غرائب القرآن و رغائب الفرقان
القراءات: { وفجرنا } بالتخفيف: سهل ويعقوب غير رويس { له ثمر } وكذا
{ بثمره } بفتح الثاء والميم: يزيد. وعاصم وسهل ويعقوب وأبو عامر: بضم الثاء وإسكان
الميم. الباقون بضم الثاء والميم جميعاً { منها } على الوحدة: أبو عمرو وسهل ويعقوب
وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون على التثنية { لكن } بالتشديد من غير ألف في
الحالين: قتيبة وابن عامر وابن فليح ويعقوب بالألف في الوصل. الباقون بغير الألف
واتفقوا على الألف في الوقف { بربي أحد } مفتوحة الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو
عمرو. { أن ترني } فتح الياء: السرانديبي عن قنبل { غوراً } بضم الغين وكذلك في
{ الملك } البرجمي الباقون بفتحها. { ولم يكن له } بياء الغيبة { الولاية } بكسر الواو:
حمزة وعلي وخلف. الآخرون بتاء التأنيث وفتح الواو { لله الحق } بالرفع: أبو عمرو
وعلي. الآخرون بالجر { عقباً } بسكون القاف: عاصم وحمزة وخلف. الباقون بضمها
{ الريح } على التوحيد: حمزة وعلي وخلف.
الوقوف: { من كتاب ربك } ط لاختلاف الجملتين { ملتحداً } ه { عنهم } ج لأن ما
بعده يصلح حالاً واستفهاماً محذوف الألف لدلالة حال العتاب. { فرطاً } ه { فليكفر } لا
لأن الأمر للتهديد بدليل { إنا أعتدنا } فلو فصل صار مطلقاً { ناراً }، لأن ما بعده صفة
{ سرادقها } ط { الوجوه } ط { الشراب } ط { مرتفقاً } ه { عملاً } ج ه لاحتمال كون
{ أولئك } مع ما بعده خبر { إن الذين } وقوله: { إنا لا نضيف } جملة معترضة { الأرائك } ط
{ الثواب } ط { مرتفقاً } ه { زرعاً } ه، ط { شيئاً } لا للعطف { نهراً } ه ط { ثمر } ج للعدول
مع الفاء { نفراً }، ج { لنفسه } ج لاتحاد العامل بلا عطف { أبداً } ه ط { قائمة } لا لأن ما بعده
شك من قول الكافر في البعث { منقلباً } ه { رجلاً }، ه ط لتمام الاستفهام { أحداً } ه { ما
شاء الله } لا لاتمام المقول { إلا بالله } ج لابتداء الشرط المحذوف جوابه مع اتحاد القائل
والمقول له { وولداً } ه، ج لاحتمال كون ما بعده جواباً للشرط { زلقاً } ه { طلباً } ه { أحداً }
ه { منتصرا }، ط وقيل: يوقف على { هنالك } والأوجه أن يبتدأ بـ { هنالك } أي عند ذلك
يظهر لكل شاك سلطان الله ونفاد أمره { الحق } ط على القراءتين { عقباً } ه { الرياح } ط
{ مقتدراً } ه { زينة الحياة الدنيا } ج مفصلاً بين المعجل الفاني والمؤجل الباقي مع اتفاق
الجملتين { أملاً }.
