التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ
٧١
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
٧٢
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ
٧٣
فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٧٤
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٧٥
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٧٦
وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٧٧
وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٧٨
أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٧٩
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ
٨٠
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ
٨١
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٨٢
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ
٨٣
-النحل

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { تجحدون } بتاء الخطاب: أبو بكر وحماد. الآخرون على الغيبة. { من بطون إمهاتكم } ونحوها بكسر الهمزة وفتح الميم: عليّ. { إمهاتكم } بكسرهما: حمزة. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم. { ألم تروا } على الخطاب: ابن عامر وحمزة وخلف وسهل ويعقوب { ظعنكم } بسكون العين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر الباقون بفتحها.
الوقوف: { في الرزق } ج لاختلاف الجملتين مع الفاء { سواء } ط { يجحدون } ه { من الطيبات } ط { يكفرون } ه لا للعطف { ولا يستطيعون } ه ج لابتداء النهي مع فاء التعقيب { الأمثال } ط { لا تعلمون } ه { وجهراً } ط { هل يستوون } ط { الحمد لله } ط لأن "بل" للإعراض عن الأول. { لا يعلمون } ه { مولاه } لا لأن الجملة بعده صفة أحدهما { بخير } ط ثم لا وقف إلى مستقيم لاتحاد الكلام { والأرض } ط { أقرب } ط { قدير } ه { شيئاً } لا للعطف { والأفئدة } لا لتعلق { لعلكم تشكرون } ه { السماء } ط للفصل بين الاستخبار والإخبار { إلا الله } ط { يؤمنون } ه { إقامتكم } لا لوقوع { جعل } على { أثاثاً } { إلى حين } ه { باسكم } ط { تسلمون } ه { المبين } ه { الكافرون } ه.
التفسير: لما بين خلق الإنسان وتقلبه في أطوار مراتب العمر أراد أن يذكره طرفاً من سائر أحواله لعله يتذكر فقال: { والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق } ولا ريب أن ذلك أمر مقسوم من قبل القسام وإلا لم يكن الغافل رخي البال والعاقل ردي الحال، وليس هذا التفاوت مختصاً بالمال وإنما هو حاصل في الحسن والقبح والصحة والسقم وغير ذلك، فلرب ملك تقاد الجنائب بين يديه ولا يمكنه ركوب واحدة منها، وربما أحضرت الأطعمة الشهية والفواكه العطرة عنده ولا يقدر على تناول شيء منها، وربما نرى إنساناً كامل القوة صحيح المزاج شديد البطش ولا يجد ملء بطنه طعاماً. وللمفسرين في الآية قولان: أحدهما أن المراد تقرير كون السعادة والنحوسة والغنى والفقر بقسمة الله تعالى، وأنه جعل بعض الناس موالي وبعضهم مماليك وليس المالك رازقاً للعبد وإنما الرازق للعبد والمولى هو الله، فلا تحسبن الموالي المفضلين أنهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق وإنما ذلك رزقي لهم أجريته لهم على أيديهم. وثانيهما أن المراد الرد على من أثبت لله شريكاً كالصنم أو كعيسى، فضرب له مثلاً فقال: أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ولا تردّون رزقكم عليهم حتى تتساووا في المطعم والملبس. فالفاء في قوله: { فهم فيه سواء } للتعليل. ولك أن تقول بمعنى "حتى" أي حتى يكون عبيدهم معهم سواء في الرزق، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟!
"عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في العبيد: إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون" فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت { أفبنعمة الله } وهي أنه جعلهم موالي مفضلين لا عبيداً مفضولين { يجحدون } أو جعل عدم التسوية بينهم وبين عبيدهم من جملة جحود النعمة، أو جعل اعتقاد أهلية العبادة لغير الله كفراً بنعمة الله والجحود في معنى الكفران فلذلك عداه بالباء. قال أبو عبيدة وأبو حاتم. قراءة الغيبة - وهي الكثرى - أولى لقرب المخبر عنه، ولأنه لو كان خطاباً كان ظاهره للمسلمين وإنهم لا يخاطبون بجحد نعمة البتة. الحالة الأخرى من أحوال الإنسان قوله عم طوله: { والله جعل لكم من أنفسكم } أي من جنسكم { أزواجاً } ليكون الأنس به أتم. ولا ريب أن تخليق الذكور والإناث مستند إلى قدرة الله وتكوينه. والطبيعيون قد يذكرون له وجهاً قالوا: إن المني إذا انصب من الخصية اليمنى إلى الذكر ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة بناء على أن الذكر أسخن مراجاً وكذا الجانب الأيمن، وإن انصب من الخصية اليسرى إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد تاماً في الأنوثية، وإذا انصب من اليمنى إلى الأيسر كان ذكراً في طبيعة الإناث، وإن كان بالعكس كان بالعكس. قال الإمام فخر الدين الرازي: هذه العلة ضعيفة فقد رأينا في النساء من كان مزاجه في غاية السخونة وفي الرجال من كان في غاية البرودة. ولقائل أن يقول: الكلام في المزاج الصنفي لا في المزاج الشخصي، وهذا الإمام لم يفرق بينهما فاعترض بأحدهما على الآخر. { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } أصل الحفد الإسراع في الخدمة. والفاعل حافد والجمع حفدة. فقيل: أراد بها في الآية الأختان على البنات. وقيل: أولاد الأولاد. وقيل: أولاد المرأة من الزوج الأوّل وقيل: الخدم والأعوان. وقيل: البنون أنفسهم الجامعون بين الأمرين البنوّة والخدمة. وقيل: الأولى دخول الكل فيه. ثم ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة لأن لذة المنكوح لا تهنأ إلا بعد الفراغ من لذة المطعوم أو بعد الفراغ من تحصيل أسبابها. وأورد "من" التبعيضية لأن لذة كل الطيبات لا تكون إلا في الجنة. ثم ختم الآية بقوله: { أفبالباطل يؤمنون } فقيل: الباطل هو ما اعتقدوه من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها ونعمة الله ما عدده في الآيات السابقة. وقيل: الباطل ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما، ونعمة الله ما أحل لهم. وإنما قال ههنا: { وبنعمة الله هم يكفرون } وفي آخر "العنكبوت" { وبنعمة الله يكفرون } [الآية: 67] لأن تلك الآيات استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب. وأما في الآية فقد سبق مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب.
ولما عدّد بعض الآيات الدالة على الإقرار بالتوحيد أنكر صنيع أهل الشرك عليهم قائلاً { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً } قال جار الله: إن كان بمعنى المصدر نصبت به شيئاً أي لا يملك أن يرزق شيئاً، وإن أردت المرزوق كان شيئاً بدلاً منه بمعنى قليلاً أو يكون تأكيداً للا يملك أي لا يملك شيئاً من الملك. و { من السموات والأرض } صلة للرزق إن كان مصدراً بمعنى لا يرزق من السموات مطراً ولا من الأرض نباتاً وصفة إن كان اسماً لما يرزق. أما الضمير في { ولا يستطيعون } فعائد إلى ما بعد أن قيل لا يملك على اللفظ المفرد وجمع بالواو والنون بناء على زعمهم أن الأصنام آلهة. والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة أن يتملك بطريق من الطرق، فبيّن تعالى أنها لا تملك ولا تستطيع تحصيل الملك. وجوّز في الكشاف أن يكون الضمير للكفار أي لا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد الذي لا حس له؟ { فلا تضربوا لله الأمثال } أي لا تشبهوه بخلقه فإن ضارب المثل مشبه حالاً بحال وقصة بقصة. وقال الزجاج: لا تجعلوا لله مثلاً لأنه واحد لا مثل له. وكانوا يقولون إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن غير الحنيفية والإخلاص. وعلل النهي بقوله: { إن الله يعلم } ما عليكم من العقاب { وأنتم لا تعلمون } ما في عبادتها من العذاب. وفيه أن القياس الذي توهموه ليس بصحيح والنص يجب تقديمه على ذلك. وقيل: إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون. ثم علمهم كيف تضرب فقال: { ضرب الله مثلاً } ثم أبدل من المثل قوله: { عبداً مملوكاً } لا حراً فإن جميع الناس عبيد لله فلا يلزم من كونه عبداً كونه مملوكاً. وقوله: { لا يقدر على شيء } ليخرج العبد المأذون والمكاتب فإنهما يقدران على التصرف. احتج الفقهاء بالآية على أن العبد لا يملك شيئاً وإن ملكه السيد لأن قوله: { لا يقدر } حكم مذكور عقيب الوصف المناسب، فدل على أن العبدية أينما وجدت فهي علة للذل والمقهورية وعدم القدرة، فثبت العموم وهو أن كل عبد فهو لا يقدر على التصرف. وأيضاً