التفاسير

< >
عرض

لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ
١
إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ
٢
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ
٣
ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ
٤
-قريش

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { لإيلاف } بتخفيف الهمزة: يزيد { إلافِهِم } بطرح الياء: يزيد { لألاف } بطرح الياء { إيلافهم } بإثباتها: ابن عامر. الباقون: بإثبات الياء فيهما وحمزة يقف بتليين الهمزة { وإلفهم } بوزن العلم: ابن فليح { الشتاء } ممالة: قتيبة ونصير وهبيرة.
الوقف { قريش } ه لا { والصيف } ه لا لاحتمال تعلق اللام بما قبلها وبما بعدها كما يجيء { البيت } ه لا { من خوف } ه.
التفسير: في هذه اللام ثلاثة أقوال: الأول أنها لا تتعلق بظاهر وإنما هي لام العجب يقولون " لزيد وما صنعنا به " أي أعجبوا له عجب الله تعالى من عظيم حلمه وكرمه بهم فأنهم كل يوم يزدادون جهلاً وإنغماساً في عبادة الأوثان والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم وينظم أسباب معاشهم، وهذا القول اختيار الكسائي والأخفش والفراء. والثاني أنها متعلقة بما بعدها وهو قول الخليل وسيبويه والتقدير: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش أي ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها. وفي الكلام معنى الشرط وفائدة الفاء وتقديم الجار أن نعم الله تعالى لا تحصى فكأنه قيل: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة، والقول الثالث أنها متعلقة بالسورة المتقدمة أي جعلهم كعصف مأكول لأجل إيلاف قريش، وهذا لا ينافي أن يكونوا قد أهلكوا لأجل كفرهم أيضاً. ويجوز أن يكون الإهلاك لأجل الإيلاف فقط ويكون جزاء الكفر مؤخراً إلى يوم القيامة، ويجوز أن تكون هذه اللام لام العاقبة، ويحتمل أن تتعلق اللام بقوله { فعل ربك } كأنَّه قال: كل ما فعلنا بهم من تضليل كيدهم وإرسال الطير عليهم حتى تلاشوا إنما كان لأجل إيلاف قريش. ولا يبعد أن تكون اللام بمعنى " إلى " أي فعلنا كل ما فعلنا مضمومة إلى نعمة أخرى وهي إيلافهم الرحلتين تقول: نعمة إلى نعمة ونعمة لنعمة. قال الفراء: ومما يؤيد هذا القول الثالث ما روي أن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة بلا فصل. وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب من غير فصل بينهما بالبسملة. والمشهور المستفيض هو الفصل بينهما بالبسملة فإن لم تكن اللام متعلقة بما قبلها فلا إشكال، وإن تعلقت بما قبلها من السورة فالوجه فيه أن القرآن كله بمنزلة كلام واحد والفصل بين طائفة وطائفة منه لا يوجب انقطاع إحدى الطائفتين عن الأخرى بالكلية. ثم إن هؤلاء قالوا: لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع، وكان أشرف مكَّة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب، وأن ملوك النواحي كانوا يعظمونهم ويقولون: هؤلاء جيران بيت الله وقطان حرمه فلا يجترىء أحد عليهم، فلو تم لأهل الحبشة ما عزموا عليهم من هدم الكعبة لزال منهم هذا العز فصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون ويغار عليهم ولا يتيسر لهم تجارة ولا ربح، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ورد كيدهم في نحورهم ازداد وقع أهل مكة في القلوب واحترمهم الملوك فضل احترام وازدادت تلك المنافع والمتاجر. قال علماء اللغة: ألفت الشيء وآلفته إلفاً وإيلافاً بمعنى أي لزمته، وعلى هذا يكون قوله { لإيلاف قريش } من إضافة المصدر إلى الفاعل وترك مفعوله الأول. ثم جعل مقيداًً ثانياً في قوله { إيلافهم رحلة } إما لأن المقيد بدل من ذلك المطلق تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً لعظيم المنة فيه، وإما لأن الأول عام في كل مؤانسة وموافقة كانت بينهم فيدخل فيه مقامهم وسفرهم وسائر أحوالهم. ثم خص إيلافهم الرحلة بالذكر كما في قوله
{ جبريل وميكائيل } [البقرة: 98] لأنه قوام معاشهم. وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة. والإلزام ضربان: إلزام بالتكليف والأمر، وإلزام بالمودة والمؤانسة، فإنه إذا أحب المرء شيئاً لزمه لقوة الداعي إليه ومنه { وألزمهم كلمة التقوى } [الفتح: 26] كما أن الالتجاء قد يكون لدفع الضرر كالهرب من السبع، وقد يكون لجلب النفع العظيم كمن وجد كنزاً، ولا مانع من أخذه لا عقلاً ولا شرعاً ولا حساً فإنه يأخذه ألبتة كاللجأ. وقال الفراء وابن الأعرابي: الإيلاف التجهيز والتهيئة والمعنى لتجهيز قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا. وعلى هذا القول يكون المصدر مضافاً إلى الفاعل أيضاً. وقيل: الف كذا فلان لزمه وآلفه غيره إياه فيكون الإيلاف متعدياً إلى اثنين، والإضافة في { إيلافهم } إضافة المصدر إلى المفعول والمعنى إن هذه الألفة إنما حصلت في قريش بتدبير الله ولطفه وذلك بانهزام أصحاب الفيل، واتفقوا على أن قريشاً ولد النضر بن كنانة. عن معاوية أنه سأل ابن عباس بم سميت قريش؟ قال: بدابة البحر تأكل ولا تؤكل تعلو ولا تعلى وهي التي تعبث بالسفن ولا تنطلق إلا بالنار وأنشد:

