التفاسير

< >
عرض

بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١
فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ
٢
وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣
إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ
٤
فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
٦
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ
٧
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
٨
ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩
لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ
١٠
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَنُفَصِّلُ ٱلأيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
١١
وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ
١٢
أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ
١٣
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ
١٤
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١٥
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٦
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ
١٧
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
١٨
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٩
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ
٢٠
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ
٢١
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٢
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٢٣
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٤
لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ
٢٥
ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ
٢٦
ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٢٨
قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
٢٩
وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٣٠
-التوبة

البحر المحيط

المرصد: مفعل من رصد يرصد رقب، يكون مصدراً وزماناً ومكاناً. وقال عامر بن الطفيل:

ولقد علمت وما إخالك ناسيا أن المنية للفتى بالمرصد

الآل الحلف والجؤار، ومنه قول أبي جهل.

لآل علينا واجب لا نضيعه متين قواه غير منتكث الحبل

كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه من الآل وهو الجؤار، وله أليل أي أنين يرفع به صوته. وقيل: القرابة. وأنشد أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر:

أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الآل وأعراق الرحم

وظاهر البيت أنه في العهد. ومن القرابة قول حسان:

لعمرك أن لك من قريش كل السقب من رأل النعام

وسميت إلاًّ لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق. وقيل: من أل البرق لمع. وقال الأزهري: الأليل البريق، يقال: أل يؤل صفا ولمع. وقال القرطبي: مأخوذ من الحدة، ومنه الآلة الحربة. واذن مؤللة محددة، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة إلّ فمعناه: أنّ الإذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها، والعهد يسمى إلاًّ لصفائه، ويجمع في القلة الآل، وفي الكثرة الألّ وأصل جمع القلة أألل، فسهلت الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمه فأبدلها ألفاً، وأدغمت اللام في اللام، الذمة؛ العهد. وقال أبو عبيدة: الأمان. وقال الأصمعي: كل ما يجب أن يحفظ ويحمى.

أبى يأبى منع، قال:

أبى الضيم والنعمان يخرق نابه عليه فافضى والسيوف معاقله

وقال:

أبى الله إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع

ومجيء مضارعه على فعل بفتح العين شاذ، ومنه آبى اللحم لرجل من الصحابة.

شفاه: أزال سقمه. العشيرة جماعة مجتمعة بسبب أو عقد أو وداد كعقد العشيرة. اقترف اكتسب. كسد الشيء كساداً وكسوداً بار ولم يكن له نفاق. الموطن: الموقف والمقام، قال الشاعر:

وكم موطن لولاي طحت كما هوى بإجرامه من قلة النيق منهوي

ومثله الوطن. حنين: وادٍ بين مكة والطائف، وقيل: واد إلى جنب ذي المجاز.

العيلة: الفقر، عال يعيل افتقر. قال:

وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل

الجزية: ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام، سميت بذلك لأنهم يجزونها أي يقضونها. أو لأنها تجزى بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل.

المضاهاة: المماثلة والمحاكاة، وثقيف تقول: المضاهأة بالهمز، وقد ضاهأت فمادتها مخالفة للتي قبلها، إلا إنْ كان ضاهت يدعى أنّ أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت: توضيت، وقريت، وأخطيت فيمكن. وأما ضهيأ بالهمز مقصوراً فهمزته زائدة كهمزة عرفىء، أو ممدوداً فهمزته للتأنيث زائدة، أو ممدوداً بعده هاء التأنيث. حكاه البحتري عن أبي عمرو الشيباني في النوادر قال: جمع بين علامتي تأنيث. ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض، أو التي لا ثدي لها شابهت بذلك الرجال. فمن زعم أنّ المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ لاختلاف المادتين، لأصالة همزة المضاهأة، وزيادة همزة ضهياء في لغاتها الثلاث.

{ برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين } هذه السورة مدنية كلها، وقيل: إلا آيتين من آخرها فإنهما نزلتا بمكة، وهذا قول الجمهور. وذكر المفسرون لها اسماً واختلافاً في سبب ابتدائها بغير بسملة، وخلافاً عن الصحابة: أهي والأنفال سورة واحدة، أو سورتان؟ ولا تعلق لمدلول اللفظ بذلك، فأخلينا كتابنا منه، ويطالع ذلك في كتب المفسرين.

ويقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة، ومنه برئت من الدين. وارتفع براءة على الابتداء، والخبر إلى الذين عاهدتم. ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، أو على إضمار مبتدأ أي: هذه براءة. وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب. قال ابن عطية: أي الزموا، وفيه معنى الاغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءة. قال: (فإن قلت): بم تعلقت البراءة، بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ (قلت): قد أذن الله تعالى في معاهدة المشركين أولاً، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما تجدّد من ذلك فقيل لهم: إعلموا أنّ الله تعالى ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين. وقال ابن عطية: لما كان عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لازماً لجميع أمته حسن أن يقول: عاهدتم. وقال ابن إسحاق وغيره: كانت العرب قد أوثقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً عاماً على أنّ لا يصدّ أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات، فنقض ذلك بهذه الآية، وأحل لجميعهم أربعة أشهر، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها، ومن كان أمده أكثر أتمّ له عهده، وإذا كان ممن يحتبس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض أي: يذهب فيها مسرحاً آمناً. وظاهر لفظة من المشركين العموم، فكل من عاهده المسلمون داخل فيه من مشركي مكة وغيرهم.

وروي أنهم نكثوا إلاّ بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين. وقال مقاتل: المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب: خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة. وقيل: هذه الآية في أهل مكة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً عام الحديبية على أنْ يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، فدخلت خزاعة في عهد الرسول، وبنو بكر بن عبد مناة في عهد قريش، وكان لبني الديل من بني بكر دمٌ عند خزاعة فاغتنموا الفرصة وغفلة خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر وبيتوا خزاعة فاقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم أعانوهم بأنفسهم، فهزمت خزاعة إلى الحرم، فكان ذلك نقضاً لصلح الحديبية، فخرج من خزاعة بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في ناس من قومهم، فقدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم مستغيثين، وأنشده عمرو فقال:

يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
كنت لنا أباً وكنا ولدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً عبدا وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل الشمس ينمو صعدا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالحطيم هجدا وقتلونا ركعاً وسجدا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نصرت إنْ لم أنصركم" فتجهز إلى مكة وفتحها سنة ثمان، ثم خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف، فجعل المشركون ينقضون عهودهم، فأمره الله تعالى بإلقاء عهدهم إليهم، وأذن في الحرب فسيحوا أمر إباحة، وفي ضمنه تهديد وهو التفات من غيبة إلى خطاب أي: قلْ لهم سيحوا. يقال: ساح سياحة وسوحاً وسيحاناً، ومنه سيح الماء وهو الجاري المنبسط. وقال طرفة:

لو خفت هذا منك ما نلتني حتى ترى خيلاً أمامي تسيح

قال ابن عباس والزهري: أول الأشهر شوال حتى نزلت الآية، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين، فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان. وقال السدّي وغيره: أولها يوم الأذان، وآخرها العشر من ربيع الآخر. وقيل: العشر من ذي القعدة إلى عشرين من شهر ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة غير معجزي الله لا تفوتونه وإنْ أمهلكم وهو مخزيكم أي: مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب، وفي الآخرة بالعذاب. وحكى أبو عمرو عن أهل نجران: أنهم يقرأون من الله بكسر النون على أصل التقاء الساكنين، واتباعاً لكسرة النون. { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله } قرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل: وإذن بكسر الهمزة وسكون الذال. وقرأ الحسن والأعرج: إن الله بكسر الهمزة فالفتح على تقدير بأنّ، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين، أو لأنّ الأذان في معنى القول فكسرت على مذهب الكوفيين. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وزيد بن علي: ورسوله بالنصب، عطفاً على لفظ اسم أنْ. وأجاز الزمخشري أنْ ينتصب على أنه مفعول معه. وقرىء بالجر شاذاً، ورويت عن الحسن. وخرجت على العطف على الجوار كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار. وقيل: هي واو القسم. وروي أن أعرابياً سمع من يقرأ بالجر فقال: إنْ كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه القارىء إلى عمر، فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية. وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلى الابتداء، والخبر محذوف أي: ورسوله بريء منهم، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وجوزوا فيه أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في بريء، وحسنه كونه فصل بقوله: من المشركين، بين متحمله، والمعطوف. ومن أجاز العطف على موضع اسم إنّ المكسورة أجاز ذلك، مع أنّ المفتوحة. ومنهم من أجاز ذلك مع المكسورة، ومنع مع المفتوحة.

قال ابن عطية: ومذهب الأستاذ يعني أبا الحسن بن الباذش على مقتضى كلام سيبويه: أنْ لا موضع لما دخلت عليه إنَّ لا موضع لما دخلت عليه هذه انتهى. وهذا كلام فيه تعقب، لأنّ علة كون إنّ موضع لما دخلت عليه، ليس ظهور عمل العامل، بدليل ليس زيد بقائم، وما في الدار من رجل، فإنه ظهر عمل العامل، ولهما موضع. وقوله: والإجماع إلى آخره يريد: أنّ ليت لا موضع لها من الإعراب بالإجماع، وليس كذلك، لأنّ الفراء خالف وجعل حكم ليت ولعل وكان ولكن، وأنّ حكم إنّ في كون اسمهن له موضع. وإعراب وأذان كإعراب براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها ولا وجه لقول من قال: إنه معطوف على براءة، كما لا يقال عمرو معطوف على زيد في زيد قام وعمرو قاعد.

والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أنّ الأمان والعطاء يستعملان بمعنى الإيمان والإعطاء، ويضعف جعله خيراً عن. وأذان إذا أعربناه مبتدأ، بل الخبر قوله: إلى الناس. وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بقوله: من الله ورسوله. ويوم منصوب بما يتعلق به إلى الناس، وقد أجاز بعضهم نصبه بقوله: وأذان، وهو بعيد من جهة أنّ المصدر إذا وصف قبل أخذه معموله لا يجوز إعماله فيما بعد الصفة، ومن جهة أن لا يجوز أنْ يخبر عنه إلا بعد أخذه معموله، وقد أخبر عنه بقوله: إلى الناس.