قوله: { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } يقتضي أن لا يحصل للقسم الأوّل هذا الوصف. فلو ملك العبد شيئاً ما صدق عليه أن الله قد آتاه الرزق الحسن فلم يثبت الامتياز، والأكثرون على أن عدم اقتدار العبد مخصوص بماله تعلق بالمال. وعن ابن عباس أنه لا يملك الطلاق أيضاً. قال جار الله: الظاهر أن "من" في قوله: { ومن رزقناه } موصوفة كأنه قيل: وحراً رزقناه ليطابق عبداً. ولا يمتنع أن تكون موصولة. وجمع قوله: { هل يستوون } لأنه أراد الأحرار والعبيد. وللمفسرين في مضرب المثل أقوال: فالأكثرون على أنه أراد أنا لو فرضنا عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء، وفرضنا حراً كريماً غنياً كثير الإنفاق سراً وجهراً، فصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة، فكيف يجوز للعاقل أن يسوّى بين الله القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر ألبتة؟! وقيل: العبد المملوك هو الكافر المحروم عن طاعة الله وعبوديته، والآخر هو المؤمن المشتغل بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله. والغرض أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف والقرب من رضوان الله. وقيل: العبد هو الصنم لقوله:
{ إن كل من في السموات والأرض إلا آتِى الرحمن عبداً } [مريم: 93]. والثاني عابد الصنم. والمراد أنهما لا يستويان في القدرة والتصرف. لأن الأوّل جماد وهذا إنسان فكيف يجوز الحكم بأن الأول مساوٍ لرب العالمين؟!.
{ الحمد لله } قال ابن عباس: أراد الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد. وقيل: معناه كل الحمد لله وليس شيء من الحمد للأصنام لأنه لا نعمة لها على أحد { بل أكثرهم لايعلمون } أن كل الحمد لي. وقيل: أراد قل الحمد لله. والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم وإما لمن رزقه الله رزقاً حسناً وميزه بالقدرة والاختيار والتصرف من العبد الذليل الضعيف. وقيل: لما ذكر مثلاً مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود قال: { الحمد لله } أي على قوة هذه الحجة وظهور هذه البينة { بل أكثرهم لا يعلمون } قوّتها وظهورها. ثم ضرب مثلاً ثانياً لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع بل يصل منها إلى من يعبدها أعظم المضار. أما تفسير الألفاظ فالأبكم العي المفحم وقد بكم بكماً وبكامة. وقيل: هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر. وقوله: { وهو كلٌّ على مولاه } أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة. يقال: كَلَّ السكين إذا غلظت شفرته، وكَلَّ اللسان إذا غلظ فلم يقدر على الكلام، وكَلَّ فلان عن الكلام إذا ثقل عليه ولم ينبعث فيه، وفلان كَلٌّ على مولاه أي ثقيل وعيال على من يلي أمره. وقوله: { أينما يوجهه } حيثما يرسله { لا يأت بخير } لم ينجح في مطلبه. والتوجيه أن ترسل صاحبك في وجه معين من الطريق { هل يستوي هو } أي الموصوف بهذه الصفات المذكورة. { ومن يأمر } الناس { بالعدل وهو } في نفسه { على صراط مستقيم } على سيرة صالحة ودين قويم غير منحرف إلى طرفي الإفراط والتفريط. ولا شك أن الآمر بالعدل يجب أن يكون عالماً حتى يمكنه التمييز بين العدل والجور. قادراً حتى يتأتى منه الإتيان بالخير والأمر به، وكلا الوصفين يناقض كونه أبكم لا يقدر. قال مجاهد: هذا مثل لإله الخلق وما يدعى من دونه. أما الأبكم فمثل الصنم لأنه لا ينطق ألبتة ولا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على عابديه لأنه لا ينفق عليهم وهم ينفقون عليه وإلى أيّ مهم يوجه الصنم لا يأتي بخير، وأما الذي يأمر بالعدل فهو الله سبحانه. وروى الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت الآية المتقدمة في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سراً وجهراً، ومولاه أبو الحوار الذي كان ينهاه عنه. وهذه الآية نزلت في سعيد بن أبي العيص وفي عثمان بن عفان مولاه. والأصح أن المقصود من الآية الأولى كل عبد موصوف بالصفات الذميمة وكل حر موصوف بالخصال الحميدة. ومن الآية الثانية كل رجل جاهل عاجز وكل من هو بضد ذلك من كونه شامل العلم كامل القدرة وليس إلا الله سبحانه فلذلك مدح نفسه بقوله: { ولله غيب السموات والأرض } أي يختص به علم ما غاب عنه العباد فيهما، أو أراد بغيبهما يوم القيامة لأن علمه غائب عن غير الله ويؤيد هذا التفسير قوله: { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر } اللمح النظر بسرعة ولا بد فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة فلذلك قال: { أو هو أقرب } وليس هذا من قبيل المبالغة وإنما هو كلام في غاية الصدق لأن مدّة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية، ومنها إلى الأبد غير متناه ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. وقيل: معنى أمر الساعة أن إماتة الأحياء وإحياء الأموات كلهم يكون في أقرب وقت وأقله. ثم أكده بقوله: { إن الله على كل شيء قدير }.
