القراءات: { وأنا } مثل { أنشانا } و { نجعل } بالنون: يحيى وحماد. الآخرون بالياء
التحتانية. { ثم ننجي } من الإنجاء: نصر وروح ويزيد. { ننجي المؤمنين } من الإنجاء
أيضاً: علي وسهل ويعقوب وحفص والمفضل. الآخرون بالتشديد فيهما.
الوقوف: { الطيبات } ج للابتداء بالنفي مع الفاء { العلم } ط { يختلفون } ه { من
قبلك } ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى { الممترين } ه لا للعطف { الخاسرين } ه { لا
يؤمنون } ه لا لتعلق لو بما قبلها { الأليم } ه { يونس } ط { حين } ه { جميعاً } ط { مؤمنين }ه { بإذن الله } ط أي وهو يجعل { لا يعقلون }ه { والأرض } ط للفصل بين
الاستخبار والإخبار. { لا يؤمنون } ه { من قبلهم } ط { من المنتظرين } ه { كذلك } ج
لاحتمال يراد ننجيهم كإنجاء الرسل أو يكون الوقف على { آمنوا } والتقدير ننجي المؤمنين
إنجاء كذلك و { حقا علينا } اعتراض. { المؤمنين } ه { يتوفاكم } ج لاحتمال أن يراد وقد
أمرت { المؤمنين } ه لا للعطف { حنيفاً } ج للعطف مع زيادة نون التأكيد المؤذن
بالاستئناف { المشركين } ه { ولا يضرك } ج للابتداء بالشرط مع الفاء { الظالمين } ه { إلا
هو } ج للعطف مع حق الفصل بين المتضادين { لفضله } ط { من عباده } ط { الرحيم } ه
{ من ربكم } ج { لنفسه } ج { عليها } ج للعطف مع النفي { بوكيل } ه ط { يحكم الله } ج
لاحتمال العطف والاستئناف { الحاكمين } ه.
التفسير: لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده أراد أن يذكر ما وقع
عليه الختم في واقعة بني إسرائيل فقال: { ولقد بوأنا } أي أسكناهم مسكن صدق أو
إسكان صدق فيكون المبوأ اسم مكان أو مصدراً، والعرب إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق ليعلم أن كل ما يظن به من الخير ويطلب منه فإنه يصدق ذلك الظن ويوجد فيه
فيكون المعنى منزلاً صالحاً مرضياً. والمراد ببني إسرائيل إما اليهود الذين كانوا في زمن
موسى عليه السلام فمبوّأ الصدق الشام ومصر وما يدانيها فإنها بلاد كثيرة الخصب غزيرة
الأرزاق ومع ذلك فقد أورثهم الله جميع ما كان تحت تصرف فرعون وقومه من الناطق
والصامت { فما اختلفوا } في دنيهم وما تشعبوا فيه شعباً وكانوا على طريقة واحدة حتى قرأوا التوراة فقابلوها بضد المقصود منها وبدلوا الاتفاق بالاختلاف وأحدثوا المذاهب
المتعددة، وإما اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب جم غفير من
المفسرين. عن ابن عباس:هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، أنزلناهم منزل الصدق ما بين
المدينة والشام ورزقناهم من طيبات تلك البلاد رطباً وتمراً ليس في غيرها، فبقوا على
دينهم ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم سبب العلم وهو القرآن النازل على محمد صلى الله عليه وسلم
فاختلفوا في نعته وصفته، وآمن به قوم وبقي على الكفر آخرون. وبالجملة فالله تعالى
يقضي بين المحقين منهم والمبطلين في يوم الجزاء لأن دار التكليف ليست دار القضاء.
