التفاسير

< >
عرض

الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
١
إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٢
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ
٣
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
٤
قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
٥
وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٦
لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ
٧
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٨
ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ
٩
قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
١٠
قَالُواْ يَٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ
١١
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
١٢
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ
١٣
قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ
١٤
فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٥
وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ
١٦
قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ
١٧
وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ
١٨
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ قَالَ يٰبُشْرَىٰ هَـٰذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
١٩
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ
٢٠
-يوسف

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { يا أبت } بفتح التاء والوقف بالهاء: يزيد وابن عامر. وقرأ ابن كثير ويعقوب بكسر التاء والوقف بالهاء. الباقون بالكسر في الحالين { أحد عشر } بسكون العين: يزيد وابن عباس والخزاز { لي ساجدين } بفتح الياء: الأعشى والبرجمي { يا بني } بفتح الياء أياً كان: حفص والمفضل. الباقون بكسرها { رؤياك } بالإمالة: عليّ غير قتيبة وليث. وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة، وقرأ يزيد وأبو عمر غير شجاع، وورش من طريق الأصبهاني والأعشى وحمزة في الوقف بغير همزة { آية للسائلين } على التوحيد: ابن كثير: الآخرون { آيات } على الجمع. { يخل لكم } بالإدغام: شجاع من طريق أبي غالب وأبو شعيب { غيابات } وما بعده على الجمع: أبو جعفر ونافع. الباقون { غيابة } على التوحيد { لا تأمنا } بغير إشمام ضمة النون: يزيد والحلواني عن قالون. الآخرون بإشمام { الذئب } وما بعده بغير همزة: أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وخلف وعلي وحمزة في الوقف { يرتع ويلعب } بالياء فيهما وبالجزم: عاصم وحمزة وعليّ وخلف. بكسر العين في الأول: أبو جعفر ونافع. بالنون فيهما بالجزم: ابن عامر وأبو عمرو. وبكسر العين: ابن كثير سوى الهاشمي وأبي ربيعة عن قنبل فإنهما { نرتعي } بالكسر مع الياء بعده { نرتع ويلعب } بالجزم فيهما مع النون في الأول والياء في الثاني: يعقوب عن رويس { ليحزنني أن } بفتح الياء أبو جعفر ونافع وابن كثير. وقرأ نافع { ليحزنني أن } بفتح الياء أيضاً ولكن من باب الأفعال { بل سولت } وبابه مدغماً: حمزة وعلي وهشام. { يا بشرى } بالإمالة غير مضافة: حمزة وعليّ وخلف وحماد والخزاز عن هبيرة. { يا بشرى } بغير إمالة وإضافة: عاصم غير حماد والخزاز. الباقون { يا بشراي } بالإضافة إلى ياء المتكلم.
الوقوف: { آلر } قف كوفي { المبين } ه ط كوفي أيضاً وغيرهم لا يقفون عليها لأنهم يجعلون إنا جواب معنى القسم في { آلر } { القرآن } ق والوصل أصح لأن الواو للحال { الغافلين } ه { ساجدين } ه { كيداً } ط { مبين } ه { وإسحق } ط { حكيم } ه { للسائلين } ه { عصبة } ط { مبين } ه ج والعربية توجب الوقف وإن قيل إن الابتداء به لا يحسن { صالحين } ه { فاعلين } ه { لناصحون } ه { لحافظون } ه { غافلون } ه { لخاسرون } ه { في غيابة الجب } ج لاحتمال أن يكون جواب "لما" محذوفاً والواو في { وأوحينا } للاستئناف تقديره فعلوا وأمضوا عليه، وأن تكون الواو مقحمة والجواب { أوحينا } { لا يشعرون } ه { يبكون } ه ط { فأكله الذئب } ج لابتداء النفي مع واو العطف { صادقين } ه { كذب } ط { أمراً } ط { جميل } ط { تصفون } ه { دلوه } ط { غلام } ط { بضاعة } ط { يعملون } ه { معدودة } ج لاحتمال الواو والحال { الزاهدين } ه.