ثم زاد في التأكيد بذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } قال جار الله: هو في موضع الحال أي غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون وسوّاكم وصوّركم ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة. وقوله: { وجعل لكم } معناه وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم. { والأفئدة } في فؤاد كالأغربة في غراب، وهو من جموع القلة التي تستعمل في مقام الكثرة أيضاً لعدم ورود غيرها. واعلم أن جمهور الحكماء زعموا أن الإنسان في مبدأ فطرته خال عن المعارف والعلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر والفؤاد وسائر القوى المدركة حتى ارتسم في خياله بسبب كثرة ورود المحسوسات عليه حقائق تلك الماهيات وحضرت صورها في ذهنه، ثم إن مجرد حضور تلك الحقائق إن كان كافياً في جزم الذهب بثبوت بعضها لبعض أو انتفاء بعضها عن بعض فتلك الأحكام علوم بديهية، وإن لم تكن كذلك بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها ولا محالة تنتهي إلى البديهيات قطعاً للدور أو التسلسل فهي علوم كسبية. وظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس الإنسانية هو أن الله تعالى أعطى الحواس والقوى الدرّاكة للصور الجزئية. وعندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم جمة وهي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات، وإنما لا يظهر آثارهاعليها عند انفصال الجنين من الأم لضعف البدن واشتغالها بتدبيره، حتى إذا قوي وترقى ظهرت آثارها شيئاً فشيئاً وقد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية. فالمراد بقوله: { لا تعلمون شيئاً } أنه لا يظهر أثر العلم عليكم. ثم إنه بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة يكتسب العلوم المتوقفة على التعلق. ومعنى { لعلكم تشكرون } إرادة أن تصرفوا كل آلة فيما خلقت لأجله. وليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف { جعل } على { أخرج } أن يكون جعل السمع والبصر متأخراً عن الإخراج من البطن، وقد مر في أول البقرة في تفسيره قوله:
{ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } [البقرة: 7] أنه لم وحد السمع وجمع غيره؟ ثم ذكر دليلاً آخر على كمال قدرته فقال: { ألم يروا إلى الطير مسخرات } مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة وسائر الأسباب المواتية لذلك كرقة قوام الهواء وإلهامهن بسط الجناح وقبضه فيه عمل السابح في الماء. وفي { جوّ السماء } أي في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو وهو مضاعف عينه ولامه واو { ما يمسكهن إلا الله } بقدرته أو بإعطاء الآلات التي لأجلها يتسهل عليها الطيران. ومن جملة أحوال الإنسان قوله: { والله جعل لكم من بيوتكم سكناً } هو ما يسكن إليه من بيت أو إلف { جعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع { تستخفونها } أي تعدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل { يوم ظعنكم } أي في وقت ارتحالكم. والظعن بفتح العين وسكونها سير أهل البادية لنجعة، ثم استعمل في كل شخوص لسفر. { ويوم إقامتكم } لا يثقل عليكم حفظها ونقلها من مكان إلى مكان، ويمكن أن يكون اليوم على حقيقته أي يوم ترجعون خف عليكم حملها ونقلها ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها { ومن أصوافها } وهي للضأن { وأوبارها } وهي للإبل { وأشعارها } وهي للمعز { أثاثاً } وهو متاع البيت. قال الفراء لا واحد له. وقال أبو زيد: الأثاث المال أجمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع الواحدة أثاثة. قال ابن عباس: أراد طنافس وبسطاً وثياباً وكسوة. وقال الخليل: أصله من أن النبات والشعر يئث إذا كثر. قيل: إنه تعالى عطف قوله: { ومتاعاً } على { أثاثاً } فوجب أن يتغايرا فما الفرق؟ وأجيب بأن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله من الغطاء والوطاء. والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به. قلت: لا يبعد أن يراد بالأثاث والمتاع ما هو الجامع بين الوصفين كونه أثاثاً وكونه مما يتمتع به { إلى حين } أي إلى أن تقضوا أوطاركم منه أو إلى أن تبلى وتفنى أو إلى الموت أو إلى القيامة.
