القراءات: { وحرم } بكسر الحاء: حمزة وعلي وعاصم غير حفص وأبي زيد عن
المفضل { فتحت } بالتشديد: ابن عامر ويزيد ويعقوب. { لا يحزنهم } بضم الياء وكسر
الزاء يزيد { نطوي } بضم التاء الفوقانية وفتح الواو { والسماء } بالرفع: يزيد. { للكتب }
على الجمع: حمزة وعلي وخلف وحفص { بدأنا } مثل { أنشأنا } { قال } بالألف على
حكاية قول الرسول { رب } بحذف الياء اكتفاء بالكسرة: حفص غير الخراز { رب } بضم
الباء على أنه مبتدأ { احكم } على صيغة التفضيل. يزيد عن يعقوب الباقون { رب احكم }
{ يصفون } على الغيبة: المفضل وابن ذكوان في رواية.
الوقوف: { واحدة } ز لأن المقصود من قوله { أنا ربكم } قوله { فاعبدون } وكان الكلام
متصلاً { فاعبدون } ه { وبينهم } ط { راجعون } ه { لسعيه } ج لاختلاف الجملتين
{ كاتبون } ه { لا يرجعون } ه { ينسلون } ه { كفروا } ط لإضمار القول { ظالمين }
ه { جهنم } ط { واردون } ه { ما وردوها } ط{ خالدون } ه { فيها } ط { لا يسمعون } ه
{ الحسنى } لا لأن ما بعد خبر "إن" { مبعدون } ه لا لأن ما بعده خبر بعد خبر
{ حسيسها } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { خالدون } ه ج لاحتمال الجملة بعده أن
تكون صفة أو استئنافاً { الملائكة } ط لأن التقدير قائلين هذا يومكم { توعدون } ه
{ للكتب } ط لأن الجار يتعلق بما بعده { نعيده } ط لحق المضمر اي وعدنا وحقاً { علينا }
ط { فاعلين } ه { الصالحون } ه { عابدين } ه ط لاختلاف الجملتين { للعالمين } ه واحد
ج للاستفهام مع الفاء { مسلمون } ه { على سواء } ط لابتداء النفي { توعدون } ه
{ تكتمون } ه { حين } ه { بالحق } ط لأن ما بعده مبتدأ خارج عن المقول، ومن قرأ
{ ربي احكم } فوقفه مجوز لنوع عدول من الواحد إلى الجمع { تصفون } ه.
التفسير: لما فرغ من قصص الأنبياء أراد أن يذكر ما استقر عليه أمر الشرائع في آخر
الزمان فقال { إن هذه أمتكم } وسيرتكم، فالأمة الدين والطريقة لأنه أصل وقانون يرجع
إليه. وللتركيب دلالة على ذلك وهذا إشارة إلى ملة الإسلام أي إن هذه الملة هي طريقتكم
وسيرتكم التي يجب أن تكونوا عليها حال كونها طريقة واحدة غير مختلفة. { وأنا ربكم } لا
غيري { فاعبدون } والخطاب للناس كافة، وكان الظاهر أن يقال بعده وتقطعتم أمركم ينكم
أي جعلتم أمر دينكم بينكم قطعاً كما يقسم الشيء بين الجماعة فيصير لهذا نصيب ولهذا
نصيب فصرتم فرقاً مختلفة وأحزاناً شتى، إلا أنه عدل من الخطاب إلى الغيبة على طريقة
الالتفات كأنه يقبح أمرهم إلى غيرهم فيقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء؟ عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت
فرقة وأن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة وتخلص فرقة واحدة قالوا: يا رسول الله ومن
الفرقة الناجية؟ قال: الجماعة الجماعة" فهذا الحديث مفسر للآية من حيث إن هذه الأمة يجب أن يكونوا على كلمة واحدة، طعن بعضهم في الحديث أنه أراد بالاثنتين والسبعين
فرقة اصول الأديان فإنها لا تبلغ هذا العدد، وإن أراد الفروع فإنها أضعاف هذا العدد.
