التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً
٤١
قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً
٤٢
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً
٤٣
تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً
٤٤
وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً
٤٥
وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَٰرِهِمْ نُفُوراً
٤٦
نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً
٤٧
ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً
٤٨
وَقَالُوۤاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً
٤٩
قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً
٥٠
أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً
٥١
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً
٥٢
وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً
٥٣
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً
٥٤
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً
٥٥
قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً
٥٦
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً
٥٧
وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذٰلِك فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً
٥٨
وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً
٥٩
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً
٦٠
-الإسراء

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { ليذكروا } من الذكر وكذلك في "الفرقان": حمزة وعلي وخلف. الآخرون بتشديد الذال والكاف من التذكر. { كما يقولون } على الغيبة: ابن كثير وحفص { عما تقولون } على الخطاب: حمزة وعلي وخلف. { تسبح } بتاء التأنيث: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل والخزاز عن هبيرة. الآخرون على التذكير { أئذا } { أئنا } القول فيه كما مر في "الرعد" وكذلك في آخر هذه السورة وفي سورة "قد أفلح" وفي سورة السجدة.
الوقوف: { ليذكروا } ط { نفوراً } ه { سبيلاً } ه { كبيراً } ه { فيهن } ط { تسبيحهم } ط { غفوراً } ه { مستوراً } لا للعطف { وقرأ } ط { نفوراً } ط { مسحوراً } ه { سبيلاً } ه { جديداً } ه { حديداً } لا { صدوركم } ج للفاء مع أن السين للاستئناف { بعيدنا } ط { أوَّل مرة } ج لما قلنا { متى هو } ط { قريباً } ه { قليلاً } ه { أحسن } ط { بينهم } ط { مبيناً } ه { أعلم بكم } ه { يعذبكم } ط { وكيلاً } ط { والأرض } ط { زبوراً } ه { شديداً } ط ه { مسطوراً } ه { الأوّلون } ط لأن الواو للاستئناف { فظلموا بها } ط { تخويفاً } ه { بالناس } ط { في القرآن } ط الكل لما مر. { ونخوّفهم } لا لصحة عطف المستقبل على المستقبل { كبيراً } ه.
التفسير: لما بين أنواع الحكم ومكارم الأخلاق ذكر غاية مظلومية الإنسان وجهوليته فقال: { ولقد صرفنا } أي بينا أحسن بيان لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع ومن مثال إلى مثال حتى ينتهي به إلى ما هو مراده من الإيضاح. ومفعول التصريف متروك أي أوقعنا التصريف { في هذا القرآن } أو محذوف للعمل به والمراد صرفنا فيه ضروباً { من كل مثل } وأراد بهذا القرآن إبطال إضافتهم البنات إلى الله لأنه مما كرر ذكره، والمقصود ولقد صرفنا القول في هذا المعنى. وقيل: لفظة "في" زائدة كقوله
{ { وأصلح لي في ذريتي } [الأحقاف: 15] قال الجبائي: في قوله: { ليذكروا } دلالة على أنه أراد منهم فهمها والإيمان بها. والمراد بالذكر ههنا فيمن قرأ مخففاً هو التذكر والتأمل لا الذكر الذي هو نقيض النسيان. وقالت الأشاعرة: قوله: { وما يزيدهم إلا نفوراً } دلت على عكس ذلك لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سبباً لعسره وتعذره والنفرة عنه يقبح منه الأمر بذلك الفعل، ولما أخبر أن هذا التصريف يزيدهم نفوراً علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم. عن سفيان الثوري أنه كان إذا قرأها قال: زادني ذلك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً. ثم دل على التوحيد الذي أمر به في قوله: { ولا تجعل مع الله إلهاً آخر } فقال: { قل لو كان معه آلهة كما يقولون } أي كما يقول المشركون من إثبات آلهة من دونه أو كما تقولون أيها المشركون. وفي قوله { إذا } دلالة على أن ما بعدها وهو { لابتغوا } جواب عن مقالة المشركين وجزاء لـ"لو" قاله في الكشاف. قلت: ولعل { إذا } ههنا ظرف لما دل عليه { لابتغوا } أي لطلبوا إذ ذاك { إلى ذي العرش سبيلاً } بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم ببعض ومثله { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء: 22] ويسمى في عرف المتكلمين دليل التمانع وسيجيء بحثه في سورة الأنبياء إن شاء الله العزيز. وقيل: معنى الآية لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها المراتب العالية والدرجات الرفيعة، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلاً إلى الله فكيف يعقل أن تهديكم إلى الله. ثم نزه نفسه عن أقوالهم فقال { سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً } فوضع الثلاثة وهو العلوّ موضع المتشعبة وهو التعالي كقوله { أنبتكم من الأرض نباتاً } [نوح: 17] ثم وصف العلو بالكبر مبالغة في النزاهة وتنبيهاً على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته وبين الغني المطلق والفقير المطلق مباينة لا تعقل الزيادة عليها.
