التفاسير

< >
عرض

قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ
٢
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ
٣
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ
٤
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
٥
إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
٦
فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ
٧
وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩
أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ
١٠
ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١١
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ
١٢
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
١٣
ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ
١٤
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ
١٥
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
١٦
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ
١٧
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ
١٨
فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
١٩
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ
٢٠
وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٢١
وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
٢٢
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٢٣
فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ
٢٤
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ
٢٥
قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
٢٦
فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٢٧
فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٢٨
وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ
٢٩
إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
٣٠
-المؤمنون

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراآت: { لأماناتهم } على التوحيد: ابن كثير { على صلاتهم } موحدة: حمزة وعلي وخلف. و{ عظماً } { العظم } موحدين على إرادة الجنس أو على وضع الواحد مكان الجمع لعدم اللبس: ابن عامر وأبو بكر وحماد و { جبلة } الأول موحداً والثاني مجموعاً: زيد بن يعقوب. وروى القطعي عن أبي زيد بالعكس فيهما. الباقون مجموعين { سيناء } بكسر السين: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بفتحها. { تنبت } من الإنبات: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير روح. الآخرون بفتح التاء وضم الباء من النبات. { تسقيكم } بفتح النون: نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد. بالتاء الفوقانية: يزيد: الباقون بضم النون. { منزلاً } بفتح الميم وكسر الزاء: ابو بكر وحماد. الآخرون بضم الميم وفتح الزاء.
الوقوف: { المؤمنون } ه لا { خاشعون } ه لا { معرضون } ه لا { فاعلون } ه لا { حافظون } ه { ملومين } ه لاعتراض الاستثناء بين الأوصاف ولاستحقاق الشرط الابتداء ولطول الكلام وإلا فالآيتان من أوصاف المؤمنين ايضاً { العادون } ه ج { راعون } ه لا { يحافظون } ه م وإلا لأوهم تخصيص الإرث بالمذكورين في الآيتين فقط { الوارثون } ه لا { الفردوس } ط { خالدون } ه { طين } ج ه للعدول عن المظهر إلى كناية عن غير مذكور فإن المراد من الإنسان آدم، ومن الهاء في جعلناه جنس ولده مع عطف ظاهر { مكين } ه ج للعطف { لحماً } صلى وقد قيل للابتداء بإنشاء نفخ الروح تعظيماً { آخر } ط { الخالقين } ه ط لأن "ثم" لترتيب الأخبار فإن بين الإحياء والإفناء مهلة { لميتون } ه ط لذلك { لقادرون } ه للآية مع اتصال المعنى بلفظ الفاء { وأعناب } م لئلا يوهم أن الجار والمجرور وصف أعناب { تأكلون } ه لا لأن شجرة مفعول { أنشأنا } { لآكلين } ه { لعبرة } ط لأن الجملة بعدها ليست بصفة لها { تأكلون } ه لا { تحملون } ه ط { غيره } ط { تتقون } ه { مثلكم } لا لأن قوله { يريد } صفة { بشر } { عليكم } ط { ملائكة } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول { الأولين } ج ه للآية مع اجتناب الابتداء بقول الكفار مع اتحاد مقصود الكلام { حين } ه { كذبون } ه { التنور } ه لا لأن ما بعده جواب فإذا { منهم } ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الاستثناء { ظلموا } ج للابتداء بأن مع احتمال إضمار اللام والفاء للتعليل { مغرقون } ه { الظالمين } ه { المنزلين } ه { المبتلين } ه.
