التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
١
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ
٢
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ
٣
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٥
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٦
وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ
٧
ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
٨
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٩
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلعَبِيدِ
١٠
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١١
يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٢
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ
١٣
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
١٤
مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ
١٥
وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ
١٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئِينَ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
١٧
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
١٨
هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ
١٩
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ
٢٠
وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
٢١
كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٢٢
-الحج

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { سكرى } في الحرفين على تأويل الجماعة: حمزة وعلي وخلف { ونقر } { ثم نخرجكم } بالنصب فيهما: المفضل { وربأت } بالهمزة حيث كان. يزيد { ليضن } بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب { خاسر الدنيا } اسم فاعل منصوباً على الحالية. روح وزيد { ثم ليقطع } { ثم ليقضوا } بكسر اللام فيهما: ابو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وورش وافق القواس في { ليقضوا } وزاد ابن عامر { وليوفوا } { وليطوفوا } وقرأ الأعشى { وليوفوا } بالتشديد، وقرأ أبو بكر وحماد { وليوفوا } بالتشديد وسكون اللام. الباقون بالتخفيف والسكون { هذان } بتشديد النون: ابن كثير.
الوقوف: { ربكم } ج على تقدير فإِن { عظيم } ه { شديد } ه { مريد } ه لا لأن ما بعده صفة { السعير } ه { لنبين لكم } ط لأن التقدير ونحن نقر ومن قرأ بالنصب لم يقف { اشدكم } ج لانقطاع النظم في اتحاد المعنى { شيئاً } ط { بهيج } ه { قدير } ه لا للعطف { فيها } لا { القبور } ه { منير } ه لا لأن ما بعده حال { عن سبيل الله } ط { الحريق } ه { للعبيد } ه { حرف } ج للشرط مع الفاء { به } لا للعطف مع الفاء مع الاستقلال { على وجهه } ق إلا لمن قرأ { خاسر الدنيا } ط { والآخرة } ط { المبين } ه { من ينفعه } ط { البعيد } ه { من ينفعه } ط { العشير } ه { الأنهار } ط { ما يريد } ه { ما يغيظ } ه { بينات } ط { من يريد } ه { يوم القيامة } ط { شهيد } ه { من الناس } ط وقيل: { يوصل } ويوقف على { العذاب } ط { مكرم } ط { ما يشاء } ه { في ربهم } ز لعطف الجملتين المتفقتين مع أن ما بعده ابتداء بيان حال الفريقين أحدهما { فالذين كفروا } والثاني { أن الله يدخل } { من نار } ج ه { الحميم } ج ه لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً أو وصفاً على أن اللام للجنس كما في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني. { والجلود } ه ط { حديد } ه { الحريق } ه.