ثم بين غاية ملكه ونهاية عظمته بقوله: { تسبح له } الآية. قالت العقلاء: تسبيح الحي المكلف يكون تارة باللسان بأن يقول "سبحان الله" وأخرى بدلالة أحواله على وجود الصانع الحكيم، وتسبيح غيره لا يكون إلا من القبيل الثاني. وقد تقرر في أصول الفقه أن اللفظ المشترك لا يحمل على معنييه معاً في حالة واحدة فتعين حمل التسبيح ههنا على المعنى الثاني ليشمل الكل هذا ما عليه المحققون. وأورد عليه أنه لو كان المراد بالتسبيح ما ذكرتم لم يقل { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } لأن التسبيح بهذا الوجه مفقوه معلوم، وأجيب بأن دلالة كل شيء على وجود الصانع معلومة على الإجمال دون التفصيل لأنك إذا أخذت تفاحة واحدة فلا شك أنها مركبة من أجزاء لا تتجزأ، ولكن عدد تلك الأجزاء وصفة كل منها من الطبع والطعم واللون والحيز والجهة وغيرها لا يعلمها إلا الله. وأيضاً الخطاب للمشركين، وإنهم وإن كانوا مقرين بالخالق، إلا أنهم لما أثبتوا له شريكاً وأنكروا قدرته على البعث والإعادة ولم ينظروا في المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكأنهم لم يفقهوا التسبيح إذ لم يتوسلوا به إلى نتيجة النظر الصحيح ولهذا ختم الآية بقوله: { إنه كان حليماً غفورا } حين لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء نظركم، وزعم بعض الظاهريين أن ما سوى الحي المكلف يسبح الله باللسان أيضاً كل بلغته ولسانه الذي لا نعرفه نحن ولا نفقهه. وزعم أيضاً أن الحيوان إذا ذبح لا يسبح وكذا غصن الشجرة إذا كسر، فأورد عليه أن كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبحاً فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له عن التسبيح. وكذا كسر الغصن، ويمكن أن يجاب بأن تسبيح كل شيء لعله يختص بتركيبه الذي خلق عليه فإذا أبطل ذلك التركيب وفك ذلك النظم لم يبق مسبحاً مطلع مطلقاً ولا على ذلك النحو. واعترض عليه أيضاً بأنه إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله سبحانه وبصفاته مسبحة له مع أنها ليس بأحياء انسدّ علينا باب العلم بكونه تعالى حياً لأنا نستدل بكونه عالماً قادراً على كونه حياً. ويمكن أن يجاب بأنا نستدل على حياته تعالى بالإذن الشرعي، ولو سلم أن العلم يستلزم الحياة عقلاً فقد قيل: إن لكل موجود حياة تليق به.
