التفاسير

< >
عرض

طسۤمۤ
١
تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
٣
إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
٤
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ
٥
فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٦
أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
٧
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٩
وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ٱئْتِ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ
١١
قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ
١٢
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ
١٣
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
١٤
قَالَ كَلاَّ فَٱذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ
١٥
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
١٧
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
١٨
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ
١٩
قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ
٢٠
فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢١
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
٢٢
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٣
قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ
٢٤
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ
٢٥
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ
٢٦
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
٢٧
قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ
٢٨
قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ
٢٩
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ
٣٠
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٣١
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ
٣٢
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ
٣٣
قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
٣٤
يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
٣٥
قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ
٣٦
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ
٣٧
فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ
٣٨
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ
٣٩
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلْغَالِبِينَ
٤٠
فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ
٤١
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
٤٢
قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ
٤٣
فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَالِبُونَ
٤٤
فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
٤٥
فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
٤٦
قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٤٧
رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ
٤٨
قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
٤٩
قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ
٥٠
إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٥١
وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيۤ إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ
٥٢
فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ
٥٣
إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ
٥٤
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ
٥٥
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ
٥٦
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
٥٧
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
٥٨
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
٥٩
فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ
٦٠
فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
٦١
قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
٦٢
فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ
٦٣
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ
٦٤
وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ
٦٥
ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ
٦٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
٦٧
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٦٨
-الشعراء

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { طسم } وما بعده بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد. وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب، وقرأ حمزة ويزيد مظهرة النون عند الميم { إني أخاف } بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. { ويضيق ولا ينطلق } بالنصب فيهما: يعقوب. { أرجه } مثل ما في "الأعراف" { أين لنا } بالمد وبالياء. يزيد وأبو عمرو وزيد وقالون. وقرأ ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد بهمزة ثم ياء، وعن قنبل { إن لنا } على الخبر. الباقون بهمزتين. هشام يدخل بينهما مدة. { آمنتم } بالمد: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب { آمنتم } على الخير: حفص غير الخزاز. الأخرون { أأمنتم } بهمزتين. { بعبادي إنكم } بفتح الياء: نافع وأبو جعفر { حاذرون } بالألف: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. الباقون بغير الألف { فاتبعوهم } بالتشديد: زيد عن يعقوب. الباقون بقطع الهمزة وسكون التاء { تراءى الجمعان } بكسر الراء والهمزة في الوصل: حمزة ونصير وهبيرة في طريق الخزاز. واختلفوا في الوقف؛ فعن الكسائي بكسر الراء والهمزة على وزن "تريعى" وفي رواية أخرى عنه "ترائى" اي ترائى، والمشهور عنه "ترأ" بكسر الراء وفتح الهمزة، وأما حمزة فإنه يقف "ترى" بترك الهمزة وكسر الراء ويمد ويشير إلى موضع الهمزة وهو المصدر. وأما هبيرة فإنه يقف "تريا" بكسر الراء ويشير إلى فتح الهمزة. الباقون يقفون "تراءى" على وزن "تراعى" { معي ربي } بفتح الياء: حفص.