لما كان سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يحج، فكره أنْ يرى المشركين يطوفون عراة، فبعث أبا بكر أميراً على الموسم، ثم أتبعه علياً ليقرأ هذه الآيات على أهل الموسم راكباً ناقته العضباء، فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال: "لا يؤدي عني إلا رجل مني" فلما اجتمعا قال: أبو بكر أمير أو مأمور، قال: مأمور. فلما كان يوم التروية خطب أبو بكر وقام عليّ يوم النحر بعد جمرة العقبة فقال: «يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم»، فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين آية أو أربعين. وعن مجاهد: ثلاث عشرة ثم قال: «أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأنْ لا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأنْ يتم إلى كل ذي عهد عهده» فقالوا عند ذلك: يا علي أبلغ ابن عمك أنّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. وقيل: عادة العرب في نقض عهودها أنْ يتولى رجل من القبيلة، فلو تولاه أبو بكر لقالوا هذا خلاف ما يعرف منا في نقض العهود، فلذلك جعل علياً يتولاه، وكان أبو هريرة مع علي، فإذا صحل صوت علي نادى أبو هريرة. والظاهر أنّ يوم الحج الأكبر هو يوم أحد. فقال عمر، وابن الزبير، وأبو جحيفة، وطاووس، وعطاء، وابن المسيب: هو يوم عرفة، وروى مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال أبو موسى، وابن أبي أوفى، والمغيرة بن شعبة، وابن جبير، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وابن زيد، والسدي: هو يوم النحر. وقيل: يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها، قال سفيان بن عيينة. قال ابن عطية: والذي تظاهرت به الأحاديث أنّ علياً أذّن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره، ويتبعوا بها أيضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره، وبهذا يترجح قول سفيان. ويقول: كان هذا يوم صفين، ويوم الجمل، يريد جميع أيامه. وقال مجاهد: يوم الحج الأكبر أيام منى كلها، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومجنة حتى نودي فيهم: إنْ لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ووصفه بالأكبر. قال الحسن، وعبد الله بن الحرث بن نوفل: لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون، وصادف عيد اليهود والنصارى، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم في قلب كل مؤمن وكافر. وضعف هذا القول بأنه تعالى لا يصفه بالأكبر لهذا. وقال الحسن أيضاً: لأنه حج فيه أبو بكر، ونبذت فيه العهود. قال ابن عطية: وهذا هو القول الذي يشبه نظر الحسن، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وأمارة الإسلام بتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبذت فيه العهود، وعز فيه الدين، وذل فيه الشرك، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسد كان أمير العرب على أوله، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه، فحقه لهذا أنْ يسمى أكبر انتهى. ومن قال: إنه يوم عرفة، فسمي الأكبر لأنه معظم واجباته، فإذا فات فات الحج. ومن قال: إنه يوم منى فلأن فيه معظم الحج، وتمام أفعاله من الطواف والنحر والحلق والرمي. وقيل: وصف بالأكبر لأنّ العمرة تسمى بالحج الأصغر. وقال منذر بن سعيد وغيره: كان الناس يوم عرفة مفترقين إذا كانت الحمس تقف بالمزدلفة، وكان الجمع يوم النحر بمنى، ولذلك كانوا يسمونه يوم الحج الأكبر أي الأكبر من الأصغر الذي هم فيه مفترقون. وقد ذكر المهدوي: أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر رضي الله عنه. وحكى القرطبي عن ابن سيرين: أنّ يوم الحج الأكبر أراد به العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وحج معه الأمم، وهذا يحتاج إلى إضمار، كأنه قال: هذا الأذان حكمه متحقق يوم الحج الأكبر وهو عام حج رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وسمي أكبر لأنه فيه ثبتت مناسك الحج. وقال فيه: "خذوا عني مناسككم" وجملة براءة من الله ورسوله إخبار بثبوت البراءة، وجملة وأذان من الله ورسوله إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، فافترقتا وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم، وعلق الأذان بالناس لشموله معاهداً وغيره ناكثاً، وغيره مسلماً وكافراً، هذا هو قول الجمهور. قيل: ويجوز أنْ يكون الخطاب للكفار بدليل آخر الآية، وبدليل مناداة عليّ بالجمل الأربع. فظاهره أنّ المخاطب بتلك الجمل الكفار، ولما كان المجرور خبراً عن قوله وأذان، كان بإلى أي مفتد إلى الناس وواصل إليهم. ولو كان المجرور في موضع المفعول لكان باللام، ومن في من المشركين متعلقة بقوله بريء تعلق المفعول. تقول: برئت منك، وبرئت من الدين بخلاف مِنْ في قوله: براءة من الله، فإنها في موضع الصفة { فإن تبتم } أي: من الشرك الموجب لتبرىء الله ورسوله منكم. { فهو } أي التوب { خير لكم } في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم من النار. { وإن توليتم } أي عن الإسلام { فاعلموا أنكم غير معجزي الله } أي لا تفوتونه عما يحل بكم من نقماته { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } جعل الإنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدة الأوثان وغيرهم، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم.

{ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } قال قوم: هذا استثناء منقطع، التقدير: لكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد أتموا إليهم عهدهم. وقال قوم منهم الزجاج: هو استثناء متصل من قوله: إلى الذين عاهدتم من المشركين. وقال الزمخشري: وجهه أنْ يكون مستثنى من قوله: { فسيحوا في الأرض } [التوبة: 2] لأنّ الكلام خطاب للمسلمين ومعناه: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم: سيحوا، إلا الذين عاهدتم منهم، ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم. والاستثناء بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أنْ أمروا في الناكثين: ولكنّ الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفيّ كالغادر. وقيل: هو استثناء متصل، وقبله جملة محذوفة تقديرها: اقتلوا المشركين المعاهدين إلا الذين عاهدتم، وهذا قول ضعيف جداً، والأظهر أنْ يكون منقطعاً لطول الفصل بجمل كثيرة بين ما يمكن أن يكون مستثنى منه وبينه. قال مجاهد وغيره: هم قوم كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد لمدة، فأمر أنْ يفي لهم. وعن ابن عباس لما قرأ عليَّ براءة قال لبني ضمرة وحي من كنانة وحي من سليم: إنّ الله قد استثناكم ثم قرأ هذه الآية. والظاهر أنّ قوله: إلى مدتهم، يكون في المدة التي كانت بينهم وبين الرسول أمروا بإتمام العهد إلى تمام المدة. وعن ابن عباس: كان بقي لحي من كنانة تسعة أشهر، فأتم إليهم عهدهم. وعنه أيضاً: إلى مدتهم، إلى الأربعة الأشهر التي في الآية. وهذا بعيد، لأنه يكون الاستثناء لا يفيد تجديد حكم، إذ يكون حكم هؤلاء المستثنين حكم باقي المعاهدين الذين لم يتصفوا بما اتصف به هؤلاء من عدم النقص وعدم المظاهرة.

وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة، وأبو زيد، وابن السميفع: ينقضوكم بالضاد معجمة وتناسب العهد، وهي بمعنى قراءة الجمهور، لأن من نقص من العهد فقد نقص من الأجل المضروب. وهو على حذف مضاف، أي ولم ينقضوا عهدكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه. وقال الكرماني: هي بالضاد أقرب إلى معنى العهد، إلا أنّ القراءة بالصاد أحسن ليقع في مقابلته التمام في قوله: فأتموا إليهم. والتمام ضد النقص. وانتصب شيئاً على المصدر، أي: لا قليلاً من النقص ولا كثيراً، ولم يظاهروا عليكم أحداً كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة. وتعدى أتوا بإلى لتضمنه معنى فأدوا، أيْ: فأدوه تاماً كاملاً. وقول قتادة: إنّ المستثنين هم قريش عوهدوا زمن الحديبية مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الإذن بهذا كله. وقوله: يحب المتقين، تنبيه على أنّ الوفاء العهد من التقوى، وأنّ من التقوى أن لا يسوي بين القبيلتين.

{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } تقدم الكلام على انسلخ في قوله: فانسلخ. وقال أبو الهيثم: يقال أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباساً منه، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءاً حتى نسلخه عن أنفسنا كله، فينسلخ. وأنشد:

إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفيَّ قاتلاً سلخ الشهور وإهلال

والظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين أنْ يسيحوا فيها، ووصفت بالحرم لأنها محرم فيها القتال، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها.

وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أنْ تذكر بالضمير نحو: لقيت رجلاً فضربته. ويجوز أنْ يعاد اللفظ معرّفاً بل نحو: لقيت رجلاً فضربت الرجل، ولا يجوز أنْ يوصف بوصف يشعر بالمغايرة لو قلت: لقيت رجلاً فضربت الرجل الأزرق، وأنت تريد الرجل الذي لقيته، لم يجز بل ينصرف ذلك إلى غيره، ويكون المضروب غير الملقى. فإنْ وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو: لقيت رجلاً فضربت الرجل المذكور. وهنا جاء الأشهر الحرم، لأن هذا الوصف مفهوم من قوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، إذ التقدير أربعة أشهر حرم لا يتعرض إليكم فيها، فليس الحرم وصفاً مشعراً بالمغايرة. وقيل: الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة، وهي الأشهر التي حرم الله فيها القتال منذ خلق السموات والأرض، وهي التي جاء في الحديث فيها "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب" فتكون الأربعة من سنتين. وقيل: أولها المحرم، فتكون من سنة. وجاء الأمر بالقتل على سبيل التشجيع وتقوية النفس، وأنهم لا منعة عندهم من أن يقتلوا. وفي إطلاق الأمر بالقتل دليل على قتلهم بأي وجه كان، وقد قتل أبو بكر أصحاب الردّة بالإحراق بالنار، وبالحجارة، وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار. وتعلق بعموم هذه الآية، وأحرق عليّ قوماً من أهل الرّدّة، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن المثلة. ولفظ المشركين عام في كل مشرك، وجاءت السنة باستثناء الأطفال والرهبان والشيوخ الذين ليسوا ذوي رأي في الحرب، ومن قاتل من هؤلاء قتل. وقال الزمخشري: يعني الذي نقصوكم وظاهروا عليكم. ولفظ: «حيث وجدتموهم» عام في الأماكن من حل وحرم. «وخذوهم» عبارة عن الأسر، والأخيذ الأسير. ويدل على جواز أسرهم: واحصروهم، قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وقيل: استرقوهم. وقيل: معناه حاصروهم إنْ تحصّنوا. وقرىء: فحاصروهم شاذاً، وهذا القول يروى عن ابن عباس. وعنه أيضاً: حولوا بينهم وبين المسجد الحرام. وقيل: امنعوهم عن دخول بلاد الإسلام والتصرف فيها إلا بإذن. قال القرطبي في قوله: «واقعدوا لهم كل مرصد» دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة، لأنّ المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة، وهذا تنبيه على أنّ المقصود إيصال الأذى إليهم بكل طريق، إما بطريق القتال، وإما بطريق الاغتيال. وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب، وإسلال خيلهم، وإتلاف مواشيهم إذا عجز عن الخروج بها إلى دار الإسلام، إلا أنْ يصالحوا على مثل ذلك.

قال الزمخشري: «كل مرصد» كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه، وانتصابه على الظرف كقوله: { { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [الأعراف: 16] انتهى. وهذا الذي قاله الزجاج قال: كل مرصد ظرف، كقولك: ذهبت مذهباً ورده أبو علي، لأنّ المرصد المكان الذي يرصد فيه العدوّ، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً كما حكى سيبويه: دخلت البيت، وكما غسل الطريق الثعلب انتهى. وأقول: يصح انتصابه على الظرف، لأن قوله: «واقعدوا لهم» ليس معناه حقيقة القعود، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه، ولما كان بهذا المعنى جاز قياساً أن يحذف منه في كما قال: وقد قعدوا منها كل مقعد.

فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه، جاز أن يصل إليه بغير واسطة في، فيجوز جلست مجلس زيد، وقعدت مجلس زيد، تريد في مجلس زيد. فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه، فكذلك إلى الظرف. وقال الأخفش: معناه على كل مرصد، فحذف وأعمل الفعل، وحذف على، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه، يخصه أصحابنا بالشعر. وأنشدوا:

تحنّ فتبدي ما بها من صبابة وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني

أي لقضي عليّ.

{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } أي عن الكفر والغدر. والتوبة تتضمن الإيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي، ثم نبه على أعظم الشعائر الإسلامية، وذلك إقامة الصلاة وهي أفضل الأعمال البدنية، وإيتاء الزكاة وهي أفضل الأعمال المالية، وبهما تظهر القوة العملية، كما بالتوبة تظهر القوة العلمية عن الجهل. فخلوا سبيلهم، كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤوا، ولا تتعرضوا لهم كقول الشاعر:

خل السبيل لمن يبنى المنار به

أو يكون المعنى: فأطلقوهم من الأسر والحصر. والظاهر الأول، لشمول الحكم لمن كان مأسوراً وغيره.

وقال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعاً، وأبى الله أنْ لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه في قوله: «لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة» وناسب ذكر وصف الغفران والرحمة منه تعالى لمن تاب عن الكفر والتزم شرائع الإسلام. قال الحافظ أبو بكر بن العربي: لا خلاف بين المسلمين أنّ من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلاً كفر، ودفن في مقابر الكفار، وكان ماله فيئاً. ومنْ ترك السنن فسق، ومن ترك النوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها فيكفر، لأنه يصير راداً على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به وأخبر عنه انتهى. والظاهر أنّ مفهوم الشرط لا ينتهض أنْ يكون دليلاً على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمداً غير مستحلّ ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره، فلا يتعين القتل. وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مكحول، ومالك، والشافعي، وحماد بن زيد، ووكيع، وأبو ثور: يقتل. وقال ابن شهاب، وأبو حنيفة، وداود: يسجن ويضرب، ولا يقتل. وقال جماعة من الصحابة والتابعين: يقتل كفراً، وماله مال مرتد، وبه قال إسحاق. قال إسحاق: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا.

{ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } قال الضحاك والسدّي: هي منسوخة بآية الأمر بقتل المشركين. وقال الحسن ومجاهد: هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن ابن جبير: جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: إنْ أراد الرجل منا أنْ يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل ليسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا، لأن الله تعالى قال: وإن أحد من المشركين استجارك الآية انتهى. وقيل: هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلاً، والظاهر أنها محكمة. ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وجدوا، وأخذهم وحصرهم وطلب غرتهم، ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون ويؤسرون، وتلك إذا جاء واحد منهم مسترشداً طالباً للحجة والدلالة على ما يدعوا إليه من الدين. فالمعنى: وإنْ أحد من المشركين استجارك، أي طلب منك أن تكون مجيراً له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله وما تضمنه من التوحيد، ويقف على ما بعثت به، فكن مجيراً له حتى يسمع كلام الله ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، ثم أبلغه داره التي يأمن فيها إنْ لم يسلم، ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة. وحتى يصح أن تكون للغاية أي: إلى أن يسمع. ويصح أن تكون للتعليل، وهي متعلقة في الحالين بأجره. ولا يصح أن يكون من باب التنازع، وإن كان يصح من حيث المعنى أن يكون متعلقاً باستجارك أو بفأجره، وذلك لمانع لفظي وهو: أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني، وحتى لا تجر المضمر، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع. لكن من ذهب من النحويين إلى أنّ حتى تجر المضمر يجوز أن يكون ذلك عنده من باب التنازع، وكون حتى لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور. ولما كان القرآن أعظم المعجزات، علق السماع به، وذكر السماع لأنه الطريق إلى الفهم. وقد يراد بالسماع الفهم تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك: أنت لم تسمع، تريد لم تفهم. وكلام الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ومأمنه مكان أمنه. وقيل: مأمنه مصدر، أي ثم أبلغه أمنه. وقد استدلت المعتزلة بقوله: «حتى يسمع كلام الله» على حدوث كلام الله، لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات. ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك، وهذا مذكور في علم الكلام.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ النظر في التوحيد أعلى المقامات، إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال، وأوجب على الرسول أن يبلغه مأمنه. ومنها دلالة على أنّ التقليد غير كاف في الدين، إذ كان لا يمهل بل يقال له: إما أن تسلم، وإما أن تقتل. وفيها دلالة على أنه بعد سماع كلام الله لا يقر بأرض الإسلام، بل يبلغ مأمنه، وأنه يجب حفظه وحوطته مدة يسمع فيها كلام الله. والخطاب بقوله: استجارك وفأجره، يدل على أنّ أمان السلطان جائز، وأما غيره فالحر يمضي أمانه. وقال ابن حبيب: ينظر الإمام فيه والعبد. قال الأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، وأبو ثور، وداود: له الأمان، وهو مشهور مذهب مالك. وقال أبو حنيفة: لا أمان له، وهو قول في مذهب مالك. والحرة لها الأمان على قول الجمهور. وقال عبد الملك بن الماجشون: لا، إلا أن يجيره الإمام، وقوله شاذ. والصبي إذا أطاق القتال جاز أمانه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون، أي ذلك الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن، بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: إشارة إلى هذا اللطف في الإجارة والإسماع وتبليغ المأمن، لا يعلمون نفي علمهم بمراشدهم في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

{ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد. قال التبريزي والكرماني: معناه النفي، أي لا يكون لهم عهد وهم لكم ضد. ونبه على علة انتفاء العهد بالوصف الذي قام به وهو الإشراك. وقال القرطبي: وفي الآية إضمار، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث؟ انتهى. والاستفهام يراد به النفي كثيراً، ومنه قول الشاعر:

فها ذي سيوف يا هدى بن مالك كثير ولكن ليس بالسيف ضارب

أي ليس بالسيف ضارب. ولما كان الاستفهام معناه النفي، صلح مجيء الاستثناء وهو متصل. وقيل: منقطع، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام. قال الحوفي: ويجوز أن يكون الذين في موضع خبر على البدل من المشركين، لأن معنى ما تقدم النفي، أي: ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا. قال ابن عباس: هم قريش. وقال السدي: بنو جذيمة بن الديل. وقال ابن إسحاق: قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش. وقال الزمخشري: كبني كنانة وبني ضمرة. وقال قوم منهم مجاهد: هم خزاعة ورد بإسلامهم عام الفتح. وقال ابن زيد: هم قريش نزلت فلم يستقيموا، فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك. وضعف هذا القول بأنّ قريشاً بعد الأذان بأربعة أشهر لم يكن فيهم إلا مسلم، وذلك بعد فتح مكة بسنة، وكذلك خزاعة قاله الطبري. فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء.

وجوز أبو البقاء أن يكون خبر يكون كيف، لقوله: كيف كان عاقبة مكرهم، وأن يكون الخبر للمشركين. وعند على هذين ظرف للعهد، أو ليكون، أو للحال، أو هي وصف للعهد. وأن يكون الخبر عند الله، وللمشركين تبيين، أو تعلق بيكون، وكيف حال من العهد انتهى. والظاهر أنّ ما مصدرية ظرفية، أي: استقيموا لهم مدة استقامتهم، وليست شرطية. وقال أبو البقاء: هي شرطية كقوله: { { ما يفتح الله للناس من رحمة } [فاطر: 2] انتهى. فكان التقدير: ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم. وقال الحوفي: ما شرط في موضع رفع بالابتداء، والخبر استقاموا، ولكم متعلق باستقاموا، فاستقيموا لهم الفاء جواب الشرط انتهى. فكان التقدير فأي: وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم. وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا، لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء. وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم، وأنشد على ذلك ما يدل ظاهره على صحة دعواه. وقد ذكرنا ذلك في كتاب التكميل، وتأولنا ما استشهد به. فعلى قوله تكون زمانية شرطية: أنّ الله يحب المتقين، يعني أن الوفاء بالعهد من أخلاق المتقين، والتربص بهؤلاء إن استقاموا من أعمال المؤمنين، والتقوى تتضمن الإيمان والوفاء بالعهد.

{ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون } كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد. والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها، وحذف للعلم به في كيف السابقة، والتقدير: كيف لهم عهد وحالهم هذه؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى: { { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [النساء: 41]. وقال الشاعر:

وخبرتماني إنما الموت بالقرىفكيف وهاتا هضبة وكثيب

أي: فكيف مات وليس في قرية؟ وقال الحطيئة:

فكيف ولم أعلمهم خذلوكم على معظم وأن أديمكم قدّوا

أي فكيف تلومونني على مدحهم؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر. وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله: كيف تطمئنون إليهم؟ وقدره غيره: كيف لا يقتلونهم؟ والواو في «وإن يظهروا» واو الحال. وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالاً في قوله: { { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } [الأعراف: 169] ومعنى الظهور العلو والظفر، تقول: ظهرت على فلان علوته. والمعنى: وإنْ يقدروا عليكم ويظفروا بكم. وقرأ زيد بن علي: وإنْ يظهروا مبنياً للمفعول. لا يرقبوا: لا يحفظوا ولا يرعوا إلا عهداً أو قرابة أو حلفاً أو سياسة أو الله تعالى، أو جؤاراً أي: رفع صوت بالتضرع، أقوال.

قال مجاهد وأبو مجلز: إلْ اسم الله بالسريانية وعرب. ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة، فقال: هذا كلام لم يخرج من إل. وقرأت فرقة: ألا بفتح الهمزة، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد. وقرأ عكرمة: إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها، فقيل: هو اسم الله تعالى. ويجوز أن يراد به إلى أبدل من أحد المضاعفين ياء، كما قالوا في: إما إيما. قال الشاعر:

يا ليتما أمنا سالت نعامتها إيما إلى الجنة إيما إلى نار

قال ابن جني: ويجوز أن يكون مأخوذاً من آل يؤول إذا ساس، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، أي: لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة، من رأى أنّ الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان. ولما ذكر حالهم مع المؤمنين أنْ ظهروا عليهم ذكر حالهم معهم ذا كانوا غير ظاهرين، فقال: يرضونكم بأفواههم. واستأنف هذا الكلام أي: حالهم في الظاهر يخالف لباطنهم، وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد، وإباء القلب مخالفته لما يجري على اللسان من القول الحسن. وقيل: يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان، وتأبى قلوبهم إلا الكفر. وقيل: يرضونكم في الطاعة، وتأبى قلوبهم إلا المعصية. والظاهر بقاء الأكثر على حقيقته فقيل: وأكثرهم، لأن منهم من قضى الله له بالإيمان. وقيل: لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عما يثلم العرض، ويجر أحدوثة السوء، وأكثرهم خبثاً لأنفس خريجون في الشر لا مروءة تردعهم، ولا طباع مرضية تزعهم، لا يحترزون عن كذب ولا مكر ولا خديعة، ومن كان بهذا الوصف كان مذموماً عند الناس وفي جميع الأديان. ألا ترى إلى أهل الجاهلية وهم كفار كيف يمدحون أنفسهم بالعفاف وبالصدق وبالوفاء بالعهد وبالأخلاق الحسنة. وقيل: معنى وأكثرهم وكلهم فاسقون، قاله ابن عطية والكرماني.

{ اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدّوا عن سبيله إنهم سآء ما كانوا يعملون } الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم، ويكون المعنى: اشتروا بالقرآن وما يدعو إليه من الإسلام ثمناً قليلاً، وهو اتباع الشهوات والأهواء لما تركت دين الله وآثرت الكفر، كان ذلك كالشراء والبيع. وقال مجاهد: هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه. وقال أبو صالح: هم قوم من اليهود، وآيات الله التوراة. وقال ابن عباس: هم أهل الطائف كانوا يمدون الناس بالأموال يمنعونهم من الدخول في الإسلام، فصدوا عن سبيله أي صرفوا أنفسهم عن دين الله وعدلوا عنه. والظاهر أنّ ساء هنا محولة إلى فعل. ومذهب بابها مذهب بئس، ويجوز إقرارها على وصفها الأول، فتكون متعدية أي: أنهم ساءهم ما كانوا يعملون، فحذف المفهوم لفهم المعنى.

{ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون } هذا تنبيه على الوصف الموجب للعداوة وهو الإيمان، ولما كان قوله: { لا يرقبوا فيكم } يتوهم أنّ ذلك مخصوص بالمخاطبين، نبّه على علة ذلك، وأنّ سبب المنافاة هو الإيمان، وأولئك أي الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المعتدون المجاوزون الحد في الظلم والشر ونقض العهد.

{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } أي فإنْ تابوا عن الكفر ونقض العهد والتزموا أحكام الإسلام فإخوانكم، أي: فهم إخوانكم، والإخوان، والإخوة جمع أخ من نسب أو دين. ومن زعم أنّ الإخوة تكون في النسب، والإخوان في الصداقة، فقد غلط. قال تعالى: { { إنما المؤمنون إخوة } [الحجرات: 10] وقال: أو بيوت إخوانكم، وعلق حصول الأخوة في الدين على الالتباس بمجموع الثلاثة، ويظهر أنّ مفهوم الشرط غير مراد.

{ ونفصل الآيات لقوم يعلمون } أي نبيّنها ونوضحها. وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين، بين قوله: فإن تابوا، وقوله: وإن نكثوا، بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصل تعالى من الأحكام، وقال لقوم يعلمون لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم.

{ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } أي: وإنْ نقضوا إقسامهم من بعدما تعاهدوا وتحالفوا على أنْ لا ينكثوا. وطعنوا: أي عابوه وثلبوه واستنقصوه. والطعن هنا مجاز، وأصله الإصابة بالرمح أو العود وشبهه، وهو هنا بمعنى العيب كما جاء في حديث إمارة أسامة: "إنْ تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل" أي عبتموها واستنقصتموها. والظاهر أنّ هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلاً، لأنّ من أسلم ثم ارتد فيكون قوله: فقاتلوا أئمة الكفر، أي رؤساء الكفر وزعماءه. والمعنى: فقاتلوا الكفار، وخص الأئمة بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على البقاء على الكفر. وقال الكرماني: كل كافر إما نفسه، فالمعنى فقاتلوا كل كافر. وقيل: من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين صار رأساً في الكفر، فهو من أئمة الكفر. وقال ابن عباس: أئمة الكفر زعماء قريش. وقال القرطبي: هو بعيد، لأن الآية في سورة براءة، وحين نزلت كان الله قد استأصل شأفة قريش ولم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم. وقال قتادة: المراد أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة، وغيرهم، وهذا ضعيف إن لم يؤخذ على جهة المثال، لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير. وروي عن حذيفة أنه قال: لم يجىء هؤلاء بعدُ، يريد لم ينقرضوا فهم يجيئون أبداً ويقاتلون. وقال ابن عطية: أصوب ما في هذا أن يقال: إنه لا يعني بها معين، وإنما دفع الأمر بقتال أئمة الناكثين العهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الإشارة إليهم أولاً بقوله: أئمة الكفر، وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة، إذ الذي يتولى قتال النبي صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة، ثم يأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل انتهى. وقيل: المراد بالعهد الإسلام، فمعناه كفروا بعد إسلامهم. ولذلك قرأ بعضهم: وإنْ نكثوا إيمانهم بالكسر، وهو قول الزمخشري، قال: فقاتلوا أئمة الكفر فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم، إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حالة الشرك تمرداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهد، وقعدوا يطعنون في دين الله تعالى ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرئاسة والتقدم فيه، لا يشق كافر غبارهم. والمشهور من مذهب مالك أنّ الذمي إذا طعن في الدين ففعل شيئاً مثل تكذيب الشريعة والسب للنبي صلى الله عليه وسلم ونحوه قتل. وقيل: إنْ أعلن بشيء مما هو معهود من معتقده وكفره أدب على الإعلان وترك، وإنْ كفر بما هو ليس من معتقده كالسب ونحوه قتل. وقال أبو حنيفة: يستتاب، واختلف إذا سب الذمي ثم أسلم تقية القتل. فالمشهور من مذهب مالك أنه يترك، لأن الإسلام يجبّ ما قبله، وفي العتبية أنه يقتل، ولا يكون أحسن حالاً من المسلم.

وقرأ الحرميان وأبو عمرو: بإبدال الهمزة الثانية ياء. وروي عن نافع مد الهمزة. وقرأ باقي السبعة وابن أبي أويس عن نافع: بهمزتين، وأدخل هشام بينهما ألفاً وأصله أأممة على وزن أفعلة جمع إمام، أدغموا الميم في الميم فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف لفظ أئمة؟ (قلت): همزة بعدها همزة بين بين، أي بين مخرج الهمزة والياء. وتحقيق الهمز هي قراءة مشهورة، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن تكون. ومن صرح بها فهو لاحن محرف انتهى. وذلك دأبه في تلحين المقرئين. وكيف يكون ذلك لحناً وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء، وقارىء مكة ابن كثير، وقارىء مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم نافع، ونفى إيمانهم لما لم يثبتوا عليها ولا وفوا بها جعلوا لا أيمان لهم، أو يكون على حذف الوصف أي: لا أيمان لهم يوفون بها. وقرأ الجمهور: بفتح الهمزة. وقرأ الحسن، وعطاء، وزيد بن علي، وابن عامر: لا إيمان لهم أي لا إسلام ولا تصديق. قال أبو علي: وهذا غير قوي، لأنه تكرار وذلك لأنه وصف أئمة الكفر بأنهم لا إيمان لهم، فالوجه في كسر الألف أنه مصدر أمنه إيماناً، ومنه قوله تعالى: { { وآمنهم من خوف } [قريش: 4] فالمعنى أنهم لا يؤمنون أهل الذمة، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف. قال أبو حاتم: فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم انتهى. وكذا تبعه الزمخشري، فقال: وقرىء لا إيمان لهم، أي لا إسلام لهم، ولا يعطون الأمان بعد الردة والنكث، ولا سبيل إليه. وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يميناً وعند الشافعي يمينهم يمين، وقال: معناه أنهم لا يوفون بها بدليل الله تعالى وصفهم بالنكث لعلهم ينتهون متعلق بقوله: فقاتلوا أئمة الكفر، أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم من العظائم ما وجد انتهاءهم عما هم فيه، وهذا من كرمه سبحانه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة.

{ ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } ألا حرف عرض، ومعناه هنا الحض على قتالهم. وزعموا أنها مركبة من همزة الاستفهام، ولا النافية، فصار فيها معنى التخصيص. وقال الزمخشري: دخلت الهمزة على تقرير على انتفاء المقاتلة، ومعناها: الحض عليها على سبيل المبالغة. ولما أمر تعالى بقتل أهل الكفر أتبع ذلك بالسبب الذي يبعث على مقاتلتهم وهو ثلاثة أشياء جمعوها، وكل واحد منها على انفراده كاف في الحض على مقاتلتهم. ومعنى نكثوا أيمانهم: نقض العهد. قال السدي، وابن إسحاق، والكلبي: نزلت في كفار مكة، نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة انتهى. وهمهم هو همّ قريش بإخراج الرسول من مكة حين تشاوروا بدار الندوة، فأذن الله في الهجرة، فخرج بنفسه، أو بنو بكر بإخراجه من المدينة لما أقدموا عليه من المشاورة والاجتماع، أو اليهود، هموا بغدر الرسول صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهده وأعانوا المنافقين على إخراجه من المدينة، ثلاثة أقوال أولها للسدي. وقال الحسن: من المدينة. قال ابن عطية: وهذا مستقيم لغزوة أحد والأحزاب وغيرهما، وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المبين وتحدّاهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال، فهم البادئون، والبادىء أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله تصدمونهم بالشر كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم، وحضهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها. وتقرر أنّ من كان في مثل صفاتهم من نكث العهود وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأنْ لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرط فيها، قاله: الزمخشري وهو تكثير. وقال ابن عطية: أول مرة. قيل: يريد أفعالهم بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين. وقال مجاهد: ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا بدء النقض. وقال الطبري: يعني فعلهم يوم بدر انتهى.

وقرأ زيد بن علي: بدوكم بغير همز، ووجهه أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياء، كما قالوا في قرأت: قريت، فصار كرميت. فلما أسند الفعل إلى واو الضمير سقطت، فصار بدوكم كما تقول: رموكم. أتخشونهم تقرير للخشية منهم، وتوبيخ عليها. فالله أحق أن تخشوه فتقتلوا أعداءه. ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره أحق، وأن تخشوه بدل من الله أي: وخشية الله أحق من خشيتهم وأن تخشوه في موضع رفع، ويجوز أن تكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر، وتقديره: بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه. وجوز أبو البقاء أن يكون أن تخشوه مبتدأ، وأحق خبره قدم عليه. وأجاز ابن عطية أن يكون أحق مبتدأ وخبره أن تخشوه، والجملة خبر عن الأول. وحسن الابتداء بالنكرة لأنها أفعل التفضيل، وقد أجاز سيبويه أنْ تكون المعرفة خبراً للنكرة في نحو: اقصد رجلاً خير منه أبوه. إن كنتم مؤمنين أي كاملي الإيمان، لأنهم كانوا مؤمنين. وقال الزمخشري: يعني أنّ قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى: { { ولا يخشون أحداً إلا الله } [الأحزاب: 39].

{ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم } قررت الآيات قبل هذا أفعال الكفرة المقتضية لقتالهم، والحض على القتال، وحرم الأمر بالقتال في هذه، وتعذيبهم بأيدي المؤمنين هو في الدنيا بالقتل والأسر والنهب، وهذه وعود ثبتت قلوبهم وصححت نياتهم، وخزيهم هو إهانتهم وذلهم، وينصركم يظفركم بهم، وشفاه الصدور بإعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم.

وقرأ زيد بن علي: ونشف بالنون على الالتفات، وجاء التركيب صدور قوم مؤمنين ليشمل المخاطبين وكل مؤمن، لأن ما يصيب أهل الكفر من العذاب والخزي هو شفاء لصدر كل مؤمن. وقيل: المراد قوم معينون. قال ابن عباس: هم "بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال: أبشروا فإن الفرج قريب" وقال مجاهد والسدي: هم خزاعة. ووجه تخصيصهم أنهم هم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير. ألا ترى إلى قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى الله عليه وسلم:

ثمت أسلمنا قلم ننزع يداً

وفي آخر الرجز:

وقتلونا ركعا وسجداً

وإذهاب الغيظ بما نال الكفار من المكروه، وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها، لأنّ شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ. وقرأ فرقة: ويذهب فعلاً لازماً غيظ فاعل به. وقرأ زيد بن علي: كذلك إلا أنه رفع الباء. وهذه المواعيد كلها وجدت، فكان ذلك دليلاً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته وبدىء أولاً فيها بما تسبب عن النصر وهو تعذيب الله الكفار وبأيدي المؤمنين وإخزاؤهم، إذا كانت البداءة بما ينال الكفار من الشر هي التي يسر بها المؤمنون، ثم ذكر ما السبب وهو نصر الله المؤمنين على الكافرين، ثم ذكر ما تسبب أيضاً عن النصر من شفاء صدور المؤمنين وإذهاب غيظهم تتميماً للنعم، فذكر ما تسبب عن النصر بالنسبة للكفار، وذكر ما تسبب للمسلمين من الفرح والسرور بإدراك الثأر، ولم يذكر ما نالوه من المغانم والمطاعم، إذ العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة، فرغبتهم في إدراك الثأر وقتل الأعداء هي اللائقة بطباعهم.

إن الأسود أسود الغاب همتها يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

وقرأ الجمهور: ويتوبُ الله رفعاً، وهو استئناف إخبار بأنّ بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره، وكان ذلك عالم كثيرون وحسن إسلامهم. قال الفراء والزجاج وأبو الفتح: وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا، فلا وجه لإدخال اليوم في جواب الشرط الذي في قاتلوهم انتهى. وقرأ زيد بن علي، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وعيسى الثقفي، وعمرو بن عبيد، وعمر بن قائد، وأبو عمرو، ويعقوب فيما روي عنهما: ويتوبَ الله بنصب الباء، جعله داخلاً في جواب الأمر من طريق المعنى. قيل: ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء. قال ابن عطية: ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أنّ التوبة يراد بها أنّ قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال. وقال غيره: لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على بعضهم، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة. وقيل: حصول الكفر وكثرة الأموال لذة تطلب بطريق حرام، فلما حصلت لهم طريق حلال كان ذلك داعياً لهم إلى التوبة مما تقدم، فصارت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة انتهى. وهذا الذي قرروه من كون التوبة تدخل تحت جواب الأمر هو بالنسبة للمؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار، والذي يظهر أنّ ذلك بالنسبة إلى الكفار، فالمعنى على من يشاء من الكفار، وذلك أنّ قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس، وإن لم يكن لهم رغبة في الإسلام، ولا داعية قبل القتال. ألا ترى إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة كيف كان سبباً لإسلامهم، لأن الداخل في الإسلام قد يدخل فيه على بصيرة، وقد يدخل على كره واضطرار، ثم قد تحسن حاله في الإسلام. ألا ترى إلى عبد الله بن أبي سرح كيف كان حاله أولاً في الإسلام، ثم صار أمره إلى احسن حال ومات أحسن ميتة في السجود في صلاته، وكان من خيار الصحابة؟ والله عليم يعلم ما سيكون مثل ما يعلم ما قد كان، وفي ذلك تقرير لما رتب من تلك الموعيد، وأنها كائنة لا محالة حكيم في تصريف عباده من حال إلى حال على ما تقتضيه حكمته تعالى.

{ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } تقدّم تفسير نظير هذه الجملة، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلَّص منكم وهم المجاهدون في سبيل الله الذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم.

{ ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا. غير متخذين وليجة، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل، وهي البطانة. والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار، شبه النفاق به. وقال قتادة: الوليجة الخيانة. وقال الضحاك: الخديعة. وقال عطاء: الأودّاء. وقال الحسن: الكفر والنفاق. وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم، وليجة يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد. وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس، وجمعها ولائج وولج، كصحيفة وصحائف وصحف. وقال عبادة بن صفوان الغنوي:

ولائجهم في كل مبدي ومحضر إلى كل من يرجى ومن يتخوف

وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عند فرض القتال، والمعنى: لا بد من اختباركم أيها المؤمنون كقوله: { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } ولما كان الرجل قد يجاهد وهو منافق نفى هذا الوصف عنه، فبين أنه لا بد للجهاد من الإخلاص خالياً عن النفاق والرياء والتودّد إلى الكفار.

{ والله خبير بما تعلمون } قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله: أم حسبتم. وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الغيبة التفاتاً.

{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } قرأ ابن السميفع: أنْ يُعمِروا بضم الياء وكسر الميم، أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والجحدري: مسجد بالإفراد، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشبية بالجمع.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعاً من قبائحهم توجب البراءة منهم، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام. روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك، وطفق عليّ يوبخ العباس، فقال الرسول: واقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول. فقال العباس: تظهرون مساوينا، وتكتمون محاسننا؟ فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجراً، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فأنزل الله هذه الآية رداً عليهم. ومعنى ما كان للمشركين: أي بالحق الواجب، وإلا فقد عمروه قديماً وحديثاً على سبيل التغلب. وقال الزمخشري: أي ما صح وما استقام انتهى. وعمارته وحوله والقعود فيه والمكث من قولهم: فلان يعمر المسجد أي يكثر غشيانه، أو رفع بنائه، وإصلاح ما تهدّم منه، أو التعبد فيه، والطواف به. والصلاة ثلاثة أقوال. ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله: { وعمارة المسجد الحرام } أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام، إذ هو صدر ذلك الجنس مقدّمته. ومن قرأ بالجمع فيحتمل أنْ يراد به المسجد الحرام، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أنّ كل مكان منه مسجد، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فكان عامره عامر المساجد. ويحتمل أن يراد الجمع، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفي لقراءة القرآن من تصريحك بذلك. وانتصب شاهدين على الحال، والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر به وبعبادته.

وقرأ زيد بن علي: شاهدون على إضمارهم شاهدون، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر قولهم في الطواف: لبيك لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم: نعبد اللات والعزى، أو تكذيبهم الرسول، أو قول المشرك: أنا مشرك كما يقول اليهودي: هو يهودي، والنصراني هو نصراني، والمجوسي هو مجوسي، والصابىء هو صابىء، أو ظهور أفعال الكفرة من نصب أصنامهم وطوافهم بالبيت عراة، وغير ذلك أقوال خمسة، هذا إذا حمل على أنفسهم على ظاهره، وقيل: معناه شاهدين على رسولهم، وأطلق عليه أنفسهم لأنه ما من بطن من بطون العرب إلا وله فيهم ولادة، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ على أنفسهم بفتح الفاء، أي أشرفهم وأجلهم قدراً.

{ أولئك حبطت أعمالهم } التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة وغيرها مما ذُكر أنه من الأعمال الحميدة. قال الزمخشري: وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن؟ وإلى ذلك أشار تعالى بقوله: { { شاهدين } [التوبة: 17] حيث جعله حالاً عنهم، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم انتهى. وقوله: أو الكبيرة، دسيسة اعتزال لأن الكبيرة عندهم من المعاصي تحبط الأعمال.

{ وفي النار هم خالدون } ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها. وقرأ زيد بن علي: بالياء نصباً على الحال، وفي النار هو الخبر. كما تقول: في الدار زيد قاعداً. وقال الواحدي: دلت الآية على أنّ الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين، ولو أوصى لم تقبل وصيته، ويمنع من دخول المساجد، فإنْ دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظم المساجد ومنعها منهم. وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف وهم كفار المسجد، وربط ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد وهو كافر.

{ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } قرأ الجحدري، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير: مسجداً لله بالتوحيد. وقرأ السبعة وجماعة: بالجمع، والمعنى إنما يعمرها بالحق والواجب، ويستقيم ذلك فيمن اتصف بهذه الأوصاف. وفي ضمن هذا الخبر أمر المؤمنين بعمارة المساجد، ويتناول عمارتها رمّ ما تهدّم منها، وتنظيفها، وتنويرها، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر. ومن الذكر درس العلم بل هو أجله، وصونها عما لم تبن له من الخوض في أحوال الدنيا. وفي الحديث: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان" ولم يذكر الإيمان بالرسول، لأن الإيمان باليوم الآخر إنما هو متلقف من أخبار الرسول، فيتضمن الإيمان بالرسول. أو لم يذكر لما علم وشهر من أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول، لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين، كأنهما شيء واحد لا ينفك أحدهما عن صاحبه، فانطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل: دل عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إذ لا يتلقى ذلك إلا منه. والمقصود من بناء المساجد وعمارتها هو كونها مجتمعاً لإقامة الصلوات فيها والتعبدات من الذكر والاعتكاف وغيرهما، وناسب ذكر إيتاء الزكاة مع عمارة المساجد أنها لما كانت مجمعاً للناس بأنّ فيها أمر الغني والفقير، وعرفت أحوال من يؤدي الزكاة ومن يستحقها، ولم يخش إلا الله. قال ابن عطية: يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره، ويخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه. وقال الزمخشري: هي الخشية والتقوى في أبواب الدنيا، وأنْ لا يختار على رضا الله رضا غيره، وإذا اعترضه أمر أن أحدهما حق الله تعالى، والآخر حق نفسه، خاف الله وآثر حق الله على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم انتهى. وعسى من الله تعالى واجب حيثما وقعت في القرآن، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين إذ مَن جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له الهداية، فكيف بمن هو عار منها: وفي ذلك ترجيح الخشية على الرجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة، فربما دخلها بعض المفسدات وصاحبها لا يشعر بها. وقال تعالى: أن يكونوا من المهتدين، أي: من الذين سبقت لهم الهداية ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين، بل جعلوا بعضاً من المهتدين، وكونهم منهم أقل في التعظيم من أن يجرد لهم الحكم بالهداية.

{ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أنْ لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج. وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمرَ المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه، فنزلت هذه الآية. وذكر ابن عطية وقوله أقوالاً آخر في سبب النزول كلها تدل على الافتخار بالسقاية والعمارة.