ولما فرغ من الإلهيات شرع في النبوّات فقال: { وإذا قرأت القرآن } قيل: نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن عليهم. يروى أنه كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيّ يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار. وعن أسماء. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ومعه أبو بكر إذا أقبلت امرأة أبي لهب ومعها حجر فهر تريد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تقول: مذمماً أتينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا. فقال أبو بكر: يا رسول الله إن معها حجراً أخشى عليك. فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات. فجاءت وما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت: إن قريشاَ قد علمت أني ابنة سيدها وإن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: ورب هذه الكعبة ما هجاك. وعن ابن عباس: أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون الرسول صلى الله عليه وسلم ويسمعون حديثه. فقال النضر يوماً: ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحركان بشيء. وقال أبو سفيان: إني أرى بعض ما يقوله حقاً. وقال أبو جهل: هو مجنون. وقال أبو لهب: كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر نزلت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات وهن في سورة الكهف
{ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } [الآية: 57] وفي النحل: { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } { الآية: 108] وفي "حم الجاثية" { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [الآية: 23]. وكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وذلك قوله: { جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً } أي ذا ستر وقد جاء مفعول بمعنى ذا كذا كما جاء فاعل على ذلك كثير نحو "لابن وتامر" من ذلك قولهم "رجل مرطوب" أي ذو رطوبة، و"مكان مهول" و "ذهول" و "سبل مفعم" ذو إفعام. وجوّز الأخفش مجيء مفعول بمعنى فاعل مثل "مشؤوم" و "ميمون". وقيل: إنه حجاب يخلقه الله في عيونهم بحيث يمنعهم الحجاب عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وذلك الحجاب شيء لا يراه أحد فهو مستور. وعلى هذا يصح قول الأشاعرة إنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة والمرئي حاضراً والرؤية غير حاصلة لأجل أنه تعالى يخلق في العيون شيئاً يمنعهم من الرؤية، ويحتمل أن يراد حجاب من دونه حجاب أو حجب فهو مستور بغيره أو حجاب يستر أن يبصر فكيف يبصر المحتجب به. والقول الثاني في الآية أن المراد بالحجاب الطبع والختم فاستدلت الأشاعرة به وبقوله: { { وجعلنا على قلوبهم } [الأنعام: 25] الآية. على صحة مذهبهم في خلق الكفر والإيمان كما مر في سورة الأنعام في قوله: { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا } [الأنعام: 35]. وأجاب الجبائي بأن المراد أنهم يطلبون موضعه بالليالي ليقتلوه ويستدلون عليه باستماع قراءته فأمنه الله من شرهم بأن جعل في قلوبهم ما شغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما منعهم عن سماع صوته. وقال الكعبي: أراد به الخلية والخذلان كالسيد إذا لم يراقب حال عبده فساءت أخلاق العبد يقول: أنا ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك ورآيك. وقال جار الله: هذه حكاية لما كانوا يقولونه من قولهم قلوبنا غلف وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب. ومن قبائح أهل الشرك أنهم كانوا يحبون أن تذكر آلهتهم كلما ذكر الله فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا وانهزموا عن المجلس فلذلك قال تعالى: { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده } وهو مصدر سدّ مسد الحال والتقدير يحد وحده مثل "وأرسلها العراك" { ولوا على أدبارهم نفوراً } مصدر من غير لفظ التولية أو جمع نافر كقاعد وقعود فأوعدهم الله على ذلك بقوله: { نحن أعلم بما يستمعون به } من الهزء بك وبالقرآن. قاتل جار الله { به } في موضع الحال كما تقول يستمعون بالهزء أي مصاحبين الهزء أو هازئين و{ إذ يستمعون } نصب بما دل عليه أعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون { وإذ هم نجوى } أي يتناجون به إذ هم ذوو نجوى { إذ يقول الظالمون } "إذ" بدل من "إذ هم" { إن تتبعون } أي على تقدير الإتباع لأنهم لم يتبعوا رسول الله { إلا رجلاً مسحوراً } سحر فاختلط عقله وزال على حد الاعتدال. وقيل: المسحور الذي أفسد من قولهم "طعام مسحور" إذا أفسد عمله "أرض مسحورة" أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها. وقال مجاهد { مسحوراً } مخدوعاً لأن السحر حيلة وخديعة، زعموا أن محمداً يتعلم من بعض الناس وأولئك الناس كانوا يخدعونه بهذه الحكايات، أو زعموا أن الشيطان يخدعه فيتمثل له بصورة الملك. وقال أبو عبيدة: يريد بشراً ذا سحر وهو الرئة. قال ابن قتيبة: لا أدري ما حمله على هذا التفسير المستنكر مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } شبهك كل منهم بشيء آخر فقالوا: إنه كاهن وشاعر وساحر ومعلم ومجنون { فضلوا } في جميع ذلك عن طريق الحق { فلا يستطيعون سبيلاً } إلى الهدى والبيان ضلال من تحير في التيه الذي لا منار به.