الوقوف: { طسم } ه { المبين } ه { مؤمنين } ه { خاضعين } ه { معرضين } ه { يستهزؤن } ه { كريم } ه { لآية } ط { مؤمنين } ه { الرحيم } ه { الظالمين } ه لا للابدال أو البيان تسجيلاً عليهم بالظلم { فرعون } ط للعدول عن الأمر إلى الاستفهام { يتقون } ه { يكذبون } ه لمن قرأ { ويضيق } بالرفع على الاستئناف { هرون } ط { يقتلون } ه { قال كلا } لا للعطف معنى لا لفظاً { مستمعون } ه { العالمين } ه لا لتعلق "أن" { بني إسرائيل } ط { سنين } ه { الكافرين } ه { الضالين } ه { المرسلين } ه { إسرائيل } ط { العالمين } ه { وما بينهما } ط لأن جواب الشرط محذوف اي إن كنتم موقنين فلا تكذبوني { موقنين } ه { تستمعون } ه { الأولين } ه { لمجنون } ه { وما بينهما } ط { تعقلون } ه { المسجونين } ه { مبين } ه { الصادقين } ه { مبين } ه ج للآية مع العطف { للناظرين } ه { عليم } ه لا لأن ما بعده صفة { بسحره } ق قد قيل: بناء على أن ما بعده قول الملأ لفرعون والجمع للتعظيم، والأصح أنه من تتمة قول فرعون. { تأمرون } ه { حاشرين } ه لا لأن ما يتلوه جواب. { عليم } ه { معلوم } ه لا للعطف { مجتمعون } لا لاتصال المعنى { الغالبين } ه { لمن المقربين } ه { ملقون } ه { الغالبون } ه { ما يأفكون } ه للآية وللدلالة على إسراعهم في السجود { ساجدين } ه { العالمين } ه { وهرون } ط { لكم } ه { لكم } ه للابتداء بأن مع اتحاد القول { السحر } ط للفاء ولام الابتداء { فلسوف تعلمون } ه لتقدير القسم { أجميعن } ه { لا ضير } ط توقية لحق "إن" وإلا فالأصل هو الوصل لأن ما بعده هو القول في الحقيقة كما في "الأعراف" { منقلبون } ه ج للآية مع اتحاد المقول { المؤمنين } ه { متبعون } ه { حاشرين } ه للآية مع أن التقدير بأن هؤلاء { قليلون } ه { لغائظون } ه { حاذرون } ه ط لابتداء الخبر من الله { وعيون } ه لا { كريم } ه لا لتعلق الكاف { كذلك } ط أي كما وعدنا بني إسرائيل إيراثها ثم أخبر عن وقوع الموعود لبني إسرائيل { مشرقين } ه { لمدركون } ه ووجه الوصل الإسراع في تداركهم عن خوف الإدراك { كلا } ج لاحتمال أن يكون للردع وأن يكون بمعنى حقاً { سيهدين } ه { البحر } ط لأجل الفاء الفصيحة أي فضرب فانفلق { العظيم } ه { الآخرين } ه { أجمعين } ه { الآخرين } ه الآية ط { مأمنين } ه { الرحيم } ه.
التفسير: قال جار الله: معنى طسم إن آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين وقد مر مثله في أول "يوسف". والبخع الإهلاك وقد مر في اول "الكهف". عزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا ينفع كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه لا ينفع. ثم بين أنه قادر على تنزيل آية ملجئة إلى الإيمان ولكن المشيئة والحكمة تقتضيان بناء الأمر على صورة الاختبار. قال صاحب الكشاف: وجه عطف { فظلت } على { ننزل } كما قيل في قوله
{ { فَأَصَّدَّقَ وأكن } [المنافقون: 10] كأنه قيل: أنزلنا فظلت. وأقول: الظاهر أن الفاء في { فظلت } لسببية بدليل عدم المستتر فيه كما في { ننزل }. ووجه العدول إلى الماضي كما قيل في { { ونادى } [الأعراف: 48] { { وسيق } [الزمر: 73] وجه مجيء { خاضعين } خبراً عن الأعناق إذ الأعناق تكون مقحماً لبيان موضع الخضوع. وأصل الكلام: فظلوا لها خاضعين أي حين وصفت الأعناق بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل { خاضعين } كقوله { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [يوسف: 4] وقيل: أعناقهم رؤساؤهم كما يقال لهم الرؤوس والصدور. وقيل: اراد جماعاتهم. يقال: جاءنا عنق من الناس