التفسير: لما أنجر الكلام في السورة المتقدمة إلى الختم بالصلاة والزكاة بدأ في هذه السورة بذكر فضائلهما وفضائل ما ينخرط في سلكهما من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. "وقد" نقيضة "لما" لأنها تثبت المتوقع و "لما" تنفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي إخبار بثبوت الفلاح لهم. وقد مر معنى الإيمان والاختلاف فيه بين الأقوام في أول "البقرة". وأما الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون، وترك الالتفات، والنظر إلى موضع السجود، والتوقي عن كف الثوب أي جمعه، والعبث بجسده وثيابه، والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم، والسدل بأن يضع وسط الثوب على رأسه أو على عاتقه ويرسل طرفيه، والاحتراز عن الفرقعة والتشبيك وتقليب الحصى، والاختصار وهو أن يمسك بيده عصاً أو سوطاً ونحوهما. وقال الحسن وابن سيرين: كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاة، وهذا الخشوع واجب عند المحققين. نقل الإمام الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي: من لم يخشع فسدت صلاته. وعن الحسن: كلا صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وعن معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله متعمداً وهو في الصلاة فلا صلاة له. وروي عنه مرفوعاً: إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها وعشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها. وادعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته. ومما يدل على صحة هذا القول قوله سبحانه
{ أفلا يتدبرون القرآن } [النساء: 82] والتدبر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى، وكذا قوله { وأقم الصلاة لذكرى } [طه: 14] والغفلة تضاد الذكر ولهذا قال { ولا تكن من الغافلين } [الأعراف: 205] وقوله { حتى تعلموا ما تقولون } [النساء: 43] نهي للسكران إلا أن المستغرق في هموم الدنيا بمنزلته. وقوله صلى الله عليه وسلم "المصلي يناجي ربه" ولا مناجاة مع الغفلة أصلاً بخلاف سائر أركان الإسلام فإِن المقصود منها يحصل مع الغفلة، فإن الغرض من الزكاة كسر الحرص وإغناء الفقير، وكذا الصوم قاهر للقوي كاسر لسطوة النفس التي هي عدّو الله، وكذا الحج فإِن أفعاله شاقة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء وإن لم يكن القلب حاضراً. والمتكلمون أيضاً اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع قالوا: لأن السجود لله تعالى طاعة، وللصنم كفر، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه، فلا بد من مميز وما ذاك إلا القصد والإرادة ولا بد فيهما من الحضور.
وأما الفقهاء فالأكثرون منهم لا يوجبون ذلك فيقال لهم: هبوا أنه ليس من شرط الإجزاء وهو عدم وجوب القضاء، أليس هو من شرط القبول الذي يترتب عليه الثواب؟ فمن استعار ثوباً ثم ردّه على أحسن الوجوه فقد خرج عن العهدة، وكذا إن ردّه على وجه الإهانة والاستخفاف إلا أنه يستحق المدح في الصورة الأولى والذم في الصورة الثانية.
" وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" . ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زّوجني الحور العين. فقال: بئس الخاطب أنت قلت: لا ريب أن الاحتياط إنما هو في رعاية جانب الخشوع كما حكي عن بعض العلماء أنه اختار الإمامة فقيل له في ذلك؟ فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي. وإن قرأت مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة، فاخترت الإمامة طلباً للخلاص عن هذا الخلاف. قال علماء المعاني: سبب إضافة الصلاة إليهم هو أن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى لأجله، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته، وأما المصلى له فمتعال عن ذلك. ولما كان اللغو هو الساقط من القول أو الفعل احتمل أن يقع في الصلاة، وأيضاً كان الإعراض عنه من باب التروك كما أن الخشوع وهو استعمال الآداب وما لا يصح ولا تكمل الصلاة إلا به كان من باب الأفعال وعلى الفعل والترك بناء قاعدة التكليف فلا جرم جعلهما قرينين فقال { والذين هم عن اللغو معرضون } واللغو على ما قلنا يشمل كل ما كان حراماً أو مكروهاً أو مباحاً لا ضرورة إليه ولا حاجة قولاًَ أو فعلاً. فمن الحرام قوله تعالى حكاية عن الكفار { لا تسمعوا لهذا القرآن وَالغَواْ فيه } [فصلت: 26] فإِن ذلك اللغو كفر والكفر حرام. ومن المباح قوله { لا يؤاخذكم الله بِاللَّغوِ في أيمانكم } [البقرة: 225] ولو لم يكن مباحاً لم يناسبه عدم المؤاخذة. والإعراض عن اللغو هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال عز من قائل { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [الفرقان: 72] ثم وصفهم بفعل الزكاة وهو مناسب للصلاة. وليس المراد بالزكاة ههنا عين القدر المخرج من النصاب لأن الخلق لا قدرة لهم على فعلها فلا يصح فقوله للمزكي فاعل الزكاة كقولك للضارب فاعل الضرب. وعن أبي مسلم أنه حمل الزكاة ههنا على فعل محمود مرضي كقوله { قد افلح من تزكى } [الأعلى: 14] والأول أقرب لأنه مناسب لعرف الشرع. الصفة الرابعة قوله { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم } قال الفراء: "على" بمعنى "عن": وقال غيره: هو في موضع الحال أي إلا والين أو قوامين على أزواجهم نظيره قولهم "كان زياد على البصرة" اي والياً عليها، والمعنى أنهم مستمرون على حفظ الفروج في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسربهم. أو تعلق الجار بمحذوف يدل عليه { غير ملومين } كأنه قيل: يلامون على كل من يباشرونه إلا على أزواجهم فإنهم غير ملومين عليهن، وجوّز في الكشاف أن يكون صلة لحافظين من قولهم "احفظ عليّ عنان فرسي" على تضمينه معنى الفي أي لا تسلط علي فرسي. وإنما لم يقل "أو من ملكت" لأنه اجتمع في السرية وصفان: الأنوثة التي هي سبب نقصان العقل وكونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع { فمن ابتغى } حداً { وراء ذلك } الحد الذي شرع وهو إباحة أربع من الحرائر وما الإماء من الإماء وكفى به حداً فسيحاً { فأولئك هم } الكاملون في العدوان المتناهون فيه.