التفسير: لما أجب عن سؤالهم بما أجاب أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يواظب
على تلاوة الكتاب الموحى إليه وعلى الصبر مع الفقراء الذين آمنوا بما أنزل عليه،
واحتمل أن يكون { اتل } أمراً من التلو لا من التلاوة أي اتبع ما أوحي إليك والزم العمل
بمقتضاه وقوله: { من كتاب ربك } بيان للذي أوحي إليه. ثم بين سبب اللزوم فقال:
{ لا مبدل لكلماته } أي لا يقدر أحد على تغييرها وإنما يقدر على ذلك هو وحده فليس
لك ولا لغيرك إلا المواظبة على العلم والعمل به يؤكده قوله: { ولن تجد من دونه
ملتحداً } أي ملجأ تعدل إليه إن هممت بذلك فرضاً: وأصل اللحد الميل كما مر في
قوله: { يلحدون في أسمائه } [الأعراف: 18] نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
سورة الأنعام عن طرد فقراء المؤمنين بقوله: { ولا تطرد الذين } [الآية: 52] الآية وأمره
في هذه السورة بحبس النفس معهم وبمراقبة أحوالهم بقوله: { ولا تعد عيناك } قال جار
الله: إنما لم يقل ولا تعدهم عيناك من عداه إذا جاوزه لأنه ضمن عدا معنى نبا وفيه مبالغة
من جهة تحصيل المعنيين جميعاً كأنه قيل: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم. ثم
نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء الكفرة الذين التمسوا منه طرد الفقراء حتى يؤمنوا به فقال:
{ ولا تطع من أغفلنا قلبه } قال أهل السنة: معنى الإغفال إيجاد الغفلة وخلقها فيهم، أو
هو من أغفلها إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ولم نجعله من الذين كتبنا في
قلوبهم الإيمان، ويؤيد هذا المعنى أن الغفلة عن الذكر لو كانت بإيجاد العبد والقصد إلى
إيجاد الغفلة عن الشي لا يتصور إلا مع الشعور بذلك الشيء لزم اجتماع الضدين. وقالت
المعتزلة: معنى أغفلناه وجدناه غافلاً بالخذلان والتخلية بينه وبين الأسباب المؤدية إلى
الغفلة يؤيده قوله: { واتبع هواه } بالواو دون الفاء إذ لو كان اتباع الهوى من نتيجة خلق
الغفلة في القلب لقيل" فاتبع" بالفاء. ويمكن أن يجاب بأنه لا يلزم من كون الشيء في
نفس الأمر نتيجة لشيء أن يعتبر كونه نتيجة له والفاء من لوازم الثاني دون الأول، على أن
الملازمة بين الغفلة عن ذكر الله وبين متابعة الهوى غير كلية، فقد يكون الإنسان غافلاً عن
ذكر الله ومع ذلك لا يتبع هواه بل يبقى متوقفاً متحيراً { وكان أمره فرطاً } أي متجاوزاً عن
حد الاعتدال من قولهم "فرس فرط" إذا كان متقدماً للخيل، ويلزم منه أن يكون نابذاً للحق وراء ظهره. وأنت إذا تأملت وجدت حال الأغنياء المتحيرين بخلاف الفقراء المؤمنين، لأن هؤلاء الفقراء يدعون ربهم بالغداة والعشى ابتغاء وجه الله وطلباً لمرضاته فأقبلوا على
الحق وشغلوا عن الخلق، والأغنياء قد أعرضوا عن المولى وأقبلوا على الدنيا فوقعوا في
ظلمة الهوى وبقوا في تيه الجهل والعمى. وإنما لم يجز طرد الفقراء لأجل إيمان الأغنياء
لأن إيمان من ترك الإيمان احترازاً من مجالسة الفقراء كلا إيمان فوجب أن لا يلتفت إليه.
ثم بين أن الحق ما هو ومن أين هو قائلاً { وقل الحق من ربكم } أي الدين الحق
حصل ووجد من عند الله، ويحتمل أن يراد بالحق الصبر مع الفقراء. وقال في الكشاف:
الحق خبر مبتدأ محذوف والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختيار الإيمان أو
الكفر، وفيه دليل على أن الإيمان والكفر والطاعة والمعصية كلها مفوّضة إلى مشيئة العبد
واختياره. وحمله الأشاعرة على أمر التهديد وقالوا: إن الفعل الاختياري يمتنع حصوله
بدون القصد إليه، ثم ذلك القصد لا بد أن يقع بالاختيار والقصد فنقل الكلام إليه ولا
يتسلسل فلا بد أن ينتهي إلى قصد واختيار يخلقه الله فيه. فالإنسان مضطر في صورة
مختار وفي صورة هذا التخيير دلالة على أنه سبحانه لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر
بكفر الكافرين. ثم بين وعيد الظالمين الذين وضعوا الكفر موضع الإيمان وتحقير المؤمنين
لأجل فقرهم مكان تعظيمهم لأجل إيمانهم فقال: { إنا أعتدنا } أي أعددنا وهيأنا
{ للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها } وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط فأثبت تعالى
للنار شيئاً شبيهاً بذلك يحيط بهم من جميع الجهات، والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا
فرج. وقيل: هو حائط من نار يطبق بهم. وقيل: هو دخان محيط بالكفار قبل دخولهم
النار وهو المراد بقوله { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } [المرسلات: 30] وقوله:
{ يغاثوا بماء } وارد على سبيل التهكم كقولهم "عتابك السيف". والمهل كل ما أذيب من
المعدنيات كالذهب والفضة والنحاس قاله أبو عبيدة والأخفش. وقيل في حديث مرفوع إنه
درديّ الزيت. وقيل: الصديد والقيح أو ضرب من القطران. وهذه الاستغاثة إما لطلب
الشراب كقوله: { تسقى من عين آنية } [الغاشية: 5] وإما لدفع الحر ولأجل التبريد كقوله
حكاية عنهم { أفيضوا علينا من الماء } [الأعراف: 50] ويروى أنهم إذا استغاثوا من حر
جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص، وقد يفسر بهذا قوله:
{ سرابيلهم من قطران } [إبراهيم: 50] عن النبي صلى الله عليه وسلم " "هو - يعني المهل -
كعكر الزيت إذا قرب إليه سقطت فروة وجهه" وهذا معنى قوله: { يشوي الوجوه بئس
الشراب } ذلك لأن المقصود من الشراب إراحة الأحشاء وهذا يحرقها ويشويها { وساءت }
أي النار { مرتفقاً } متكئاً لأهلها ومنه المرفق لأنه يتكأ عليه. قال جار الله: هذا لمشاكلة
قوله في أهل الجنة { وحسنت مرتفقاً } وإلا فلا ارتفاق لأهل النار إلا أن يقال: معنى ارتفق
أنه نصب مرفقه ودعم به خده كعادة المغتمين. وقال قائلون: إن الشياطين رفقاء أهل النار
من الإنس والمعنى ساءت النار مجتمعاً لأولئك الرفقاء.
ثم شرع في وعد المؤمنين فقال: { إن الذين آمنوا } الآية فإن جعلت { إنا لا نضيّع }
اعتراضاً فظاهر وإن جعلته خبراً و{ أولئك } خبراً آخر أو كلاماً مستأنفاً للأجر أو بياناً
لمبهم فمعنى العموم في { من أحسن } يقوم مقام الرابط المحذوف والتقدير { من أحسن
عملاً } منهم. وتفسير جنات عدن قد مر في سورتي "التوبة" و "الرعد". ولأهل الجنة
لباسان: لباس التحلي والباس الستر. ولم يسم فاعل { يحلون } للتعظيم وهو الله جل
وعلا، أو الملائكة بإذن. و"من" في { من أساور } للابتداء وفي { من ذهب } للتبيين. وتنكير أساور
لإبهام أمرها في الحسن، وأساور أهل الجنة بعضها ذهب لهذه الآية، وبعضها فضة لقوله:
{ وحلوا أساور من فضة } [الدهر: 21] وبعضها لؤلؤ لقوله في الحج { ولؤلؤاً } [الحج: 23]
وجمع في لباس الستر بين السندس - وهو مارق من الديباج - وبين الاستبرق - وهو الغليظ منه -
جمعاً بين النوعين والاستبرق عند بعضهم معرب استبره. قيل: إنما لم يسم فاعل
{ يحلون } إشارة إلى أن الحلي تفضل الله بها عليهم كرماً وجوداً ونسب اللبس إليهم تنبيهاً
على أنهم استوجبوه بعملهم، ثم وصفهم بهيئة المتنعمين والملوك من الاتكاء على
أسرتهم. والأرائك جمع أريكة وهو السرير المزين بالحجلة، أما السرير وحده فلا يسمى
أريكة. ثم إن الكفار كانوا يفتخرون بخدمهم وحشمهم وأموالهم وأصناف تمتعاتهم على
الفقراء المؤمنين فضرب الله مثلاً للطائفتين تنبيهاً على أن متاع الدنيا لا يوجب الافتخار
لاحتمال أن يصير الغني فقيراً والفقير غنياً إنما الفخر بالأعمال الصالحات. والمراد مثل
حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين وكانا أخوين من بني إسرائيل أحدهما كافر- اسمه
فطروس - والآخر مؤمن - اسمه يهوذا - وقيل: هما المذكوران في سورة "والصافات" في
قوله: { قال قائل منهم إني كان لي قرين } [الصافات: 51] ورثا من أبيهما ثمانية آلاف
دينار فتشاطراهما، فاشترى الكافر أرضاً بألف فقال المؤمن: اللَّهم إن أخي اشترى أرضاً
بألف دينار وأنا أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به. ثم بنى أخوه داراً بألف
فقال: اللَّهم إن أخي بنى داراً بألف وإني أشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به. ثم
تزوج أخوه امرأة بألف فقال: اللَّهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور. ثم اشترى أخوه خدماً
ومتاعاً بألف فقال: اللَّهم إني إشتريت منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به. ثم أصابته
حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده وبخسه على التصدق
بماله. وقيل: هما مثل لأخوين من بني مخزوم مؤمن وهو عبد الله بن الأشد زوج أم سلمة
قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكافر وهو الأسود بن عبد الأشد.