التفسير: إنه قد أنجر الكلام من خاتمة السورة المتقدمة إلى حديث الإعادة وما قبلها أو بعدها كوراثة المؤمنين الأرض وما معها كطي السماء، فلا جرم بدأ الله سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثاً على التقوى التي هي خير زاد إلى المعاد ويدخل في التقوى فعل الواجبات وترك المنكرات، ولا يكاد يدخل فيها النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب وإنما يرجو بفعلها الثواب. ويمكن أن يقال: إن ترك النوافل قد يفضي إلى إخلال بالواجب فلهذا لا يكاد المتقي يتركها. يروى أن هاتين الآيتين نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة، فلما اصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول، ولم يطبخوا قدراً وكانوا من بين حزين وباك ومتفكر وهذه الزلزلة وهي المذكورة في قوله
{ إذا زلزلت الأرض زلزالها } [الزلزلة: 1] ومعناها شدة التحريك، وتضعيف الحروف دليل على تضعيف المعنى كأنه ضوعف زلل الاشياء عن مقارها ومراكزها. والإضافة إضافة المصدر إلى الفاعل على المجاز الحكمي العائد إلى الإسناد في قولك "زلزلت الساعة الأرض" أو إلى المفعول فيه على الاتساع فلا مجاز في الحكم لأن المراد حينئذ هو أن فاعلها الله في القيامة قاله الحسن. وعن الشعبي هي طلوع الشمس من مغربها فتكون الإضافة بمعنى اللام كقولك "اشراط الساعة" قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن المعدوم شيء لأن الله تعالى سمى زلزلة الساعة شيئاً مع أنها معدومة. أجابت الأشاعرة بأن المراد هو أنها إذا وجدت كانت شيئاً عظيماً. وانتصب { يوم ترونها } أي الزلزلة بقوله { تذهل } أي تغفل عن دهشة { كل مرضعة } وهي التي ترضع بالفعل مباشرة لإرضاع وإنما يقال لها المرضع من غيرها إذا أريد معنى أعم وهو أنه من شأنها الإرضاع بالقوة أو بالفعل كحائط وطالق. وفي هذا تصوير لهول الزلزلة كأنه بلغ مبلغاً لو القمت المرضعة الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الخوف. و"ما" في { عما ارضعت } مصدرية أو موصولة أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل. عن الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. وإنما قال { كل ذات حمل } دون كل حامل ليكون نصاً في موضع الجنين فإن الحمل بالفتح هو ما كان في بطن أو على رأس شجرة، والثاني خارج بدليل العقل فبقي الأول. قال القفال: ذهول المرضعة ووضع ذات الحمل حملها يحتمل أن يكون على جهة التمثيل كقوله { يوماً يجعل الولدان شيباً } [المزمل: 17] { وترى الناس } أفرد بعد أن جمع لأن الزلزلة تراها الناس جميعاً، وأما السكر الشامل للناس فإنه يراه من له أهلية الخطاب بالرؤية وقتئذ ولعله ليس إلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله { سكارى وما هم بسكارى } أثبت السكر أولاً على وجه التشبيه فإن الخوف مدهش كالمسكر، ونفاه ثانياً على التحقيق إذ لم يشربوا خمراً وهذه أمارة كل مجاز. روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار. قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم فقالوا: يا رسول الله اينا ذلك الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور البيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود" . واختلفوا في أن شدة ذلك اليوم تحصل لكل واحد أو لأهل النار خاصة فقيل: إن الفزع الأكبر يعم وغيره يختص بأهل النار وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون. وقيل: تحصل للكل ولا اعتراض لأحد على الله.
ثم اراد أن يحتج على منكري البعث فقدم لذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال { ومن الناس من يجادل } نظيره