وقرأ الجمهور: سقاية وعمارة وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات، فاحتيج إلى حذف من الأول أي: أهل سقاية، أو حذف من الثاني أي: كعمل من آمن. وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو حيوة: سقاة الحاج، وعمرة المسجد، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة. وقرأ ابن جبير كذلك، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في عمرة. وقرأ الضحاك: سقاية بضم السين، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال، وظئر وظؤار، وكان المناسب أن يكون بغير هاء، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة. وكانت السقاية في بني هاشم وكان العباس يتولاها، ولما نزلت هذه الآية "قال العباس: ما أراني إلا أترك السقاية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:أقيموا عليها فهي لكم خير" وعمارة المسجد هي السدانة، وكان في بني عبد الدار، وشيبة وعثمان بن طلحة هما اللذان دفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة في ثامن يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعليّ، "وقال صلى الله عليه وسلم لعثمان وشيبة: خذوها خالدة تالدة لا ينازعكما عليها إلا ظالم" يعني السدانة. ومعنى الآية: إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة. ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله: والله لا يهدي القوم الظالمين، من الراجح منهما وأنّ الكافرين بالله هم الظالمون ظلموا أنفسهم بترك الإيمان بالله، وبما جاء به الرسول، وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله متعبداً له فجعلوه متعبداً لأوثانهم. وذكر في المؤمنين إثبات الهداية لهم بقوله: { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } [التوبة: 18] وفي المشركين هنا نفى الهداية بقوله: والله يهدي القوم الظالمين.

{ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } زادت هذه الآية وضوحاً في الترجيح للمؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة، فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن الرسول وترك ديارهم التي نشأوا عليها، ثم بالغوا بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، المعرضين بالجهاد للتلف. فهذه الخصال أعظم درجات البشرية، وأعظم هنا يسوغ أن تبقى على بابها من التفضيل، ويكون ذلك على تقدير اعتقاد المشركين بأن في سقايتهم وعمارتهم فضيلة، فخوطبوا على اعتقادهم. أو يكون التقدير أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا. وقيل: أعظم ليست على بابها، بل هي كقوله: { { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا } [الفرقان: 24]. وقول حسان:

فشركما لخيركما الفداء

وكأنه قيل: عظيمون درجة. وعند الله بالمكانة لا بالمكان كقوله: { { ومن عنده لا يستكبِرون عن عبادته } [الأنبياء: 16] قال أبو عبد الله الرازي: الأرواح المقدسة البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلال وغلا فيها أضواء عالم الجمال، وترقت من العبدية إلى العندية، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا بمشاهدة الحقيقة العندية، ولذلك قال تعالى: { { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } [الإسراء: 1] انتهى، وهو شبيه بكلام الصوفية، ثم ذكر تعالى أنّ من اتصف بهذه الأوصاف هو الفائز الظافر بأمنيته، الناجي من النار.

{ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم } قال ابن عباس: هي في المهاجرين خاصة انتهى، وأسند التبشير إلى قوله: ربهم، لما في ذلك من الإحسان إليهم بأن مالك أمرهم والناظر في مصالحهم هو الذي يبشرهم، فذلك على تحقيق عبوديتهم لربهم. ولما كانت الأوصاف التي تحلوا بها وصاروا بها عبيدة حقيقة هي ثلاثة: الإيمان، والهجرة، والجهاد بالمال والنفس، قوبلوا في التبشير بثلاثة: الرحمة، والرضوان، والجنات. فبدأ بالرحمة لأنها الوصف الأعم الناشىء عنها تيسير الإيمان لهم، وثنى بالرضوان لأنه الغاية من إحسان الرب لعبده وهو مقابل الجهاد، إذ هو بذل النفس والمال، وقد على الجنات لأن رضا الله عن العبد أفضل من إسكانهم الجنة. وفي الحديث الصحيح: "إن الله تعالى يقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك، فيقول: لكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها" وأتى ثالثاً بقوله: وجنات لهم فيها نعيم مقيم، أي دائم لا ينقطع. وهذا مقابل لقوله { وهاجروا } لأنهم تركوا أوطانهم التي نشأوا فيها وكانوا فيها منعمين، فآثروا الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة، فقوبلوا على ذلك بالجنات ذوات النعيم الدائم، فجاء الترتيب في أوصافهم على حسب الواقع: الإيمان، ثم الهجرة، ثم الجهاد. وجاء الترتيب في المقابل على حسب الأعم، ثم الأشرف، ثم التكميل. قال التبريزي: ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم. برحمة أي: رحمة لا يبلغها وصف واصف.

وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وحميد بن هلال: يَبشُرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: ورُضوان بضم الراء، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران. وقرأ الأعمش: بضم الراء والضاد معاً. قال أبو حاتم: لا يجوز هذا انتهى. وينبغي أن يجوز، فقد قالت العرب: سلُطان بضم اللام، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء.

{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصادم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم، فقالوا: يا رسول الله، إنْ نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت كادتنا وهلكت أموالنا، وخرجت ديارنا، ويقينا ضائعين، فنزلت. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. فعلى هذا الخطاب للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب خوطبوا أن لا يوالوا الآباء والإخوة، فيكونوا لهم تبعاً في سكنى بلاد الكفر. وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم. وذكر الآباء والإخوان لأنهم أهل الرأي والمشورة، ولم يذكر الأبناء لأنهم في الغالب تبع لآبائهم.

وقرأ عيسى بن عمران: استحبوا بفتح الهمزة جعله تعليلاً، وغيره بكسر الهمزة جعله شرطاً. ومعنى استحبوا: آثروا وفضلوا، استفعل من المحبة أي طلبوا محبة الكفر. وقيل: بمعنى أحب. وضمن معنى اختار وآثر، ولذلك عديَ بعلى. ولما نهاهم عن اتخاذهم أولياء أخبر أن من تولاهم فهو ظالم، فقال ابن عباس: هو مشرك مثلهم، لأنّ من رضي بالشرك فهو مشرك. قال مجاهد: وهذا كله كان قبل فتح مكة. وقال ابن عطية: وهذا ظلم المعصية لا ظلم الكفر.

{ قل إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونهآ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } هذه الآية تقتضي الحض على الهجرة وذكر الأبناء لأنه ذكر المحبة، وهم أعلق بالنفس، بخلاف الآية قبلها فلم يذكروا، لأن المقصود منها الرأي والمشورة. وقدّم الآباء لأنهم الذي يجب برهم وإكرامهم وحبهم، وثنى بالأبناء لكونهم أعلق بالقلوب. ولما ذكر الأصل والفرع ذكر الحاشية وهي الإخوان، ثم ذكر الأزواج وهن في المحبة والإيثار كالأبناء، ثم الأبعد بعد الأقرب في القرابة فقال: وعشيرتكم.

وقرأ الجمهور: بغير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو رجاء، وأبو عبد الرحمن: بألف على الجمع. وزعم الأخفش أنّ العرب تجمع عشيرة على عشائر، ولا تكاد تقول عشيرات بالجمع بالألف والتاء، ثم ذكر وأموال اقترفتموها أي اكتسبتموها، لأن الأموال يعادل حبها حب القرابة، بل حبها أشد، كانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة، وأكثر الناس كانوا فقراء. ثم ذكر: وتجارة تخشون كسادها، والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال، وجعل تعالى التجارة سبباً لزيادة الأموال ونمائها. وتفسير ابن المبارك بأن ذلك إشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لقلة خطابهن، تفسير غريب ينبو عنه اللفظ. وقال الشاعر:

كسدن من الفقر في قومهن وقد زادهن مقامي كسودا

ثم ذكر: ومساكن ترضونها، وهي القصور والدور. ومعنى: ترضونها، تختارون الإقامة بها. وهذه الدواعي الأربعة سبب لمخالطة الكفار حب الأقارب، والأموال، والتجارة، والمساكن. فذكر تعالى أن مراعاة الدين خير من مراعاة هذه الأمور. وفي الكلام حذف أي: أحب إليكم من امتثال أمر الله تعالى ورسوله في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. والقراء على نصب أحب لأنه خبر كان. وكان الحجاج بن يوسف يقرأ: أحب بالرفع، ولحنه يحيى بن يعمر، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في كان ضمير الشأن، ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر كان. وتضمن الأمر بالتربص التهديد والوعيد حتى يأتي الله بأمره. قال ابن عباس ومجاهد: الإشارة إلى فتح مكة. وقال الحسن: الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله، والفاسقين عموم يراد به الخصوص فيمن توافى على فسقه، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق، وفي التحرير الفسق هنا الكفر، ويدل عليه ما قابله من الهداية. والكفر ضلال، والضلال ضد الهداية، وإنْ كان ذلك في المؤمنين الذين لم يهاجروا، فيكون الفسق الخروج عن الطاعة، فإنهم لم يمتثلوا أمر الله ولا أمر رسوله في الهجرة.

{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } لما تقدم قوله: { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم } واستطرد بعد ذلك بما استطرد ذكرهم تعالى نصره إياهم في مواطن كثيرة، والمواطن مقامات الحرب وموافقها. وقيل: مشاهد الحرب توطنون أنفسكم فيها على لقاء العدو، وهي جمع موطن بكسر الطاء قال:

وكم موطن لولاي طحت كما هوى بإجرامه من قلة النيق منهوى

وهذه المواطن: وقعات بدر، وقريظة والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. ووصفت بالكثرة لأن أئمة التاريخ والعلماء والمغازي نقلوا أنها كانت ثمانين موطناً. وحنين واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز. وصرف مذ هو بابه مذهب المكان، ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف كما قال:

نصروا نبيهم وشدّوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال

وعطف الزمان على المكان. قال الزمخشري: وموطن يوم حنين أوفى أيام مواطن كثيرة، ويوم حنين. وقال ابن عطية: ويوم عطف على موضع قوله: في مواطن، أو على لفظه بتقدير: وفي يوم، فحذف حرف الخفض انتهى. وإذ بدل من يوم وأضاف الإعجاب إلى جميعهم، وإن كان صادراً من واحد لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال: لن نغلب اليوم من قلة. والقائل قال ابن المسيب: هو أبو بكر، أو سلمة بن سلامة بن قريش، أو ابن عباس، أو رجل من بني بكر. ونقل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه كلام هذا القائل، ووكلوا إلى كلام الرجل.