التفسير: قال في الكشاف: { تلك } إشارة إلى { آيات } السورة و{ الكتاب المبين } السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم، أو التي بين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر، أو الواضحة التي لا يشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم، أو قد أبين فيها ما سألت اليهود عنه من قصة يوسف، فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف. أقول: مدار هذه التفاسير على أن أبان لازم ومتعد يقال: أبان الشيء وأبان هو بنفسه { إنا أنزلناه } أي هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف يعني هذه السورة في حال كونه { قرآناً عربياً } والقرآن اسم جنس يقع على كله وعلى بعضه. وقوله: { قرآناً عربياً } يسمى حالاً موطئة لأن المراد وصفه بالعربية. احتج الجبائي بإنزال القرآن وبكونه عربياً وآيات على أن أنه محدث لأن هذه من أوصاف المحدثات. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الألفاظ وإنما النزاع في الكلام النفس ومعنى { لعلكم تعقلون } إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم لأنه بلغتكم. قال الجبائي: فيه دليل على أنه أراد من المكلفين كلهم أن يعقلوا توحيده وأمر دينه. وأجيب بأن الآية لا تدل إلا على أنه أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة، ولا دلالة فيه على أنه أراد من الكل الإيمان العمل الصالح. قال أهل اللغة: القصص اشتقاقه من قص أثره إذا اتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً، ومثله التلاوة لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية، ثم إن كان القصص مصدراً بمعنى الاقتصاص فيكون { أحسن } مثله لإضافته إلى المصدر، ويكون المفعول أي المقصوص محذوفاً وهو الوحي لدلالة { أوحينا } عليه، أو يكون هذا القرآن مفعوله ومفعول { أوحينا } محذوفاً كأنه قيل: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إياه إليك. وعلى هذا فالحسن يرجع إلى المنطق لا إلى القصة. وحسن المنطق كونه على أبدع طريق وأعجب أسلوب لأن هذه الحكاية مقتصة في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ولم يبلغ شيء منه إلى حد الإعجاز، وإن أريد بالقصص المقصوص كما يراد بالنبأ والخبر المنبأ والمخبر، فالحسن يرجع إلى القصة ولا سيما فيما يرجع إلى صلاح حال المكلف في الدارين، ووجه حسنها اشتمالها على الغرائب والعجائب والنكت والعبر وأن الصبر مفتاح الفرج، وأن ما قضى الله كائن لا محالة لا يردّه كيد كائد ولا حسد حاسد. ويروى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا. فأنزل الله عز وجل
{ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } [الزمر: 23] ثم إنهم ملوا فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله { نحن نقص عليك أحسن القصص } كل ذلك يؤمرون بالقرآن { وإن كنت } هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة. والمعنى وإن الشأن كنت أنت من قبل إيحائنا إليك { لمن الغافلين } عن هذ القصة أو عن الدين والشريعة { إذ قال } بدل اشتمال من أحسن القصص لأن الوقت مشتمل على القصص فإذاً قص وقته فقد قص المقصوص أو منصوب بإضمار "اذكر". و{ يوسف } ليس عربياً على الأصح إذ لا سبب فيه بعد التعريف إلا العجمة فهو اسم عبراني، ومن ظن أنه من آسف يؤسف بناء على أنه قرىء بكسر السين وبفتحها فيوجد فيه وزن الفعل أيضاً فقد أخطأ، لأن القراءة المشهورة تأباه ولن يكون الاسم عربياً تارة وأعجمياً أخرى. وهذا الخلاف روي في "يونس" أيضاً. عن النبي صلى الله عليه وسلم "الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم" قال النحويون: التاء في { يا أبت } عوض من ياء الإضافة وهي للتأنيث لأنها قد تقلب هاء في الوقف. ويجوز إلحاق