أما قوله: { وحففناهما بنخل } فقال صاحب الكشاف: إنه يتعدى إلى المفعول الثاني
بالباء ومعناه جعلنا النخيل محيطاً بالجنتين وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن
يجعلوها مؤزرة بالأشجار ولا سيما المثمرة منها وخاصة النخيل إذا أمكن. { وجعلنا بينهما
زرعاً } فهما جامعتان للأقوات والفواكه. وفيه أنهما مع سعة أطرافهما وتباعد أكنافهما لم
يتوسطهما بقعة معطلة، وفيه أنهما أتاني كل وقت بمنعفة أخرى متواصلة متشابكة وكل
منهما منعوتة بوفاء الثمار لتمام الأكل. { وآتت } محمول على لفظ { كلتا } لأن لفظه
مفرد. ولو قيل: "آتتا". على المعنى لجاز. والظلم أصله النقصان وهو المراد ههنا.
{ وفجرنا } من قرأ بالتخفيف فظاهر لأنه نهر واحد، ومن قرأ بالتشديد فللمبالغة لأن النهر
ممتد في وسطهما فهو كالأنهار { وكان له ثمر } قال الكسائي: الثمرة اسم الواحد والثمر
جمع وجمعه ثمار ثم ثمر ككتاب وكتب بالحركة أو بالسكون. وذكر أهل اللغة أن الثمر
بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما، والثمر بالفتح حمل الشجر. وقال
قطرب: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: الثمر المال والولد أي كان يملك مع الجنتين
أشياء من النقود وغيرها وكان متمكناً من عمارة الأرض ومن سائر التمتعات كيف شاء.
والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع. والنفر الأنصار والحشم الذين يقومون بالذب
عنه. وقيل: الأولاد الذكور لأنهم ينفرون معه دون الإناث.
ثم إن الكافر كأنه أخذ بيد المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويفاخره بما
ملك من المال دونه وذلك قوله سبحانه { ودخل جنته } فقال جار الله: معنى أفراد الجنة
بعد التثنية أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما. قلت: لا يبعد أن يكون قد دخل مع أخيه جنة
واحدة منهما أو جعل مجموع الجنتين في حكم جنة واحدة منهما يؤيده توحيد الضمير
على أكثر القراآت في قوله: { لأجدن خيراً منها } وإنما وصفه بقوله: { وهو ظالم لنفسه }
لأنه لما اغتر بتلك النعم ولم يجعلها وسيلة إلى الإيمان بالله والاعتراف بالبعث وسائر مقدورات الله كان واضعاً للنعم في غير موضعها، على أن نعمة الجنة بخصوصها مما يجب أن يستدل بها على أحوال النشور كقوله عز من قائل: { وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا
عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج } [الحج: 5] عكس الكافر القضيتين
زعم دوام جنته التي هي بصدد الزوال قائلاً { ما أظن أن تبيد } أي تهلك { هذه } الجنة
{ أبداً } وذلك لطول أمله واستيلاء الحرص عليه واغتراره بالمهلة حتى أنكر المحسوس
وادعى غلبة الظن بامتناع النشور مع قيام الدلائل العقلية والحسية على إمكانه ووجود
الدلائل الشرعية على وجوبه قائلاً { وما أظن الساعة قائمة } ثم أقسم على أنه إن رد إلى
ره فرضاً وتقديراً وكما يزعم صاحبه أن له رباً وأنه سيرد إليه وجد خيراً من جنته في الدنيا
كأنه قاس الغائب على الشاهد أو ادعى أن النعم الدنيوية لن تكون استدراجية أصلاً وإنما
تكون استحقاقاً وكرامة. { منقلباً } نصب على التمييز أي مرجع تلك وعاقبتها لكونها باقية
بزعمكم خير من هذه لكونها فانية حساً أو في اعتقادكم. قال بعض العلماء: الرد يتضمن
كراهة المردود إليه فلهذا قال: { ولئن رددت } أي عن جنتي هذه التي أظن أن لا تبيد أبداً
إلى ربي، ولما لم يسبق مثل هذا المعنى في "حم" قال هناك: { ولئن رجعت إلى ربي } }