{ ومن الناس من يقول } [البقرة: 8] وقد مر إعرابه في أول البقرة. ومعنى { في الله } في شأن الله وفيما يجوز عليه ومالا يجوز من الصفات والأفعال ويفهم من قوله { بغير علم } أن المعارف كلها ليست ضرورية وأن المذموم من الجدال هو هذا القسم، وأما الجدال الصادر عن العلم والتحقيق فمحمود مأمور به في قوله { وجادلهم بالتي هي أحسن } [النحل: 125] والشيطان المريد العاتي سمي بذلك لخلوه عن كل خير وقد مر في قوله { مردوا على النفاق } [التوبة: 101] والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. عن ابن عباس نزلت في النضر بن الحرث وكان مجادلاً يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين والله غير قادر على إحياء من بلي وصار تراباً. ومعنى { كتب عليه } قضي على ذلك الشيطان أو علم من حاله وظهر وتبين، والأول يليق بأصول الأشاعرة، والثاني بأصول الاعتزال. وقيل: المراد كتب على من يتبع الشيطان، ولا يخلو عن تعسف أنه من تولى الشيطان اي جعله ولياً له اضله عن طريق الجنة وهداه إلى النار، قال صاحب الكشاف إن الأول فاعل { كتب } والثاني عطف عليه. وفيه نظر لأن "من" يبقى بلا جواب إن جعلت شرطية وبلا خبر إن جعلت موصولة. والصحيح أن قوله { فأنه } مبتدأ أو خبر محذوف صاحبه والتقدير من تولاه فشأنه أن يضله أو أنه يضله ثابت اللهم إلا إذا جعلت "من" موصوفة تقديره كتب على من يتبع الشيطان أنه شخص تولى الشيطان فأنه كذا أي كتب عليه ذلك، وحين نبه عموماً على فساد طريقه المجادلين بغير علم خصص المقصود من ذلك، والمعنى إن ارتبتم في البعث فمعكم ما يزيل ريبكم وهو أن تنظروا في بدء خلقكم، فبين التراب والنطفة والماء الصافي كماء الفحل لأنه ينطف نطفاناً أي يسيل سيلاً تاماً مباينة، وكذا بين النطفة والعلقة وهي قطعة الدم الجامد لأنها إذ ذاك تعلق بالرحم، وكذا بين العلقة والمضغة وهي قدر ما يمضغ من اللحم، ولا ريب أن القادر على تقليب الإنسان في هذه الأطوار المتباينة ابتداء قادر على إعادته إلى أحد هذه الأطوار بل هذه أدخل في القدرة وأهون في القياس. قال الجوهري: المخلقة التامة الخلق. وقال قتادة والضحاك: أراد إنه يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك فلذلك يتفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصهم. وقال مجاهد: المخلقة الولد يخرج حياً، غير المخلقة السقط لأنه لم يتوارد عليها خلق بعد خلق وقيل: المخلقة المصورة وغير المخلقة ضدها وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وشكل، ويناسبه ما روى علقمة عن عبد الله قال: إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قال مخلقة قال: يا رب فما صفتها أذكر أو أنثى ما رزقها وأجلها أشقي أم سعيد؟ فيقول سبحانه: انطلق إلى الكتاب فاستنسخ منه هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي آخر صفتها. وقوله { لنبين لكم } غاية لقوله { خلقناكم } أي إنما نقلناكم من حال إلى حال ومن طور غلى طور لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا. وفي ورود الفعل غير معدي إلى المبين إشعار بأن ذلك المبين مما لا يكتنه كنهه ولا يحيط به الوصف، وقيل: اراد إن كنتم في ريب من البعث فإنا نخبركم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبيِّن لكم ما يزيل ريبكم في أمر بعثكم، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يعجز عن الإعادة؟ ولما بين كيفية خلق الإنسان بالتدريج إلى أن تتكامل أعضاؤه أراد أن يبين أن من الأبدان ما تمجه الأرحام، ومنها ما تنطوي هي عليه إلى كمال النضج والتربية، فاسقط القسم الأول اكتفاء بالثاني فاستأنف قائلاً { ونقر في الأرحام ما نشاء } أن نقره من ذلك { إلى أجل مسمى } هو كمال ستة اشهر إلى أربع سنين غايتها عرفت بالاستقراء { ثم نخرجكم } أي كل واحد منكم طفلاً، أو الغرض الدلالة على الجنس فاكتفي بالواحد، { ثم } نربيكم شيئاً بعد شئ { لتبلغوا اشدكم } ومن قرأ { ونقر } بالنصب فمعناه خلقناكم مدرجين هذا التدريج لغايتين: إحداهما أن نبين قدرتنا، والثانية أن نقر في الأرحام من نقر حتى تولدوا وتنسلوا وتبلغوا أحد التكليف. والأشد كمال القوة والتمييز كأنه شدة في غير شيء واحد فلذلك بني على لفظ الجمع قوله { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وقد مر في "النحل" شبيهه فليرجع إليه.