وحين فرغ من شبهات القوم في النبوّات حكى شبهتهم، في أمر المعاد. وأيضاً لما ذكر أن القوم وصفوه بأنه مسحور فاسد العقل ذكر ما كان في زعمهم دالاً على اختلاط المفتتة من كل شيء ينكسر وهو اسم كالرضاض والفتات ويقال منه: رفت عظام الجزور رفتاً إذا كسرها. وتقرير الشبهة أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتاثرت وتفرقت في جوانب العالم واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع؟ فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بأن إعادة بدن الميت إلى حالة الحياة أمر ممكن، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي وغضاضته ومن جنس ما ركب منه البشر كالحجارة أو الحديد فهو كقول القائل: أتطمع فيّ وأنا فلان؟ فيقول: كن ابن الخليفة أو من شئت فسأطلب منك حقي. أما قوله: { خلقاً مما يكبر في صدوركم }. فالمراد فرضوا شيئاً آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث تستبعد عقولكم كونه قابلاً لوصف الحياة، وعلى هذا لا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء. وقال مجاهد: أراد به السموات والأرض. وعن ابن عباس أنه الموت أي لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله يعيد الحياة إليها. وهذا إنما يحسن على سبيل المبالغة كما يقال: هو روح مجسم أو وجود محض وإلا فالموت عرض وانقلاب الجسم عرضاً محال. وبتقدير التسليم فالموت كيف يقبل الحياة لأن الضد يمتنع أن يقبل الضد. وفي قوله: { قل الذي فطركم أول مرة } بيان كافٍ وبرهان شافٍ لأنه لما سلم أن خالق الحيوان هو الله فتلك الأجسام في الجملة قابلة للحياة والعقل وإله العالم عالم بجميع الجزئيات والكليات فلا يشتبه عليه أجزاء بدن كل من الأموات، وإذا قدر على جعلها متصفة بالحياة في أول الأمر فلأن يقدر على إعادتها إلى الحياة في ثاني الحال أولى. ألزمهم أوّلاً بأن البعث أمر ممكن وإن فرضتم بدن الميت أي شيء أردتم فكأنهم سلموا إمكانه ولكن تجاهلوا وتغافلوا عن تعيين المعيد فقالوا: { من يعيدنا } فأجاب بأنه الفاطر الأول. ثم زادوا في الاعتراض فسألوا عن تعيين الوقت يقيناً وذلك قوله: { فسينغضون إليك رؤوسهم } أي فسيحركونها نحوك تعجباً واستهزاء. قال أبو الهيثم: يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إلى فوق وإلى أسفل إنكاراً له أنغض رأسه. قال المفسرون "عسى" من الله واجب فعلم منه قرب وقت البعث، ولكن وقته على التعيين مما استأثر الله بعلمه. لا يقال كيف يكون قريباً وقد انقرض أكثر من سبعمائة سنة ولم يظهر لأنا نقول: كل ما هو آتٍ قريب، وإذا كان ما مضى أكثر مما بقي فإن الباقي قليل. قوله: { يوم يدعوكم } منتصب بـ { اذكروا } والمراد يوم يدعوكم كان ما كان، أو هو بدل من { قريباً } والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة. يروى أن إسرافيل ينادي: أيها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت. والاستجابة موافقة الداعي فبما دعا إليه وهو مثل الإجابة بزيادة تأكيد لما في السين من طلب الموافقة، قال في الكشاف: الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز، والمعنى يوم يبعثكم فتبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون.