ثم إن المسافر قد لا يكون له خيام وأبنية يستظل بها لفقر أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام ونحوها فذلك قال: { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً } وقد يحتاج المسافر إلى حصن يأوي إليه في نزوله وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد وسائر المكاره وكذا المقيم فلذلك منّ بقوله: { وجعل لكم من الجبال أكناناً } هي جمع "كن" وهو ما يستكن به ويتوقى بسببه الأمطار كالبيوت المنحوته في الجبال وكالغيران والكهوف { وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر } وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها. وإنما لم يذكر البرد لأن الوقاية من الحر أهم عندهم لغلبة الحرارة في بلادهم على أن ذكر أحد الضدين يغني في الأغلب عن ذكر الآخرة لتلازمهما في الخطور بالبال غالباً بشهادة الوجدان. قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال فعلى هذا يشمل الرقيق والكثيف والساذج والمحشوّ من الثياب { وسرابيل تقيكم بأسكم } كالدروع والجواشن { كذلك يتم نعمته } أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعم الدين والدنيا { لعلكم تسلمون } قال ابن عباس: لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات سواه. وعنه أنه قرأ بفتح التاء واللام من السلامة أي تسلم قلوبكم من الشرك، أو تشكرون فتسلمون من العذاب. وقيل: تسلمون من الجرح بلبس الدروع { فان تولوا } فقد تمهد عذرك { فإنما عليك البلاغ المبين } وليس إليك الهداية. ثم ذمهم بأنهم { يعرفون نعمة الله } التي عددناها حيث يعترفون بها وبأنها من عند الله { ثم ينكرونها } بعبادة غير من أنعم بها وبقولهم هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا. ومعنى "ثم" تبعيد رتبة الإنكار عن العرفان: وقيل: إنكارها قولهم ورثناها من آبائنا أو وصل إلينا بتربية فلان، أو أنهم لا يستعملونها في طلب رضوان الله. وقيل: نعمة الله نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه ثم ينكرون نبوّته عناداً. وإنما قال: { وأكثرهم الكافرون } لأنه استعمل الأكثر مقام الكل أو أراد البالغين العقلاء منهم دون الأطفال والمجانين، أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك بل كان فيهم من كفر للجهل بصدق الرسول، أو لأنه لم تقم الحجة عليه بعد هذا ما قاله المفسرون. قلت: ويحتمل أن يراد بالكافرين المصرين الثابتين على كفرهم وقد علم الله أن في مطلق الكفرة من يؤمن فلهذا استثناهم والله تعالى أعلم.