ثم أكد أمر البعث بالاستدلال من حال النبات أيضاً فقال { وترى } أي تشاهد أيها المستحق للخطأ { الأرض } حال كونها { هامدة } ميتة يابسة لا نبات بها، والتركيب يدل على ذهاب ما به قوام الشيء ورواؤه من ذلك. همدت النار هموداً طفئت وذهبت بكليتها وهمد الثوب هموداً بلي { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } تحركت ولا يكاد يستعمل الاهتزاز إلا في حركة تصدر عن سرور ونشاط { وربت } انتفخت وزادت كما مر في قوله
{ زبداً رابياً } [الرعد: 17] وذلك في "الرعد" والمراد كمال تهيؤ الرض لظهور النبات منها. ومن قرأ بالهمزة فمعناه ارتفعت من قولهم "ربأ القوم" إذا كان لهم طليعة فوق شرف. ثم اشار إلى كمال حاله في الظهور بقوله { وأنبتت من كل زوج } أي بعضاً من كل صنف. { بهيج } والبهجة النضارة وحسن الحال ولهذا قال المبرد: هو الشيء المشرق الجميل. وإسناد الإنبات إلى الأرض مجاز لأن المنبت بالحقيقة هو الله { ذلك } الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من عجائب الصنع وغرائب الإبداع حاصل (بـ) أمور خمسة: الأول { أن الله هو الحق } الثابت الذي لا يزول ملكه وملكه لاحق في الحقيقة إلا هو فما سواه يكون مستنداً إلى خلقه وتكوينه لا محالة. الثاني أنه من شأنه إحياء الموتى. الثالث { أنه على كل شيء قدير } وهذا كالبيان لما تقدمه فإن القادر على كل شيء ممكن قادر لا محالة على إحياء الموتى لأنه من جملة الممكنات وبيان إمكانه ظاهر. فإن كل ما جاز على شيء في وقت ما جاز عليه في سائر الأوقات إذ لو امتنع فإما لغيره فالأصل عدمه، وإما لذاته وهذا يقتضي أن لا يتصف به أولاً فإن ما بالذات لا يزول بالغير. الرابع والخامس قوله { وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } قال في الكشاف: معناه أنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد. قلت: إن هذا التفسير غير وافٍ فلقائل أن يقول: فحاصل الآيات يرجع إلى قولنا { إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم } بالتدريج وأحيينا الأرض بسبب أنا وعدنا الساعة ووعدنا صادق. وهذا كلام غير منتظم في الظاهر كما ترى، ولو صح هذا لاستغنى عن التطويل بأن يقال مثلاً: لا تشكوا في أمر البعث فإنه كائن لا محالة. والذي يسنح لي في تفسيره أنه سبحانه أزال الشك في أمر البعث بقوله { إن كنتم في ريب من البعث } فمزيل ريبكم هذان الاستدلالان، ثم لما كان لسائل أن يسال لم خلق الإنسان وما يترتب عليه معاشه؟ فأجيب بأن لهذا الشأن وهو خلق الإنسان أسباباً فاعلية وأسباباً غائية، أما الأولى فهي أنه تعالى واجب الوجود الحق وأنه قادر على كل مقدور لا سيما إحياء الموتى الذي استدللنا عليه لأنه أهون، وأن قدرته لا تظهر إلا إذا تعلقت بالمقدور، فكمال القدرة بالفعل هو أن يتعلق بكل مقدور يصح في القسمة العقلية، وهذا النوع من المقدور كان ثابتاً في القسمة لأنه واسطة بين العالم العلوي والعالم السفلي وله تعلق بالطرفين وانجذاب إلى القبيلين فوجب في الحكمة والقدرة إيجاده ما يتوقف عليه بقاؤه واستكماله. وأما علته الغائية فهي أن داره الأولى كانت دار تكليف وقد هيأنا له داراً أخرى لأجل الجزاء وذلك لا يحصل إلا بالبعث والنشور. ولعل هذا الموضع مما لم يفسره على هذا الوجه غيري أرجو أن يكون صواباً والله تعالى أعلم بمراده.