لفوج منهم. عن ابن عباس: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية. قال: ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة. ومعنى { ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث } قد مر في سورة الأنبياء. نبه سبحانه بذلك على أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين على الإيمان حكيم يأتيهم بالقرآن حالاً بعد حال رعاية لقاعدة التكليف. ثم ذكر أنه تعالى لا يحدد لهم توجيه موعظة وتذكير إلا جددوا ما هو نقيض المقصود، وذلك النقيض هو الإعراض والتكذيب والاستهزاء وهذا ترتيب في غاية الحسن كأنه قيل حين أعرضوا عن الذكر: فقد كذبوا به وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره حتى صار عرضة للاستهزاء. وهذه درجات من أخذ في الشقاء فإنه يعرض أوّلاً، ثم يصرح بالتكذيب ثانياً، ثم يبلغ في التكذيب والإنكار إلى حيث يستهزئ. وفي قوله { فسيأتيهم } وعيد لهم بعذاب بدر أو يوم القيامة وقد مر مثله في أول "الأنعام". ثم بين أنه مع حكمته في إنزال القرآن حالاً بعد حال رحيم يظهر من الدلائل الحسية ما يكفي للمتأمل في باب النظر والاستدلال. والزوج الصنف والكريم نعت لكل ما يرضى ويحمد في بابه منه "وجه كريم" إذا رضي في حسنه وجماله، و"كتاب كريم" مرضي في مبانيه، و"نبات كريم" مرضي فيما يتعلق به من المنافع، فما من نبت إلا وفيه نفع وفائدة من جهة وإن كانت فيه مضرة من جهة أخرى. ويحتمل أن يراد بالكريم النافع منه وتكون المضارّ مسلوبة عنه. قال جار الله: معنى الجمع بين "كم" و"كل" دون أن يقول "كم أنبتنا فيها من زوج كريم" هو أن "كلا" قد دل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و"كم" دل على أن هذا محيط مفرط الكثرة. قلت: فالحاصل أن خلق النوع يصدق بخلق فرد واحد منه كما يصدق بخلق أفراد كثيرة. فقوله { كل زوج } إشارة إلى خلق كل نوع من أنواع النبات، وقوله { كم أنبتنا } إشارة إلى كثرة افراد كل نوع منه وفيه تنبيه على كمال القدرة ونهاية الجود والرحمة ولهذا ختم الكلام بقوله { إن في ذلك } الإنبات أو في كل واحد من تلك الأزواج { الآية } على الإبداء والإعادة { وما كان أكثرهم مؤمنين } لأن الله تعالى طبع على قلوبهم { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } فمن عزته قدر على عقوبتهم ومن رحمته بين لهم الدلائل ليتفكروا ويعتبروا، والرحمة إذا صدرت عن القدرة كانت أعظم موقعاً، واعلم أنه سبحانه كرر بعض الآيات في هذه السورة لأجل التأكيد و"التقرير"؛ فمن ذلك أنه كرر قوله { إن في ذلك لآية } إلى قوله { الرحيم } في ثمانية مواضع: أولها في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية في قصة موسى، ثم إبراهيم، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم شعيب. ومن ذلك قوله { ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } وهو مذكور في خمسة مواضع: في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. ومن ذلك أنه كرر { فاتقوا الله وأطيعون } في قصة نوح وهود وصالح وليس في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: { ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاَّ على رب العالمين } [الشعراء: 109] لذكرها في مواضع من غير هذه السورة. وليس في قصة موسى لأنه رباه فرعون حيث قال { ألم نربك فينا وليداً } ولا في قصة إبراهيم لأن اباه في المخاطبين حيث يقول: { { إذ قال لأبيه وقومه } } [الأنبياء: 52] وهو قد ربَّاه فاستحيا موسى وإبراهيم أن يقولا { وما أسألكم عليه من أجر } وإن كانا منزهين من طلب الأجر.