وقوله: { بحمده } حال منهم أي حامدين وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بأمر يشق عليه: ستأتي به وأنت حامد شاكر أي متهيء إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفي منك بذلك العمل، وهذا يذكر في معرض التهديد. وقال سعيد بن جبير: { يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: سبحانك اللَهم وبحمدك. وقال قتادة: بحمده أي بمعرفته وطاعته لأن التسبيح والتحميد معرفة وطاعة ومن هنا قال بعضهم: حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال آخرون: الخطاب مختص بالمؤمنين لأنهم الذين يليق بهم الحمد لله على إحسانه إليهم { وتظنون إن لبثتم إلاَّ قليلاً } عن قتادة: تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة ومثله قول الحسن: معناه تقريب وقت البعث وكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل. وقال ابن عباس: يريد ما بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزول عنهم هول العذاب في ذلك الوقت. وقيل: أراد استقصار لبثهم في عرصة القيامة حين عاينوا هول النار. ثم أمر المؤمنين بالرفق والتدريج عند إيراد الحجة على المخالفين فقال: { وقل لعبادي } أي المؤمنين لأن لفظ العباد يختص بهم في أكثر القرآن
{ فبشر عبادي الذين يستمعون القول } [الزمر: 17] { { عيناً يشرب بها عباد الله } [الدهر: 6] { فادخلي في عبادي } [الفجر: 30]، { يقولوا } الكلمة أو الحجة { التي هي أحسن } وألين وهي أن لا تكون مخلوطة بالسب واللعن والغلظة. ثم نبه على وجه المنفعة بهذا الطريق فقال: { إن الشيطان ينزغ بينهم } أي بين الفريقين جميعاً فيزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود. ثم قال: { ربكم أعلم بكم أن يشأ يرحمكم } أيها المؤمنون بالإنجاء من كفار مكة إيذائهم { أو إن يشأ يعذبكم } بتسليطهم عليكم{ وما أرسلناك } يا محمد عليهم وكيلاً أي حافظاً موكولاً إليك أمرهم إنما أنت بشير ونذير. والهداية إلى الله.
وقال جار الله: الكلمة التي هي أحسن مفسرة بقوله: { ربكم أعلم بكم } إلى آخره أي قولوا لهم الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم إنكم من أهل النار، وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يزيد غيظهم. وقوله: { إن الشيطان ينزغ بينهم } اعتراض. وقيل: المراد بالعباد الكفار أي قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عباد إلي يقولوا الكلمة التي هي أحسن وهي كلمة التوحيد والبراءة من الشركاء والأضداد، لأن ذلك أحسن بالبديهة من الإشراك. ووصفه بالقدرة على الحشر أحسن من وصفه بالعجز عنه، والحامل على مثل هذه العقائد هو الشيطان المعادي. ثم قال لهم: { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم } بتوفيق الهداية، وإن يشأ يعذبكم بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فلا تقصروا في الجد والطلب. ثم قال لرسوله: { وما أرسلناك عليهم وكيلاً } حتى تقسرهم على الإسلام وما عليك إلا البلاغ على سبيل الرفق والمداراة وهذا قبل نزول آية السيف. وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب شتمه رجل فأمره الله بالعفو. وقيل: أفرط إيذاء المشركين للمسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وحين قال: { ربكم أعلم بكم } عمم الحكم فقال: { وربك أعلم بمن في السموات والأرض } يعني أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات وبما يليق بكل منها وبذلك حصل التمايز والتفاضل كما قال: { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } وفيه رد على أهل مكة في إنكارهم أن يكون يتيم أبي طالب مفضلاً على الخلائق ونبياً دون صناديد قريش وأكابرهم. وأنما ختم الآية بقوله: { وآتينا داود زبوراً } ليعلم أن التفضيل ليس بالمال والملك وإنما هو بالعلم والدين فإن داود كان ملكاً عظيماً ولم يذكره الله سبحانه إلا بمزية إيتاء الكتاب. وفيه أيضاً إشارة إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم بدليل قوله:
{ { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [الأنبياء: 105] أي محمد وأمته. ومعنى التنكير في "زبور" أنه كامل في كونه كتاباً. والزبور وزبور كالعباس وعباس والحسن وحسن، أو المراد بعض الزبر أو الزبور كما يسمى بعض القرآن قرآناً. وقيل: إن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدال بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات، وكانت اليهود تقول: إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة، فنقض الله كلامهم بإنزال الزبور على داود بعد موسى.