وأجيب بأنه أراد ستفترق أمتي هذا العدد في حال ما، وهذا لا ينافي كون العدد في بعض
الأحوال أنقص أو أزيد. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة { فاعبدون وتقطعوا }
بالواو وفي "المؤمنين" { فاتقون * فتقطعوا } [الآية: 52 ـ 53] بالفاء لأن الخطاب ههنا أعم
والعبادة أعم من التقوى. وأيضاً الخطاب يتناول الكفار وقد وجد منهم التقطع قبل هذا
القول، وفي سورة المؤمنين الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بدليل قوله { يا أيها الرسل كلوا
من الطيبات } [الآية: 51] ثم قال { فتقطعوا } [الآية: 53] اي ظهر منهم أي من أمتهم
التقطع بعد هذا القول ولأن التقطع منهم أغرب أكده هناك بقوله { زبراً } وفي قوله { كل إلينا
راجعون } وعيد عظيم للفرق المختلفة. ثم فصل مآل لهم بقوله { فمن يعمل } الآية
والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه في قوله { فأولئك كان
سعيهم مشكوراً } [الإسراء: 19] وإنما لم يقل "فلا يكفر سعيه" لأن نفي الجنس أبلغ فإن
نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها. وفي قوله { وأنا له } اي لذلك السعي { كاتبون }
مبالغة أخرى فإن المثبت في الصحيفة أبعد من النسيان والغلط كما قيل: قيدوا العلم
بالكتابة. ولا سيما إذا كان الكاتب ممن لا يجوز عليه السهو والنسيان. قال المفسرون:
معناه حافظون لنجازي عليه. وقيل: مثبتون في أم الكتاب أو في صحف الأعمال. هذا حال
السعداء وأما أحوال أضدادهم فذلك قوله { وحرام } ومن قرأ { حرم } فإنه فعل بمعنى
مفعول. والتركيب يدور على المنع اي ممتنع أو ممنوع وهذا خبر لا بد له من مبتدأ وذلك
قوله { أنهم لا يرجعون } أو غير ذلك. والرجوع إما الرجوع عن الشرك إلى الإسلام أو
الرجوع إلى الدنيا أو إلى الآخرة. وعلى الأول إما أن تكون "لا" زائدة أقحمت للتأكيد ومعنى
الآية ممتنع على أهل قرية عزمنا على إهلاكها أو قدرنا إهلاكها أن يرجعوا أو يتوبوا إلى أن
تقوم الساعة والمراد تصميمهم على الكفر. وإما أن تكون معيدة ولكن الحرام بمعنى
الواجب تسمية لأحد الضدين باسم الآخر باشتراكهما في المنع إلا أن الوجوب منع عن
الترك والحرمة منع عن الفعل، وقد ورد في الاستعمال مثل ذلك قال سبحانه { قل تعالوا
أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا } [الأنعام: 151] وترك الشرك واجب وليس بمحرم،
وقالت الخنساء:
وإن حراماً لا ارى الدهر باكياً على شجوه إلا بكيت على عمرو
وعلى الثاني فالإهلاك على أصله، والمعنى أن رجوعهم إلى الدنيا ممتنع أو عدم
رجوعهم واجب إلى قيام الساعة نظيره قوله { فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم
يرجعون } [يس: 50] وعلى الثالث فقوله "حتى" غاية لقوله { لا يرجعون } اي ممتنع عدم
رجوع المهلكين إلى عذاب الآخرة حتى الساعة، وذلك أن رجوعهم إلى عذاب النار قبل
الساعة واجب بقوله { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } [غافر: 46] وقال أبو مسلم: أراد
أن رجوعهم إلى الآخرة واجب إلى هذه الغاية أي أنهم يكونون أول الناس حضوراً في محفل
القيامة. وعلى الرابع فالمعنى وحرام عليهم ذلك وهو المذكور من السعي المشكور غير
المكفور لأنهم لا يرجعون عن الكفر إلى أن تقوم الساعة.