ولما بيّن كيفية اختلاف اليهود في شأن كتابهم أو في شأن رسوله حقق حقيقته وحقيقة ما
أنزل عليه بقوله: { فإن كنت في شك } والشك في اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض
ومنه شك الجوهر في العقد، وشككته بالرمح أي خرقته وانتظمته، والشكيكة الفرقة من
الناس، والشكاك البيوت المصطفة. والشاك يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه،
والخطاب فيه للرسول في الظاهر والمراد أمته كقوله: { يا أيها النبي إذا طلقتم } [الطلاق:
1] والدليل عليه قوله بعيد ذلك { قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني } ولأنه لو
كان شاكاً في شأنه لكان غيره بالشك أولى. ويمكن أن يقال: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة
ولكن ورد على سبيل الفرض والتمثيل كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلاً والقضية الشرطية
لا إشعار فيها ألبتة بوقوع الشرط ولا عدم وقوعه، بل المراد استلزام الأول للثاني على
تقدير وقوع الأول. وقد يكونان محالين كقول القائل: إن كانت الخمسة زوجاً كانت
منقسمة بمتساويين. وفيه من الفوائد الإرشاد إلى طلب الدلائل لأجل مزيد اليقين وحصول
الطمأنينة، وفيه استمالة لأمته والحث لهم على السؤال عما كانوا منه في شك، وفيه أن
أهل الكتاب من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعة مثلك فضلاً عن
غيرك فيكون الغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى الرسول لا
وصف الرسول بالشك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عند نزوله: لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق.
وعن ابن عباس: لا والله ما شك طرفة عين ولا سأل أحداً منهم. وقيل: "إن" نافية أي فما
كنت في شك يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقيناً. وقيل: الخطاب لكل
سامع يتأتى منه الشك. ومن المسؤول منه قال المحققون: هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد
الله بن سلام وعبد الله بن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق
بخبرهم. ومنهم من قال: الكل سواء لأنهم إذا بلغوا حد التواتر وقرأوا آية من التوراة
والإنجيل تدل على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرض، لأن تلك الآية لما بقيت
مع توفر دواعيهم على تحريف نعته كانت من أقوى الدلائل. والظاهر أن المقصود من
السؤال معرفة حقيقة القرآن وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: { مما أنزلنا إليك } وقيل:
السؤال راجع إلى قوله: { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم }. ثم إنه سبحانه لما بين الطريق
المزيل للشك شهد بحقيته فقال: { لقد جاءك الحق من ربك } ثم إن فرق المكلفين بعد
المصدقين إما متوقفون في صدقه وإما مكذبون فنهى الفريقين مخاطباً في الظاهر لنبيه قائلاً
{ فلا تكونن من الممترين ولا تكونن } الآية. والمراد فاثبت ودم على ما أنت عليه من
انتفاء المرية وانتفاء التكذيب، وفيه من التهييج والبعث على اليقين والتصديق ما فيه. ثم
لما زجر كل فريق عما زجر بين أن له عباداً قضى عليهم بالشقاء وعباداً ختم لهم بالحسنى
فلا يتغيرون عن حالهم ألبتة. أما الأولون فأشار إليهم بقوله: { إن الذين حقت } الآية.
وقد مر مثله في هذه السورة. وقالت المعتزلة: إن عدم إيمان هذا الفريق إلى حين وقوع
اليأس وموتهم على الكفر مكتوب عند الله وثبت عليهم قوله في الأزل بما يجري عليهم،
لكنها كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد. وقالت الأشاعرة: كلمته حكمة وإرادته وخلقه
فيهم الكفر، وقد مر أمثال هذه الأبحاث مراراً كثيرة. وأما الآخرون فذلك قوله: { فلولا
كانت } أي فهلا حصلت { قرية } واحدة { آمنت } تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل
معانية العذاب { فنفعها إيمانها } لوقوعه في وقت الاختيار والتكليف دون أوان اليأس
والاضطرار { إلا قوم يونس } هو استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس لأن أول الكلام جرى
على القرية وإن كان المراد أهلها. وقيل: إن "لولا" في هذا المقام بمعنى النفي كأنه قيل:
ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس. يروى أن يونس صلى الله عليه وسلم بعث إلى نينوى من
أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً كما سيجيء في سورة الأنبياء، فلما فقدوه
خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة. وقيل: قال لهم يونس إن أجلكم
أربعون ليلة فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت
السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد
سطوحهم، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا
بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات
والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم
الجمعة. وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل منهم كان
يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده. وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم
فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي
الموتى ويا حي لا إله إلا أنت، فقالوها فكشف عنهم ومتعوا بالإيمان والأعمال الصالحة
وبالخيرات الدنيوية إلى حين انقضاء آجالهم. وعن الفضيل بن عياض قالوا: اللهم إن
ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما
نحن أهله. ثم بيّن أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال: { ولو شاء ربك
لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } قالت الأشاعرة: هذه القضية تفيد الشمول والإحاطة
لكنه ما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل.
