التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
١١٥
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ
١١٦
فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ
١١٧
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ
١١٨
وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ
١١٩
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ قَالَ يٰآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ
١٢٠
فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
١٢١
ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ
١٢٢
قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ
١٢٣
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ
١٢٤
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً
١٢٥
قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ
١٢٦
وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ
١٢٧
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ
١٢٨
وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى
١٢٩
فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ
١٣٠
وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
١٣١
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ
١٣٢
وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ
١٣٣
وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ
١٣٤
قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ ٱلصِّرَاطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهْتَدَىٰ
١٣٥
-طه

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { وإنك } بالكسر: أبو بكر وحماد والخراز ونافع. الباقون بالفتح عطفاً على { أن لا تجوع } ولا يلزم منه دخول "إن" المكسورة على المفتوحة للفصل بالخبر، ولأنه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه { أعمى } بالإمالة. حمزة وعلي وخلف { حشرتني } بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير. { ترضى } مبيناً للمفعول: علي وأبو بكر وحماد والمفضل { زهرة } بفتح الهاء: قتيبة وسهل ويعقوب. الآخرون بسكونها. وقرأ حمزة وعلي وخلف هذه السورة وكل سورة آياتها على الياء بالإمالة المفرطة وإن شاء بين الفتح والكسر.
الوقوف: { عزماً } ه { إلا إبليس } ط { أبى } ه { فتشقى } ه { ولا تعرى } ه، لمن قرأ{ وإنك } بالكسر { ولا تضحى } ه { لا يبلى } ه { الجنة } ز لنوع عدول عن ذكر حال اثنين إلى بيان فعل من هو المقصود { فغوى } ه ص { وهدى } ه { عدوّ } ج لابتداء الشرط مع الفاء { ولا يشقى }، ه { يوم القيامة أعمى } ه { بصيراً } ه { فنسيتها } ج لعطف المختلفين { تنسى } ه { يآت ربه } ط { وأبقى } ه { مساكنهم } ط { النهي } ه { مسمى } ه ط { غروبها } ج لعطف الجملتين مع اختلاف النظم { يرضى } ه { لنفتنهم فيه } ط { وأبقى } ه { عليها } ط { رزقاً } ط { نرزقك } ط { للتقوى } ه { من ربه } ط { الأولى } ه { ونخزى } ه { فتربصوا } ج لسين التهديد مع الفاء { اهتدى } ه.
التفسير: في تعلق قصة آدم بما قبلها وجوه منها: أنه لما قال: { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } ثم عظم شأن القرآن وبالغ فيه ذكر القصة إنجازاً للوعد. ومنها أنه لما قال: { وصرفنا فيه من الوعيد } أردفه بهذه القصة ليعلم أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم وخلة موروثة، وذلك أنه عهد إلى آدم من قبل هؤلاء الذين صرف لأجلهم الوعيد فنسي وترك العهد. ومنها أن قوله: { ولا تعجل بالقرآن } دليل على أنه صلى الله عليه وسلم زاد على قدر الواجب في رعاية أمر الدين وكان مفرطاً في أداء الرسالة وحفظ ما أمر به فناسب أن يعطف عليه قصة آدم لأنه كان موسوماً بالتفريط والإفراط والتفريط كلاهما من باب ترك الأولى، وإذا كان أوّل الأنبياء وخاتمهم موصوفين بما فيه نوع تقصير فما ظنك بغيرهما! ومن هنا يعرف أفضلية الخاتم فإنه سعى في طلب الكمال إلى أن عوتب بالخروج عن حد الاعتدال، وآدم توسط في حيز النقصان فلا جرم وسم بالظلم والعصيان. ومنها أن محمداً صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقول { رب زدني علماً } ثم ذكر عقيبه قصة آدم تنبيهاً على أن بني آدم مفتقرون في جميع أحوالهم إلى التضرع واللجأ إلى الله حتى ينفتح عليهم أبواب التيسير في العلم والعمل. ومعنى { عهدنا إلى آدم } أمرناه ووصيناه { من قبل } أي من قبل محمد والقرآن. وفي النسيان قولان: أحدهما أنه نقيض الذكر. عن الحسن: والله ما عصي قط إلا بنسيان. والثاني أن معناه الترك وعلى هذا يحتمل أن يقال: أقدم على الأكل من غير تأويل. وأن يقال: أقدم عليه بتأويل قد مر في "البقرة". قال أهل الإشارة: عهد إليه أن لا يعلق نوره فانقاد للشيطان وهو النسيان. والعزم أيضاً فيه أقوال: أحدها عزماً على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمد. وثانيها عزماً في العود إلى الذنب ثانياً. وثالثها رأياً وصبراً أي لم يكن من أهل العزيمة والثبات إذ كان من حقه أن يتصلب في المأمور به تصلباً يؤيس الشيطان من التسويل. قال جار الله: قوله: { ولم نجد له } يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه { له عزماً } وأن يكون بمعنى نقيض العدم كأنه قال: وعد مثاله عزماً. قوله: { وإذ قلنا للملائكة } سلف في "البقرة" مستقصى قوله: { إن هذا عدوّ لك } ذكروا في سبب عداوته إياه أنه كان شاباً عالماً لقوله: { وعلم آدم الأسماء كلها } وإبليس كان شيخاً جاهلاً لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله، والشيخ الجاهل أبداً يكون عدوّاً للشاب العالم. وأيضاً الماء والتراب مضادان للنار { فلا يخرجنكما } فلا يكون سبباً لإخراجكما لأن الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه { فتشقى } فتتعب في طلب القوت وسائر ما يتعيش به الإنسان أسند الشقاء إليه وحده مع اشتراكهما في الخروج لأن الرجل أصل في باب الإنفاق والكسب والمرأة تابعة له.