وقريش هي التي تسكن البحـ ـربها سميت قريش قريشاً

فالتصغير للتعظيم والدابة القرش. وقيل: القرش الكسب لأنهم كانوا أهل كسب وتجارة فسموا بذلك. وقال الليث: كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكناً فسموا قريشاً لأن التقرش التجمع، وتقرش القوم اجتمعوا ولذلك سمي قصي مجمعاً، قال بعضهم:

أبوكم قصي كان يدعي مجمعاً به جمع الله القبائل من فهر

وقيل: القرش التفتيش. قال ابن حلزة:

أيها الشامت المقرش عنا عند عمر ووهل لذاك بقاء

وكانت قريش يتفحصون عن حال الفقراء ويسدّون خلة المحاويج. والرحلة اسم من الارتحال قال أكثر المفسرين: كانت لقريش رحلتان رحلة الشتاء إلى اليمن لأنه أدنى، ورحلة الصيف إلى الشام وكانت معايشهم قد استقرت على ذلك كما قررنا. وقال آخرون: الرحلتان رحلة الناس إلى أهل مكة. أما في رجب فللعمرة، وأما في ذي الحجة فللحج، وكانت إحداهما في الشتاء، والأخرى في الصيف وموسم منافع مكة يكون بهما. فلو كان تم لأصحاب الفيل ما أرادوه لتعطلت هذه المنفعة والتقدير: رحلتي الشتاء والصيف أو رحلة الشتاء ورحلة الصيف فاقتصر لعدم الإلباس. وفي قوله { فليعبدوا } وجهان أحدهما: أن العبادة مأمور بها شكراً لما فعل بأعدائهم ولما حصل لهم من إيلافهم الذي صار سبباً لطعامهم وأمنهم كما مر. وقوله { من جوع } كقولهم " سقاه من العيمة " وهي من التعليلية أي الجوع صار سبباً للإطعام. وقوله { من خوف } هي للتعدية يقال " آمنه الله الخوف ومن الخوف ". الوجه الثاني: أن معناه فليتركوا رحلة الشتاء والصيف وليشتغلوا بعبادة رب هذا البيت فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف. ولعل في تخصيص لفظ الرب إشارة إلى ما قالوه لأبرهة " إن للبيت رباً سيحفظه " ولم يعولوا في ذلك على الأصنام فلزمهم لإقرارهم أن لا يعبدوا سواه كأنه يقول: لما عولتم في الحفظ عليّ فاصرفوا العبادة إليّ، وفي الإطعام وجوه أحدها: ما مر. والثاني: قول مقاتل: شق عليهم الذهاب إلى اليمن والشام في الشتاء والصيف لطلب الرزق فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة أن حملوا الطعام إلى مكة حتى خرجوا إليهم بالإبل والحمر واشتروا طعامهم من جدة على مسيرة ليلتين، وتتابع ذلك فكفاهم الله مؤنة الرحلتين. والثالث: قال الكلبي: معنى الآية أنهم لما كذبوا محمد صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. فاشتد عليهم القحط وأصابهم الجهد فقالوا: يا محمد ادع الله فإنّا مؤمنون فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخصب أهل مكة فذلك قوله { أطعمهم من جوع } ووجه المنة بالإطعام مع أنه ليس من أصول النعم في الظاهر أنه سبب الفراغ للعبادة، وفيه أن البهيمة تطيع من يعلفها ولا يليق بالإنسان أن يكون دون الأنعام، على أنه يندرج في الإطعام النعم السابقة التي لا يحصل الغذاء إلا بعد وجودها كالأفلاك والعناصر وغيرها، والنعم اللاحقة التي لا يتم الانتفاع بالأكل إلا بها من القوى والآلات البدنية والخارجية. وفي قوله { من جوع } إشارة إلى أن فائدة الطعام والغاية منه سد الجوعة لا الإشباع التام. وأما الأمن فهو قصة أصحاب الفيل أو تعرض أهل النواحي لهم وكانوا بعد وقعة أصحاب الفيل يعظمونهم ولا يتعرّضون لهم. وقال الضحاك والربيع: آمنهم من خوف الجذام. وقيل: من أن تكون الخلافة في غيرهم وفيه تكلف. وقيل: أطعمهم من جوع الجهل بطعام الإسلام والوحي وآمنهم من خوف الضلال ببيان الهدى. وقيل: إشارة إلى ما دعا به إبراهيم عليه السلام في قوله { ربّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم } [البقرة: 126] فأجاب الله تعالى بقوله { ومن كفر } [البقرة: 126] والتنكير في { جوع } و { خوف } للتعظيم. وقد روي أنه أصابهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة، وأما الخوف فهو الخوف الشديد الحاصل من أصحاب الفيل. ويحتمل أن يكون المراد التقليل أي أطعمهم من جوع دون جوع ليكون الجوع الثاني والخوف الثاني مذكراً لما كانوا فيه أولاً فيكونوا شاكرين تارة وصابرين أخرى فيستحقوا ثواب الخصلتين.