التأويل: فضل الأرواح على القلوب في رزق المكاشفات والمشاهدات بعد الفناء والرد إلى البقاء، وفضل القلوب على النفوس في رزق الزهد والورع والتقوى والصدق واليقين والإيمان والتوكل والتسليم والرضا، وفضل النفوس على الأبدان في رزق التزكية والتخلية والتحلية، وفضل أبدان المؤمنين على أبدان الكافرين بحمل أعباء الشريعة. فما الأرواح برادّي رزقهم على القلوب، ولا القلوب على النفوس، ولا النفوس على الأبدان. أفبنعمة الله التي أنعم بها على أوليائه تجحدون يا منكري هذا الحديث { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } يعني ازدواج الأرواح والأشباح { وجعل لكم من أزواجكم بنين } وهم القلوب { وحفدة } وهن النفوس { أفبالباطل } وهو الزخارف والوساوس { يؤمنون وبنعمة الله } التي أنعم بها على أرباب القلوب { يكفرون } ويعبدون من دون الله كالدنيا والهوى { ما لا يملك لهم زرقاً } من سموات القلوب وأرض النفوس شيئاً من الكمالات التي أودع الله فيهن، ولا يستخرج منها إلا بعبادة الله ولا يستطعيون استخراجها بعبادة غير الله { فلا تضربوا لله الأمثال } بأن تريدوا أن تصلوا إلى المقاصد بغير طريق الله { ضرب الله مثلاً عبداً ممولكاً } للهوى وللدنيا { ومن رزقناه } ولاية كاملة يتصرف بها في بواطن المستعدين وظواهرهم. { بل أكثرهم لا يعلمون } أولياء الله لأنهم تحت قباب الله لا يعرفهم غيره. { أحدهما أبكم } هو النفس الحيوانية التي لا تقدر على شيء من العلم والعقل والإيمان وهو ثقل على مولى الروح المسمى بالنفس الناطقة. { لا يأت بخير } لأنها أمارة بالسوء { ولله غيب } سموات الأرواح النفوس لا يقف على خاصيتهما غيره، ولو وكل كلاً منهما إلى طبعها لم ترجع إلى ربها، ورجوعها يكون بالإماتة والإحياء ويميتها عن أوصافها ويحييها بصفاته وهو المراد بأمر الساعة لأن الإماتة بتجلي صفات الجلال والإحياء بتجلي صفات الجمال، وإذا تجلى الله لعبد لم يبق له زمان ولا مكان فلذلك قال: { أو هو أقرب } وحنيئذ يكون فانياً عن وجوده باقياً ببقائه { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } من أمور الدنيا والآخرة ولا مما كانت أرواحكم تعلم في عالم الأرواح ولا مما كانت تعلم ذراتكم من فهم خطاب
{ ألست بربكم } [الأعراف: 172] وجواب { { بلى } } [الأعراف: 172] وجعل لأجسادكم السمع والأبصار والأفئدة كما للحيوانات ولأرواحكم كما للملائكة. ولأسراركم سمعاً يسمع به من الله وبصراً يبصر به الله وفؤاداً يعرف به الله. وبوجه آخر: { والله أخرجكم من العدم وهو الأم الحقيقي، لا تعلمون شيئاً قبل أن يعلمكم الله سبحانه أسماء كل شيء، فتجلى لكم بربوبيته فبنور سمعه أعطاكم سمعاً تسمعون به خطاب ألست بربكم، وبنور بصره أعطاكم بصراً تبصرون به جماله، وبنور علمه أعطاكم فؤاداً تعرفون به كماله، وبنور كلامه أعطاكم لساناً. تجيبونه بقولكم "بلى" { لعلكم تشكرون } فلا تسمعون بهذا السمع إلا كلامه، ولا تبصرون بهذا البصر إلا جماله، ولا تحبون بهذا الفؤاد إلا ذاته، ولا تكلمون بهذا الكلام إلى معه { ألم يروا إلى } طير الأرواح { مسخرات في جوّ } سماء القلوب { ما يمسكهن } في سفل الأجساد { إلا الله } بحكمته فلذلك قال: { والله جعل لكم } أيها الأرواح { من بيوتكم } وهي الأجساد { سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام } التي هي أجساد اشتركت فيها سائر الحيوانات { بيوتاً } تستخف أرواحكم إياها وهي النفوس الحيوانية، وقواها وقت السير إلى الله والوقفة للاستراحة والتربية { ومن أصوافها } هي الصفات الحيوانية والحواس والقوى { أثاثاً } آلات للسير { ومتعاً } ينتفع بها { إلى حين } الوصول والوصال. { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً } أي جعل عالم الخلق ظل عالم الأمر تستظل أيها الأرواح به عند طلوع شمس التجلي وإلا لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. و{ وجعل لكم من } جبال القلوب ما يكن به الأرواح، وجعل لأرواحكم سرابيل من الصفات البشرية تقيكم حر نار المحبة، وسرابيل من الصفات الروحانية تقيكم من سهام الوساوس والهواجس كذلك يحفظكم من الآفات من الصفات بالكرامات حتى يتم نعمة الوصول عليكم وتسلموا من قطع الطريق { يعرفون نعمة الله } بتعريفك { وأكثرهم الكافرون } بك وبنعمة الله إظهاراً للقهر والله أعلم.