قوله { ومن الناس من يجادل } عن ابن عباس أنه أبو جهل. وقيل: هو النضر أيضاً وكرر للتأكيد كما كرر سائر الأقاصيص، وقال أبو مسلم: الأول في المقلدين فإنهم قد يجادلون تصويباً لتقليدهم. وهذا في المقلدين المتبوعين بدليل قوله { ليضل عن سبيل الله } قال العلماء: أراد بالعلم العلم الضروري وبالهدي النظري من العلم لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير العلم السمعي المتعلق بالوحي. قال بعض أهل اللغة: العطف المنكب. وقال الجوهري: عطفا الرجل جانباه من لدن راسه إلى وركه ويقال: "فلان ثنى عطفه عني" اي أعرض. وقيل: هو عبارة عن الكبر والخيلاء كلي الجيد. قال جار الله: لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه، ولما كان الهدى معرضاً له فتركه وأعرض عنه بالباطل جعل كالخارج بالجدال، وفسر الخزي ههنا بما اصابه يوم بدر. { ذلك } الذي مني به شيء من خزي الدنيا وعذاب الآخرة { بما قدمت يداك } وباقي مباحث الآية قد سلف في آخر "آل عمران". ثم أخبر عن شقاق أهل النفاق بقوله { ومن الناس من يعبد الله على حرف } أي على طرف من الدين لا في وسطه فهذا مثل لكونه مضطرباً في أمر الدين غير ثابت القدم كالذي يكون على طرف العسكر ينهزم بأدنى سبب، وباقي الآية تفصيل لهذا الإجمال. قال الكلبي: نزلت في أعاريب قدموا المدنية فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سرياً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن به وقر. وإن كان الأمر بخلافه قال: ما اصبت إلا شراً وانقلب عن دينه الذي أظهره بلسانه وفر. وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة. وقيل: نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم الأقرع بن حابس والعباس بن مرداس. وعن أبي سعيد الخدري أن رجلاً من اليهود اسلم فأصابته مصائب كذهاب البصر والمال والولد فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني. فقال: إن الإسلام يسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة والإسلام لا يقال ونزلت الاية. والفتنة ههنا مخصوصة بالابتداء بالشرور والآلام لوقوعها في مقابلة الخير وهذا على الاستعمال الغالب وإلا فالخير ايضاً قد يكون سبباً للابتلاء كقوله
{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [الأنبياء: 35] ثم حكى حاله في الدارين بقوله { خسر الدنيا والآخرة } أما خسران الدنيا بعد أن أصابه ما أصاب ففقدان العزة والكرامة والغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء، وكون عرضه وماله ودمه مصونة، وأما الآخرة فحرمان الثواب وحصول العقاب ابد الآباد، ولا خسران أبين من هذا نعوذ بالله منه. وفي قوله { يدعو من دون الله } الآية. دلالة على أن المذكور قبلها إنما نزلت في أهل النفاق من المشركين لا من اليهود فإنهم لا يعبدون الصنام نعم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. قوله { يدعو لمن ضره } الآية. فيه بحث لفظي وبحث معنوي. أما الأول فهو أن { يدعو } بمعنى "يقول" والجملة بعده محكية، و"من" موصولة أو موصوفة وعلى التقديرين هو مع تمامه مبتدأ ما بعده وهو { لبئس المولى } خبره واللام الثانية في الخبر لتأكيد اللام الأولى، وهذا حسن بخلاف قوله "أم الحليس لعجوز" فإنه أدخل لام الابتداء في الخبر على سبيل الاستقلال ويجوز أن يكون { يدعو } تكراراً للأول وما بعده جملة مستأنفة على الوجه المذكور. وفي حرف عبد الله { من ضره } بغير لام ووجهه ظاهر، وعلى هذا يكون قوله { لبئس المولى } جملة مستقلة. والمولى الناصر، والعشير المعاشر اي الصاحب. وأما البحث المعنوي فهو أنه نفى الضرر والنفع عن الأصنام أولاً ثم أثبتهما لها ثانياً حين قال { ضره أقرب من نفعه } فما وجه ذلك؟ والجواب أن المقصود في الاية الثانية رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم في الشدائد مستصوبين آراءهم، لأن وصف المولى والعشير لا يليق إلا بالرؤساء. سلمنا أنه أراد في الموضعين الصنام إلا أنه أثبت الضر لها مجازاً لأنها سبب الضلال الذي هو سبب عذاب النار نظيره { رب إِنهن أَضللن كثيراً من الناس } [إبراهيم: 36] وأثبت لها النفع بناء على معتقدهم أنها شفعاؤهم عند الله. والمراد يقول: هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى أثر الشفاعة { لمن ضره اقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير } ذلك، أو أراد يدعو من دون الله مالا يضره وما لا ينفعه، ثم قال: لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً لبئس المولى.