وأول المعتزلة المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر. وأجيب بأن الكلام في الإيمان الذي كان
يطلبه النبي منهم وهو الإيمان المنوط به التكليف لا الإيمان القسري الذي لا ينتفع به
المكلف، فلو حمل الإيمان المذكور في الآية وكذا المشيئة على إيمان الإلجاء ومشيئة
القسر لم ينتظم الكلام. ثم ذكر أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه
وتعالى فقال: { أفأنت تكره } فأولى الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن
مقدور عليه، وإنما الكلام في المكره من هو وما هو إلا الله وحده. فحمل المعتزلة هذا
الإكراه على الإلجاء ومعناه أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان. وحمل
الأشاعرة الإكراه على خلق الإيمان ومعناه أنه قادر على خلق الإيمان والكفر فيهم لا أنت
بدليل قوله: { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس } أي الكفر والفسق
{ على الذين لا يعقلون } وفسر المعتزلة الإذن بمنح الألطاف والرجس بالخذلان، لأن
الرجس هو العذاب والخذلان سببه، وخصصوا النفس بالنفس المعلوم إيمانها والذين لا
يعقلون يعني المصرين على الكفر. واستدلت الأشاعرة بقوله: { وما كان لنفس } على أنه
لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع لأن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحجر.
وإذا كان أصل الشرع - وهو الإيمان بإذن الله - فما ترتب عليه أولى. أجابت المعتزلة بأن
المراد بالإذن التوفيق والتسهيل والألطاف. ولما بين أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله
تعالى أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر
المحض فقال: { قل انظروا ماذا في السموات والأرض } أي شيء فيهما من الآيات
والعبر. ثم ذكر أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حكم الله عليه في
الأزل بالشقاء فقال: { وما تغني } يحتمل أن تكون "ما" نافية أي لا تفيد هذه { الآيات
والنذر } وهي جمع نذير صفة أو مصدر في حق المحكوم عليهم بعدم الإيمان. وأن
تكون } استفهامية للإنكار بمعنى أي شيء يغني عنهم؟ ثم قال: { فهل ينتظرون } والمراد
أن الأنبياء المتقدمين كانوا يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب أو بوقائع
الله فيهم وهم يكذبونهم ويسخرون منهم، وكذلك كان يفعل الكفار المعاصرون
للرسول صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه { قل فانتظروا } وفيه تهديد ووعيد بأنه سينزل بهؤلاء مثل ما أنزل
بأولئك من الإهلاك بعد إنجاء الرسول وأتباعه كما حكى تلك الأحوال الماضية بقوله:
{ ثم ننجي رسلنا } الآية. قالت المعتزلة: { حقاً علينا } المراد به الوجوب والاستحقاق إذ
لا يحسن تعذيب الرسول والمؤمنين. وقالت الأشاعرة: إنه حق بحسب الوعد والحكم فإن
العبد لا يستحق على خالقه شيئاً. ثم أمر رسوله بإظهار التباين الصريح بين طريقته وطريقة
المشركين فقال: { قل يا أيها الناس } والمعنى يا أهل مكة إن كنتم لا تعرفون ديني
فاعلموا أني مبرأ عن أديانكم الباطلة { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } وتخصيص هذا
الوصف لأنه يدل على الخلق أوّلاً وعلى الإعادة ثانياً كما مر مراراً، أو لأن الموت أشد
الأحوال مهابة في القلوب فكان أقوى في الزجر والردع، أو لأنه قد قدم ذكر الإهلاك
والوقائع النازلة بالأمم الخالية فكأنه قال: أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم وإنجائي. وفي
الآية إشارة إلى أنه لن يوافقهم في دينهم كيلا يشكوا في أمره ويقطعوا أطماعهم عنه. ولما
ذكر أنه لا يعبد إلا الله بين أنه مأمور بالإيمان والمعرفة فقال: { وأمرت أن أكون } أي بأن
أكون { من المؤمنين } ثم عطف عليه قوله: { وأن أقم وجهك } ولا تدع نظراً إلى المعنى
كأنه قيل له: كن مؤمناً ثم أقم ولا تدع، أو المراد وأمرت بكذا وأوحي إلي أن أقم. قال
في الكشاف: قد سوغ سيبويه أن يوصل "أن" بالأمر والنهي وشبه ذلك بقولهم: أنت الذي