قيل: لا دليل فيه على تحريم نكاح المتعة لأنها من جملة الأزواج إذا صح النكاح. ومنع من أنها من الأزواج ولو كانت زوجة لورث منها الزوج لقوله
{ ولكم نصف ما ترك أزواجكم } [النساء: 12] ولورثت منه لقوله { ولهن الربع } [النساء: 12] ثم الآية من العمومات التي دخلها التخصيص بدلائل أخر فيخرج منها الغلام بل الوطء في الدبر على الإطلاق لأنه ليس موضع الحرث، وكذا الزوجة والأمة في أحوال الحيض والعدة والإحرام ونحوها. وقال أبو حنيفة: الاستثناء من النفي ليس بإثبات فقوله "لا صلاة إلا بطهور" "ولا نكاح إلا بولي" لا يقتضي حصول الصلاة والنكاح بمجرد حصول الطهور والولي، ولا تخصيص عنده في الآية. والمعنى أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات، وهكذا نقله الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره. الصفة الخامسة رعاية الأمانة والعهد والمراد بهما الشيء المؤمتمن عليه والمعاهد عليه لتمكن رعايتهما، والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية. ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالعبادات والمعاملات والودائع والقصود والنيات والعقود والنذور والطلاق والعتاق وغيرها، وقد مر في تفسير قوله { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [النساء: 58] وقوله { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [المائدة: 1] ويحتمل الخصوص فيما تحملوه من أمانات الناس وعهودهم. الصفة السادسة محافظة الصلاة كما مر في قوله { { حافظوا على الصلوات } [البقرة: 238] وذلك في "البقرة" وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم وآخراً بالمداومة عليها وبمراقبة أعداها وأوقاتها فرائض كانت أو سنناً، رواتب أو غيرها. فالمحافظة أعم من الخشوع وأشمل، ومن هنا يعرف فضيلة الصلاة إذ وقع الافتتاح بها والاختتام عليها وإن اختلف الاعتباران والعبارتان. { أولئك هم الوارثون } الأحقاء بأن يسموا ورّاثاً دون من عداهم ممن يرث مالاً فانياً أو متاعاً قليلاً أو ممن يدخل الجنة سواهم كالأطفال والمجانين والفساق بعد العفو وكالولدان والحور. ثم بين الموروث بقوله { الذين يرثون الفردوس } وقد سبق معنى هذه الوراثة في "الأعراف" في قوله { ونودوا أن تِلكُمُ الجنة أورثتموها } [الأعراف: 43] قال الفقهاء: لا فرق في الميراث بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر ملكه فيه ولذلك قالوا للدية إنها ميراث المقتول. وكل من في الجنة فله مسكن مفروض في النار على تقدير طفره، وكل من في النار فله مسكن مفروض في الجنة على تقدير إيمانه كما ورد في الحديث، فإذا تبادل المسكنان كان جميع أهل الجنة وارثين، ولكن كل افردوس لا يكون ميراثاً بل بعضه ميراث وبعضه بالاستحقاق إلا أنه يصدق بالجملة أنهم ورثوا الفردوس أي الجنة ولهذا أنت الضمير في قوله { هم فيها خالدون } وقيل: إن الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه السلام فإذا انتقلت إلى أولاده كان شبيهاً بالميراث. والفردوس بلسان الحبشة أو الروم هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روي أن الله عز وجل بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر. وروى أبو موسى الشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار" وعن أبي أماة مرفوعاً "سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش" ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لما خلق الله تعالى جنة عدن قال لها: تكلمي. فقالت: قد افلح المؤمنون" ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت: حفظك الله كما حافظت علي وتشفع لصاحبها. فإذا أضاعها قالت: ضيعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب ويضرب بها على وجه صاحبها" قالت العلماء: أما كلام الجنة فالمراد به أنها أعدت للمتقين كقوله { قالتا أتينا طائعين } [فصلت: 11] وكذا الكلام في كلام "طوبى". وأما أنه تعالى خلق الجنة بيده فالمراد تولى خلقها وإيجادها من غير واسطة. وأما حديث الصلاة فلا ريب أنها حركات وسكنات ولا يصح عليها التكلم فالمراد به ضرب المثل كقولك للمنعم عليك "إن إحسانك إليّ ينطق بالشكر".
