها: انقيادها الله تعالى حين أراد انشقاقها، فعل المطيع إذا ورد عليه أمر المطاع أنصت وانقاد، كقوله تعالى: { قالتا أتينا طائعين } [فصلت: 11] { وحقت }، قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير: وحق لها أن تسمع. وقال الضحاك: أطاعت وحق لها أن تطيع. وقال قتادة: وحق لها أن تفعل ذلك، وهذا الفعل مبني للمفعول، والفاعل هو الله تعالى، أي وحق الله تعالى عليها الاستماع. ويقال: فلان محقوق بكذا وحقيق بكذا، والمعنى: أنه لم يكن في جرم السماء ما يمنع من تأثير القدرة في انشقاقه وتفريق أجزائه وإعدامه. قيل: ويحتمل أن يريد: وحق لها أن تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى. وقال الزمخشري: وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع، ومعناه: الإيذان بأن القادر الذات يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك، انتهى. وفي قوله القادر الذات دسيسة الاعتزال، وما أولع هذا الرجل بمذهب الاعتزال، يدسه متى أمكنه في كل ما يتكلم به. { وإذا الأرض مدت }، قال مجاهد: سويت. وقال الضحاك: بسطت باندكاك جبالها، ومنه الحديث:
"تمد الأرض مد الأديم العكاظي حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه" ، وذلك أن الأديم إذا مَّد زال ما فيه ما تئن وانبسط، فتصير الأرض إذ ذاك كما قال تعالى: { { فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً } [طه: 106 - 107] { وألقت ما فيها وتخلت }، قال ابن جبير والجمهور: ألقت ما في بطنها من الأموات، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء. وقيل: تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها. وقال الزجاج: ومن الكنوز، وضعف هذا بأن ذلك يكون وقت خروج الدجال، وإنما تلقى يوم القيامة الموتى. { وتخلت }: أي عن ما كان فيها، لم تتمسك منهم بشيء. وجاء تخلت: أي تكلفت أقصى جهدها في الخلو. كما تقول: تكرم الكريم: بلغ جهده في الكرم وتكلف فوق ما في طبعه، ونسبة ذلك إلى الأرض نسبة مجازيه، والله تعالى هو الذي أخرج تلك الأشياء من باطنها. وجواب إذا محذوف، فإما أن يقدره الذي خرج به في سورة التكوير أو الانفطار، أو ما يدل عليه: { إنك كادح }، أي لاقى كل إنسان كدحه. وقال الأخفش والمبرد: هو ملاقيه، إذا انشقت السماء فأنت ملاقيه. وقيل: { يا أيها الإنسان }، على حذف الفاء تقديره: فيا أيها الإنسان. وقيل: { وأذنت } على زيادة الواو؛ وعن الأخفش: { إذا السماء } مبتدأ، خبره { وإذا الأرض } على زيادة الواو، والعامل فيها على قول الأكثرين: الجواب إما المحذوف الذي قدروه، وإما الظاهر الذي قيل إنه جواب. قال ابن عطية: وقال بعض النحويين: العامل انشقت، وأبى ذلك كثير من أئمتهم، لأن إذا مضافة إلى انشقت، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة ويقوى معنى الجزاء، انتهى. وهذا القول نحن نختاره، وقد استدللنا على صحته فيما كتبناه، والتقدير: وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض. وقيل: لا جواب لها إذ هي قد نصبت باذكر نصب المفعول به، فليست شرطاً. { وأذنت لربها }: أي في إلقاء ما في بطنها وتخليها. والإنسان: يراد به الجنس، والتقسيم بعد ذلك يدل عليه. وقال مقاتل: المراد به الأسود بن عبد الأسد بن هلال المخزومي، جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث، فقال أبو سلمة: والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة. فقال الأسود فأين: الأرض والسماء وما جال الناس؟ انتهى. وكان مقاتلاً يريد أنها نزلت في الأسود، وهي تعم الجنس. وقيل: المراد أبيّ بن خلف، كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر. وأبعد من ذهب إلى أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده واحتمال الضر من الكفار، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل، وهو غير ضائع عنده.