قوله تعالى { حتى إذا فتحت } "حتى" هي التي يقع بعدها الجملة وهي ههنا مجموع
الشرط والجزاء و"إذا" المفاجأة تسد مسد فاء الجزاء، وقد يجمع بينهما للتعاون على وصل
الجزاء بالشرط فيتأكد وإنما احتيج إلى هذا التأكيد لأن الشرط يحصل في آخر أيام الدنيا
والجزاء إنما يحصل يوم القيامة، ولعل بينهما فاصلة بالزمان إلا أن التفاوت القليل كالمعدوم
والمضاف محذوف أي سد يأجوج ومأجوج وتأنيث الفعل لأنهما قبيلتان وهما
ومن جنس الأنس كما مر في آخر الكهف. يقال: الناس عشرة أجزاء
تسعة منها يأجوج ومأجوج. وفي الحديث "إن منكم واحداً ومن يأجوج
ومأجوج ألف" . قوله { وهم من كل حدب ينسلون } قال أكثر المفسرين: الضمير ليأجوج
ومأجوج يخرجون حين يفتح السد. وعن مجاهد أنه لجميع المكلفين الذين يساقون إلى
المحشر. والحدب ما إرتفع من الأرض والنسل الإسراع. { واقترب } عطف على { فتحت }
وهو داخل في الشرط. و{ الوعد الحق } القيامة وقوله { فإذا هي شاخصة } كقوله في سورة
إبراهيم { ليوم تشخص فيه الأبصار } [إبراهيم: 42] وقال في الكشاف: { هي } ضمير مبهم
توضحه الأبصار وتفسره. قلت: فعلى هذا { هي } مبتدأ { وشاخصة } خبره { وأبصار } بدل
{ هي } ولو قيل: { هي } ضمير القصة مبتدأ والجملة التي هي أبصار الذين كفروا شاخصة
خبره جاز وهو قول سيبويه. ثم ههنا إضمار اي يقولون { يا ويلنا } وهو في موضع الحال
من الذين كفروا والعامل شاخصة { قد كنا في غفلة من هذا } الوعد أو الأمر { بل كنا
ظالمين } أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب الرسل وعبادة الأوثان. ثم بين حال معبوديهم يوم
القيامة فقال: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } اي محصوبها بمعنى محصوب
فيها، والحصب الرمي ومنه الحصباء لأنه يرمى بها الشيء وقرئ حطب. واللام في قوله
{ أنتم لها واردون } كاللام في قوله "هو لزيد ضارب" وذلك لضعف عمل اسم فيما تقدم
عليه. والمعنى لا بد لكم أن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها. ثم ألزمهم الحجة بقوله
{ لو كان هؤلاء } المعبودون { آلهة } في الحقيقة { ما وردوها } لكنهم واردوها للخبر
الصادق الذي يتنبه لصدقه من يتأمل في إعجازه فينتج أن هؤلاء ليسوا بآلهة وأنها لا تستحق
تعظيماً أصلاً. ثم أخبر أنهم بعد ورودهم النار لا يخلصون منها أبداً فقال { وكل } اي من
العابدين والمعبودين { فيها خالدون لهم فيها زفير } قد سبق معانيه في آخر سورة هود { وهم
فيها لا يسمعون } شيئاً إما لأنهم يجعلون في توابيت من نار عن ابن مسعود، وإما لأنه تعالى
يصمهم كما يعميهم. والصمم في بعض الأوقات لا ينافي كونهم سامعين أقوال أهل الجنة
في غير ذلك الوقت، أو المراد أنهم لا يسمعون ما يسرهم، أو الضمير للمعبودين والسماع
سماع إجابة، وعلى هذا فالضمير في { لهم فيها زفير } للعابدين وجاز اعتماداً على فهم
السامع حيث يرد كلاً من الضميرين على ما يناسبهما كأنه قيل: العابد يدعو والمعبود لا
يجيب، ويجوز أن يكون للمعبودين أيضاً لأن فيهم من يتأتى منه الزفير كالشياطين فغلب،
أو لأن الجماد ينطقه الله وقتئذ والزفير بمعنى اللهيب والله أعلم. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً، فجلس إليهم
فعرض له النضر بن الحرث وكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليهم { إنكم وما تعبدون من دون الله } الاية. فأقبل عبد الله بن الزبعري فأخبره الوليد بن المغيرة بنا جرى