ولما حث عباده على العبادات ووعدهم الفردوس على مواظبتها عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين وهو ثلاثة أنواع: الأول الاستدلال بأطوار خلق الإنسان والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر وهذا البناء للقلة ولما يسقط عن الشيء كالقلامة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل: المراد آدم لأنه استل من الطين، والكناية في { جعلناه } راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم أي جعلنا جوهره نطفة وقال آخرون: الإنسان ههنا هو ولد آدم والطين اسم آدم والسلالة هي الأجزاء الكلية المبثوثة في أعضائه التي تجتمع منياً في أوعيته، ويحتمل أن يقال: إن كل نسل آدم حاله كذلك لأن غذاءه ينتهي إلى النبات المتولد من صفو الأرض والماء المسمى بالسلالة. ثم إن تلك السلالة تصير منياً وعلى هذا فكلتا لفظي "من" للابتداء. قال في الكشاف: الأولى للابتداء والثانية للبيان وهو موجه على التفسير الأول فقط. والقرار المستقر اراد به الرحم. وإنما وصفت بالمكين لمكانتها في نفسها فإنها مكنت حيث هي وأحرزت، أو على الإسناد المجازي باعتبار المستقر فيها كقولك "طريق سائر". وترتيب الأطوار كما مر في أول الحج. ومعنى "ثم" في بعض هذه المعطوفات تراخي الرتبة ولا سيما في قوله { ثم أنشأناه خلقاً آخر } اي خلقاً مبايناً للخلق الأول حيث جعله حيواناً وكان جماداً إلى غير ذلك من دقائق اللطف وغرائب الصنع وذلك بعد استكماله ثلاثة أربعينات. ومن هنا ذهب أبو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده إلى أنه يضمن البيضة ولا يردّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة. وروى العوفي عن ابن عباس أن ذلك تصريف الله في أطواره بعد الولادة من الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب وخلق الفهم والعقل فيه يؤيده قوله { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } ويروى هذا القول أيضاً عن مجاهد وابن عمر { فتبارك الله } كثر خيره وبركته أو هو وصف له بالدوام والبقاء أو بالتعالي لأن البركة يرجع معناها إلى الامتداد وكل ما زاد على الشيء فقد علاه. ومعنى { أحسن الخالقين } أحسن المقدّرين تقديراً فحذف المميز للعلم به. قالت المعتزلة: في الاية دلالة على أن كل ما يفعله الله فهو حسن وحكمة فلا يكون خالقاً للكفر والمعاصي. وأجيب بأن الحسن ههنا بمعنى الإحكام والإتقان في التركيب والتأليف وبأنه لا يقبح منه شيء لأنه تعالى يتصرف في ملكه. قالوا: لولا أن غيره تعالى خالق لم تحسن هذه الإضافة فيعلم منه أن العبد خالق أفعاله. وعورض بقوله
{ الله خالق كل شيء } [الزمر: 62] وأجيب بأن المراد أنه أحسن الخالقين في زعمكم واعتقادكم. وبعضهم أجاب بأن وجه حسن الإضافة هو أنه تعالى وصف عيسى بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ولا يخفى ضعف هذا الجواب من أنه يلزم إطلاق الجمع على الواحد ومن حيث إنه يلزم إطلاق الخالق على المصوّرين. والحق أن الخلق لو كان بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد لا يلزم منه شيء من هذه الإشكالات. روي أن عبد الله بن أبي سرج كان يتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هكذا نزلت. فقال عبد الله: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ فلحق بمك كافراً ثم اسلم يوم الفتح. وروي عن عمر ايضاً سبق لسانه بقوله { فتبارك الله أحسن الخالقين } قبل أن ينزل. واعلم أن هذا غير مستبعد ولا قادح في إعجاز القرآن لأنه ليس بمقدار سورة الكوثر التي وقع فيها أقل التحدي به.
