التفاسير

< >
عرض

كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٢١٣
-البقرة

التفسير

قوله تعالى: { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ... }.
دليل على أن النبي أعمّ من الرّسول بناء على الحكم المسند الى مشتق أو موصوف بصفة تقتضي ثبوت ذلك الوصف له حالة ثبوت الحكم، فيقتضي ورود البعث عليهم حال حصول النبوءة فلو كان النبي والرّسول بمعنى واحد للزم تحصيل الحاصل. وقيل الرّسول أعمّ حكاه الغزالي في (الاقتصاد) والشيخ ابن العربي.
وقال ابن الصلاح: اختلف المحدثون في جواز نقل الحديث بالمعنى، فقيل يجوز وقيل لا (يجوز) وقيل: إن بدل اسم الرسول بالنبي جاز بخلاف العكس.
قال ابن عرفة: الآية دالة على أن الجمع المحلي بالألف واللاّم لا يفيد العموم إذ ليس كل نبي مبعوثا وبدأ بالبشارة لأن الرحمة سبقت غضبه.
قوله تعالى: { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ... }.
قيل لابن عرفة: فهلا قيل: أنزل عليهم الكتاب، كما في سورة النساء
{ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } } { { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } لأَنَّكَ تقول: قام زيد مع عمرو، فيقتضي اشتركهما في القيام، والرسل ليسوا منزلين مع الكتاب.
قال ابن عرفة: المراد أنزل مع بعثهم والإنزال مصاحب للبعث ولا اشتراك بينهما لأنه معنوي لا يمكن إنزاله وهم من أول بعثهم إلى آخره لايزال الكتاب منزلا عليهم حتى يموتوا.
قيل لابن عرفة: هذا كله مجاز فلم عدل عن الحقيقة إليه؟
قلت: وحمله الشيخ ابن القصار على (أمرين):
أحدهما: أن "أنزل" بمعنى بعث، فيفيد لفظة الإنزال تشريف الرسل وقومهم بالكتاب الشريف المنزل من أشرف الجهات وهي جهة فوق، ويفيد معنى البعث أن الكتاب مبعوث مع الرسل لقومهم اعتناء بهم وتأكيدا على امتثال أوامره ونواهيه.
الثاني: أن يجعل "معهم" حالا من "الكتاب" وقدمت عليه للاهتمام بالمصاحبة. فإن قلت: الكتاب حين إنزاله لم يكن معهم؟
قلنا: هي حال مقدرة لا محصلة.
واقتضت الآية الاستدلال بمقدمة منطقية وهو أن يقول: كلما ثبتت الرّسالة لغير محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت لمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عرفة: وقولهم إن الكتاب هو التوراة باطل بقوله { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ } لأنّ التوراة ليست منزلة على كل النبيين.
قوله تعالى: { لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ... }.
هذا عندنا (فضل) لا واجب.
واستشكل بعض الطلبة فهم الآية لأن قوله { فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ } يقتضي تقدم اختلافهم على إنزال الكتاب.
قوله تعالى: { وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ }.
يقتضي تأخير اختلافهم عن الإنزال وعدم تقدمه عليه لأنه مقرون بأداة الحصر كما قال في سورة الجاثية
{ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ
}. وهذا كله على قولهم: إن الضمير المجرور في قوله { وَمَا ٱخْتَلَفَ } عائد على ما عاد عليه قوله تعالى: { فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ }.
قال ابن عرفة: اختلفوا قبل وبعد.
قلت: اختلفوا قبله اختلافا ضعيفا فلما ورد الكتاب والدلائل أعمى الله بصائرهم فاستنبطوا به شبهات كانت سببا في تعنتهم وضلالهم واختلافهم كمن يقرأ أصول الدين ليهتدي فيضل وكان قبل على الصواب فاختلافهم المعتبر إنما هو بعد الآيات وما قبل ذلك لا عبرة له.
قلت: فهذا يحسن جوابا والله أعلم، قال الله تعالى
{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } }. ووافقني عليه بعضهم وقال: تكون من عود الضمير على اللفظ فقط نحو: عندي درهم ونصفه.
قوله تعالى: { فَهَدَى ٱللَّهُ... }.
العطف بالفاء إشارة على سرعة هدايته للمؤمنين بعقب الاختلاف فإن يكن اختلافهم في الفروع فيحسن أن يكون { وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ } بعض الحق وإن يكن من الاعتقاد فهو كل الحق لا بعضه.
قوله تعالى: { لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ... }.
قال ابن عرفة: الصّواب أن معناه بقدرته وإن كان مجازا فهو أولى من أن يقال بعلمه أو بأمره ليكون فيه حجة على المعتزلة.
قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
قال ابن عطية: فيها حجة على المعتزلة في قولهم: إن العبد يخلق أفعاله.
قال ابن عرفة: هذا بالظاهر لا (بالنظر) ولهم أن يجيبوا بعود ذلك إلى الداعي ووقع الإجماع هنا ومنهم عليه.