تفعل على الخطاب لأن الغرض وصلها بما يكون معه في معنى المصدر، والأمر والنهي
دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال، ومعنى { أقم وجهك } استقم إليه ولا تلتفت
يميناً ولا شمالاً. و { حنيفاً } حال من { الدين } أو من الوجه. قال المحققون: الوجه
ههنا وجه العقل أو المراد توجه الكلية إلى طلب الدين كمن يريد أن ينظر إلى شيء نظراً
تاماً فإنه يقيم وجهه في مقابلته لا يصرفه عنه. ثم أكد الأمر بالنهي عن ضده فقال: { ولا
تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت } أي فإن
دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، وكنى عنه بالفعل للاختصار. و "إذا" جزاء
للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين
لأن إضافة التصرف بالاستقلال إلى ما سوى مدبر الكل وضع للشيء في غير موضعه. ثم
صرح بأنه مبدأ الكائنات ومنتهى الحاجات لا غيره فقال: { وإن يمسسك الله } الآية. وقد
مر تفسير مثلها في أول سورة الأنعام. قال الواحدي: { وإن يردك بخير } من القلب وأصله وإن يرد بك الخير، ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما
بالآخر. وأقول في تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير
يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض. ثم ختم السورة بما يستدل به على قضائه وقدره
في الهداية والضلال فقال: { قل يا أيها الناس } الآية. وفسرها الأشاعرة بأن من حكم له
في الأزل بالاهتداء فسيقع له ذلك، وإن من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه
كما مر في سورة الأنعام { قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه } [الأنعام: 104]
الآية. وقالت المعتزلة: المراد أنه بين الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة، فمن اختار
الهدى فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فلا يعود وباله إلا على نفسه. يروى
عن ابن عباس أن الآية منسوخة بآية القتال ولا يخفى ضعفه. ثم أمره باتباع الوحي
والتنزيل فإن وصل إليه بسبب الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم الله وهو خير
الحاكمين. ولبعضهم في الصبر:
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري وأصبر حتى يحكم الله في أمري
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني صبرت على شيء أمر من الصبر
التأويل: { ولقد بوأنا بني إسرائيل } يعني متولدات الروح العلوي من القلب والسر
دون النفس لأنها من البنات لا من البنين { مبوأ صدق } منزلاً علياً في العالم النوراني
{ وزقناهم من الطيبات } من الفيض الرباني الفائض على الروح لأن الروح مستوٍ على
عرش القلب، فكل ما فاض من صفة الروحانية على الروح يفيض الروح على القلب
والسر، فما اختلف القلب والسر حتى جاءهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: فمن قبلها صار مقبولا،
ومن ردها كان مردوداً. وبوجه آخر { مبوأ صدق } بين الأصبعين من أصابع الرحمن { فما
اختلفوا } حتى أدركهم علم الله الأزلي بالسعادة والشقاء { فإن كنت في شك } خلق
الإنسان ضعيفاً، فإذا انفتح عليه أبواب الكرامات وهبت رياح السعادات فربما ظن أنه مما
يخادع به الأطفال فلا يدري هل هو من كرامة الاجتباء أو من وخامة الابتلاء، فكان
النبي صلى الله عليه وسلم من خصوصية { إنما أنا بشر مثلكم } [الكهف: 110] يرتع في هذه الرياض
وباختصاص { يوحي إلي } [الكهف: 110] يسقى بكساسات المناولات من تلك الحياض.
فشك عند سكره أنها من شهود التلوين أو من كشوف التمكين، فأدركته العناية الأزلية
فأكرم بخطاب { لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن } بل كان هذا النهي نهي التكوين فما
كان ممترياً ولهذا قال: والله لا أشك ولا أسأل. { إلا مثل أيام الذين خلوا } من أنه كل
ميسر لما خلق له { قل فانتظروا } ظهور ما قدر لكم { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم }
بالفناء عن النفس وصفاتها حنيفاً طاهراً عن لوث الالتفات إلى ما سواه والله أعلم.