ثم لما بين حال المنافقين والمشركين أتبعها حال المؤمنين الذين معبودهم قادر على إيصال كل المنافع فقال { إن الله يدخل } الآية. قالت الأشاعرة: في قوله { إن الله يفعل ما يريد } دليل على أنه خالق الإيمان وفاعله لأنه يريد الإيمان من العبد بالاتفاق. أجاب الكعبي بأنه يفعل ما يريده لا ما يريد أن يفعله غيره، ورد بأن ما يريد أعم من قولنا ما يريده من فعله وما يريد من فعل غيره. قوله سبحانه { من كان يظن أن لن ينصره الله } في هذا الضمير وجهان: الأول وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم للعلم به لأن ذكر الإيمان يدل على الإيمان بالله ورسوله، وعلى هذا فالظان من هو؟ قيل: كذا قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين يستبطئون النصر فنزلت. وعندي في هذا القول بعد. وعن مقاتل نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا: نخاف أن الله لا ينصر محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود والأولى العموم. وكان حساده وأعداؤه يتوقعون أن لا ينصره الله وأن الله لا يغلبه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله ينصره غاظهم ذلك، والسبب الحبل، والسماء سماء البيت، والقطع الاختناق لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه، والمراد من كان يظن من حاسديه أن الله تعالى يفعل خلاف النصر والظفر وكان يغيظه نصرة الله إياه فليستفرغ جهده في إزالة ما يغيظه، وليس ذلك غلا بأن يمد حبلاً إلى سماء بيته ثم يشده في عنقه ويختنق في عنقه وليصور في نفسه أنه إن يفعل ذلك هل يذهبن كيده ما يغيظه، سمى فعله كيداً حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه. والحاصل ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ، ومنهم من قال: السماء هي المظلة لأن الاختناق حينئذ أبعد عن الإمكان فيكون أصعب فيصرف الحاسد عن الغيظ إلى طاعة الله ورسوله. ومنهم من قال: مع ذلك أن القطع هو قطع المسافة أي فليصعد على الحبل إلى السماء، والغرض تصوير مشقة من غير فائدة، أو القطع قطع الوحي أو النصر أي فليصعد وليقطع الوحي أن ينزل عليه أو النصر أن يأتيه. الوجه الثاني أن الضمير عائد إلى "من" والنصر الرزق. قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله. ووجه النظم من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد وينقلب على وجهه كما مر فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق أو غير ذلك مما عددنا، فإن الله لا يقلبه مرزقاً. وحين بين الأحوال وضرب الأمثال أشار إلى هذا المذكور بلفظ البعيد إما للتعظيم وإما لأن كل ما دخل في حيز الذكر وحصل في حيز كان فهو في حكم البعيد فقال { وكذلك أنزلناه } أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله { آيات بينات وأن الله } حرف التعليل وكذا معلله محذوف للعلم به اي ولأن الله { يهدي من يريد } أنزله كذلك مبيناً. قالت الأشاعرة: المراد بالهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز، لأن الله تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين، ولأن قوله { يهدي من يريد } يدل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته، ووضع الأدلة واجب فتعين أن المراد خلق المعرفة. أجاب القاضي عبد الجبار بأنه اراد تكليف من يريد لأن التكليف لا يخلو من وصف ما كلف به ومن بيانه، أو أراد يهدي إلى الجنة، والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحاً، أو يهدي به الذين يعلم منهم الإيمان أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى، وإلى هذين الوجهين أشار الحسن بقوله { إن الله يهدي } من قبل لا من لم يقبل. واعترض بأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا الكلام بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف، وأما الوجوه الأخر فخلاف الظاهر مع أن ما ذكرتموه واجب عندكم على الله وقوله { من يريد } ينافي الوجوب.