ثم بين ذلك الشقاء بقوله: { إن لك ألا تجوع فيها } إلى آخره. والظمأ العطش وتقول: ضحيت للشمس بالكسر أضحى ضحاء ممدوداً إذا برزت لها. والمراد به الكن مع أن الجنة ليس فيها شمس حتى يتصور فيها الضحاء، نفى كون هذه الأمور في الجنة ليثبت حصولها في غيرها. ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي: الشبع والري الكسوة والكن. وأما المنكوح فمشترك إلا أن مؤن النكاح تختص بالدنيا وأنها أيضاً ترجع إلى المذكورات. يروى أنه كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع. { فوسوس إليه الشيطان } أنهى إليه وسوسة كما مر في "الأعراف". بيان الوسوسة أنه { قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد } أضافها إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها بزعمه كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنه من باشر أثره حيي { وملك لا يبلى } أي لا ينقطع ولا يزول. قال القاضي: ليس في الظاهر أنه قيل ذلك منه لأنه لا بد أن يحصل بين حال التكليف وحال المجازاة فصل بالموت، والنبي يمتنع أن لا يعلم هذا القدر. وأجيب بالمنع ولو سلم فلم لا يكفي الفصل بغشي أو نوح خفيف. ولو سلم أنه لا يكفي فلم استحال أن يجهل النبي ذلك كما جهل عدم جواز الرؤية زعمكم حين قال:
{ أرني أنظر إليك } [الأعراف: 143] ومما يدل على أن آدم قبل وسوسته قوله تعالى: { فأكلا } بالفاء مشعر بالعلية كقول الصحابي: "زنى ماعز فرجم" وما في الآية قد مر تفسيره في "الأعراف" إلا قوله: { وعصى آدم ربه فغوى } قال بعض الناس: إن آدم ذنبه كبيرة وإلا لم يوصف بالعصيان والغواية فإن العاصي والغاوي اسمان مذمومان عرفاً وشرعاً وقد ترتب الوعيد عليهما. وأجيب بأن المعصية مخالفة الأمر والأمر قد يكون مندوباً. وزيف بالمنع من أن المندوب غير مأمور به. ثم أن مخالفة عاص وإلا كان الأنبياء كلهم عصاة لأنهم لا ينكفون عن ترك المندوب. قالوا: يقال أشرت إليه في أمر كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني. وأجيب بالمنع من أن هذا من مستعملات العرب العاربة، ولو سلم فلعله إنما يقال ذلك إذا عرف أن المستشير لا بد له أن يفعل ذلك، وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً وإن لم يكن وجوب شرعي لأن ذلك الإيجاب لم يصدر عن الشارع. ومنهم من زعم أنه ذنب صغير وهم عامة المعتزلة ورد بأن المعاصي إسم من يستحق العقاب وهذا لا يليق بالصغيرة. وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ولهذا قال سبحانه { فغوى } أي خاب من نعيم الجنة لأن الرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود والغي ضده، وأنه سعى في طلب الخلود فنال ضد المقصود. وعن بعضهم { فغوى } أي بشم من كثرة الأكل وزيفه جار الله. ورد قول أبي مسلم بأن مصالح الدنيا تكون مباحة فلا يوصل تاركها بالعصيان.