التاء بالمذكر نحو "حمامة" ذكر والكسرة فيه لمناسبة الياء التي هي بدل منها. والفتحة إما فتحة الياء فيمن يفتحها أو الفتحة الباقية بعد حذف الألف من ياء يا أبتا { إني رأيت } هو من الرؤيا التي تختص بالمنام لا من الرؤية التي تشمل اليقظة بدليل قول يعقوب له { ولا تقصص رؤياك } ولأن ذلك لو كان في اليقظة لكانت آية عظيمة ولم تخف على أحد. من قرأ { أحد عشر } بسكون العين فلكراهة توالي المتحركات فيما هو في حكم كلمة، وكذا الى تسعة عشر إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان. قال في الكشاف: روى جابر أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل فأخبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي:إن أخبرتك هل تسلم؟ قال: نعم. قال: جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين. رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له. فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها. وأقول: إن أكثر هذه الأسماء ليست مما اشتهر عند أهل الهيئة، فإن صح الخبر فهي من العلوم التي تفرد بها الأنبياء. وإفراد الشمس والقمر من الكواكب بعد ذكرها دليل على شرفهما كقوله { وملائكته وجبريل وميكائيل } [البقرة: 98] وإنما كرر الفعل لطول الكلام أو على تقدير سؤال كأنه قيل له: كيف رأيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين. والظاهر أن هذه السجدة كانت بمعنى وضع الجبهة إذ لا مانع من حملها على الحقيقة لكنها كانت على وجه التواضع. وإنما أجريت الكواكب مجرى العقلاء في عود الضمير إليها لأن السجود من شأن العقلاء كقوله للأصنام: { وتراهم ينظرون إليك } [الأعراف: 198] وعند الفلاسفة هم أحياء ناطقة فلا حاجة إلى العذر. عبر أبوه رؤياه بأن إخوته سيسجدون له وهم أحد عشر، وكذا أبواه وهما الشمس والقمر. وقيل: هما أبوه وخالته لأن أمه لم تدخل مصر وتوفيت قبل ذلك. وعن وهب أن يوسف رأى - وهو ابن سبع سنين - أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة التي حول القمر وهي الهالة، وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك. ثم رأى - وهو ابن اثنتي عشرة سنة - الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل. وقيل: كان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل ثمانون. قال علماء التعبير: إن الرؤيا الردية يظهر أثرها عن قريب كيلا يبقى المؤمن في الغم والحزن، والرؤيا الجيدة يبطىء أثرها لتكون بهجة المؤمن أدوم. قوله { فيكيدوا } منصوب بإضمار "أن" جواباً للنهي. واللام في { لك } لتأكيد الصلة مثل "نصحتك" و "نصحت لك". وقال في الكشاف: ضمن الكيد معنى الاحتيال ليفيد معى الفعلين فيكون أبلغ في التخويف. وقيل: متعلق بالمصدر الذي بعده. ثم إنه وصل بهذه النصيحة شيئاً من تعبير رؤياه فقال: { وكذلك } أي ومثل اجتبائك لهذه الرؤيا الشريفة { يجتبيك ربك } لأمور عظام. والاجتباء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض جمعته، وخصص الحسن الاجتباء بالنبوة. قال في الكشاف { ويعلمك } كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل: وهو يعلمك ويتم نعمته عليك. أقول: ولعل إدخاله في حكم التشبيه ليس بضائر. وفي { تأويل الأحاديث } وجوه منها: أنه تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم، سمى التعبير تأويلاً لأنه يؤول أمره إلى ما رآه في المنام أو يؤول أمر ما رآه في المنام إلى ذلك. والأحاديث اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة لأنها التي يتحدث بها الناس. ومنها أنه تبيين معاني كتب الله وسنن الأنبياء لأن المفسر والمحدّث يحدّثان عن الله ورسوله فيقولان: قال الله كذا وقال الرسول كذا. ومنها أن الحديث بمعنى الحادث والمراد كيفية الاستدلال بالحادث على