ثم رد على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور الملائكة، أو على طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بآلهية عيسى ومريم وعزير فقال: { قل ادع الذين زعمتم من دونه } وقيل: أراد بالذين زعمتم نفراً من الجن عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا. وإنما خصصت الآية بإحدى هؤلاء الطوائف لأن قوله بعد ذلك { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } لا يليق بالجمادات. قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم فهم بمعنى الكذب. وتقرير الرد أن المعبود الحق هو الذي قدر على إزالة الضر وتحويله من حال إلى حال أو مكان إلى مكان، وهذه التي زعمتم أنها آلهية لا تقدر على شيء من ذلك فوجب القطع بأنها ليست بآلهة. سؤال: ما الدليل على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر؟ فإن قلتم لأنا نرى أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها ولا تحصل الإجابة قلنا: إن المسلمين أيضاً يتضرعون إلى الله ولا يجابون، وبتقدير الإجابة في بعض الأوقات فالكفار أيضاً يحصل مطلوبهم أحياناً فيقولون إنه من الملائكة. جوابه أن الملائكة مقرّون بأن الإله الأعظم خالق العالم، فكمال قدرته معلوم متفق عليه وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله قليلة حقيرة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الإله الأعظم أولى وأجدر أخذاً بالمعلوم المتيقن دون المظنون الموهوم. على أن أهل السنة قاطعون بأنه لا تأثير لشيء في الوجود إلا لله تعالى. يقول مؤلف هذا التفسير: أضعف عباد الله تعالى وأحوجهم إليه الحسن بن محمد المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في أولاه وأخراه. رأيت في بعض الكتب مروياً عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: من وقع في ملمة أو طلب كفاية مهم فليسجد في خلوة وليقل في سجدته إلهي أنت الذي قلت: { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً } فيا من يملك كشف الضر عنا وتحويله اكشف ما بي، فإنه إذا قال ذلك كشف الله عنه ضره وكفى مهمه. وقد جرب فوجد كذلك.
ثم إنه تعالى أكد عدم اقتدار معبوديهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله تعالى في جذب المنافع ودفع المضار فقال: { أولئك } وهو مبتدأ و { الذين يدعون } صفته { ويبتغون } خبره يعني أولئك المعبودين يطلبون { إلى ربهم الوسيلة } أي القربة في الحوائج و{ أيهم } بدل من واو { ويبتغون } وهو موصول وصدر صلته محذوف أي يبتغي من هو أقرب الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب؟ والدليل على هذا الافتقار إقرار جميع الكفار بإمكانهم الذاتي وجوز في الكشاف أن يضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله وذلك بازدياد الخير والطاعة والصلاح، ويرجون ويخافون كغيرهم من العباد. وقيل: أولئك الذين يدعون هم الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله: { لقد فضلنا بعض النبيين } أي الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء الداعون للأمم إلى الله، لا يعبدون إلا الله ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه فأنتم أحق بالعبادة. واحتج هذا القائل على صحة قوله بأن الله تعالى قال: { يخافون عذابه } والملائكة لا يعصون الله فكيف يخافون عذابه؟ وأجيب بأنهم يخافون عذابه لو أقدموا على الذنب لقوله:
{ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } [الأنبياء: 29]، { إن عذاب ربك كان محذوراً } أي حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم، فإن لم يحذره بعض الجهلة فإنه لا يخرج من كونه واجب الحذر. ثم بين مآل حال الدنيا وأهلها فقال: { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة } بالموت والاستئصال { أو معذبوها } بالقتل وأنواع العذاب كالسبي والاغتنام. وقيل: الهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة { كان ذلك في الكتاب } وهو اللوح المحفوظ { مسطوراً } فلا يوجد له تبديل قط.