سؤال: ما الحكمة في الموت وهلا وصل نعيم الدنيا بنعيم الآخرة ليكون في الأنعام أبلغ؟ جواب لو كان كذلك لكان الآتي بالطاعة آتياً بها لمحض الجنة والثواب فلا جرم أوقع الله تعالى الإماتة والإعادة في البين لتكون الطاعات أدخل في الإخلاص وابعد عن صورة المبايعة. وليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة وهي حياة القبر فتعرف تلك بدليل آخر. ويمكن إن يقال: بل الآية تتضمنها فإنها ايضاً من جنس الإعادة. النوع الثاني: الاستدلال بخلق السموات قال الخليل والفراء والزجاج: سميت السموات طرائق لأنها طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل. وقال علي بن عيسى: لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم. وقيل: لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها { وما كنا عن الخلق } أي عن السموات وحفظها أن لا تقع على الأرض قاله سفيان بن عيينة. وعن الحسن أراد بالخلق الناس أي ما كنا { غافلين } عن مصالحهم فخلقنا الطرائق فوقهم لينزل منها عليهم البركات والأرزاق ولينتفعوا بغير ذلك من منافعها. ويحتمل أن يريد بالأول كمال قدرته وبالثاني كمال علمه بأحوال مخلوقاته وفيه نوع من الزجر. ويمكن أن يراد خلقنا السموات وما كنا عن خلقها ذاهلين فلهذا لم تخرج عن التقدير الذي اردنا كونها عليه نظيره
{ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } [الملك: 3] النوع الثالث: الاستدلال بنزول الأمطار وإخراج النبات وإنشاء الحيوانات. ونزول المطر عند الظاهرين من أهل الشرع لا يبعد أن يكون من نفس السماء، وعند أرباب المعقول منهم يراد به إنزاله من جهة السماء قالوا: إنه سبحانه يصعد الأجزاء المائية من البحر بواسطة التبخير فتصير في الجو صافية عذبة زائلة عنها ملوحة البحر، ثم ينزلها بواسطة السحب وقد سلف في أول البقرة تفصيل ذلك. ومعنى { بقدر } بتقدير يسلمون معه من المضار ويصلون إلى المنافع، او بمقدار يوافق حاجاتهم. ومعنى إسكان ماء المطر في الأرض جعله مدداً للينابيع والآبار. وقيل: أراد إثابته في الأرض على ما روي عن ابن عباس أن الأنهار خمسة: سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة واستودعها الجبال وأجراها في الأرض. { وإنا على ذهاب به لقادرون } أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه. ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى إذ فيه إيذان على أن الذاهب به قادر على ايّ وجه اراد به، وفيه تحذير من كفران نعمة الماء وتخويف من نفاذه إذا لم يشكر.