القديم سبحانه. وأما إتمام النعمة فيمن فسر الاجتباء بالنبوة فسر الإتمام بالسعادات الدنيوية والأخروية من المال والجاه والعلوم والأخلاق الفاضلة، ومن فسر ذلك بالدرجات العالية فسر هذا بالنبوة لأن التمام المطلق في حق البشر ليس إلا بالنبوة، ولأن إتمام النعمة عليه مشبه بإتمامها على إبراهيم وإسحق، ومن المعلوم أن الامتياز بينهما وبين أقرانهما لم يكن إلا بالنبوة وقد يفسر إتمام النعمة على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار ومن ذبح الولد، وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه، ويكون وجه التشبيه إنجاءه من السجن والمحن كإنجائهما من النار والذبح. والمراد بآل يعقوب نسله قيل: علم يعقوب أن يوسف وإخوته أنبياء استدلالاً بضوء الكواكب. واعترض بما فرط منهم في حق يوسف. وأجيب بأن ذلك قبل النبوة. وقيل: إتمام النعمة وصل نعمة الدنيا بنعم الآخرة وذلك أنه جعلهم ملوكاً وأنبياء و{ إبراهيم وإسحاق } عطف بيان لأبويك لأن أبا الجد في حكم الأب { إن ربك عليم } بمن يستحق الاجتباء { حكيم } لا يضع الشي إلا في موضعه فلا يجعل الرسالة إلا في نفس قدسية وجوهر مشرق. قيل: حكم يعقوب بوقوع هذه الأمور دليل على جزمه بها فكيف خاف بعدها على يوسف حتى قال: { وأخاف أن يأكله الذئب }؟ والجواب لعل جزمه بذلك كان مشروطاً بعدم كيد إخوته، ولعل قوله: { أخاف أن يأكله الذئب } كيلا يتهاونوا في حفظه فإن للوسائط والأسباب مدخلاً عظيماً في وجود الأشياء وحصولها { لقد كان في يوسف وإخوته } أي في قصتهم وحديثهم { آيات للسائلين } لمن سأل عن تلك القصة وعرفها، أو آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بها من غير سماع العلم. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم يجب أن يصبر على بغي قومه إلى أن يظهر أمره كما فعل يوسف. يروى أن أسامي إخوته: يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وربالون ويشجر ودينة - وهؤلاء من ليا بنت خالة يعقوب - ودان ونفتالي وجاد وآشر - وهم من سريتين زلفة وبلهة - فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف. { إذ قالوا } ظرف لكان أو منصوب بإضمار "اذكر" { ليوسف } في لام الابتداء تحقيق لمضمون الجملة. { وأخوه } أي لأبيه وأمه عنوا بنيامين { أحب } إذا كان أفعل التفضيل مستعملاً بمن لم يتصرف فيه { ونحن عصبة } الواو للحال والعصبة العشرة فصاعداً لأن الأمور تعصب بكفايتهم أي إنه يفضلهما في المحبة علينا وهما ابنان صغيران. لا كفاية فيهما ولا منفعة ونحن جماعة نكفي مهماته ونقوم بمصالحه { إن إبانا لفي ضلال مبين } أرادوا ضلالاً خاصاً وهو البعد عن طريق الصلاح وحسن المعاشرة مع الأولاد، ولم يعلموا أن المحبة أمر يتعلق بالقلب وليس لله فيه تكليف، ولعل يعقوب تفرس في يوسف ما أوجب اختصاصه بمزيد البر. ومن جملة أقوالهم أنهم قالوا لما تشاوروا في أمره { اقتلوا يوسف } قيل: الآمر بالقتل شمعون أو دان ورضي به الباقون فجعلوا جميعاً آمرين. والظاهر أنه قال بعضه بذلك بدليل أنه لم يقع القتل ولقولهم { أو اطرحوه } فكان بعضهم أشار إلى القتل وبعضهم إلى الطرح ومهما صدر أمر من بعض القوم صح إسناده إليه كقوله { وإذ قتلتم نفسا } [البقرة: 72] وانتصب { أرضاً } على الظرف كالظروف المبهمة أي أرضاً مجهولة بعيدة عن العمارة { يخل لكم وجه أبيكم } تخلص محبته لكم سليمة عن التنازل فيها وكان ذرك الوجه تصويراً لإقباله عليهم بالكلية، ويجوز أن يراد بالوجه ذاته أو المراد يفرغ لكم من الشغل بيوسف { وتكونوا } مجزوم لأنه معطوف على جواب الأمر { من بعده } من بعد قتله أو إطراحه أو من بعد يوسف إذا قتل أو غرب { قوماً صالحين } تائبين إلى الله أو إلى أبيه لعذر تمهدونه مما جنيتم عليه، أو المراد صلاح دنياهم وانتظام أمورهم