ثم ذكر نوعاً آخر من سننه فقال: { وما منعنا } استعار المنع للترك من أجل لزوم خلاف الحكمة والمشيئة. عن سعيد بن جبير أن كفار قريش اقترحوا منه آيات باهرة كإحياء الموتى ونحوه. وعن ابن عباس أنهم سألوا الرسول أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى ذلك فقال: إن شئت فعلت لكنهم إن كفروا بعد ذلك أهلكتهم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا أريد ذلك وأنزل الله الآية. والمعنى وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات { إلا أن كذب بها } الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك واستوجبوا عذاب الاستئصال على ما أجرى الله تعالى به عادته. والحاصل أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي، وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعث إليهم إلى يوم القيامة، ويحتمل أن يراد أنهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون ألبتة كما لم يؤمنوا فيكون إرسال الآيات ضائعاً. ثم استشهد على ما ذكر بقصة صالح وناقته لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة يبصرها صادرهم وواردهم وهذا معنى قوله { مبصرة } أو المراد حال كون الناقة آية بينة يبصر المتأمل بها رشده { فظلموا } أنفسهم بقتلها أو فكفروا { بها } بمعنى أنهم حجدوا كونها من الله قاله ابن قتيبة { وما نرسل بالآيات } المقترحة { إلا تخويفاً } من نزول العذاب العاجل بمعنى أن من أنكرها وقع عليه، أو المراد وما نرسل بآيات القرآن وغيرها من المعجزات إلا إنذاراً بعذاب الآخرة على المعنى المذكور. وحين امتنع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله للمصارف المذكورة قوى قلبه بوعد النصر بالغلبة فقال: { وإذ قلنا لك إن ربك } أي واذكر إذا أوحينا إليك أن ربك { أحاط بالناس } أي أنهم في قبضته وقدرته فلا يقدرون على خلاف إرادته فينصرك ويقويك حتى تبلغ الرسالة. عن الحسن: حال بينهم وبينه أن يقتلوه كما قال:
{ والله يعصمك من الناس } [المائدة: 67] وقيل: أراد بالناس أهل مكة،وأحاط في معنى الاستقبال إلا أن خبر الله تعالى لما كان واجب الوقوع عبر عنه بلفظ الماضي، وعد نبيه بأنه سيهلك قريشاً في وقعة بدر.
أما قوله: { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ففيه أقوال: الأول أنه تعالى أراه في المنام مصارع كفار قريش حتى قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يأتي الأرض ويقول: هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية وكانوا يستعجلون بما وعد. الثاني: أنه رؤياه التي رأى أن يدخل مكة وبذلك أخبر أصحابه، فلما منع من البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم. وقال عمر لأبي بكر: قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ندخل البيت فنطوف به. فقال أبو بكر: إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى. فلما جاء العام القابل دخلها وأنزل الله تعالى:
{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [الفتح: 27]. الثالث: قول سعيد بن المسيب وابن عباس في رواية عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك. الرابع وهو قول أكثر المفسرين: أن المراد بهذه الرؤيا هي حديث الإسراء. ثم اختلفوا، فالأكثرون على أن الرؤيا بمعنى الرؤية يقال: رأيت بعيني رؤية ورؤيا، أو سماها رؤيا على قول المكذبين حين قالوا لعلها رؤيا رأيتها وخيال خيل إليك. والأقلون على أن الإسراء كان في المنام وقد مر هذا البحث في أول السورة. قوله: { والشجرة } فيه تقديم وتأخير، والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس قال الأكثرون: إنها شجرة الزقوم لقيت في القرآن حيث لعن طاعموها. قال عز من قائل: { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } أو وصفت باللعن لأنه إلا بعاد وهي في أصل الجحيم أبعد مكان من الرحمة، أو العرب تقول لكل طعام مكروه ضارّ ملعون. والفتنة فيها أن أبا جهل وغيره قالوا: زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ثم يقول ينبت فيها الشجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. ونظيره قوله: { إنا جعلناها فتنة للظالمين } [الصافات: 63]. ومن شاهد حال السمندل والنعامة كيف يتعجب من قدرة الله على إنبات الشجرة من جنس لا تعمل فيه النار. وعن ابن عباس: الشجرة الملعونة بنو أمية. وعنه هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب. وقيل: هي الشيطان. وقيل: اليهود سؤال: أي تعلق لحديث الرؤيا والشجرة إلى ما قبله من الكلام؟ جوابه كأنه قيل: إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا ينبغي أن يكون سبباً في توهين أمرك. ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا والشجرة صار سبباً لوقوع الشبهة العظيمة، ثم إنها ما أوجبت ضعفاً في أمرك ولا فتوراً في اجتماع المحقين عليك. ثم ذكر سبباً آخر في أنه تعالى لا يظهر المقترحات عليهم فقال: { ونخوفهم } بمخاوف الدنيا والآخرة { فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً } متمادياً.