ثم لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء بين المنافع الحاصلة بسببه وخص منها النخيل والأعناب وشجرة الزيتون لأنها أكرم الشجر وأعمها نفعاً، ووصف النخل بأن ثمرهما جامع لأمرين: التفكه والتطعم. وجوز في الكشاف أن يكون قوله { ومنها تأكلون } من قولهم "فلان يأكل من حرفة كذا" كأنه قال: ومن هذه الجنان وجوه ارزاقكم ومعايشكم ووصف الزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعاً. قال جار الله: طور سيناء وطور سينين إما أن يكون الطور فيه مضافاً إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون المجموع اسماً للجبل وهو جبل فلسطين على قول والطور الذي منه نودي موسى. من قرأ { سيناء } بفتح السين فهو كصحراء، ومن قرأ بكسرها فمنع صرفه للعلمية والعجمة أو التأنيث بتأويل البقعة ولا يكون الفه حينئذ للتأنيث كعلباء وحرباء. قال في الكشاف { بالدهن } في موضع الحال والباء للمصاحبة دون التعدية، لأن نبات الدهن أو إنباته لا يكاد يستعمل. فالمعنى تنبت الشجرة وفيها الدهن أو تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت. ويجوز أن يكون أنبت بمعنى نبت أيضا، والصبغ الإدام لأنه يصبغ الخبز. قلت: لا يبعد أن يريد بالصبغ نفس ثمر الزيتون لا الزيت، وكذا يحتمل أن تكون الباء في { بالدهن } للتعدية إلا أن يكون الإنبات متعدياً. قال المفسرون: إنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأنها منه تشعبت في البلاد وتفرقت أو لأن معظمها هنالك. قوله { وإن لكم في الأنعام لعبرة } قد مر في "النحل". ولعل القصد بالأنعام ههنا. الإِبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة ولانه قرنها بالفلك وهي سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر. وإنما قال في هذه السورة. { فواكه كثيرة } بالجمع بخلاف ما في "الزخرف" لتناسب قوله هنا { منافع كثيرة } لتناسب قوله { جنات } كما قال هنالك
{ فاكهة } [الرحمن: 11] على التوحيد لتناسب قوله { تلك الجنة } [مريم: 63] وإنما قال هنا في الموضعين { ومنها تأكلون } بزيادة الواو خلاف الزخرف لأن تقدير الاية: منها تدخرون ومنها تأكلون ومنها تبيعون ومنها ومنها، وليس كذلك فاكهة الجنة فإنها للأكل فحسب فافهم. وأعلم أنه لما أنجر الكلام إلى ذكر الفلك أتبعه قصة نوح لأنه أول من الهم صنعتها، وفيه أيضاً تمزيج القصص بدلائل التوحيد على عادة القرآن لأجل الاعتبار والتنشيط. وقوله { ما لكم من إله غيره } جملة مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة. ومعنى { أفلا تتقون } أفلا تخافون أن تتركوا عبادة من هو لوجوب وجوده مستحق العبادة ثم تذهبوا فتعبدوا ما ليس بهذه الصفة بل هو في أخس مراتب الإمكان وهي الجمادية. ثم حكى الله سبحانه عنهم شبهاً: الأولى قولهم { ما هذا إلا بشر مثلكم } إنكار كون الرسول من جنس البشر أو إنكار مثلهم في الأسباب الدنيوية من المال والجاه والجمال كأنهم ظنوا أن القرب من الله يوجب المزية في هذه الأمور ويتأكد هذا الاحتمال بالشبهة الثانية وهي قوله { يريد أن يتفضل عليكم } أي يتكلف طلب الفضل والرياسة عليكم نظيره { { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } [يونس: 78] ويتأكد الاحتمال والأول بالشبهة الثالثة وهي قوله { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } لعلو شأنهم ووفور علمهم وكمال قوتهم. وقد حكى هذه الشبهة عن أقوام آخرن في "حم السجدة" { قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة } [فصلت: 14] خص هذه السورة باسم الله على الأصل ولتقدم ذكر الله وخص تلك السورة باسم الرب لتقدم ذكر الرب في قوله { ذلك رب العالمين } [فصلت: 9] وهم من جملة العالمين قالوه إما اعتقاداً وإما استهزاء. الشبهة الرابعة الاعتصام بحبل التقليد { ما سمعنا بهذا } أي بمثل هذا الكلام أو بمثل هذا المدعي فيجوز أن يكونوا صادقين في ذلك للفطرة المتداولة، ويجوز أن يكونوا تجاهلوا وتكذبوا لانهماكهم في الغي وتشمرهم لدفع الحق وإفحام النبي صلى الله عليه وسلم بأيّ وجه يمكنهم يؤيده الشبهة الخامسة وهي نسبتهم إياه