ثم إنه تعالى أعاد في هذه السورة قصص الأنبياء المشهورين مع أممهم اعتباراً لهذه الأمة، وبدأ بقصة موسى لما فيها من غرائب الأحوال وعجائب الأمور. والنداء المسموع عند الأشعري هو الكلام القديم الذي لا يشبه الحروف والأصوات، وعند المعتزلة وإليه ميل أبي منصور الماتريدي أنه من جنس الحروف والأصوات وأنه وقع على وجه علم به موسى أنه من قبل الله تعالى وقد عرفه أنه سيظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك. قال جار الله: قوله { ألا يتقون } كلام مستأنف فيه تعجيب لموسى من حالهم الشنعاء في قلة خوفهم وكثرة ظلمهم، أو حال أدخلت عليه همزة الإنكار. ثم إن موسى خاف أن يذكب عند أداء الرسالة فاستظهر بهارون. وفي قراءة النصب خاف التكذيب المستتبع لضيق الصدر المستلزم لاحتباس اللسان عن الجريان في الكلام، ولعله اراد بهذه الحبسة عقدة في لسانه قبل إجابة دعوته أو بقية يروى أنها بقيت بعد الإجابة كما مر في "طه". ومعنى { فأرسل إلى هارون } أرسل إليه جبريل واجعله نبياً يصدقني في أمري فاختصر الكلام اختصاراً. ثم ذكر أن لهم عليه ذنباً فسمى جزاء الذنب ذنباً، أو المضاف محذوف اي تبعه ذنب وهو قود قتل القبطي كما سيجيء تفصيله في سورة القصص. فيمكن أن يقتل قبل أداء الرسالة فلا يتمكن من المقصود، وهذا قد جوزه الكعبي وغيره من البغداديين. وقال الأكثرون: الأقرب من حال الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أنه يمكنهم من أدائها فلا معنى للخوف من القتل قبل الأداء. نعم لو خاف بعد الأداء جاز وذلك لما جبل عليه طبع الإنسان من التنفر عن القتل فيسأل الله الأمان من ذلك وقد جمع الله له بقوله { كلا } الكلاءة وبقوله { فاذهبا } استنباء أخيه كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهارون { ومعكم ومستمعون } خبران لأن أو الخبر { مستمعون } و { معكم } متعلق به. ولا يخفى ما في المعية من المجاز لأن المصاحبة من صفات الأجسام، فالمراد معية النصرة والمعونة، وأما الاستماع فمجاز أيضاً وإن كان إطلاق السمع على الله حقيقة لأن الاستماع جار مجرى الإصغاء ولا بد فيه من الجارحة. فحاصل الآية إنا لكما ولعدوّكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه. وإنما وحد الرسول في قوله { إنا رسول رب العالمين } لأنه أراد كل واحد أو أراد الرسول بمعنى المصدر أي ذو رسالة رب العالمين. يقال: أرسلتهم برسول اي برسالة أو جعلا لاتفاقهما واتحاد مطلبهما كرسول واحد. وههنا إضمار دل عليه سياق الكلام أي فأتيا فرعون فقالا له ذلك. يروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن ههنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة فعرف أنه موسى فعند ذلك قال { ألم نربك فينا وليداً } أي صبياً وذلك لقرب عهده من الولادة. قيل: مكث فيهم ثلاثين سنة من أول عمره. وقيل: وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة ففر منهم. والفعلة الوكزة عدد عليه نعمه، ثم وبخه بقتل نفس منهم وسماه كافراً لنعمه بسبب ذلك. وجوز جار الله أن يراد وأنت إذ ذاك ممن يكفر بالساعة فيكون قد افترى على موسى أو جهل أمره لأنه كان يعايشهم بالتقية. وإنما قلنا إنه افتراء أو جهل لأن الكفر غير جائز على الأنبياء ولو قبل النبوة، ويجوز أن يراد أنه من الكافرين بفرعون وإلهيته أو بآلهة كانوا يعبدونها. قال تعالى:
{ ويذرك وآلهتك } } [الأعراف: 127] ثم إن موسى ما أنكر تربيته ولكن أنكر الكفر فلم ينسب نفسه إلا إلى الضلال وأراد به الذهاب عن الصواب، أو أراد النسيان أو الخطأ وعدم التدبر في أدبار الأمور. ثم ذكر موهبة ربه في حقه حين فر من فرعون وملئه المؤتمرين بقتله. والحكم العلم بالتوحيد وكمال العقل والرأي، ولا تدخل فيه النبوة ظاهراً لئلا يلزم شبه التكرار بقوله: { وجعلني من المرسلين } قال جار الله { وتلك } إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدري ما هي إلا بعد أن فسرت بقوله { أن عبدت } نظيره قوله { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع } [الحجر: 66] والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ كأنه أبى أن يسمي نعمته إلا نقمة لأن تعبيدهم أي تذليلهم واتخاذهم عبيداً وقصدهم. بذبح أبنائهم صار هو السبب في حصوله عنده وفي تربيته فلهذا قال الزجاج: "أن" مع ما بعده في موضع نصب أي إنما صارت نعمة عليّ لأن عبدت بني إسرائيل إذ لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم ومن هنا قال جار الله: إن قول موسى { فعلتها إذن } جواب لقول فرعون { وفعلت فعلتك } وجزاء له كأن فرعون قال: جازيت نعمتي بما فعلت. فقال موسى: فعلتها مجازياً لك وإن نعمتك جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. وقال الحسن: أراد أنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت عليّ فلا نعمة لك بالتربية على أن التربية كانت من قبل أمي وعشيرتي ولم يكن منك إلا أنك لم تقتلني. وقيل: اراد أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في الإطعام والكسوة.