{ إنك كادح }: أي جاهد في عملك من خير وشر إلى ربك، أي طول حياتك إلى لقاء ربك، وهو أجل موتك، { فملاقيه }: أي جزاء كدحك من ثواب وعقاب. قال ابن عطية: فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها، والتقدير: فأنت ملاقيه، ولا يتعين ما قاله، بل يصح أن يكون معطوفاً على كادح عطف المفردات. وقال الجمهور: الضمير في ملاقيه عائد على ربك، أي فملاقي جزائه، فاسم الفاعل معطوف على اسم الفاعل. { حساباً يسيراً } قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يقرر ذنوبه ثم يتجاوز عنه. وقال الحسن: يجازي بالحسنة ويتجاوز عن السيئة. وفي الحديث:
"من حوسب عذب، فقالت عائشة: ألم يقل الله تعالى { فسوف يحاسب حساباً يسيراً }؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما ذلك العرض، وأما من نوقش الحساب فيهلك" . { وينقلب إلى أهله }: أي إلى من أعد الله له في الجنة من نساء المؤمنات ومن الحور العين، أو إلى عشيرته المؤمنين، فيخبرهم بخلاصه وسلامته، أو إلى المؤمنين، إذ هم كلهم أهل إيمان. وقرأ زيد بن علي: ويقلب مضارع قلب مبنياً للمفعول.
{ وراء ظهره }: روي أن شماله تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره، فيأخذ كتابه بها. قال ابن عطية: وأما من ينفذ عليه الوعيد من عصاتهم، يعني عصاة المؤمنين، فإنه يعطى كتابه عند خروجه من النار. وقد جوز قوم أن يعطاه أولاً قبل دخوله النار، وهذه الآية ترد على هذا القول، انتهى. والظاهر من الآية أن الإنسان انقسم إلى هذين القسمين ولم يتعرض للعصاة الذين يدخلهم الله النار. { يدعو ثبوراً }: يقول: واثبوراه، والثبور: الهلاك، وهو جامع لأنواع المكاره. وقرأ قتادة وأبو جعفر وعيسى وطلحة والأعمش وعاصم وأبو عمرو وحمزة: { ويصلى } بفتح الياء مبنياً للفاعل؛ وباقي السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج: بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة؛ وأبو الأشهب وخارجة عن نافع، وأبان عن عاصم، وعيسى أيضاً والعتكي وجماعة عن أبي عمرو: بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام، بني للمفعول من المتعدي بالهمزة، كما بني ويصلى المشدد للمفعول من المتعدي بالتضعيف.
{ إنه كان في أهله مسروراً }: أي فرحاً بطراً مترفاً لا يعرف الله ولا يفكر في عاقبته لقوله تعالى:
{ لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } [القصص: 76] بخلاف المؤمن، فإنه حزين مكتئب يتفكر في الآخرة. { إنه ظن أن لن يحور }: أي أن لن يرجع إلى الله، وهذا تكذيب بالبعث. { بلى }: إيجاب بعد النفي، أي بلى ليحورن. { إن ربه كان به بصيراً }: أي لا تخفي عليه أفعاله، فلا بد من حوره ومجازاته. { فلا أقسم بالشفق }: أقسم تعالى بمخلوقاته تشريفاً لها وتعريضاً للاعتبار بها، والشفق تقدم شرحه. وقال أبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة: هو البياض الذي يتلوه الحمرة. وروى أسد بن عمرو أن أبا حنيفة رجع عن قوله هذا إلى قول الجمهور. وقال مجاهد والضحاك وابن أبي نجيح: إن الشفق هنا كأنه لما عطف عليه الليل قال ذلك. قال ابن عطية: وهذا قول ضعيف، انتهى. وعن مجاهد: هو الشمس؛ وعن عكرمة: ما بقي من النهار. { وما وسق }: ما ضم من الحيوان وغيره، إذ جميع ذلك ينضم ويسكن في ظلمة الليل. وقال ابن عباس: { وما وسق }: أي ما غطى عليه من الظلمة. وقال مجاهد: وما ضم من خير وشر. وقال ابن جبير: وما ساق وحمل. وقال ابن بحر: وما عمل فيه، ومنه قول الشاعر:
فيوماً ترانا صالحين وتارة تقوم بنا كالواسق المتلبب