إلى الجنون مع علمهم ظاهراً بأنه أرجح الناس عقلاً ورزانة. قال جار الله: الجنة الجنون أو الجن أي به جن يخبلونه، وهذا بناء على زعم العوام أن المجنون ضر به الجن. ثم رتبوا على هذه الشبهة قولهم { فتربصوا به حتى حين } أي اصبروا عليه إلى أن ينكشف جنونه ويفيق أو إلى أن يموت أو يقتل. وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام فإنه عليه السلام كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم. وكان رؤساؤهم يقولون للعوام: إنه مجنون لينفروهم عنه وليلبسوا عليهم أمره. ويحتمل أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوّي أمره فنحن حينئذ نتبعه، وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه. واعلم أنه سبحانه لم يذكر جواب شبهاتهم لركاكتها ولأنه قد علم في هذا الكتاب الكريم أجوبتها غير مرة { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [الأنعام: 9] { { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } [الإسراء: 95] { أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم } [هود: 28] { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } [البقرة: 170] وإذا بطل طريقة التقليد صار حديث التربص ضائعاً يجب قبول قول من يدعي النبوّة بعد ظهور المعجزة من غير توقف. ثم حكى أن نوحاً عليه السلام لما علم إصرارهم على الكفر { قال رب انصرني } أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي ففي نصرته إهلاكهم، أو انصرني بدل تكذيبهم إياي كقولك "هذا بذاك" والمراد بدلني من غم التكذيب سلوة النصرة أو انصرني بإنجاز ما كذبوني فيه وهو وعد العذاب في قوله { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } [الأعراف: 59] وباقي القصة إلى قوله { إنهم مغرقون } قد مر تفسير مثلها في سورة هود. ومعنى { فأسلك } أدخل فيها وقد مر في أول الحجر في قوله { كذلك نسلكه } [الاية: 12] و { سبق عليه القول } نقيض { سبقت لهم منا الحسنى } [الأنبياء: 101] لأن "على" تستعمل في الضار كما أن اللام تستعمل في النافع. وقد جاء زيادة منهم ههنا على الأصل وحذفت في "هود" ليحسن عطف { ومن آمن } من غير التباس وبشاعة. قيل: في قوله { بأعيننا } على الجمع فساد قول المشبهة إن الله خلق آدم على صورته. أما قوله { فإذا استويت } أي ركبت واستوليت { أنت ومن معك على الفلك فقل } لم يقل "فقولوا" لأن أول الكلام مبني على خطاب نوح، ولأن قول النبي قول الأمة مع ما فيه من الإشعار بفضله ومن إظهار الكبرياء وأن كل أحد لا يليق لخطاب رب العزة. وفي الأمر بالحمد على هلاكهم تقبيح صورة الظلمة كقوله { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } [الأنعام: 45] وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزماً لأنه كان عرفه أن ذلك سبب نجاتهم من الاشتراك مع الظلمة في حكم الإهلاك. ثم أمره أن يسأل ما هو أهم وأنفع أن ينزله في السفينة بدليل عطف { وقل } على جزاء { فإذا استويت } أو ينزله في الأرض عند خروجه من السفينة لأنه لا يبعد أن يدعو عند ركوب السفينة بما يتعلق بالخروج منها { منزلاً } اي إنزالاً أو موضع إنزال يبارك له فيه بزيادة إعطاء خير الدارين وقد أمره أن يشفع بالدعاء الثناء المطابق للمسألة وهو قوله { وأنت خير المنزلين } أي إنزالاً وذلك أنه أقدر على الحفظ وأعلم بحال النازل بل كل منزل فإنه لا يقدر على إيصال الخير إلى النازل إلا بإقداره وتمكينه وإلقاء تلك الداعية في قلبه { إن في ذلك } الذي ذكر من القصة { لآيات } لعبراً ودلالات لمن اعتبر وادّكر فإن إظهار تلك المياه العظيمة والذهاب بها إلى مقارّها لا يقدر عليها إلا القدير الخبير { وإن كنا } هي المخففة من الثقيلة واللام في { لمبتلين } هي الفارقة. والمعنى وإن الشأن والقصة كما مبتلين أي مصيبين قوم نوح ببلاء الغرق أو مختبرين بهذه الآيات من يخلفهم لننظر من يعتبر كقوله { ولقد تركناها آية فهل من مدكر } [القمر: 15] وقيل: المراد كما يعاقب بالغرق من كفر فقد يمتحن به من لم يكفر على وجه المصلحة لا التعذيب، فليس الغرق كله على وجه واحد.