[فصلت: 50]، قوله: { أكفرت } زعم الجمهور أن أخاه إنما حكم بكفره لأنه أنكر
البعث. وأقول: يحتمل أن يكون كافراً بالله أيضاً بل مشركاً لقوله بعد ذلك: { يا ليتني لم
أشرك بربي أحداً } ولقول أخيه معرضاً به { لكنا هو الله ربي } وليس في قوله: { ولئن
رددت إلى ربي } دلالة على أنه كان عارفاً بربه لاحتمال أن يكون قد قال ذلك بزعم صاحبه
كما أشرنا إليه. وقوله: { خلقك من تراب } أي خلق أصلك وهو إشارة إلى مادته البعيدة.
وقوله: { من نطفة } إشارة إلى مادته القريبة. ومعنى { سوّاك رجلاً } عدلك وكلك حال
كونك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال المكلفين ويجوز أن يكون { رجلاً } تمييزاً.
ولعل السر في تخصيص الله سبحانه في هذا المقام بهذا الوصف هو أن يكون دليلاً
على وجود الصانع أولاً، لأن الاستدلال على هذا المطلوب بخلق الإنسان أقرب
الاستدلالات، وفيه أيضاً إشارة إلى إمكان البعث لأن الذي قدر على الإبداء أقدر على
الإعادة، وفيه أنه خلقه فقيراً لا غنياً علم منه أنه خلقه للعبودية والإقرار لا للفخر
والإنكار، ثم استدرك لقوله { أكفرت } كأنه قال لأخيه: أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد.
وأصل { لكنا } "لكن أنا" حذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على ما قبلها، ثم استثقل
اجتماع النونين فسكنت الأولى وأدغمت في الثانية وضمير الغائب للشأن، والجملة بعده
خبر للشأن، والمجموع خبر "أنا" والراجع ياء الضمير وتقدير الكلام: لكن أنا الشأن الله
ربي. قال أهل العربية: إثبات ألف "أنا" في الوصل ضعيف، ولكن قراءة ابن عامر قوية
بناء على أن الألف كالعوض عن حذف الهمزة { ولولا } للتخفيض وفعله. قلت: { وإذ
دخلت } ظرف وقع في البين توسعاً. وقوله: { ما شاء الله } خبر مبتدأ محذوف أو جملة
شرطية محذوفة الجزاء تقدير الكلام الأمر ما شاء الله أو أي شيء شاء الله كان. استدل
أهل السنة بالآية في أنه لا يدخل في الوجود شيء إلا بأمر الله ومشيئته. وأجاب الكعبي
بأن المراد ما شاء الله مما تولى فعله لا ما هو من فعل العباد. والجواب أن هذا التقدير مما
يخرج الكلام عن الفائدة فإنه كقول القائل "السماء فوقنا". وأجاب القفال بأنه أراد ما شاء
الله من عمارة هذا البستان ويؤيده قوله { لا قوة إلا بالله } أي ما قويت به على عمارته
وتدبير أمره فهو بمعونة الله، وزيف بأنه تخصيص للظاهر من غير دليل على أن عمارة ذلك
البستان لعلها حصلت بالظلم والعدوان، فالتحقيق أنه لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا
بإعانة الله وإقداره. عن عروه بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب فيدخل من يشاء،
وكان إذا دخله ردد هذه الآية حتى يخرج. ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمر إلى مشيئة
الله أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال: { إن ترن أنا أقل } فـ"أنا" فصل و{ أقل } مفعول
ثان { مالاً وولداً } نصب على التمييز { فعسى ربي أن يؤتيني } في الدنيا أو في الآخرة جنة
{ خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً } هو مصدر كالغفران بمعنى الحساب أي مقداراً وقع في حساب الله وهو الحكم بتخريبها. وعن الزجاج: عذاب حسبان وهو حساب ما
كسبت يداك. وقيل: هو جمع حسبانة وهو السهم القصير يعني الصواعق. { فتصبح
صعيداً زلقاً } أرضاً بيضاء يزلق عليها زلقاً لملاستها. وزلقاً وغوراً كلاهما بالمصدر
كقولهم "فلان زور وصوم".