فقال معترضاً: اليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا
الملائكة؟ فقال عليه السلام: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك وأنزل الله تعالى { إن
الذين سبقت } الآية. فخرج من الحديث. الآية جواب ابن الزبعري على أتم وجه وأكمله
كأنه قيل أولاً إن الاية باقية على عمومها لأن الذين عبدوا عزيراً والمسيح والملائكة لم
يعبدونهم في الحقيقة، وإنما عبدوا الشياطين التي دعتهم إلى ذلك، ولئن سلم أنهم عبدوهم
في الحقيقة لكنهم مخصوصون بما سبقت لهم منا الخصلة الحسنى وهي السعادة أو البشرى
بالثواب أو بتوفيق الطاعة وكل ميسر لما خلق له. ومن المفسرين من أجاب عن اعتراض ابن
الزبعري بوجوه آخر منها: أن قوله { إنكم } خطاب لمشركي قريش وإنهم لم يعبدوا سوى
الأصنام. ولقائل أن يقول: حمل الآية على العموم أتم فائدة. ومنها أن قوله { وما تعبدون }
لا يتناول العقلاء فيسقط الاعتراض. ولقائل أن يقول: ما أعم لا مباين فيشمل ذوي العقول
وغيرهم ولهذا جاء { والسماء وما بناها } [الشمس: 5] سبحان ما سخركن لنا. ومنها أنه
تعالى يصور لهم في النار ملكاً على صورة من عبدوه، وضعف بأن القوم لم يعبدوا تلك
الصورة، وبأن الملك لا يتعذب بالنار كخزنة جهنم. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب فقوله { إن الذين } لا يبعد أن يكون عاماً لكل المؤمنين ويؤيده ما روي أن
علياً قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد
الرحمن بن عوف. وزعم مثبتوا لعفو أن الحسنى في الاية هي الوعد بالعفو لأنه قال
{ أولئك عنها مبعدون } بأزاء قوله { أنتم لها واردون } والورود الدخول فالإبعاد الإخراج من
النار بعد أن كانوا فيها. وأيضاً إبعاد البعيد محال. وقوله { لا يسمعون حسيسها } إذ
الصوت الذي يحس به مخصوص بما بعد الإخراج. وايضاً قوله { لا يحزنهم الفزع الأكبر }
يفهم منه أنه يحزنهم الفزع الأصغر، فالأكبر عذاب الكفار والأصغر عذاب صاحب الكبيرة،
والأكثرون على أن المراد من قوله { مبعدون } أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة لأن ما
جعل بعيداً عن شيء ابتداء يحسن أن يقال: إنه أبعد عنه، وهؤلاء لم يفسروا الورود في قوله
{ { وإن منكم إلا واردها } [مريم: 71] بالدخول كما مر في سورة مريم. وفي قوله { لا
يسمعون حسيسها } تأكيد للإِبعاد فقد لا يدخل النار ويسمع حسيسها. ثم بين أنهم مع العبد
عن المنافي منتفعون بالقرب من الملائم ملتذون به على سبيل التأبيد فقال { وهم فيما
إشتهته } { أنفسهم } أي فيما تطلبه للالتذاذ به { خالدون } هذا نصيب أهل الجنة، وأما أهل
الله فهم فيما اشتهت قلوبهم وارواحهم وأسرارهم خالدون. والفزع الأكبر قيل: النفخة
الأخيرة لقوله { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض } [النمل: 87]
وعن الحسن هو الانصراف إلى النار فإنه لا فزع أكبر مما إذا شاهدوا النار، وهذا أمر يشترك
فيه أهل النار جيمعاً، ثم مراتب التعذيب بعد ذلك متفاوتة. وعن الضحاك وسعيد بن جبير
هو حين تطبق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة، وقيل: حين يذبح الموت على
صورة كبش أملح فعند ذلك يستقر أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة وتستقبلهم
الملائكة مهنئين قائلين { هذا يومكم } اي وقت ثوابكم { الذي كنتم توعدون } ذلك قال