وتفرغهم لمهماتهم بعد يوسف بفراغ البال { قال قائل منهم } هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأياً وأدباً وهو الذي قال: { فلن أبرح الأرض } [يوسف: 80] { لا تقتلوا يوسف } لأن القتل عظيم ولا سيما قتل الأخ وخاصة إذا كان القاتل والمقتول من أولاد الأنبياء { وألقوه في غيابت الجب } سمى البئر جباً لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها شيء سوى القطع للأرض، والغيابة غور البئر وما غاب منها عن عين الناظر وأظلم من أسفلها. ومن قرأ على الجمع فلأن للجب أقطاراً ونواحي { يلتقطه بعض السيارة } أي الرفقة السائرة قال ابن عباس: أي المارة، والالتقاط تناول الشيء من الطريق ونحوه يستعمل في الإنسان وغيره ومنه اللقيط للمنبوذ { إن كنتم فاعلين } إن لم يكن من فعل هذا الأمر بد فهذا هو الرأي. ثم إن يعقوب كان خائفاً على يوسف من كيدهم وكان يظهر أمارات ذلك على صحائف أعماله وأقواله فلذلك قالوا: { ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } ما وجد منا في بابه سوى النصح والإشفاق على الإطلاق { أرسله معنا غداً يرتع ويلعب } من قرأ بالجزم فمن الرتعة كالأمنة وهي الخصب والسعة، ومن قرأ بالكسر فعلى حذف الياء من يرتعي مستعاراً من ارتعاء الإبل والماشية. واللعب ترك ما ينفع إلى ما لا ينفع. فمن قرأ بالياء فلا إشكال لأن الصبي لا تكليف عليه، ومن قرأ بالنون قال كان لعبهم الاستباق والانتضال بدليل قوله { إنا ذهبنا نستبق } سمي لعباً لأنه في صورته، أو اللعب قد يطلق على استعمال المباحات لأجل انشراح الصدر قال صلى الله عليه وسلم لجابر: " فهلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك." { قال إني ليحزنني } لام الابتداء للتأكيد أو لتخصيص المضارع بالحال { وأخاف أن يأكله الذئب } أصله الهمز ولهذا قال بعضهم: إنه مشتق من تذأبت الريح إذا أتت من كل جهة. قيل: كان أرضهم مذأبة فلذلك قال: { أخاف }. وقيل: رأى في النوم أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره فلقنهم العذر كما جاء في أمثالهم البلاء موكل بالمنطق. قوله: { إنا إذاً } جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط، حلفوا له أن كان ما خافه وحالهم أنهم رجال كفاة وحماة فهم إذ ذاك خاسرون عاجزون أو مستحقون للدعاء عليهم بالخسار، أو المراد إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها. كان يعقوب قد اعتذر إليهم بأمرين: أحدهما أن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، والثاني خوفه عليه من الذئب فلم يجيبوا عن الأول لأنه هو الذي كان يغيظهم فلم يعبئوا بذلك الكلام فخصوا الجواب بالثاني، وههنا إضمار والتقدير فأذن لهم وأرسله معهم { فلما ذهبوا به وأجمعوا } عزموا على { أن يجعلوه في غيابت الجب } قيل: هو بئر ببيت المقدس. وقيل: بأرض الأردن. وقيل: بين مصر ومدين: وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوبٍ. ثم إن كان جواب "لما" محذوفاً ففي الآية إضمار آخر كما تقدم في الوقوف. قال السدي: إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء. فقال يهوذا أما أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه، فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخواه بالدم ويحتالوا به على أبيهم. فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا له: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً حتى ينقذوك ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال: يا شاهداً غير غائب، ويا قريباً غير بعيد، ويا غالباً غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً. وحكي أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فجاء جبرائيل فأخرجه وألبسه إياه { وأوحينا إليه } في صغر