ثم أخبر سبحانه عن تحقيق ما قدر المؤمن فقال: { وأحيط بثمره } وهو عبارة عن
إهلاكه وإفنائه بالكلية من إحاطة العدوّ بالشخص كقوله: { إلا أن يحاط بكم } [يوسف: 66]، { فأصبح يقلب كفيه } أي يندم { على ما أنفق فيها } لأن النادم يفعل كذلك غالباً
كما قد يعض أنامله. { وهي خاوية على عروشها } أي سقطت عروشها على الأرض
وسقطت فوقها الكروم وقد مر في البقرة في قصة عزير. وقوله: { يا ليتني لم أشرك }
تذكر لموعظة أخيه وفيه دلالة ظاهرة على ما قلنا من أنه كان غير عارف بالله بل كان عابد
صنم، ومن ذهب إلى أنه جعل كافراً لإنكاره البعث فسره بأن الكافر لما اغتر بكثرة
الأموال والأولاد فكأنه أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى، أو أنه لما عجز الله عن
البعث فقد جعله مساوياً لخلقه في هذا الباب وهو نوع من الإشراك. وليس هذا الكلام منه
ندماً على الشرك ورغبة في التوحيد المحض ولكنه رغب في الإيمان رغبة في جنته وطمعاً
في دوام ذلك عليه، فلهذا لم يصر ندمه مقبولاً ووصفه بعد ذلك بقوله: { ولم يكن له
فئة } طائفة { ينصرونه من دون الله } لأنه وحده قادر على نصرة العباد. { وما كان منتصراً }
ممتنعاً بقوته عن انتقام الله. ولما علم من قصة الرجلين أن النصرة والعاقبة المحمودة
كانت للمؤمن على الكافر علم أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقيل
{ هنالك } أي في مثل ذلك الوقت والمقام والولاية الحق لله أو { الولاية لله الحق }
والولاية بالفتح النصرة والتولي، وبالكسر السلطان والملك، أو المراد في مثل تلك الحالة
الشديدة يتوب إلى الله ويلتجىء إليه كل مضطر يعني أن قول الكافر { يا ليتني } إنما صدر
عنه إلجاءً واضطراراً وجزعاً ومما دهاه من شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها. وقيل:
{ هنالك } إِشارة إلى الآخرة كقوله { لمن الملك اليوم لله } [غافر: 16] { عقباً } بضم
القاف وسكونها بمعنى العاقبة لأن من عمل لوجه الله لم يخسر قط.
ثم ضرب مثلاً آخر لجبابرة قريش فقال { واضرب لهم } الآية. وقد مر مثله في أوائل
"يونس" { إنما مثل الحياة الدنيا كماء } ومعنى { فاختلط به } التف بسببه. وقيل: معناه
روى النبات ورف لاختلاط الماء به وذلك لأن الاختلاط يكون من الجانبين. والهشيم ما
تهشم وتحطم، والذر والتطيير والإذهاب. تقول: ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه
ذرواً وذرياً. { وكان الله على كل شيء مقتدراً } من تكونيه أوّلاً وتنميته وسطاً وإذهابه
آخراً. ولا ريب أن أحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أولاً في غاية الحسن والنضارة، ثم
تتزايد إلى أن تتكامل، ثم تنتهي إلى الزوال والفناء، ومثل هذا ليس للعاقل أن يبتهج به.