الضحاك: هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم. والعامل في { يوم نطوي السماء }: { لا
يحزنهم } أو { تتلقاهم }. والسجل اسم للطومار الذي يكتب فيه. وعن ابن عباس أنه ملك
يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه وهو مروي ايضاً عن علي رضي الله عنه. وروى أيضاً
أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمعروف. قال الزجاج: هو
الرجل بلغة الحيش. فعلى هذه الوجوه فالطي وهو المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الوجه
الأول هو مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف كطي الطاوي للسجل وهو قول الأكثرين
وإشتقاقه من السجل الدلو العظيم وقد قرئ به والتركيب يدل على الامتلاء والاجتماع ولهذا
لا يسمى الدلو سجلاً إلا إذا كان فيه ماء ومنه "أسجلت الحوض ملأته". وقوله { للكتاب }
أي للكتابة ومعناه ليكتب فيه أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع
على المكتوب. ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي ما يكتب فيه من المعاني الكثيرة، وكيفية
هذا الطي لا يعلمها إلا من أخبر عن ذلك أما قوله { كما بدأنا } فمن المفسرين من قال: إنه
ابتداء كلام ومنهم من قال: إنه وصف قوله { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } بقوله { يوم
نطوي } ثم عقبه بوصف آخر فقال { كما بدأنا أول خلق } وهو مفعول نعيد الذي يفسره
{ نعيده } و"ما" كافة أي نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالابتداء في تناول القدرة
لهما على السواء. فكما أوجده أولاً عن عدم يعيده ثانياً عن عدم. ومنهم من قال: الإعادة
إنما تتعلق بالضم والتركيب بعد تفريق الأجزاء الاصلية والآية لا تطابقه كل المطابقة. وأول
خلق كقولك "هو أول رجل" اي إذا فضلت رجلاً رجلاً فهو أولهم، وإنما خص أول الخلائق
بالذكر تصويراً للإيجاد عن العدم ودفعاً للاعتراض. وجوز جار الله أن تنتصب الكاف بفعل
مضمر يفسره نعيده و"ما" موصولة اي نعيد مثل الذي بدأنا نعيده و { أول خلق } ظرف
{ لبدأنا } أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ وقوله { وعداً } مصدر
مؤكد لأن قوله نعيد عدة للإعادة وقيل: أراد حتماً { علينا } لسبب الإخبار عن ذلك وتعلق
العلم بوقوعه فإن وقوع ما علم الله وقوعه واجب ثم حقق ذلك بقوله { إنا كنا فاعلين }
اي سنفعل ذلك لا محالة فإنا قادرون عليه. عن سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد
أن الزبور جنس للكتب المنزلة كلها، والذكر أم الكتاب يعني اللوح ففيه كتابة كل ما سيكون
اعتباراً للملائكة، وكتب الأنبياء كلهم منتسخة منه، وعن قتادة أن الزبور هو القرآن، والذكر
هو التوراة. وعن الشعبي أن الزبور هو كتاب داود عليه السلام والذكر التوراة. وجوز الإمام
فخر الدين أن يراد بالذكر العلم أي كتبنا فيه بعد أن كنا عالمين غير ساهين. والمراد تحقيق
وقوع المكتوب فيه، والأرض أرض الجنة، والعباد الصالحون هم المؤمنون العالمون بما
يجب عليهم نظيره قوله { وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين }
[الزمر: 74] قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والسدي وأبو العالية. وإنما ذهبوا إلى
هذا القول لأن أرض الدنيا تعم الصالح وغير الصالح، ولأن الآية وردت بعد ذكر الإعادة.