التأويل: الفلاح الظفر والفوز والبقاء أي ظفر المؤمنون بالإيمان الحقيقي المقيد بجميع الشرائط بنفوسهم ببذلها في الله، وفازوا بالوصول إلى الله وبقوابه بعد أن فنوا فيه. الخشوع في الظاهر انتكاس الراس وغض العين واستماع الأذن وقراءة اللسان ووضع اليمين على الشمال كالعبيد، واعتدال الظهر في القيام وانحناؤه في الركوع وثبات القدمين. والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكوّنات، واستغراق الروح في بحر المحبة وذوبانه عند تجلي صفات الجمال والجلال. واللغو كل ما يشغلك عن الله. والزكاة تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة بل عن حب الدنيا لأنه راس خطيئة { إلا على أزواجهم } في كلمة "على" دلالة على أنهم يجب أن يستولوا على الأزواج لا بالعكس وإلا كن عدوّاً لهم كقوله
{ إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم } [التغابن: 14] وعلامة الاستيلاء على الأزواج أن يبتغي بالنكاح النسل ورعاية السنة في أوانها لاحظ النفس وإلا كان متجاوزاً طريق الكمال { لأمانتهم } يعني التي حملها الإنسان { وعهدهم } هو عهد الميثاق في الأزل يحافظون الفرق بين المحافظة والخشوع، أن الخشوع معتبر في نفس الصلاة، والمحافظة معتبرة فيها وفيما قبلها من الشرائط وفيما بعدها وهو أن لا يفعل ما يحبطها ويضيعها الوارثون لأنهم أحياء القلوب وقد نالوا من المراتب ما خلفتها أموات القلوب { من سلالة } لأنه سل من جميع أجزاء الأرض فجاء مختلف الألوان والأخلاق حسب اختلاف أجزاء الطين. بل بحسب اختلاف المركبات من الطين. ففيه حرص الفأرة والنملة، وشهوة الحمار والعصفور، وغضب الفهد والأسد، وكبر النمر، وبخل الكلب، وشره الخنزير، وحقد الحية، وغير ذلك من الصفات الذميمة، وفيه شجاعة السد، وسخاوة الديك، وقناعة البوم، وحلم الجمل، وتواضع الهرة، ووفاء الكلب، وبكور الغراب، وهمة البازي ونحوها من الأخلاق الحميدة { فتبارك الله أحسن الخالقين } لأنه خلق أحسن المخلوقين. أما من حيث الصورة فلأنه تعالى خلق من نطفة متشابهة الأجزاء بدناً مختلف الأبعاض والأعضاء كاللحم والشحم والعظم والعروق والشعر والظفر والعصب والعروق والمخ والأنف والفم واليد والرجل وغيرها مما يشهد لبعضها علم التشريح. وأما من حيث المعنى فلأنه خلق الإنسان مستعداً لحمل الأمانة التي أبى حملها السموات والأرض والجبال وسيجيء تحقيق ذلك في موضعه { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } إلى قوله { تبعثون } فيه أن الإنسان قابل لموت القلب ولموت النفس ولحشرهما. وفي موت أحدهما حياة الآخر وحشره. وموت القلب عبارة عن انغماسه وتستره في حجب الغواشي الاتية عليه من طرق الحواس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال فلذلك قال { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } هي الأغشية والحجب من الجهات المذكورة { وما كنا عن } مصالح { الخلق غافلين } فلا نترك العبد في تلك الحجب بدليل قوله { وأنزلنا من السماء } سماء العناية { ماء } الرحمة { بقدر } استعداد السالك { فأسكناه } في أرض وجوده { فأنشأنا لكم به جنات من نخيل } المعارف { وأعناب } الكشوف وشجرة الخفي الذي يخرج من طور سيناء الروح بتأثير تجلي أنوار الصفات { تنبت } بدهن حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة لأنه سر بين الله وبين الروح. { وصبغ } لآكل الكونين بقوة الهمة. ثم أخبر عن نعم الغلب أن فيها منافع لأنها آلة تحصيل الكمال { وعليها وعلى } ذلك الشريعة في سفر السير إلى الله { تحملونه } وتأويل قصة نوح قد مر في سورة هود والله أعلم.