ثم أراد أن يميز بين المهدي من الفرق وبين الضال منهم فقال { إن الذين آمنوا } الآية قال مقاتل: الأديان ستة: واحد لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان قلت: فالمؤمنون واليهود والنصارى تشترك في القول بالإله والنبي وتفترق بالاعتراف بعموم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبعدم الاعتراف به، والصابئون قد تجعل من جنس النصارى وقد تجعل من غيرهم، والمجوس قولهم في البابين مضطرب لأن الإله عندهم اثنان وبنبيهم ليس بنبي في الحقيقة وإنما هو متنبئ، والمشركون لا نبي لهم ولا كتاب. قال أهل البرهان: قدم النصارى على الصابئين في أوائل البقرة لأنهم أهل كتاب وعكس ههنا لأن الصابئين مقدمة عليهم بالزمان، وفي المائدة يحتمل الأمران اي والصابئون كذلك أو هم والنصارى { إن الله يفصل بينهم } أي يقضي بين المؤمنين وغيرهم وتكرير إن في الخبر لزيادة التأكيد والفصل مطلق يحتمل الفصل في الأحوال وفي المواطن أيضاً { إن الله على كل شيء شهيد } فلا يجري في قضائه ظلم ولا حيف { الم تر } أي تعلم بإخبار الله والمراد أن هذه الأجسام غير ممتنعة عما يريد الله إحداثه فيها من أنواع تصرفاته وتدبيراته وهذا بين، قال العلماء: قوله { وكثير من الناس } ليس بمعطوف على ما قبله من المفردات لأن السجود بالمعنى المذكور يتناول كل الناس ولا يختص ببعضهم لدليل العقل، ولأن قوله { ومن في الأرض } يتناول الثقلين جميعاً والعطف يوهم التخصيص بالبعض. ولا يمكن أن يكون السجود بالنسبة إلى كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة وبالنسبة إلى غيرهم بمعنى نفوذ مشيئة الله فيها لأن اللفظ المشرتك لا يصح استعماله في مفهوميه معاً، فهو إذن مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة أيضا. وهو مبتدأ محذوف الخبر وهو مثاب لأن الخبر دليل عليه وهو قوله { حق عليه العذاب } أو هو مبتدأ وخبر أي وكثير من المكلفين من الناس الذي هم الناس على الحقيقة فكأنه أخرج الذين وجب عليهم العذاب من جملة الناس لأنهم أشبه بالنسناس
{ أولئك كالأنعام بل هم أضل } [الأعراف: 179] أو قوله ثانياً { وكثير } تكرار للأول لأجل المبالغة كأنه قيل: وكثير من الناس حق عليهم العذاب، وباقي الآية دليل على أن الكل بقضائه وقدره والإكرام والإهانة من عنده وبسابق علمه وسابق مشيئته، فمن أهانه في الأزل لم يكرمه أحد إلى الأبد. عن ابن عباس أن قوله { هذان خصمان } راجع أهل الأديان الستة أي هما فوجان أو فريقان خصمان والخصم صفة وصفة بها المحذوف. وإنما قيل { اختصموا } نظراً إلى المعنى. وقيل: إن أقل الجمع اثنان. ومعنى { في ربهم } أي في دينه وصفاته فقال المؤمنون في شأنه قولاً وقال الكافرون قولاً. وروي أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أحق بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله منكم آمنا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبنبيكم وبجميع الكتب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تتركونه حسداً فنزلت. وعن قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري أنه كان يحلف بالله أنها نزل في ستة نفر من المسلمين: علي وحمزة وعبيدة بن الحرث، ومن المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة. فقال علي رضي الله عنه: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة. وعن عكرمة هما الجنة والنار. قالت النار: خلقني الله لعقوبته. وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته، فقص الله من خبرهما على محمد صلى الله عليه وسلم والأقرب هو الأول. وقوله { فالذين كفروا } فصل الخصومة المعني بقوله { إن الله يفصل بينهم } وقوله { قطعت لهم ثياب } فيه أنه تعالى يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، أو المراد أن تلك النيران مظاهرة عليهم كالثياب المظاهرة على الملابس بعضها فوق بعض. وعن سعد بن جبير أن قوله { من نار } أي من نحاس أذيب بالنار كقوله { سرابيلهم من قطران } [إبراهيم: 50] والحميم الماء الحار. عن ابن عباس: لو سقطت منه نقطة على الجبال الدنيا لأذابتها. ومعنى { يصهر } يذاب جلودهم وهو أبلغ من قوله { وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم } [محمد: 15] لأن تأثير الشيء من الظاهر في الباطن أبلغ من تأثيره في الباطن. قال في الكشاف: المقامع السياط وقال الجوهري: المقمعة واحدة المقامع { من حديد } كالمحجن يضرب على رأس الفيل. وفي الحديث "لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها" والإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ففي الآية إضمار أي { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم } فخرجوا { أعيدوا فيها } أو المراد بالإرادة المداناة والمشارفة كقوله { يريد أن ينقض } [الكهف: 77] وهذا أقرب كقوله { لا يخفف عنهم العذاب } [البقرة: 162] ويؤيده ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفاً. وإنما اختصت هذه السورة بقوله { من غم } وهو الأخذ بالنفس حتى لا يجد صاحبه مخلصاً لأنه بولغ ههنا في أهوال النار بخلاف ما في السجدة وإنما أضمر ههنا قبل قوله { وذوقوا } بخلاف "السجدة". وقيل لهم ذوقوا لأنه وقع الاختصار ههنا على { عذاب الحريق } وهناك أطنب فقيل { ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } [السجدة: 20] وايضاً قد تقدم ذكر القول في تلك السورة كثيراً بخلافه هنا والله تعالى أعلم.