والكثرة بفتح الكاف، ويجمع على كثرات. وتميم تكسر الكاف، وتجمع على كثر كشذوة وشذر، وكسرة وكسر، وهذه الكثرة عن ابن عباس ستة عشر ألفاً، وعن النحاس أربعة عشر ألفاً، وعن قتادة وابن زيد وابن إسحاق والواقدي: اثنا عشر ألفاً، وعن مقاتل عن ابن عباس: أحد عشر ألفاً وخمسمائة. والباء في بما رحبت للحال، وما مصدرية أي: ضاقت بكم الأرض مع كونها رحباً واسعة لشدة الحال عليهم وصعوبتها كأنهم لا يجدون مكاناً يستصلحونه للهرب والنجاة لفرط ما لحقهم من الرعب، فكانها ضاقت عليهم. والرحب: السعة، وبفتح الراء الواسع. يقال: فلان رحب الصدر، وبلد رحب، وأرض رحبة، وقد رحبت رحباً ورحابة. وقرأ زيد بن علي: بما رحبت في الموضعين بسكون الحاء وهي لغة تميم، يسكنون ضمة فعل فيقولون في ظرف ظرْف. ثم وليتم مدبرين أي: وليتم فارين على أدباركم منهزمين تاركين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم، إذ ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره إن شاء الله، فيقول لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه، وانضاف إليه الفان من الطلقاء فصاروا اثني عشر ألفاً إلى ما انضاف إليهم من الأعراب من سليم، وبني كلاب، وعبس، وذبيان، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم، فجمعت له هوزان وألفافها وعليهم مالك بن عوف النضري، وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استعماله عتاب بن أسيد على مكة، حتى اجتمعوا بحنين، فلما تصاف الناس حمل المشركون من مجاني الوادي وكان قد كمنوا بها، فانهزم المسلمون. قال قتادة: ويقال إنّ الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين، وبلغ فلهم مكة، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه على بغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل، والعباس قد اكتنفه آخذاً بلجامها، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وابنه جعفر، وعلي بن أبي طالب، وربيعة بن الحرث، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد وهو أيمن ابن أم أيمن، وقتل بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء من أهل بيته، وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجال، ولهذا قال العباس:

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه بما مسه في الله لا يتوجع

وثبتت أم سليم في جملة من ثبت ممسكة بعيراً لأبي طلحة وفي يدها خنجر، ونزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته إلى الأرض واستنصر الله، وأخذ قبضة من تراب وحصا فرمى بها في وجوه الكفار وقال: "شاهت الوجوه" قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلى دخل عينية من ذلك التراب، وقال للعباس وكان صيتاً: نادِ أصحاب السمرة، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً، ثم نادى يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقاً واحداً وهم يقولون: لبيك لبيك، وانهزم المشركون فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال: "هذا حين حمي الوطيس" وركض رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهم على بغلته. وفي صحيح مسلم من حديث البراء: أنّ هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول:

"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك"

قال البراء: كنا والله إذا حمي البأس نتقي به صلى الله عليه وسلم، وأنّ الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وفي أول هذا الحديث: "أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟" فقال: اشهد عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ولى.

{ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } السكينة: النصر الذي سكنت إليه النفوس، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: رحمته التي سكنوا بها. وقيل: الوقاء والثبات بعد الاضطراب والقلق، ويخرج من هذا القول الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يزل ثابت الجأش ساكنه، وعلى المؤمنين ظاهره شمول مَنْ فرَّ ومَنْ ثبت. وقيل: هم الأنصار إذ هم الذين كروا وردّوا الهزيمة. وقيل: من ثبت مع الرسول صلى الله عليه وسلم حالة فرّ الناس. وقرأ زيد بن علي: سِكينته بكسر السين وتشديد الكاف مبالغة في السكينة. نحو شرّيب وطبيخ.

{ وأنزل جنوداً لم تروها } هم الملائكة بلا خلاف، ولم تتعرض الآية لعددهم. فقال الحسن: ستة عشر ألفاً. وقال مجاهد: ثمانية آلاف. وقال ابن جبير: خمسة آلاف. وهذا تناقض في الأخبار، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين. وعن ابن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسانها فقالوا: شاهت الوجوه، ارجعوا فرجعنا، فركبوا أكتافنا. والظاهر انتفاء الرؤية عن المؤمنين، لأن الخطاب هو لهم. وقد روي أنّ رجلاً من بني النضير قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق والرجال الذين كانوا عليها بيض ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم؟ فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تلك الملائكة" . وقيل: لم تروها، نفى عن الجميع، ومن رأى بعضهم لم ير كلهم. وقيل: لم يرها أحد من المسلمين ولا الكفار، وإنما أنزلهم يلقون التثبيت في قلوب المؤمنين والرعب والجبن في قلوب الكفار. وقال يزيد بن عامر: كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب.

{ وعذب الذين كفروا وذلك جزآء الكافرين } أي بالقتل الذي استحر فيهم، والأسر لذراريهم ونسائهم، والنهب لأموالهم، وكان السبي أربعة آلاف رأس. وقيل: سنة آلاف، ومن الإبل اثنا عشر ألفاً سوى ما لا يعلم من الغنم، وقسمها الرسول بالجعرانة، وفيها قصة عباس بن مرداس وشعره. وكان مالك بن عوف قد أخرج الناس للقتال والذراري ليقاتلوا عليها، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة قال: هو يرد المنهزم شيء؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد القتلة المشهورة، قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي ويقال له: ابن الدغنة.

{ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشآء والله غفور رحيم } إخبار بأن الله يتوب على من يشاء فيهدي من يشاء ممن بقي من الكفار للإسلام، ووعد بالمغفرة والرحمة كمالك بن عوف النضري رئيس هوازن ومن أسلم معه من قومه. وروي أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، وكان سبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى، فقال: "إن خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإمّا أموالكم" فقالوا: ما نعدل بالأحساب شيئاً. وتمام الحديث أنهم أخذوا نساءهم وذراريهم إلا امرأة وقع عليها صفوان بن أمية فحملت منه فلم يردها.

أخبرنا القاضي العالم أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي قراءة مني عليه بمدينة مالقة. قال: أخبرنا أبو الحسن بن محمد بن بيقي بن حبلة الخزرجي باوو بولة، قال: أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني باسكندرية (ح) وأخبرنا أستاذنا الإمام العلامة الحافظ أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير قراءة مني عليه بغرناطة عن القاضي أبي الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني عن أبي طاهر السلفي وهو آخر من حدث عنه بالغرب، (ح) وأخبرنا عالياً القاضي السعيد صفي الدين أبو محمد عبد الوهاب بن حسن بن الفرات قراءة عليه مرتين بثغر الاسكندرية، عن أبي الطاهر اسماعيل بن صالح بن ياسين الجبلي وهو آخر من حدث عنه قالا: أعني السلفي والجبلي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن ابراهيم الرازي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن بقاء بن محمد الوراق بمصر أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين بن عمر اليمني التنوخي بانتفاء خلف الواسطي الحافظ (ح) وأخبرنا المحدث العدل نجيب الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني عرف بابن العجمي قراءة مني عليه بالقاهرة قلت له: أخبرك أبو الفخر أسعد بن أبي الفتوح بن روح وعفيفة بنت أحمد بن عبد الله في كتابيهما قالا: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن أحمد بن عقيل الجوزدانية. قالت: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريذة الضبي، قال: أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني الحافظ قالا: ــ أعني التنوخي والطبراني ـ أخبرنا عبيد الله بن رماحس زاد التنوخي بن محمد بن خالد بن حبيب بن قيس بن رمادة من الرملة على بريدين في ربيع الآخر من سنة ثمانين ومائتين، وقال الطبراني ابن رماحس الجشمي القيسي برمادة الرملة سنة سبع وسبعين ومائتين، قال: حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق زاد التنوخي الجشمي. وقال الطبراني وكان قد أتت عليه عشرون ومائة سنة قال التنوخي عن زياد أنبأنا زهير أبو جندل وكان سيد قومه وكان يكنى أبا صرد. قال: لما كان يوم حنين أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا هو يميز بين الرجال والنساء، وثبت حتى قعدت بين يديه أذكره حيث شب ونشأ في هوازن، وحيث أرضعوه فأنشأت أقول: وقال الطبراني عن زياد قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قوم هوازن، وذهب يفرق السبي والشاء، فأتيته فأنشأت أقوال هذا الشعر:

امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على بيضة قد عاقها قدر مفرق شملها في دهرها غير
أبقت لنا الحرب هتافاً على حرن على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها يا أرجح الناس حلماً حين يختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك يملأوها من محضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
يا خير من مرحت كمت الجياد به عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا نؤمل عفواً منك نلبسه هذى البرية أن تعفو وتنتصر
إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه من أمهاتك أن العفو مشتهر
واعف عفا الله عما أنت راهبه يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر

وفي رواية الطبراني تقديم وتأخير في بعض الأبيات، وتغيير لبعض ألفاظ، فترتيب الأبيات بعد قوله: إذ أنت طفل قوله: لا تجعلنا، ثم إنا لنشكر، ثم فالبس العفو، ثم تأخير من مرحت، ثم إنا نؤمل، ثم فاعف. وتغيير الألفاظ قوله: وإذ يربيك بالراء والباء مكان الزاي والنون. وقوله للنعماء: إذ كفرت. وقوله: إذ تعفو. وفي رواية الطبراني قال: فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشعر قال صلى الله عليه وسلم: "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم" وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله. وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله. وفي رواية التنوخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فللَّه ولكم" وقالت الأنصار: ما كان لنا فللَّه ولرسوله، ردّت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال.

{ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هـذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شآء إن الله عليم حكيم } لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أنْ يقرأ على مشركي مكة أول براءة، وينبذ إليهم عهدهم، وأنّ الله بريء من المشركين ورسوله قال أناس: يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدّة وانقطاع السبل وفقد الحمولات فنزلت. وقيل: لما نزل إنما المشركون نجس، شق على المسلمين وقالوا: من يأتينا بطعامنا، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارة، فنزلت: وإن خفتم عيلة الآية. والجمهور على أنّ المشرك من اتخذ مع الله إلهاً آخر، وعلى أنّ أهل الكتاب ليسوا بمشركين. ومن العلماء من أطلق عليهم اسم الاشراك لقوله: { { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 116] أي يكفر به. وقرأ الجمهور: نجس بفتح النون والجيم، وهو مصدر نجس نجساً أي قذر قذراً، والظاهر الحكم عليهم بأنهم نجس أي ذوو نجس. قال ابن عباس، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، وغيره: الشرك هو الذي نجسهم، فأعيانهم نجسة كالخمر والكلاب والخنازير. وقال الحسن: من صافح مشركاً فليتوضأ. وفي التحرير وبالغ الحسن حتى قال: إن الوضوء يجب من مسِّ المشرك، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية. وقال قتادة، ومعمر بن راشد وغيرهما: وصف المشرك بالنجاسة لأنه جنب، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل، وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين، وهو مذهب مالك. وقال ابن عبد الحكم: لا يجب، ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فجعلوا نجساً مبالغة في وصفهم بالنجاسة.