قلت: في هذا نظر، والأحوط في هذا الباب أن يعتقد كون هذه الواقعة قبل النبوة بدليل قوله: { ثم اجتباه ربه } أي اختاره للرسالة { وهدى } لحفظ أسباب العصمة. أصل الاجتباء هو الجمع كما مر في آخر "الأعراف". يروى عن أبي أمامة: لو وزنت أحلام بني آدم لرجح حلمه. وقد قال الله تعالى: { ولم نجد له عزماً } قال العلماء: فيه دليل على أنه لا رادَّ لقضائه وما قدره كائن لا محالة، وإذا جاء القضاء عمي البصر والدليل قد يكون غاية الظهور ومع ذلك يخفى على أعقل الناس كما خفي على آدم عداوة إبليس، وأنه تعرّض لسخط الله في شأنه حين امتنع من سجوده فكيف قبل من وسوسة
{ لولا كتاب من الله سبق } [الأنفال: 68] قال المحققون: الأولى أن لا يطلق لفظ العاصي والغاوي على آدم عليه السلام وإن ورد في القرآن { وعصى آدم ربه فغوى } لأنه لم تصدر عنه الزلة إلا مرة واحدة. وصيغة اسم الفاعل تنبىْ عن المزاولة، ولأن المسلم إذ تاب عن الشرب أو الزنا وحسنت توبته لا يقال له شارب وزان، ولأن السيد يجوز له أن يشتم عبده بما شاء وليس لغيره ذلك. { قال اهبطا } قد مر تفسير مثله في "البقرة" خاطبهما بالهبوط لأنهما أصلا البشر ثم عم الخطاب لهما ولذريتهما في قوله { فإما يأتينكم } أما قوله: { بعضكم لبعض عدوّ } فقد قال القاضي: يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس والناس أعداء لهم، فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام. عن ابن عباس: ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا قوله: { فمن ابتع هداي فلا يضل ولا يشقى } والسبب فيه أن العقاب في الآخرة لأجل أنه قد ضل عن الدين في مدة التكليف، واتباع كتاب الله يستلزم عدم الضلال عن الدين المستتبع للنجاة من العقاب في الآخرة. وأما الشقاء الذي قد يلحق المؤمن في الدنيا فلا اعتداد به لقصر مدته على أن الرضا بالقضاء يهوّن عليه مصائب الدنيا وآفاتها. ثم ذكر وعيد من أعرض عن ذكره ظاهر الكلام يدل على أن الذكر ههنا هو الهدى المذكور لأن قوله: { ومن أعرض عن ذكري } في مقابلة قوله: { فمن اتبع هداي }. وقد مر في أول "البقرة" أن المراد به الشريعة والبيان. وقال كثير من المفسرين: إن الذكر هو القرآن وسائر كتب الله وفيه نوع تخصيص. والضنك الضيق مصدر وصف به. ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث. يقال: منزل ضنك ومعيشة ضنك كأنه قيل: ذات ضنك. قالت الحكماء: عيش الدنيا ضنك ضيق لانقضائه وقصر مدّته وكثرة شوائبه، وإنما العيش الواسع عيش الآخرة. وهذا الضيق المتوعد به إما في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة مال إلى كل طائفة. أما لأول فلأن المسلم الراضي بقضاء ربه معه من التسليم والتوكل والقناعة ما يعيش به عيشاً رافغاً. والمعرض عن الدين متول عليه الحرص والشح فلا ينفك عن الانقباض ولطموح ما ليس يناله من الفراغ والرفاغ الكلي فلا هم له إلا هم الدنيا. عن ابن عباس: المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها، ومن الكفرة من ضربت عليه الذلة والمسكنة. وسئل الشبلي عن قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية" فقال: أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأيّ معيشة أضيق وأشد من أن يرد الأنسان إلى نفسه. قلت: التحقيق أن بعض البليات من العقوبات فطلب العافية منها لازم، وبعضها لمزيد الدرجات ولكن الإنسان خلق ضعيفاً فكثيراً ما يؤل أمر المبتلي إلى الجزع والفزع فيحرم الثواب فتطلب العافية من هذا القسم أيضاً خوفاً من المآل. وأما الثاني فعن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "عذاب القبر للكافر" وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الله المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه. وأما الثالث فعن الحسن وقتادة والكلبي أنه ضيق في الآخرة وفي جهنم، وأ طعامهم فيها الضريع والزقوم والحميم والغسلين، فلا يموتون فيها ولا يحيون.