وعن ابن عباس أيضاً في رواية الكلبي أنها أرض الدنيا يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار
نظيره { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأرض } [النور: 55]
وقيل: الأرض المقدسة يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم عند نزول عيسى ابن مريم { إن في هذا }
الذي ذكر في السورة من الأخبار والوعد والوعيد وغير ذلك { لبلاغاً } لكفاية { لقوم
عابدين } عاملين بما ينبغي عمله من الخيرات بعدما عملوا من كيفية أدائها. والبلاغ ما يبلغ
به المرء مطلوبه من الوسائط والوسائل، ولا مطلوب أجل من سعادة الدارين فكل من كان
وسيلة إلى نيل هذا المطلوب على الوجه الأتم الأكمل كان وجوده رحمة من الله للطالب
المتحير وما ذاك إلا خاتم النبيين فلهذا قال { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } وكونه رحمة
للكل لا ينافي قتله بعض الكفرة والتعرض لأموالهم وأولادهم كما أن كي بعض أعضاء
المريض بل قطعه لا ينافي حذق الطبيب وإشفاقه على المريض ومن هنا قيل: آخر الدواء
الكي. والعاقل لا ينسب التقصير إلى الفاعل لقصور في القابل. قالت المعتزلة: لو كان الكفر
الكافر بخلق الله لم يكن إرسال الرسول رحمة له لأنه لا يحصل له حينئذ إلا لزوم الحجة
عليه. وأجيب بأنه كونه رحمة للفجار هو أنهم أمنوا بسببه عذاب الاستئصال، ولا يلزم أن
يكون الرسول رحمة للمؤمنين من جهة كونه رحمة للكافرين، والجواب المحقق أن كونه
رحمة عامة بالنسبة على أمة الدعوة لا ينافي كونه رحمة خاصة بالنسبة إلى أمة الإجابة وهو
قريب مما ذكرناه أولاً، والحجة وتبعتها لازمة على الكافر وإن لم يبعث النبي غايته أنها بعد
البعثة ألزم. وفي الآية دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة لأنه رحمة لهم فإنهم من
العالمين وعورض بقوله { ويستغفرون لمن في الأرض } [الشورى: 5] والاستغفار رحمة.
والجواب أن الرحمة بمعنى كونه في نفسه مكملاً في الغاية غير الرحمة بمعنى الدعاء، فلا
يلزم من كون الأول سبباً للأفضلية كون الثاني كذلك، ثم بين أن أصل تلك الرحمة وأسها
هو دعاؤه إلى التوحيد والبراءة عن الشرك فقال { قال إنما يوحى إلي } إن كانت "ما"
موصولة فمعناه أن الذي يوحي إليَّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزه
إلى ما يناقضها أو يضادها بأي قسمة فرضت وإن كانت كافة المعنى أن الوحي مقصور على
استئثار الله بالوحدة، وذلك أن القصر يكون أبداً لما يلي إنما وفي قوله { فهل أنتم مسلمون }
بعث لهم على قبول هذا الوحي الذي هو أصل التكاليف كلها، وفيه نوع من التهديد فلذلك
صرح به قائلاً { فإن تولوا فقل آذنتكم } اي أعلمتكم والمراد ههنا أخص من ذلك وهو
الإنذار { على سواء } هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله { فانبذ إليهم على سواء }
[الأنفال: 58] إلى وقت اي حال كونكم مستوين في ذلك لا فرق بين القريب والأجنبي
والقاصي والداني والشريف والوضيع ولهذا قال أبو مسلم: الإيذان على سواء هو الدعاء إلى
الحرب مجاهرة كقوله { فانبذ إليهم على سواء } [الأنفال: 58] وقيل: أراد أعلمتكم ما هو
الواجب عليكم من أصول التكاليف ولا سيما التوحيد على السوية من غير فرق في الإبلاغ
بين مكلف ومكلف. ولست { أدري أقريب ما توعدون } أم بعيد والموعود قيل: هو عذاب
الآخرة. واعترض بأنه ينافي قوله { واقترب الوعد الحق } وقيل: هو الأمر بالقتال لأن
السورة مكية وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة. وقيل: هو إعلاء شأن الإسلام وغلبة ذويه فإنه
لا بد أن يلحق للكفار حينئذ ذلة وصغار. ولما أمره أن ينفي عن نفسه علم الغيب أمره أن
يقول لهم إن الله سبحانه هو العالم بالسر والعلن فيعلم ما تجاهرون به من المطاعن في
الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الإحن والضغائن فيجازيكم على القبيلين { وإن أدري
لعله } اي ما أدري لعل تأخير هذا الوعد أو إبهام وقته أو تأخير الأمر بالجهاد امتحان لكم
لينظر كيف تعملون وتمنيع لكم { إلى حين } حضور وقت الموعد. وقال الحسن: لعل ما
أنتم عليه من الدنيا ونعيمها بلية لكم. وقيل: اراد لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت ابتلاء لكم
لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالاً بعد حال يكون عذابه اشد. ومعنى { رب احكم
بالحق } أقضى بيني وبين من يكذبني بالعذاب. قال قتادة: امره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء
في هذه الدعوة وكانوا يقولون { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } [الأعراف: 89]
فاستجيب له فعذبوا ببدر، وقال جار الله: بالحق لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم
كما قال "أشدد وطأتك على مضر" وقيل: معناه وافعل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع
تنصرني عليهم كأنه سبحانه قال له: قل داعياً إليَّ رب احكم بالحق وقل متوعد للكفار
{ وربنا الرحمن المستعان } الذي يستعان به { على ما تصفون } من الشرك والكفر وما
تعارضون به دعوتي من الأباطيل، وكانوا يطمعون أن يكون لهم الغلبة والدولة فقلب الله
الأمر عليهم. وفي هذا الأمر تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ورفع عن مقداره حيث أمر بالانقطاع إلى الرب
في دفع أذية القوم ليحصل له مع الخلاص من أذيتهم شرف الاستجابة وهذه غاية العناية.