واعلم أن للعلماء خلافاً في نعمة الكافر فقيل: إنها لا تستحق الشكر لأن الكافر يستحق الإهانة بكفره فلو استحق الشكر لإنعامه لزم الجمع بين الإهانة والتعظيم في حق شخص واحد في وقت واحد. وقيل: لا يبطل بالكفر إلا الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان، وفي الآية نوع دلالة على كل من القولين. ثم إن موسى حين أدى رسالته من قوله { إنا رسول رب العالمين } { قال فرعون وما رب العالمين } وقد سبق مراراً أن كفره احتمل أن يكون كفر عناد وأ، يكون كفر جهالة، والذي يختص بالمقام هو أن ما يطلب به حقيقة الشيء وماهيته، وهذا هو الذي قصده فرعون بسؤاله ولم يعرف أن الماهية لا تطلق على ذاته تعالى إذ لا أجزاء لها حدية ولا تقديريه ولا بأي وجه فرض ضرورة انتهاء الكل إليه واستغنائه عن الكل من كل الوجوه، فلا يصح أن يسأل عنه بما هو ولا بكيف هو ولا بأي شيء هو ولا بهل هو، غاية ذلك أن ينبه على وجوده الذي هو أظهر الأشياء بلوازمه وآثاره على وجه يعم الكل كما يقال: إنه رب السموات والأرض وما بينهما، أو بأخص من ذلك بأن يقال مثلاً: { ربكم ورب آبائكم الأولين } وهو الاستدلال بالأنفس أو يقال { رب المشرق والمغرب وما بينهما } من الجهات المفروضة على السماء من لدن طلوع الكواكب إلى غروبها وبالعكس وهو الاستدلال بالآفاق. وقد راعى في الجواب الأول طريقة اللطف فختم بقوله { إن كنتم موقنين } أي إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وجلائه. وخاشنهم في الأخير بقوله { إن كنتم تعقلون } حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله: { إن كنتم تعقلون } حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله { إن رسولكم } ويمكن أن يراد بقوله { وما بينهما } ثانياً ما بين المشرق والمغرب من المخلوقات فيكون الفرق بين هذا الاستدلال وبين الأول أن الأول هو الاستدلال بالإمكان على طريقة الحكيم، والثاني هو الاستدلال بالحدوث على طريقة المتكلمين، والأول أقرب إلى اليقين فلهذا قال { إن كنتم موقنين } والثاني أقرب إلى الحس فلهذا قال { إن كنتم تعقلون } ولما انجر الكلام إلى حد العناد والمخاشنة هدده فرعون بقوله: { لئن اتخذت إلهاً غيري لاجعلنك من المسجونين } وهذا أبلغ من أن لو قال: "لأسجننك" والمعنى لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه يطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً لا يبصر فيها ولا يسمع، وحينئذ عدل موسى إلى الحجة الأصلية في الباب وهو ادعاء المعجز المنبئ عن صدقه فقال { أولو جئتك } أي أتفعل فيَّ ذلك ولو جئتك بشيء أي جائياً بالمعجزة. وفي قوله { إن كنت من الصادقين } إن سلم أنه قاله جداً لا هزلاً وجدالاً دلالة على ما ركز في العقول من أن دعوى الرسالة إن اقترنت بظهور المعجزة على يده تحقق صدقها. وقد شنع في الكشاف ههنا أن في أهل القبلة من خفي عليهم ما لم يخف على فرعون حتى جوزوا القبيح عليه سبحانه ولزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. وفي التخطئة سهو من وجهين: أحدهما: أنه لا قبيح عند الأشاعرة عقلاً. والثاني أنه على تقدير التسليم لا يلزم تجويز كل قبيح وهذا من ذلك للزوم الاشتباه. وباقي القصة سبق نظيرها في "الأعراف" فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالسورة. قوله { قال للملأ حوله } قال في الكشاف: الظرف في محل النصب على الحال. وأقول: الأصوب أن يجعل نعتاً للملأ أي الأشراف حوله على طريقة قوله:

ولقد أمرّ على اللئيم يسبني

قوله { لمقيات يوم معلوم } اليوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى كما مر في "طه". قوله { هل أنتم مجتمعون } استبطاء لهم في الاجتماع وحث عليه كقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق إذا أراد أن يحثه على الانطلاق. قوله { لعلنا نتبع السحرة } لم يكن غرضهم اتباع السحرة في دينهم وإنما غرضهم الأصلي أن لا تتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق المجاز لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى. قوله { بعزة فرعون } هي من أيمان الجاهلية ولا يصح الحلف في الإسلام إلا بالله تعالى وبصفاته كما مر في "البقرة" و"المائدة". وقوله { فألقى السحرة } لم يسم فاعله وهو الله تعالى في الحقيقة حين ألقى داعية الإيمان في قلوبهم ويجوز أن ينسب إلى ما عاينوا من المعجزات الباهرة ولك أن لا تقدر فاعلاً أي خروا. قوله { لا ضير } أي لا ضير علينا فيما يتوعدنا به من القتل.
قوله { إنا نطمع } الطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين كقوله إبراهيم { والذي أطمع أن يغفر لي } ويحتمل الظن بناء على أن المرء لا يعلم ما يختاره أو يؤل إليه عند الوفاة. ومعنى { أن كنا } لأن كنا وكانوا أوّل طائفة مؤمنين من أهل زمانهم أو من قوم فرعون أو من أهل المشهد. قوله: { إِنكم متبعون } تعليل للإسراء أي بنيت تدبير أمركم على أن تتقدموا لو يتبعكم فرعون وجنوده إلى أن يغشاهم من اليم ما يغشاهم. قوله: { لشرذمة } هي الطائفة القليلة. ثم وصفهم بالقلة واختار جمع السلامة ليدل على أن كل حزب منهم في غاية القلة، وذلك بالنسبة إلى عسكره وإلا فهم كثير في أنفسهم. يروى أن فرعون أرسل في اثرهم الف ألف وخمسمائة الف ملك مسور مع كل ملك الف وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت على مقدّمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وكان قوم موسى إذ ذاك ستمائة ألف وسبعين ألفاً. ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والحقارة لا قلة العدد. قوله: { وإنهم لنا لغائطون } معناه أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم ولكنهم يفعلون أفعالاً لغيظنا كأخذ الحلي وادّعاء الاستقلال والاستخلاص عن ذل الاستخدام ونحن قوم مجموعون كلمة وائتلافاً، ومن عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور. فالحذر المتيقظ وهو يفيد الثبات والحاذر الذي يجدد حذره. وقيل: هو تام السلاح لأنه فعل ذلك حذراً واحتياطاً لنفسه، وكل هذه المعاذير لأجل أن لا يظن به العجز وخلاف ما ادّعاه من القهر والتسلط. وقرئ { حادرون } بالدال غير المعجمة، والحادر السمين القوي أراد أنهم أقوياء أشدّاء. { فأخرجناهم من جنات } أي بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة. قال مجاهد: سماها كنوزاً لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى. والمقام الكريم المنازل الحسنة والمجالس البهية. وقال الضحاك: المنابر. وقيل: السرر في الحجال. { كذلك } يحتمل النصب أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا، والجر على الوصف أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، ولارفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، وعلى هذا فيوقف على { كريم }. { فأتبعوهم } اي فلحقوهم. ومن قرأ بالتشديد فظاهر. والإشراق الدخول في وقت الشروق { فلما تراءى الجمعان } أي رأى قوم موسى قوم فرعون وحصل كل من الفريقين بمرأى للآخر { قال أصحاب موسى } خوفاً وفزعاً { إنا لمدركون } لملحقون. قال موسى تثبيتاً لهم وردعاً عماهم عليه من الجزع والفزع { كلا إن معي ربي } بالنصرة والمعونة { سيهدين } سبيل النجاة والخلاص كما وعدني. ثم بين أنه كيف هداه بقوله { فأوحينا } الآية. ومعنى { فانفلق } فضرب فانفلق { فكان كل فرق } اي كل جزء متفرق منفلق منه { كالطود } وهو الجبل العظيم ومع ذلك وصفه بالعظيم { وأزلفنا ثم } أي قربنا حيث انفلق البحر { الآخرين } وهم قوم فرعون والمقرب منه بنو إسرائيل أو قوم فرعون أيضاً أي أدنينا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد، ويجوز أن يراد قدمانهم إلى البحر. وقرئ { وأزلقنا } بالقاف أي أزللنا أقدامهم حساً بأن لم يكن لهم البحر يبساً كما كان لبني إسرائيل، أو عقلاً أي أذهبنا عزهم. والبحر بحر القلزم أو بحر من وراء مصر يقال له أساف. قالت الأشاعرة: إنه تعالى أضاف الإزلاف إلى نفسه مع أن اجتماعهم في طلب موسى كفر. أجاب الجبائي بأن قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل وبنو إسرائيل إنما فعلوا ذلك بأمر الله تعالى، فلما كان مسيرهم بتدبير الله وهؤلاء تبعوهم اضافه إلى نفسه توسعاً، وهذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيجوز أن يقول: أتعبني الغلام لما حدث ذلك عند فعله. أو المراد أزلفناهم إلى الموت والأجل. وقال الكعبي: أراد أنه جمع تفرقهم كيلا يصلوا إلى موسى وقومه، أو اراد أنه حلم عنهم وترك لهم لابحر يابساً حتى طمعوا في دخوله. واعترض بأن كل ذلك لا بد أن يكون له أثر في استجلاب داعية قوم فرعون إلى الذهاب خلفهم فيعود المحذور. { إن في ذلك } الذي حدث في البحر من إنجاء البعض وإغراق البعض أو في ذلك أي ذكر من القصة بطولها { لآية } عجيبة للمتدبر المتفكر في الأمور الإلهية { وما كان أكثرهم مؤمنين } حين سألوا بعد النجاة أن يجعل لهم موسى إلهاً غير الله، واتخذوا العجل، واقترحوا اقتراحات خارجة عن قانون الأدب. ويحتمل أن يعود الضمير إلى هذه الأمة بدليل
{ واتل عليهم } [الشعراء: 69] وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يغتم بتكذيب قومه بعد ظهور المعجزات ونزول الآيات.