أما قوله: { ونحشره يوم القيامة أعمى } كقوله:
{ ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً } } [طه: 102] فيمن فسر الزرق بالعمى { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } } [الإسراء: 97] { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } [الإسراء: 72] قال الجبائي: أراد أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيراً كالأعمى. وعن مجاهد والضحاك ومقاتل أنه أراد أعمى عن الحجة وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال القاضي: هذا القول ضعيف لأنه لا بد في القيامة أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه بتمييزه لهم الحق من الباطل، ومن هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً باعتبار ما كان، لكن قوله: { وقد كنت بصيراً } ينافيه. قال الإمام فخر الدين الرازيرحمه الله : ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا، فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر كما في الدنيا. قال: والتحقيق في الجواب عن الاعتراض هو أن النفوس الجاهلة في الدنيا إذا فارقت أبدانها تبقى على جهالتها في الآخرة فتصير تلك الجهالة سبباً لأعظم الآلام الروحانية. وأقول على القاضي: يحتمل أن يكون مجازاً باعتبار الغاية. فقد ينفي الشيء باعتبار عدم غايته وثمرته فلا ينافي كونه أعمى في الآخرة بهذا الاعتبار إعلام الله تعالى إياه الحجة، ولا كونه بصيراً في الدنيا كونه أعمى في الآخرة بالاعتبار المذكور لأن المعرض عن الدليل يشبه أن يكون كافراً معانداً، ويكون الغرض من الإعلام التوبيخ والإلزام يؤيده قوله تعالى في جوابه: { كذلك } أي مثل ذلك فعلت أنت. ثم فسر ذلك بقوله: { أتتك آياتنا } أي دلائلنا وضاحة مستنيرة { فنسيتها } أي تركت العمل بها والقيام بموجبها { وكذلك اليوم تنسى } تترك بلا فائدة النظر والاعتبار. وعلى الإمام الرازي: إنه لا يلزم من كون المكلف غير متضرر بنسيان الدلائل في الدنيا كونه غير متضرر به في الآخرة. وأما قوله في الجواب المحقق بناء على قاعدة الحكيم إن جهل النفس يصير سبباً لتعذيبها فإن كان منعاً لقول المعتزلة إنه تعالى يعلم المكلف بطلان ما كان عليه في الدنيا فذاك لا يفتقر إلى العدول، وإن كان تسليماً لقولهم فمن أين يتحمل الاعتراض هذا وقد رأيت في بعض الآثار أن أشد الناس عمى يوم القيامة هم الذين حفظوا القرآن ثم نسوه. دليله قوله تعالى: { أتتك آياتنا فنسيتها } اللَّهم اجعلني ممن يواظب على تلاوة كتابك حتى لا أنساه يوم ألقاك. { وكذلك نجزي من أسرف } قيل: عصى ربه. والأظهر أنه أراد أشرك وكفر بدليل قوله: { ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة } وهو الحشر على العمى { أشد وأبقى } من ضيق المعيشة في العاجل أو أراد، وتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه لآياتنا.
ثم وبخ المعرضين عن الدلائل بعدم الاعتبار بأحوال القرون الخالية فقال: { أفلم يهد لهم } بالفاء وفي السجدة بالواو، لأن الكلام ههنا كالمتصل بقوله: { ومن أعرض عن ذكري } وهناك كالمنفصل عن الإعراض لأنه قال:
{ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } [السجدة: 22]. وبعد ذلك أورد قصة موسى فناسب الاستئناف بالواو، وأما حذف من ههنا وإثباته هنالك فلما مر من أن "من" تفيد الاستيعاب وهنالك قد زاد في القرون بشرح قصة بني إسرائيل وما فيهم من الملوك والأنبياء. قال في الكشاف: فاعل: { لم يهد } الجملة بعده. وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجملة لا تقع فاعلاً فلهذا قال: يريد أو لم يهد لهم هذا المعنى أو مضمون هذا الكلام. قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم. وقال الزجاج: أراد أَوَ لَمْ نبين لهم ما يهدون به لو تدبروا وتأملوا. وقيل: فيه ضمير الله أو الرسول والجملة بعده تفسره يريد أن قريشاً يتقلبون في السورة. قال بعض أهل اللغة: إن للنبيه مزية على العقل فلا يقال إلا لمن له عقل ينتهي به عن القبائح فقوله: { أولي النهى } كقوله: { أولي العزم } [الأحقاف: 35] والحزم ومن هذا فسره بعضهم بأهل الورع والتقوى.