وقرأ أبو حيوة: نِجْس بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف، أي: جنس نجس، أو ضرب نجس، وهو اسم فاعل من نجس، فخففوه بعد الاتباع كما قالوا في كبد كبد وكرش كرش. وقرأ ابن السميفع: أنجاس، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل. وفي النهي عن القربان منعهم عن دخوله والطواف به بحج أو عمرة أو غير ذلك كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وهذا النهي من حيث المعنى هو متعلق بالمسلمين، أي لا يتركونهم يقربون المسجد الحرام. والظاهر أنّ النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام، وهذا مذهب أبي حنيفة. وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد. وقال الزمخشري: إنّ معنى قوله: «فلا يقربوا المسجد الحرام» فلا يحجوا ولا يعتمروا، ويدل على قول عليّ حين نادى ببراءة: لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، قال: ولا يمنعون من دخول الحرم، والمسجد الحرام، وسائر المساجد عند أبي حنيفة انتهى. وقال الشافعي: هي عامة في الكفار، خاصة في المسجد الحرام، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد. وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد. وقال عطاء: المراد بالمسجد الحرام الحرم، وأنّ على المسلمين أنْ لا يمكنوهم من دخوله. وقيل: المراد من القربان أنْ يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه، ويعزلوا عن ذلك. وقال جابر بن عبد الله وقتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب حرية، أو عبد المسلم، والمعنى بقوله بعد عامهم هذا: هو عام تسع من الهجرة، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر أميراً على الموسم وأتبع بعلي ونودي فيها ببراءة. وقال قتادة: هو العام العاشر الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعيلة الفقر. وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه: عائلة وهو مصدر كالعاقبة، أو نعت لمحذوف أي: حالاً عائلة، وإنّ هنا على بابها من الشرط. وقال عمرو بن قائد: المعنى وإذ خفتم كقولهم: إنْ كنت ابني فأطعني، أي: إذ كنت. وكون إنْ بمعنى إذ قول مرغوب عنه. وتقدّم سبب نزول هذه الآية وفضله تعالى. قال الضحاك: ما فتح عليهم من أخذ الجزية من أهل الذمة. وقال عكرمة: أغناهم بادرار المطر عليهم، وأسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم، وعلق الاغناء بالمشيئة لأنه يقع في حق بعض دون بعض وفي وقت دون وقت. وقيل: لإجراء الحكم على الحكمة، فإنْ اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم أغناكم. وقال القرطبي: إعلاماً بأنّ الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد، وإنما هو فضل الله. ويروي للشافعي:

لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بنجوم أقطار السماء تعلقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

إن الله بأحوالكم حكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة. وقال ابن عباس: عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم في المشركين.

{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } نزلت حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغزو الروم، وغزا بعد نزولها تبوك. وقيل: نزلت في قريظة والنضير فصالحهم، وكانت أول جزية أصابها المسلمون، وأول ذلك أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان بالله عنهم، لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله، آذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به قاله الكرماني. وقال الزجاج: لأنهم جعلوا له ولداً وبدلوا كتابهم، وحرموا ما لم يحرم، وحللوا ما لم يحلل. وقال ابن عطية: لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه، فصار جميع مالهم في البعث وفي الله من تخيلات واعتقادات لا معنى لها، إذْ يلقونها من غير طريقها. وأيضاً فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة، لأنهم شبهوا وقالوا: عزير ابن الله وثالث ثلاثة، وغير ذلك. ولهم أيضاً في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان. وقول اليهود في النار يكون فيها أياماً انتهى. وفي الغيبان نفي عنهم الإيمان لأنهم مجسمة، والمؤمن لا يجسم انتهى. والمنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني ما حرم الله في كتابه ورسوله في السنة. وقيل: في التوراة والإنجيل، لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل، والرسول على هذا موسى وعيسى، وعلى القول الأول محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: ولا يحرمون الخمر والخنزير. وقيل: ولا يحرمون الكذب على الله، قالوا: { { نحن أبناء الله وأحباؤه } [المائدة: 18]، { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [التوبة: 111] وقيل: ما حرم الله من الربا وأموال الأميين، والظاهر عموم ما حرم الله ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن. ولا يدينون دين الحق أي: لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق، وما سواه باطل. وقيل: دين الحق دين الله، والحق هو الله قاله: قتادة. يقال: فلان يدين بكذا أي يتخذه ديناً ويعتقده. وقال أبو عبيدة: معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه وقد دان له وخضع. قال زهير:

لئن حللت بجوفي بني أسد في دين عمرو وحلت بيننا فدك

{ من الذين أوتوا الكتاب } بيان لقوله: الذين. والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصاً. وأجمع الناس على ذلك. وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم انتهى. وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب. وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبيحتهم. وقالت فرقة: لا تؤخذ منهم جزية، ولا تؤكل ذبائحهم. وقيل: تؤخذ منهم الجزية، ولا تؤكل ذبائحهم. وقال الأوزاعي: تؤخذ من كل عابد وثن أو نارٍ أو جامدٍ مكذب. وقال أبو حنيفة: لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية. وقال مالك: تؤخذ من عابد النار والوثن وغير ذلك كائناً من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد. وقال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور: لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط. والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين. وقال مالك في الواضحة: إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط، وتضرب على رهبان الكنائس. واختلف في الشيخ الفاني، ولم تتعرض الآية لمقدار ما على كل رأس ولا لوقت إعطائها. فأما مقدارها فذهب مالك وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الفضة، وفرض عمر ضيافة وأرزاقاً وكسوة. وقال الثوري: رويت عن عمر ضرائب مختلفة، وأظن ذلك بحسب اجتهاده في عسرهم ويسرهم. وقال الشافعي وغيره: على كل رأس دينار. وقال أبو حنيفة: على الفقير المكتسب اثنا عشر درهماً، وعلى المتوسط في المعنى ضعفها، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهماً، ولا يؤخذ عنده من فقير لا كسب له. قال ابن عطية: وهذا كله في الفترة. وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير. وأما وقتها فعند أبي حنيفة أول كل سنة، وعند الشافعي آخر السنة. وسميت جزية من جزى يجزي إذ كافأ عما أسدي عليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالعقدة والجلسة، ومن هذا المعنى قول الشاعر:

نجزيك أو نثني عليك وأن من أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

وقيل: لأنها طائفة مما على أهل الذمة أنْ يجزوه أي يقضوه عن يد. قال ابن عباس: يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها. وقال عثمان: يعطونها نقداً لا نسيئة. وقال قتادة: يعطونها وأيديهم تحت يد الآخذ، فالمعنى أنهم مستعلى عليهم. وقيل: عن اعتراف. وقيل: عن قوة منكم وقهر وذل ونفاذ أمر فيهم، كما تقول: اليد في هذا لفلان أي الأمر له. وقيل: عن إنعام عليهم بذلك، لأن قبولها منهم عوضاً عن أرواحهم إنعام عليهم من قولهم له: عليَّ يد أيْ: نعمة. وقال القتبي: يقال أعطاه عن يدٍ وعن ظهر يد، إذا أعطاه مبتدئاً غير مكافىء. وقيل: عن يد عن جماعة أي: لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله. واليد جماعة القوم، يقال القوم على يد واحدة أي: هم مجتمعون. وقيل: عن يد أي عن غنى، وقدرة فلا تؤخذ من الفقير. ولخص الزمخشري في ذلك فقال: أما أن يريد يد الآخذ فمعناه حتى يعلوها عن يد قاهرة مستولية وعن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم. وإما أن يريد المعطى فالمعنى عن يدٍ مواتية غير ممتنعة، لأنّ من أبي وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى بيده إذا انقاد واحتجب. ألا ترى إلى قولهم: نزع يده عن الطاعة، أو عن يد إلى يد أي نقداً غير نسيئة، أولاً مبعوثاً على يد آخر ولكن عن يد المعطى البريد الآخذ. وهم صاغرون جملة حالية أي: ذليلون حقيرون. وذكروا كيفيات في أخذها منهم وفي صغارهم لم تتعرض لتعيين شيء منها الآية. قال ابن عباس: يمشون بها ملببين. وقال سليمان الفارسي: لا يحمدون على إعطائهم. وقال عكرمة: يكون قائماً والآخذ جالساً. وقال الكلبي: يقال له عند دفعها أدّ الجزية ويصك في قفاه. وحكى البغوي: يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته.

{ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } بين تعالى لحاق اليهود والنصارى بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك في فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره، لأنّ الشرك هو أنْ يتّخذ مع الله معبوداً، بل عابد الوثن أخف كفراً من النصراني، لأنه لا يعتقد أنّ الوثن خالق العالم، والنصراني يقول بالحلول والاتحاد، وقائل ذلك قوم من اليهود كانوا بالمدينة. قال ابن عباس: قالها أربعة من أحبارهم: سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف. وقيل: قاله فنحاص. وقال النقاش: لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا، وتذم الطائفة أو تمدح بصدور ما يناسب ذلك من بعضهم. قيل: والدليل على أن هذا القول كان فيهم أنّ الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب، وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض، فأتاه جبريل فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم، فحفظه التوراة، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفاً فقالوا: ما جمع الله تعالى التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه، ونقلوا حكايات في ذلك. وظاهر قول النصارى المسيح ابن الله نبوّة النسل كما قالت العرب في الملائكة، وكذا يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما عنهم: أنّ المسيح إله، وأنه ابن الإله. ويقال: إن بعضهم يعتقدها بنوّة حنوّ ورحمة، وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوّة المحمدية وظهور دلائل صدقها، وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم، فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى.

وقرأ عاصم، والكسائي عزير منوناً على أنه عربي، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية، كعاذر وغيذار وعزرائيل، وعلى كلتا القرائتين فابن خبر. وقال أبو عبيد: هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود. قيل: وليس قوله بمستقيم، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر، إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر، كسليمان جاء على هيئة عثمان وليس بمصغر. ومن زعم أنّ التنوين حذف من عزير لالتقاء الساكنين كقراءة: { { قل هو الله أحد الله الصمد } [الإخلاص: 1 - 2] وقول الشاعر:

إذا غطيف السلمى فرّا

أو لأنّ ابناً صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه، والخبر محذوف أي: إلا هنا ومعبودنا. فقوله متمحل، لأنّ الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى. ومعنى بأفواههم: أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان، وذلك أن القول الدال على معنى لفظة مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير. وقيل: معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد، كما قال: { { يكتبون الكتاب بأيديهم } [البقرة: 79] { { ولا طائر يطير بجناحيه } [الأنعام: 38] ولا بد من حذف مضاف في قوله: يضاهون أي يضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله، وهو قول الضحاك. أو الضمير عائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي: يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوّة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوّة عزير، واليهود أقدم من النصارى، وهو قول قتادة. وقرأ عاصم وابن مصرف: يضاهئون بالهمز، وباقي السبعة بغير همز. قاتلهم الله أنى يؤفكون: دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومن قاتله الله فهو المقتول. وقال ابن عباس: معناه لعنهم الله. وقال ابان بن تغلب:

قاتلها الله تلحاني وقد علمت إني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وقال قتادة: قتلهم، وذكر ابن الأنباري عاداهم. وقال النقاش: أصل قاتل الدعاء، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء. وأنشد الأصمعي:

يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني وأخبر الناس أني لا أباليها

وليس من باب المفاعلة بل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص. أنّى يؤفكون: كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجب!.