التأويل: { لا بتغوا إلى ذي العرش سبيلاً } يشتمل معنيين لأنهم إن كانوا أكبر منه أو أمثالاً له طلبوا طريقاً إلى إزعاج صاحب العرش ونزع الملك منه قهراً، وإن كانوا أدون منه طلبوا إليه الوسيلة بالخدمة والعبودية على أن الناقص لا يصلح للإلهية وهذا قريب من التفسير: { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } لكل ذرة من ذرات الموجودات ملكوت لقوله:
{ { فسبحان الذين بيده ملكوت كل شيء } [يس: 83] والملكوت باطن الكون وهو الآخرة، والآخرة حيوان لا جماد لقوله: { إن الدار الآخرة لهي الحيوان } [العنكبوت: 64] فلكل ذرة لسان ملكوتي ناطق بالتسبيح والحمد تنزيهاً لصانعه وحمداً له على ما أولاه من نعمه، وبهذا اللسان ينطق الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم وبه تنطق الأرض يوم القيامة { يومئذ تحدث أخبارها } { الزلزلة: 4] وبه تنطق الجوارح { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } [فصلت: 21] وبه نطق السموات والأرض { قالتا أتينا طائعين }[فصلت: 11] { وإنه كان حليماً } في الأزل إذا أخرج من العدم من يكفر به ويجحده { غفوراً } لمن تاب عن كفره. { وإذا قرأت القرآن } فيه إشارة إلى أن من قرأ القرآن بتمامه وصل إلى أعلى معارج القدس وأقصى مدارج الأنس كما جاء في الحديث "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق" . قال أبو سليمان الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة فمن استوفى جميع آي القرآن استولى على أقصى درجات الجنة. قال المحققون: استيفاء جميع آي القرآن هو أن يتخلق بأخلاقه وصفاته بل بأخلاق الله وصفات الله. وهذا يكون بعد العبور عن الحجب الظلمانية والنورانية فيكون بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً. لم يقل "ساتراً" لأن الحجاب يستر الواصل عن المنقطع ولا يستر المنقطع عن الواصل فيكون الواصل مستوراً بالحجاب المنقطع. { ولّوا على أدبارهم } لأنهم من سوء مزاجهم لا يكادون يقبلون الغذاء الصالح، فالحلاوة في مذاقهم مرارة { إذ يقول الظالمون } من ظلمهم لأنهم وضعوا المسحور مكان المبعوث أي { خلقاً مما يكبر في صدوركم } أي لو كانت قلوبكم التي في صدوركم أشد من الحجارة والحديد فالله قادر على إحيائه وتليينه في قيام قيامة العشق { يقولوا التي هي أحسن } من شرف من عبيده، فبتشريف الإضافة يظهر منه القول الأحسن وهو الدعاء إلى الله بلا إله إلا الله مخلصاً، والفعل الأحسن وهو أن يكون متأدباً بآداب الشريعة والطريقة، والخلق الأحسن وهو أن يكون محسناً إليهم بلا طمع الإحسان والشكر منهم ويتجاوز عن سيئاتهم ويعيش فيهم بالنصيحة، يأمرهم بالمعروف بلا عنف وينهاهم عن المنكر بلا فضيحة { إن الشيطان ينزغ بينهم } إذ لم يعيشوا بالنصيحة.{ وآتينا داود زبوراً } فيه أن فضل النبي صلى الله عليه وسلم على داود كفضل القرآن على الزبور. { وإن من قرية } من قرى قالب الإنسان { إلا نحن مهلكوها } بموت قلبه وروحه قبل موت قالبه فمن مات فقد قامت قيامته { أو معذبوها } بأنواع الرياضات والمجاهدات ففي السير إلى الله ذوبان الأفعال، وفي السير بالله ذوبان الصفات، وفي السير في الله ذوبان الذات: { أحاط بالناس } علم مقتضى كل نفس من الخير والشر { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك } كان الوحي يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مبدأ أمره بطريق المنام وكان في ذلك اختبار للناس، فمن وقته يظهر الموافق من المنافق والصديق من الزنديق، وهكذا كان في شجرة وجود إبليس ابتلاء للناس ولم يكن للمحيط بأحوال الناس حاجة إلى الابتلاء ولكنه يعامل معاملة المختبر والله أعلم بالصواب.