التفاسير

< >
عرض

قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ
١
ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ
٢
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
٣
وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ
٤
-الاخلاص

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: كانوا أبو عمرو يستحب الوقف على قوله { قل هو الله أحد } وإذا وصل كان له وجهان من القراءة: أحدهما التنوين وكسره، والثاني حذف التنوين كقراءة عزير بن الله لاجتماع الساكنين، وكل صواب { وكفؤاً } بالسكون والهمزة: حمزة وخلف وعباس والمفضل وإسماعيل ورويس عن يعقوب. وكان حمزة يقف ساكنة الفاء ملينة الهمزة ويجعلها شبه الواو إتباعاً للمصحف. وقرأ حفص غير الخراز مثقلاً غير مهموز. الباقون: مثقلاً مهموزاً.
الوقوف: { أحد } ه ج لاحتمال أن ما بعدها جملة أخرى أو خبران آخران { الصمد } ه ج لمثل ذلك { ولم يولد } لا { أحد } ه.
التفسير: قد وردت الأخبار الكثيرة بفضل سورة الإخلاص وأنها تعدل ثلث القرآن فاستنبط العلماء لذلك وجهاً مناسباً وهو أن القرآن مع عزارة فوائده اشتمل على ثلاثة معانٍ فقط: معرفة ذات الله تعالى وتقدّس، ومعرفة صفاته وأسمائه، ومعرفة أفعاله وسننه مع عباده. ولما تضمنت سورة الإخلاص أحد هذه الأقسام الثلاثة وهو التقديس، وازنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلث القرآن.
"وعن أنس أن رجلاً كان يقرأ في جميع صلاته قل هو الله أحد فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: يا رسول الله إني أحبها فقال: حبك إياها يدخلك الجنة" . أما سبب نزولها فعن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى هذه السورة. وعن عطاء عن ابن عباس قال: قدم وفد نجران فقالوا: صف لنا ربك أزبرجد أم ياقوت أم ذهب أم فضة. فقال: إن ربي ليس من شيء لأنه خلق الأشياء فنزلت { قل هو الله أحد } فقالوا: هو واحد وأنت واحد فقال { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11] قالوا: زدنا من الصفة. قال { الله الصمد } فقالوا: وما الصمد؟ قال: الذي يصمد الخلق إليه في الحوائج فقالوا: زدنا فقال { لم يَلد } كما ولدت مريم { ولم يولد } كما ولد عيسى { ولم يكن له كفواً أحد } يريد نظيراً من خلقه. ولشرف هذه السورة سميت بأسماء كثيرة أشهرها الإخلاص لأنها تخلص العبد من الشرك أو من النار. وقد يقال لها سورة التفريد أو التجريد أو التوحيد أو النجاة أو الولاية لأن من قرأها صار من أولياء الله أو المعرفة لما روى جابر أن رجلاً صلى فقرأ السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عبد عرف ربه. أو الجمال لقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله جميل يحب الجمال" ومن كمالات الجميل كونه عديم النظير. أو الأساس لقوله صلى الله عليه وسلم " "أسست السموات السبع والأرضون اسبع على { قل هو الله أحد }" " وهذا قول معقول لأن القول بالتثليث يوجب خراب السموات والأرض كما قال { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّا أن ادعو للرحمن ولداً } [مريم: 90] فوجب أن يكون التوحيد سبباً لعمارة العالم. وقد تسمى سورة النسبة لما مر أنها نزلت عند قول المشركين " انسب لنا ربك " فكأنه قيل: نسبه الله هذا. والمانعة لرواية ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه حين عرج به: أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز العرش، وهي المانعة تمنع فتان القبر ونفحات النيران، والمحضرة لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت، والمنفرة أي للشيطان، والراءة أي من الشرك، وسورة النور لقوله صلى الله عليه وسلم " إن لكل شيء نوراً ونور القرآن قل هو الله أحد" قلت: وذلك لأن الله تعالى نور الله نور السموات والأرض، وكما أن نور الإنسان في أصغر أعضائه وهو الحدقة كذلك نور القرآن في أقصر السور سوى " الكوثر ". ثم إن العلماء أجمعوا على أن الوحدانية مما يمكن معرفتها بطريق السمع والعقل جميعاً وليست كمعرفة ذات الصانع حيث لا يمكن معرفته إلا بطريق العقل فقال أهل العرفان في بيانه: إن العقل يريد عالماً كاملاً أميناً تودع عنده الحسنات، والشهوة تريد غنياً تطلب منه المستلذات بل العقل كالإنسان الذي له همة عليه لا تنقاد إلا لمولاه، والهوى كالمنتجع الذي يطلب غنياً يتكدى منه بل العقل يطلب معرفة المولى ليشكر له على النعم السابقة، والهوى يطلبها ليستفيد منه النعم اللاحقة. فلما عرفاه كما أرادا تعلقاً بذيل عنايته فقال العقل: لا أشكر أحداً سواك. وقالت الشهوة: لا أسأل أحداً إلا إياك. فجاءت الشبهة وقالت: يا عقل كيف أفردته بالشكر ولعل له مثلاً؟ ويا شهوة كيف اقتصرت عليه ولعل ههنا باباً آخر؟ فبقي العقل متحيزاً وتبغصت عليه راحة المعرفة حين أراد أن يسافر في عالم الاستدلال لتحصيل ربح التوحيد ويغوص في بحر الفكر ليعود بجوهرة النحر، فأدركته عناية المولى فقال: كيف أنغص على عبدي لذة الاشتغال بخدمتي وشكري؟ فبعث إلأيه رسولاً صادقاً وقال: لا تقله من عند نفسك فيوقعك الوهم في الشك ولكن اقبله من الصادق الأمين { قل هو الله أحد } والضمير للشأن أي الشأن والحديث الله أحد. هذا قول جمهور النجاة وقريب منه قول الزجاج: إن المراد هذا الذي سألتم عنه الله أحد. وقيل: هو كناية عن الله فيكون كقولك " زيد أخوك قائم " قال الأزهري: لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى لا يقال: رجل أحد ولا درهم أحد. وقال غيره: الفرق بين الواحد والأحد من ثلاثة أوجه أحدها: أن الواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه. وثانيها أنك إذا قلت " فلان لا يقاومه واحد " جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان. وثالثها أن الواحد يستعمل في الإثبات كقولك " رأيت رجلاً واحداً " والأحد يستعمل في النفي نحو " ما رأيت أحداً " فيفيد العموم. قلت: ولعلّ وجه تخصيص الله بالأحد هو هذا المعنى وذلك أنه أبسط الأشياء وكأنك قلت: إنه لا جزء له أصلاً بوجه من الوجوه ومن هنا قال بعضهم: إن الأحد يدل على جميع المعاني السلبية ككونه ليس بجوهر ولا عرض ولا متحيز وغير ذلك كما أن اسم الله يدل على مجامع الصفات الإضافية لأن الله اسم للمعبود بالحق واستحقاق العبادة لا يتجه إلا إذا كان مبدأ لجميع ما سواه عالماً قادراً إلى غير ذلك. وأما لفظة { هو } فإنها تدل على نفس الذات فتبين أن قوله { قل هو الله أحد } يدل على الذات والصفات جميعاً.
وههنا لطيفة وهي أن قوله { هو } إشارة إلى مرتبة السابقين الذين لا يرون معه شيئاً آخر فيكفي الكناية بالنسبة إليهم، وأما اسم { الله } فإشارة إلى مرتبة أصحاب اليمين وهم الذين عرفوه بالبرهان مستدلين على الوجوب بالإمكان فهم ينظرون إلى الحق وإلى الخلق جميعاً فيحتاجون في التمييز إلى اسمه العلم. وأما " الأحد " فرمز إلى أدون المراتب الإنسانية وهم أصحاب الشمال الذي يثبتون مع الله إلهاً آخر فوجب التنبيه على إبطال معتقدهم بأن الله أحد لا شريك له أو لا جزء بوجه من الوجوه، وبعبارة أخرى هو للأخص والله للخواص وأحد للعموم. وأما " الصمد " فقيل: إنّه فعل بمعنى " مفعول " من صمده إذا قصده أي هو السيد المقصود إليه في الحوائج كما مرّ في الحديث الوارد في سبب النزول. وقيل: هو الذي لا جوف له ومنه قولهم لسداد القارورة " صماد " وشيء مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة. قال ابن قتيبة: يجوز على هذا التفسير أن تكون الدال بدل التاء في " مصمت ". وقال بعض المتأخرين من أهل اللغة: الصمد هو الأملس من الحجر لا يقبل الغبار ولا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء. ولا يخفى أن هذين المعنيين من صفات الأجسام حقيقة إلا أن مقدّمة الآية وهي { الله أحد } تمنع من حملهما على حقيقتهما لأن كل جسم مركب فوجب الحمل على المجاز وهو أنه لوجوب ذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وسائر صفاته، ومن هنا اختلفت عبارات المفسرين فعن بعضهم: الصمد هو العالم بجميع المعلومات لأن كونه مبدأ مرجوعاً إليه في قضاء الحاجات لا يتم إلا بذلك. وعن ابن مسعود والضحاك: هو السيد الذي انتهى سودده. وقال الأصم: هو الخلق للأشياء لأن السيد الحقيقي هو هو. وقال السدي: هو المقصود في الرغائب المستغاث عند المصائب. وقال الحسن بن الفضل: هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقال قتادة: لا يأكل ولا يشرب وهو يطعم ولا يطعم. وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه يغلب ولا يغلب. وسائر عباراتهم كلها متقاربة تدور حول ما ذكرنا.
سؤال: لما جاء الخبر ههنا معرفاً وفي قوله { الله أحد } منكراً؟ الجواب لأنه كان معلوماً عندهم أنه غني على الإطلاق ومرجوع إليه في الحوائج
{ { فإذا مس الإنسان ضرُّ دعا ربه } [الزمر: 8] أما التوحيد فلم يكن ثابتاً في أوهامهم بل ركز في أوهام العامة أن كل موجود فإنه محسوس وكل محسوس فهو منقسم فلا جرم جاء لفظ { أحد } منكراً ولفظ { الصمد } معرفاً.
آخر: لم مكرر ثانياً اسم الله ولم يقتصر على ضميره؟ الجواب لما قيل:

هو المسك ما كررته يتضوّع

ولأنه قد سبق ضمير الشأن ولأنه يلزم الاشتراك، ولما مر أن الإشارة بلفظة " هو " مرتبة الصديقين والخطاب بقوله { الله الصمد } لعموم الخلائق والسابقون منهم قليل فاعتبار الأغلب أولى.
آخر: كون الشخص مولوداً أقدم من كونه والداً فلم قدم قوله { لم يلد } على قوله { ولم يولد } أجيب بأن النزاع إنما وقع في كونه والداً حين قالت النصارى المسيح ابن الله، واليهود عزير ابن الله، ومشركو العرب الملائكة بنات الله، بل المتفلسفة الذين قالوا إنه يتولد عن واجب الوجود عقل، وعن العقل الأول عقل آخر ونفس إلى آخر العقول العشرة والنفوس وهو العقل الفعال المدبر بزعمهم لما دون فلك القمر، فكان نفي كونه والداً أهم. ثم أشار إلى طريق الاستدلال بقوله { ولم يولد } كأنه قال: الدليل على امتناع الوالد اتفاقنا على أنه ما كان ولداً لغيره. وأنا أقول: كون الشخص مولوداً اعتبار لمعلوليته، وكونه والداً اعتبار لعليته، ولا ريب أن اعتبار العلية مقدم على اعتبار المعلولية كما أن العلة بالذات متقدمة على المعلول، فالسؤال مدفوع. قالوا: وإنما اقتصر على لفظ الماضي لأن النزاع كان واقعاً في المسيح وعزير ونحوهما فوقع قوله { لم يلد } جواباً عما ادعوه عليه. وأما قوله { ولم يولد } فلم يكن مفتقراً إلى هذا التوجيه لأن كل موجود إذا لم يكن مولوداً في مبدإ تكوّنه فلن يكون مولوداً بعد ذلك. وأقول: لعل المراد بقوله { لم يلد } نفي أن يكون هو ممن شأنه الولادة وهذا المعنى يشمل كل زمان، وبهذا التفسير لا يصح على العاقر أنه لا يلد ويصح أنه يلد. واعلم أنه سبحانه بين كونه في ذاته وحقيقته منزهاً عن جميع أنحاء التراكيب بقوله { هو الله أحد } ثم بين كونه ممتنع التغير عما هو عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال بقوله { الله الصمد } ثم أراد أن يشير إلى نفي من يماثله وهو إما لا حق وأبطله بقوله { لم يلد } وإما سابق وأحاله بقوله { ولم يولد } وإما مقارن في الوجود وزيفه بقوله { ولم يكن له كفواً أحد } ويجوز أن يكون الأوّلان إشارة إلى نفي من يماثله بطريق التولد أو التوالد، والثالث تعميماً بعد التخصيص. ويحتمل أن يراد بالأخير نفي المصاحبة لأن المصاهرة تستدعي الكفاءة شرعاً وعقلاً فيكون رداً على من حكى الله عنهم في قوله
{ وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } [الصافات: 158] قاله مجاهد.
سؤال: قد نص سيبويه في كتابه على أن الخبر قد يقدم على الاسم في باب " كان " ولكن تعلق الخبر حينئذ لا يتقدم على الخبر كيلا يلزم العدول عن الأصل بمرتبتين فكيف قدم الصرف على الاسم والخبر جميعاً؟ أجاب النحويون عنه بأن هذا الظرف وقع بياناً للمحذوف كأنه قال: ولم يكن أحد فقيل: لمن؟ فأجيب بقوله " له " نظيره قوله
{ وكانوا فيه من الزاهدين } [يوسف: 20] وقوله { فلما بلغ معه السعي } [الصافات: 102].