السن كما أوحي إلى يحيى وعيسى. وقيل: كان إذ ذاك بالغاً وعن الحسن كان له سبع عشر سنة { لتنبئنهم } لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك { وهم لا يشعرون } أنك يوسف لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامهم ولطول العهد المنسي المغير للهئيات والأشكال.. يروى أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم ويقال له يوسف وكان يدنيه دونكم وإنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس. ويجوز أن يراد وهم لا يشعرون أنا آنسناه بالوحي وأزلنا الوحشة عن قلبه فتتعلق الجملة بقوله { وأوحينا } روي أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال له الشعبي: يا أبا أمية أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة وما ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية. عن مقاتل: إنما جاءوا عشاء لئلا تظهر أمارة الخجل والكذب على وجوههم. ولما سمع صوتهم يعقوب فزع وقال: ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا لا. قال: فما لكم وأين يوسف { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق } أي نتسابق في العدو أو في الرمي وقيل ننتضل { وما أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق لشدة محبتك ليوسف، وفيه دليل لمن يزعم أن الإيمان هو التصديق { ولو كنا صادقين } ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا { وجاؤوا على قميصه } نصب على الظرف أي فوق قميصه لا على الحال المتقدمة لأن حال المجرور لا تتقدم عليه { بدم كذب } ذي كذب أو دم هو الكذب بعينة مبالغة. يروى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، ويروى أن يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص. وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. وقيل: كان في قميص يوسف ثلاث آيات آية ليعقوب على كذبهم، وآية حين ألقاه البشير على وجهه فارتد بصيراً، وآية على براءة يوسف حين قدّ من دبر. ولما تبين يعقوب بالآيات المذكورة أو بالوحي أنهم كاذبون قال على سبيل الإضراب. { بل سوّلت } قال ابن عباس بل زينت { لكم أنفسهم أمراً } في شأنه وهو تفعيل من السول الأمنية. قال الأزهري: وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة. وقال في الكشاف: سوّلت سهلت من السول بفتحتين وهو الاسترخاء والتنكير دليل التعظيم { فصبر جميل } لا بد من تقدير مبتدأ أو خبر أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أمثل. وفي الحديث أنه الذي لا شكوى فيه أي إلى الخلق لقوله: { { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله } [يوسف: 86] وقيل: أي لا أعايشكم على كآبة الوجه بل أكون لكم كما كنت. يحكى أنه سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب خطيئة فاغفرها لي. ثم بين أن الصبر على ما وصفوه من هلاك يوسف لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى فقال: { والله المستعان على ما تصفون } فالقرينتان كقوله: { { إياك نعبد وإياك نستعين } { الفاتحة: 5] ويعلم من الآية أن الصبر إن كان لأجل الرضا بقضاء الله تعالى أو لاستغراقه في شهود نور الحق بحيث يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء فذلك صبر جميل وإلا فلا. واعترض بأن هذا الصبر كان فيه إعانة الظالمين وإهمال لتخليص المظلوم من المحن والشدائد والترقية فكيف جاز صبر يعقوب حتى لم يبالغ في التفتيش والتنقير، ولو بالغ لظهر عليه الأمر لشهرته وعظم قدره؟ وأجيب بأن الله سبحانه لعله منعه عن الطلب تشديداً للمحنة عليه، أو لعله إن بالغ في البحث أقدموا على قتله، أو علم أن الله تعالى يصون يوسف وسيعظم أمره بالآخرة فلم يرد هتك ستر أولاده وإلقاءهم في ألسنة الناس كقول القائل:

فإذا رميت يصيبني سهمي

فكان الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى. ثم شرع في حكاية خلاص يوسف فقال: { وجاءت سيارة } عن ابن عباس: قوم يسيرون من مدين إلى مصر وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب فأخطئوا الطريق فنزلوا قريباً منه، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل: كان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقي فيه يوسف. { فأرسلوا واردهم } رجلاً يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء. ومعنى الوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم { فأدلى دلوه } أرسلها في البئر. قال الواحدي: فإذا نزعها وأخرجها قيل دلا يدلو. { قال يا بشرى } التقدير فظهر يوسف فقال الوارد: يا بشرى كأنه ينادي البشرى ويقول تعالي فهذا أوانك. ومتى قال الوارد هذا الكلام؟ قال جمع من المفسرين: حين رأى يوسف متعلقاً بالحبل. وقال آخرون: لما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به. قال السدي: كان للوارد صاحب يقال له بشرى فنادى يا بشرى كما يقال يا زيد. والأكثرون على أنها بمعنى البشارة. فقال أبو علي: يحتمل أن يكون منادى مضموماً مثل يا رجل وأن يكون منصوباً مثل يا رجلاً كأنه جعل ذلك النداء شائعاً في جنس البشرى. ومن قرأ بالإضافة فنصبه ظاهر. والضمير في { وأسروه } إما عائد إلى الوارد وأصحابه أي أخفوه من الرفقة لئلا يدعوا المشاركة في الالتقاط، أو في الشراء إن قالوا اشتريناه. وطريق الإخفاء أنهم كتموه من الرفقة أو قالوا إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر، وإما عائد الى إخوة يوسف بناء على ما روي عن ابن عباس أنهم قالوا للرفقة: هذا غلام لنا قد آبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه، ولعل الوجه الأول أولى بدليل قوله { بضاعة } وهي نصب على الحال أي أخفوه متاعاً للتجارة. وأصل البضع القطع والبضاعة قطعة من المال للتجارة والله تعالى أعلم. { والله عليم بما يعملون } فيه وعيد إما للوارد وأصحابه حيث استبضعوا ما ليس لهم أو لإخوة يوسف وذلك ظاهر، وفيه أن كيد الأعداء لا يدفع شيئاً مما علم الله من حال المرء. والضمير في قوله: { وشروه } إما أن يعود إلى الوارد وأصحابه أي باعوه { بثمن } قليل لأن الملتقط للشيء متهاون به { وكانوا فيه من الزاهدين } ممن يرغب عما في يده. قال أهل اللغة: زهد فيه معناه رغب عنه وزهد عنه معناه رغب فيه، وإما أن يعود إلى الإخوة والمعنى باعوه، أو إلى الرفقة والمعنى اشتروه، وهكذا الضمير في { وكانوا } إن عاد إلى الإخوة فقلة رغبتهم في يوسف ظاهرة وإلا لم يفعلوا به ما فعلوا، وإن عاد إلى الرفقة فذلك أنهم اعتقدوا أنه أبق فخافوا إعطاء الثمن الكثير. عن ابن عباس أن إخوته عادوا إلى الجب بعد ثلاثة أيام يتعرفون خبره، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا: هذا عبد أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منا فباعوه منهم، ولعلهم عرفوا أنه ولد يعقوب فكرهوا اشتراءه خوفاً من الله ومن ظهور تلك الواقعة إلا إنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة بثمن بخس أي مبخوس ناقص عن القيمة أو ناقص العيار. وقال ابن عباس: البخس هنا الحرام لأن ثمن الحر حرام دراهم لا دنانير معدودة قليلة تعد عدّاً. ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون. عن ابن عباس كانت عشرين درهماً. وعن السدي اثنين وعشرين أخذ كل واحد من الإخوة درهمين إلا يهوذا فإنه لم يأخذ شيئاً. ويروى أن إخوته اتبعوهم يقولون استوثقوا منه لا يأبق. والظاهر أن الضمير في { فيه } عائد إلى يوسف. ويحتمل أن يعود إلى الثمن البخس أي أخذوا في ثمنه ما ليس يرغب فيه. قال النحويون: قوله: { فيه } ليس من متعلقات الزاهدين لأن الألف واللام فيه موصول وزاهدين صلة، وكما لا تتقدم نفس الصلة فكذا ما هو متعلق به فلا يقال مثلاً: وكانوا زيداً من الضاربين فهو بيان كأنه قيل في أي شيء زهدوا؟ فقيل: زهدوا فيه والله تعالى أعلم. التأويل: { تلك آيات الكتاب } دلالات كتاب المحبوب إلى المحب للهداية إلى طريق الوصال ولهذا كانت أحسن القصص لأنها أتم قصص القرآن مناسبة ومشابهة بأحوال الإنسان { إذ قال يوسف } القلب { لأبيه } يعقوب الروح { إني رأيت أحد عشر كوكباً } هن الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة أي المذكرة والحافظة والمتخيلة والمتوهمة والحسن المشترك مع المفكرة، وبكل من هذه إضاءة أي أدراك للمعنى المناسب له وهم إخوة يوسف القلب لأنهم تولدو بازدواج يعقوب الروح وزوج النفس والشمس والقمر الروح والنفس { رأيتهم لي ساجدين } وهذا مقام كمالية الإنسان أن يصير القلب سلطاناً يسجد له الروح والنفس والحواس والقوى { وكذلك يجتبيك ربك } على سائر المخلوقات وهذا كمال حسن يوسف { ويعلمك من تأويل الأحاديث } العلم اللدني المختص بالقلب { ويتم نعمته عليك } بأن يتجلى لك ويستوي لك إذ القلب عرش حقيقي للرب { وعلى آل يعقوب } أي متولدات الروح من القوى والحواس { كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم } السر { وإسحاق } الخفي وبهما يستحق القلب لقبول فيض التجلي، وهناك لله ألطاف خفية لا يتبع الإنسان فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل. { آيات للسائلين } عن طريق الوصول إلى الله { ليوسف } القلب { وأخوه } بنيامين الحس المشترك فإن له اختصاصاً بالقلب { أحب إلى أبينا منا } لأن القلب عرض الروح ومحل استوائه عليه، والحس المشترك بمثابة الكرسي للعرش. { اقتلوا يوسف } القلب بسكين الهوى وبسم الميل إلى الدنيا { أو اطرحوه } في أرض البشرية { يخل لكم وجه أبيكم } يقبل الروح بوجهه إلى الحواس والقوى لتحصيل شهواتها { وتكونوا } بعد موت القلب { قوماً صالحين } للنعم الحيواني والنفساني. { قال قائل منهم } هو يهوذا القوة المفكرة { لا تقتلوا يوسف } القلب { وألقوه في غيابت الجب } القالب وسفل البشرية { يلتقطه بعض } سيارة الجواذب النفسانية. { يرتع } في المراتع البهيمية { ويلعب } في ملاعب الدنيا { وإنا له لحافظون } من فتنة الدنيا وآفاتها { لئن أكله الذئب } الشيطان { إنا إذا لخاسرون } لأن خسران جميع أجزاء الإنسان في هلاك القلب وربحها في سلامة القلب { وهم لا يشعرون } فيه إشارة إلى أن من خصوصية تعلق الروح بالقالب أن يتولد منهما القلب العلوي والنفس السفلية والحواس والقوى فيحصل التجاذب. فإن كانت الغلبة للروح سعد، وإن كانت للنفس شقي { وجاؤوا أباهم عشاء } أي في النصف الآخر من مدّة العمر { نستبق } نتشاغل باللهو في أيام الشباب { وتركنا يوسف } أي قالب مهملاً معطلاً عن الاستكمال { فأكله } ذئب الشيطان. { وجاؤا على قميصه } أي قالب القلب { بدم كذب } هو آثار الملكات الردية، زعموا أنها قد سرت إلى القلب وأزالت نور الإيمان عنه بالكلية. { قال } يعقوب الروح { بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل } على ما قضى الله وقدر { والله المستعان على ما تصفون } من رين القلب وموته { وجاءت سيارة } هي هبوب نفحات ألطاف الحق { فأرسلوا واردهم } وارداً من واردات الحق { فأدلى دلوه } جذبه من جذبات الرحمن { قال يا بشرى } فيه إشارة إلى أن للجذبة بشارة في تعلقها بالقلب كما أن للقلب بشارة في خلاصة من جب الطبيعة كما قال تعالى: { يحبهم ويحبونه } [المائدة: 54] { والله عليم } بحكمة البشارتين و { بما يعملون } من شرائه { بثمن بخس } هو الحظوظ الفانية في أيام معدودة { وكانوا فيه من الزاهدين } لأنهم ما عرفوا قدره وإنما ميلهم إلى استجلاب المنافع الردية العاجلة والله أعلم.