ثم بين الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلاً على من كذب من هذه الأمة فقال: { ولولا كلمة } هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة كتبها في اللوح المحفوظ وأخبر بها ملائكته ورسله لأن فيهم أو في نسلهم من يؤمن، أو لمصلحة أخرى خفية. قال أهل السنة: إنه بحكم المالكية له أن يفعل ما يشاء من غير علة. واللزام مصدر لازم وصف به. وقيل: فعال لما يفعل به فهو بمعنى ملزم كأنه آلة اللزوم أي { لكان } الأخذ العاجل { لزاماً وأجل مسمى } وهو عذاب الآخرة. وقيل: يوم بدر معطوف على { كلمة } وجوز في الكشاف أن يكون معطوفاً على الضمير في كان. ولعله إنما جوز ذلك للفصل أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وحين بين أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر على ما يقولون من التكذيب وسائر الأذيات. زعم الكلبي ومقاتل أنها منسوخة بآية القتال وليس بذاك فإن كلاً منهما معمول بها في موضعها { وسبح بحمد ربك } أي متلبساً بحمده على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه، والأكثرون أنها بمعنى الصلاة ليكون كقوله:
{ واستعينوا بالصبر والصلاة } [البقرة: 45] ولأنه بين أوقاتها فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر، وقبل غروبها صلاة الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار { ومن آناء الليل فسبح } المغرب والعتمة. وقوله { وأطراف النهار } أي في طرفيه فجمع للمبالغة وأمن الإلباس، أو لأن أقل الجمع اثنان. أو أراد طرفي كل نهار تكرار لصلاتي الفجر والعصر لا المغرب على ما ظن اعتناء بشأنهما كقوله { والصلاة الوسطى } [البقرة: 238] وآناء جمع "أنى" وهو الساعة وقد مر في "آل عمران". وإنما قدم آنا الليل وأدخل الفاء في { فسبح } المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها تنبيهاً على زيادة الاهتمام بشأن صلاة الليل، لأن الليل وقت السكون والراحة وهدوّ الأصوات فالصلاة فيه أشق على النفس وأدخل في الإخلاص وأقرب من المحافظة على الخشوع والإخبات. وبعضهم أخرج من الآية صلاة الظهر لانه خصص قبل الغروب بصلاة العصر. ومنهم من زاد فيها النوافل لأن الصلاة في الأوقات المذكورة تشملها والأمر قد يكون للندب لا أقل من التغليب. وقال أبو مسلم: الأقرب حمل التسبيح على التنزيه والإجلال كأنه لما أمره بالصبر على أذية القوم بعثه على الاشتغال بالتقديس والمواظبة عليه في كل الأوقات.
وقوله: { لعلك ترضى } كقوله:
{ عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } [الإسراء: 79] { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [الضحى: 5] ولا ريب أن الأطماع من الكريم واجب الوقوع اللَّهم ارزقنا شفاعته. ولما حث رسوله على الأمور الدينية نهاه عن الميل إلى الزخارف الدنيوية فقال: { ولا تمدّن عينيك } أي نظر عينيك. ومد النظر تطويله استحساناً للمنظور إليه، وفيه أن النظر الغير الممدود معفوّ عنه كما لو نظر فغض. وقال أبو مسلم: المنهي عنه في الآية ليس هو التطويل وإنما هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوا من حظ الدنيا. قال أبو رافع: نزل ضيف بالنبي صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهوديّ يستقرضه فقال: لا أقرضه إلا برهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض،أحمل إليه درعي الحديد فنزلت. " والأزواج الأصناف. وقيل: أي أشكالاً وأشباهاً من الكفار لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب. وقد مر في آخر الحجر. ولقد شدد العلماء المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وملابسهم ومراكبهم لأنهم اتخذوها. قال جار الله: انتصب { زهرة } على الذم، أو على تضمين متعنا بمعنى خولنا وأعطينا، أو على إبداله من محل { به } أو على إبداله من { أزواجاً } والتقدير ذوي زهرة وهي الزينة والبهجة. ومن قرأ بفتح الهاء فبمعناها أيضاً أو هي جمع زاهر كأنهم لصفاء ألوانهم وظهور آثار النعومة عليهم زاهر وهذه الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب. وقوله: { لنفتنهم } أي لنبلوهم كقوله: { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم } [الكهف: 7] وقيل: لعذبهم كقوله: { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم } [التوبة: 55]. وقال