التأويل: الطاء طوله في كمال عظمته، والسين سلامته عن كل عيب ونقص، والميم مجده الذي لا نهاية له. أو الطاء طهارة قلب نبيه عن تعلقات الكونين، والسين سيادته على الأنبياء والمرسلين، واليمم مشاهدته جمال رب العالمين. أو الطاء طيران الطائرين بالله، والسين سير السائرين إلى الله، والميم مشي الماشين لله الذين يمشون على الأرض هوناً. { إن نشأ ننزل } من سماء قلوبهم { آية } من واردات الحق { فظلت } أعناق نفوسهم { لها خاضعين } { فسيأتيهم } بعد مفارقة الأرواح الأجساد { أنباء ما كانوا به يستهزؤن } لظهور نتائج معاملاتهم الخبيثة على أرواحهم { أو لم يروا إلى } أرض قلوب العارفين { كما أنبتنا فيها } من اشجار أصناف الإيمان والتوكل واليقين والإخلاص وسائر الأخلاق الكريمة { وما كان أكثرهم مؤمنين } لأن جناب الحق لعزته يجل عن أن يكون شرعة لكل وارد { وإن ربك لهو العزيز } الذي لا يوجد بالسعي { الرحيم } حين أدرك أولياءه بجذبات العناية كما أدرك موسى حين ناداه من الشجرة، وذلك لأنه جعله مظهر لطفه كما أ نه جعل فرعون مظهر قهره فصار من العتوّ والاستكبار في غاية الكمال. ويعلم منه أن الإنسان له استعداد في مظهرية صفة القهر ليس لإبليس فلذلك عاند إبليس آدم وقال أنا خير منه وعاند فرعون الرب وقال أنا ربكم الأعلى. وأن له استعداداً في مظهرية صفة اللطف ليس للملك ولهذا صار الإنسان مسجوداً للملائكة. { أن أرسل معنا بني إسرائيل } فيه أن موسى القلب مرسل إلى فرعون النفس لئلا تستعيد الصفات الروحانية فإن لفرعون النفس في البداية استيلاء على موسى القلب والصفات الروحانية فاستعملهم في قضاء حوائجه وتحصيل مقاصده فعرفه فرعون النفس وقال { ألم نربك فينا وليداً } فإن موسى القلب كان في حجر فرعون النفس إلى أن بلغ أوان الحلم وهي خمس عشرة سنة، فقتل قبطي الشهوة حين كفر بإله الهوى وكان قبل القتل ضالاً عن حضرة الربوبية { ففرت منكم } غلى الله لما خفت أن تقطعوا عليّ الطريق إلى الله. رب سموات القلوب وأرض البشرية وما بينهما من المنازل { قال لمن حوله } من صفات النفس { الا تستمعون } { قال موسى } القلب لتعارفه بربه { ربكم ورب آبائكم الأوّلين } يعني الآباء العلوية الرحانية. وفي قوله { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } إشارة إلى كمال ضدية القلب والنفس فما يصدر عن القلب تعده النفس من الجنون وبالعكس. { رب } مشرق الروح من أفق البدن { ورب } مغربه فيه { وما بينهما } من مدة التعلق وقد مر نظيره في محاجة إبراهيم في "البقرة" { لأجعلنك من المسجونين } في سجن حب الدنيا فإن القلب إذا توجه إلى الله فلا استيلاء للنفس عليه إلا بشبكة حب النجاة والرياسة فإنها آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين. فقال موسى القلب: لا تقدر على أن تسجنني فإن معي عصا الذكر واليد المنزعة عما سوى الله. وباقي التأويل قد سبق قوله: { فأخرجناهم } أي { من جنات } صفات الأوصاف الروحانية { وعيون } الحكمة { وكنوز } المعارف { ومقام كريم } في حضرة أكرم الأكرمين { وأورثاها بني إسرائيل } فيه أن النفس إذا فنيت ورث القلب منها صفاتها وبقوتها تصير إلى مقامات لم يمكنه الوصول إليها بقوة صفاته، ولو مات القلب ورثت النفس منه صفاته وبقوتها تتنزل إلى دركات لم يمكنها الوصول إليها بمجرد صفاتها { فأتبعوهم } أي لحق أوصاف النفس أوصاف القلب عند إشراق شمس الروح { فكان كل فرق } فيه أن كل صفة من أوصاف الروح كجبل عظيم في العبور عنه. { وأزلفنا ثم الآخرين } أي قربنا صفات النفس بتبعية صفات القلب إلى بحر الروح. { وأنجينا موسى ومن معه } من الأوصاف في بحر الروح بالوصول إلى الحضرة { ثم أغرقنا } أوصاف النفس في بحر الروحانية فإن الوصول إلى الحضرة من خواص القلب وغاية سير النفس هو الاستغراق في بحر الروحانية { إن في ذلك لآية } لأرباب العرفان { وما كان أكثرهم مؤمنين } بهذه المنازل فإنه لا يصير إليها إلا الشاذ من المجذوبين بجذبة
{ { ارجعي إلى ربك } [الفجر: 28] جعلنا الله من المستعدين لها والله أعلم.