التأويل: { إن زلزلة الساعة } هلاك الاستعداد الفطري { شيء عظيم } { وتذهب كل مرضعة } هي مواد الشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه { وتضع كل ذات حمل } وهي الهيوليات { حملها } وهو الصور الكمالية التي خلقت الهوليات لأجلها { وترى الناس سكارى } الغفلة والعصيان وحب الدنيا والجاه والرياسة وغيرها { وما هم بسكارى } العشق والمحبة والمعرفة { فإنا خلقناكم من تراب } أي كنتم تراباً ميتاً فبعثنا التراب بأن خلقنا منه آدم، ثم أمتنا منه النطفة، ثم بعثناها بأن جعلناها علقة ثم مضغة ثم خلقاً آخر لنبين لكم أمر البعث والنشور { ونقر في الأرحام } أمهات العدم { ما نشاء إلى أجل مسمى } وهو وقت إيجاده بحسب تعلق الإرادة به، وفيه دليل على أنه لا يبعد أن يكون الفاعل كاملاً في فاعليته ولكن لا تتعلق إرادته بالمقدور فيبقى في حيز العدم إلى حين تعلق الإرادة به، ومنه يظهر حدوث العالم { ثم نخرجكم طفلاً } من أطفال المكونات خارجاً من رحم العدم مستعداً للتربية والكمال. { ومنكم من يتوفى } عن الشهوات فيحيا بحصول الكمالات { ومنكم من يرد } إلى أسفل سافلين الطبيعة { وترى } أرض القالب { هامدة فإذا أنزلنا عليها } ماء حياة المعرفة والعلم { اهتزت } { ذلك بأن الله هو الحق } في الإلهية { وإنه يحيي } القلوب الميتة { وأن الساعة } قيامة العشق والخدمة للطالبين الصادقين { آتية وأن الله يبعث } القلوب المحبوسة في قبور الصدور { عذاب الحريق } بنار الشهوات لكنه لا يحس بها في الدنيا لأنه نائم بنوم الغفلة فإذا مات انتبه { من كان يظن } فيه أن العبد يجب أن يكون حسن الظن بالله { ثم ليقطع } مادة تقدريري في الأزل ونزول أحكامي في القدور { فلينظر هل } ينقطع أم لا { هذان خصمان } يعني النفس الكافرة والروح المؤمنة { قطعت لهم ثياب } بتقطيع خياط القضاء على قدرهم وهي ثياب نسجت من سدى مخالفات الشرع ولحمة موافقات الطبع. { يصب من فوق رؤسهم } حميم الشهوات النفسانية. وفي لفظ الفوق دلالة على أنهم مغلوبون تحتها، وفيه أن الخيالات الفاسدة تنصب من الدماغ إلى القلب. { يصهر به ما في بطونهم } من الأخلاق الحميدة الروحانية { والجلود } أي يفسد أحوالهم الباطنة والظاهرة بفساد تخيلاتهم، ولا مخلص لهم عن دركات تلك الملكات لغاية رسوخها والله أعلم بالصواب.