التأويل: { إن هذه أمتكم } فيه إشارة إلى أن السالك إذا عبر المقامات التي ذكرنا
تصير متفرقات شمله مجتمعة في الفناء بالله والبقاء به، فيكون أمة واحدة في ذاته كما أن
إبراهيم كان أمة فيعرفه الله نفسه ويقول { أنا ربكم } الذي بلغتكم هذه الرتبة { فاعبدون } أي
فاعرفون { وتقطعوا أمرهم } فمنهم من سكن إلى الدنيا، ومنهم من سكن إلى الجنة، ومنهم
من فر إلى الله { كل إلينا راجعون } أما طالب الدنيا فيرجع إلى صورة قهرنا وهي جهنم،
وأما طالب الآخرة فيرجع إلى صورة رحمتنا وهي الجنة، وأما الذي يطلبنا فإنه يرجع إلينا
بالحقيقة { وإنا له كاتبون } في الأزل من أهل السعادة { حتى إذا فتح } سد { يأجوج } النفس
و{ مأجوج } الهوى، والسد أحكام الشريعة وفتحها مخالفاتها وموافقات الطبع وهم أعني
دواعي النفس من كل معدن شهوة من الحواس الظاهرة والباطنة { ينسلون } فيفسدون ما
يمرون عليه من القلب والسر والروح { واقترب الوعد } إهلاك القلوب الغافلة { فإذا هي
شاخصة ابصار } بصائرها بالانهماك في الأهواء { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } العناية
الأزلية { لا يسمعون حسيسها } أعني مقالات أهل البدع والأهواء { وهم فيما اشتهت
أنفسهم } المطمئنة المجذوبة بجذبة { ارجعي } في مقامات السير في الله { خالدون } الفزع
الأكبر قوله في الأزل "هؤلاء في النار ولا أبالي" { يوم نطوي } سماء وجود الإنسان بتجلي
صفات الجلال في إفناء مراتب الوجود من الانتهاء إلى الابتداء وذلك قوله { كما بدأنا أول
خلق نعيده } يعني أن الرجوع يكون بالتدريح كما أن البدء كان بالتدريج خلق النطفة علقة ثم
خلق العلقة مضغة ثم خلق المضغة عظاماً ثم كسا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر. ففي
الإعادة يجب أن يمر السالك من الإحساس على الحيوانية ثم النباتية ثم المعدنية ثم البسائط
العنصرية ثم الملكوتية ثم الروحانية ثم إلى صفات الربوبية بجذبة { ارجعي إلى ربك }
[الفجر: 28] { ولقد كتبنا في الزبور } أي في أم الكتاب { من بعد الذكر } أي بعد أن قلنا
للقلم أكتب نظيره { كن فيكون } [يس: 82] أن أرض جنة الوجود الحقيقي { يرثها عبادي
الصالحون } وهم الذين طويت سماء وجودهم المجازي. فالوجود المجازي لكونه غير ثابت
ولا مستقر كالسماء، ولوجود الحقيقي لكونه ثابتاً ومستقراً على حالة واحدة كالأرض
{ لقوم عابدين } عارفين. { وما أرسلناك } من كتم العدم { إلا رحمة للعالمين } فلولاك لما
خلقت الأفلاك "أول ما خلق الله روحي" ولولا الأزل لم تنته الهوية إلى الآخر والله أعلم.