وحين مهد القاعدة الكلية خصصها بصورة جزئية فقال: { المال والبنون زينة الحياة الدنيا
والباقيات الصالحات } هي أعمال الخير التي تبقى ثمرتها { خير عند ربك ثواباً } أي تعلق
ثواب وخير أملاً لأن الجواد المطلق أفضل مسؤول وأكرم مأمول. وقيل: هن الصلوات
الخمس. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ففي التسبيح تنزيه له عن
كل مالاً ينبغي، وفي الحمد إقرار له بكونه مبدأ لإفادة كل ما ينبغي، وفي التهليل اعتراف
بأنه لا شيء في الإمكان متصفاً بالوصفين إلا هو، وفي التكبير إذعان لغاية عظمته وأنه
أجلّ من أن يعظم. وقيل: الطيب من القول. والأصح كل عمل أريد به وجه الله وحده
قاله قتادة.
التأويل: { واتل } على نفسك { وما أوحي إليك من كتاب } كتبه { ربك } في الأزل
{ لا مبدل لكلماته } إلى الأبد مع الذين { يدعون ربهم } وهم القلب والسر والروح والخفى
في غداة الأزل إلى عشي الأبد فإنهم مجبولون على طاعة الله كما أن النفس جبلت على
طاعة الهوى وطلب الدنيا. { ولا تعد } عينا همتك { عنهم } فإنك إن لم تراقب أحوالهم
تصرف فيهم النفس الأمارة { ولا تطع من أغفلنا } يعني: النفس ناراً هي نار القهر والغضب
{ أحاط بهم سرادقها } يعني سرادق العزة { بماء كالمهل } كل ما هو لأهل اللطف أسباب
لسهولة العيش وفراغ البال فإنه سبحانه جعل لأهل القهر سبباً لصعوبة الأمر وشدة التعلق
حتى شوت الوجوه أي أحرقت مواد التفاتهم إلى عالم الأرواح، وفسدت استعداداتهم
فبقوا في أسفل سافلين الطبيعة { يحلون فيها من أساور } والتحلية بالأساور إشارة إلى
ظهور آثار الملكات عليهم وقوله: { من ذهب } رمز إلى أنها ملكات مستحسنة معتدلة
راسخة { يلبسون ثياباً } فيه أن أنوار العبادات تلوح عليهم وتشتمل بهم. وقوله: { خضراً }
إشارة إلى أنها أنوار غير قاهرة و { من سندس } إشارة إلى ما لطف من الرياضات
{ واستبرق } إلى ما شق منها { متكئين فيها على الأرائك } لأنهم فرغوا بها وكلفوا وقضوا
ما عليهم من المجاهدات وبقي ما لهم من المشاهدات { مثلاً رجلين } هما النفس الكافرة
والقلب المؤمن. { جعلنا لأحدهما } وهو النفس { جنتين } هما الهوى والدنيا { من
أعناب } الشهوات { وحففناهما بنخل } حب الرياسة { وجعلنا بينهما زرعاً } من التمتعات
البهيمية { وفجرنا خلالهما نهراً } من القوى البشرية والحواس. { وكان له ثمر } من أنواع
الشهوات { وهو يحاوره } يجاذب النفس والقلب { أنا أكثر منك مالاً } أي ميلاً { وأعز
نفراً } من أوصاف المذمومات { وهو ظالم لنفسه } في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق
الهوى { لأجدن خيراً منها } لأنه غر بالله وكرمه فلا جرم يقال له ما غرك بربك الكريم،
هلا قلت { ما شاء الله } أي أتصرف في جنة الدنيا كما شاء الله { على ما أنفق فيها } من العمر
وحسن الاستعداد { كما أنزلناه } هو الروح العلوي الذي نزل إلى أرض الجسد
{ فاختلط } الروح بالأخلاق الذميمة { فأصبح هشيماً } تلاشت منه نداوة الأخلاق الروحانية
{ تذروه } رياح الأهوية المختلفة فيكون حاله خلاف روح أدركته العناية الأزلية فبعث إليه
دهقان من أهل الكمال فرباه بماء العلم والعمل حتى يصير شجرة طيبة. { والباقيات
الصالحات } أي ما فني منك وبقي بربك والله أعلم بالصواب.