الكلبي ومقاتل: لنشدد عليهم في التكليف لأن الاجتناب عن المعاصي مع القدرة يكون أشق على النفس. { ورزق ربك } هو ثواب الآخرة أو ما رزقت من الإسلام والنبوّة { خير وأبقى } وقيل: أراد به الحلال الطيب الذي يحق أن ينسب إلى ربك خير من أموالهم التي غلب عليها الغصب والسرقة وسائر وجوه الخيانة، وأبقى بركة ونماء وحسن عاقبة. { وأمر أهلك } في سورة مريم { وكان يأمر أهله بالصلاة } [الآية: 55] أي أقبل أنت مع أهلك على عبادة الله. ومن السلف من كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله ثم يتلو هذه الآية. وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ { ولا تمدنّ عينيك } الآية. ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعليّ كل صباح ويقول: "الصلاة وكان يفعل ذلك شهراً" وقوله: { واصطبر عليها } أراد أنك كما تأمرهم بها فحافظ عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أثم منه بلسان القول { لا نسألك رزقاً } كما يريد الملوك خراجاً من رعيتهم والسادة خرجاً من عبيدهم { بل نحن نرزقك } كقوله: { وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } [الذاريات: 57 - 58] والحاصل أنا إنما أمرناك بالصلاة فذلك لأجل انتفاعك بثوابها لا لأنا ننتفع بها. وقيل: لا نسألك رزقاً لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك وإياهم فلا تهتم بأمر الرزق والمعيشة وفرغ بالك لأمر الآخرة وفي معناه قولهم "من كان في عمل الله كان الله في عمله". وقال أهل الإشارة { ورزق ربك } رمز إلى قوله: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" قال عبد الله بن سلام: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة. { والعاقبة } أي الجميلة { للتقوى }.
ثم عاد إلى قوله: { فاصبر على ما يقولون } فحكى واحدة من شبهاتهم هي قولهم: { لولا يأتينا بآية من ربه } كأنهم لم يتعدّوا بالقرآن الذي أخرس شقاشقهم فرد الله عليهم بقوله: { أولم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى } لأن القرآن برهان سائر الكتب المنزلة لأنه معجز دونها فهو شاهد لها بالصحة وأنها من عند الله. وقيل: أراد بالبينة ما فيها من بشارة مقدم محمد صلى الله عليه وسلم. وعن ابن جرير أنه ما رأوا فيها من قصص الأمم المكذبة وبيان إهلاكهم بعد اقتراح الآيات وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه { بينة ما في الصحف الأولى } ثم بين الحكمة في نزول القرآن فقال: { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله } أي من قبل البرهان المذكور الدال عليه البينة { لقالوا } أي في القيامة لأن الهالك لا قول له في الدنيا. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك وتلا قوله: { لولا أرسلت إلينا رسولاً } والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلاً أنتفع به. ويقول الصبي: كنت صغيراً لا أعقل. فيرفع لهم نار ويقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في عالم الله أنه سعيد ويتلكأ من كان في علمه أنه شقى. فيقول الله تعالى: عسيتم اليوم فكيف برسولي لو أتاكم؟!" . وطعن المعتزلة في هذا الخبر قالوا: لا يحسن العقاب على ما لم يفعل. وقال الجبائي: في الآية دلالة على وجوب فعل اللطف والمراد أنه يجيب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده وإلا كان لهم أن يقولوا: هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن. وقال الكعبي: فيها أوضح دليل على أنه تعال يقبل الاحتجاج من عباده. وليس معنى قوله: { لا يسأل عما يفعل } [الأنبياء: 23] أن الجور منه يكون عدلاً بل تأويله أنه لا يقع منه إلا العدل. وإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة. واستدل أهل السنة بها على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع وإلا لكان العقاب حاصلاً قبل مجيئه. ثم ختم السورة بوعيد إجمالي فقال: { قل كل } أي كل منا ومنكم { متربص } عاقبة أمره وهذا الانتظار إما قبل الموت بسبب الأمر بالجهاد أو ظهور الدولة والغلبة، أو بالموت فإن كان واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه، وإما بعد الموت وهو ظهور أثر الثواب والعقاب وتمييز المحق المبطل ويؤديه قوله: { فستعلمون } إلى آخره وهذا من كلام المنصف وبالله المستعان. (تم).