وقال ابن الفضل: لف كل أحد إلى الله، أي سكن الخلق إليه ورجع كل إلى ما رآه لقوله: { لتسكنوا فيه } [يونس: 76، القصص: 73، غافر: 61]. وقرأ عمر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير: بتاء الخطاب وفتح الباء. فقيل: خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أي حالاً بعد حال من معالجة الكفار. وقال ابن عباس: سماء بعد سماء في الإسراء. وقيل: عدة بالنصر، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك. وقال الزمخشري: وقرىء { لتركبن } على خطاب الإنسان في { يا أيها الإنسان }. وقال ابن مسعود المعنى: لتركبن السماء في أهوال القيامة حالاً بعد حال، تكون كالمهل وكالدهان وتنفطر وتنشق، فالتاء للتأنيث، وهو إخبار عن السماء بما يحدث لها، والضمير الفاعل عائد على السماء. وقرأ عمر وابن عباس أيضاً: بالياء من أسفل وفتح الباء على ذكر الغائب. قال ابن عباس: يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقيل: الضمير الغائب يعود على القمر، لأنه يتغير أحوالاً من إسرار واستهلال وإبدار. وقال الزمخشري: ليركبن الإنسان. وقرأ عمر وابن عباس أيضاً وأبو جعفر والحسن وابن جبير وقتادة والأعمش وباقي السبعة: بتاء الخطاب وضم الباء، أي لتركبن أيها الإنسان. وقال الزمخشري: ولتركبن بالضم على خطاب الجنس، لأن النداء للجنس، فالمعنى: لتركبن الشدائد: الموت والبعث والحساب حالاً بعد حال، أو يكون الأحوال من النطفة إلى الهرم، كما تقول: طبقة بعد طبقة. قال نحوه عكرمة. وقيل: عن تجىء بمعنى بعد. وقيل: المعنى لتركبن هذه الأحوال أمة بعد أمة. ومنه قول العباس بن عبد المطلب في رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنت لما ولدت أشرقت الأر ض وضاءت بنورك الأفق
تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق
وقال مكحول وأبو عبيدة: المعنى لتركبن سنن من قبلكم. وقال ابن زيد: المعنى لتركبن الآخرة بعد الأولى. وقرأ عمر أيضاً: ليركبن بياء الغيبة وضم الباء. قيل: أراد به الكفار لا بيان توبيخهم بعده، أي يركبون حالاً بعد أخرى من المذلة والهوان في الدنيا والآخرة. وقرأ ابن مسعود وابن عباس: لتركبن بكسر التاء، وهي لغة تميم. قيل: والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقرىء بالتاء وكسر الباء على خطاب النفس، وطبق الشيء مطابقة لأن كل حال مطابقة للأخرى في الشدة. ويجوز أن تكون اسم جنس، واحدة طبقة، وهي المرتبة من قولهم: هم على طبقات. و { عن طبق } في موضع الصفة لقوله: { طبقاً }، أو في موضع الحال من الضمير في { لتركبن }. وعن مكحول، كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه. { فما لهم لا يؤمنون }: تعجب من انتفاء إيمانهم وقد وضحت الدلائل. { لا يسجدون }: لا يتواضعون ويخضعون، قاله قتادة. وقال عكرمة: لا يباشرون بجباههم المصلى. وقال محمد بن كعب: لا يصلون. وقرأ الجمهور: { يكذبون } مشدداً؛ والضحاك وابن أبي عبلة: مخففاً وبفتح الياء. { بما يوعون }: بما يجمعون من الكفر والتكذيب، كأنهم يجعلونه في أوعية وعيت العلم وأوعيت المتاع، قال نحوه ابن زيد. وقال ابن عباس: بما تضمرون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقال مجاهد: بما يكتمون من أفعالهم. وقرأ أبو رجاء: بما يعون، من وعى يعي. { إلا الذين آمنوا }: أي سبق لهم في علمه أنهم يؤمنون. { غير ممنون }: غير مقطوع. وقال ابن عباس: { ممنون }: معدد عليهم، محسوب منغص بالمن، وتقدم الكلام على ذلك في فصلت، والله الموفق.