غرائب القرآن و رغائب الفرقان
القراءات: { يزفون } بضم الياء وكسر الزاي: حمزة. الباقون: بفتح الياء { إني أرى }
{ إني أذبحك } بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابو عمرو. { وترى } بضم التاء وكسر
الراء: علي وخلف وحمزة. { ستجدني } بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع { وإن إلياس }
موصولاً كهمزة الوصل: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون: بكسر الهمزة { الله
ربكم ورب } بالنصب في ثلاثتها على البدل: سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم
غير أبي بكر وحماد والمفضل. الباقون: برفعها على الابتداء والخبر. { آل ياسين } ابن
عامر ونافع ورويس. الآخرون { إلياسين } كأنه جمع إلياس { لكاذبون اصطفى } موصلاً
والابتداء بكسر الهمزة: يزيد وإسماعيل والأصبهاني عن ورش الباقون: بفتحها في
الحالين.
الوقوف: { لإبراهيم } ه ط لأن التقدير "واذكر". وجوز في الكشاف أن يتعلق الظرف
بما في الشيعة من معنى المتابعة فلا وقف { سليم } ه { تعبدون } ه ج للابتداء بالاستفهام
مع اتحاد المقول { تريدون } ه ط لاستفهام آخر { العالمين } ه { في النجوم } ه لا للفاء
واتحاد المعنى { سقيم } ه { مدبرين } ه { تأكلون } ه ج للاستفهام مع الاتحاد كما مر { لا
تنطقون } ه { باليمين } ه { يزفون } ه { تنحتون } ه لا لأن الواو للحال { تعملون } ه { في
الجحيم } ه { الأسفلين } ه { سيهدين } ه { الصالحين } ه { حليم } ه { ماذا ترى } ط { ما
تؤمر } ز للسين مع اتصال المقول { الصابرين } ه { للجبين } ه ج لاحتمال أن الواو مقحمة
{ وناديناه } جواب "لما"، ولاحتمال أن الجواب محذوف أي قبلنا منه وناديناه { يا إبراهيم }
ه لا { الرؤيا } ج لاحتمال أن ما بعده داخل في حكم النداء أو مستأنف { المحسنين }
ه { المبين } ه { عظيم } ه { في الآخرين } ه لا { إبراهيم } ه { المحسنين }
ه { المؤمنين } ه { الصالحين } ه { إسحق } ط { مبين } ه { وهارون } ه ج للآية مع العطف
{ العظيم } ه ج لذلك { الغالبين } ه لا { المستبين } ه ج { المستقيم } ه ج { في الآخرين }
ه لا { وهارون } ه { المحسنين } ه { المؤمنين } ه { المرسلين } ه لا وجه
صحيح وإن لم يكن مقصوداً فلهذا لم يكن الوقف لازماً. { تتقون } ه { الخالقين } ه لا
لمن قرأ { الله } بالنصب { الأوّلين } ه { لمحضرون } ه { المخلصين } ه { في الآخرين }
ه لا { الياسين } ه { المحسنين } ه { المؤمنين } ه { المرسلين } ه { أجمعين } ه لا
{ الغابرين } ه { الآخرين } ه { مصبحين } ه لا { وبالليل } ط { تعقلون } ه { المرسلين }
ه لا { المشحون } ه لا { المدحضين } ه ج لحق المحذوف مع الفاء { مليم } ه { من المسبحين } ه لا { يبعثون } ه { سقيم } ه ج { يقطين } ه ج { أو يزيدون } ه ط { إلى
حين } ه ط { البنون } ه ط { شاهدون } ه { ليقولون } ه لا { ولد الله } لا تعجيلاً لتكذيبهم
{ لكاذبون } ه { البنين } ه ط لابتداء استفهام آخر { تحكمون } ه { تذكرون } ه ج لأن "أم"
تصلح استئنافاً { مبين } ه لا لتعجيل أمر التعجيز { صادقين } ه { نسباً } ط { لمحضرون }
ه لا لتعلق الاستثناء و { سبحان الله } معترض { يصفون } ه { المخلصين } ه { تعبدون }
ه لا { بفاتنين } ه لا { الجحيم } ه { معلوم } ه { الصافون } ه ج للعطف مع الاتفاق
{ المسبحون } ه ج { ليقولون } ه لا { من الأوّلين } ه لا { المخلصين } ه { يعلمون }
ه { المرسلين } ه لأن ما بعده يصلح ابتداء مقولاً للكلمة { المنصورون } ه ص لعطف
الجملتين المفقتين { الغالبون } ه { حين } ه لا للعطف ولشدة اتصال المعنى { يبصرون }
ه { يستعجلون } ه { المنذرين } ه { حين } ه لا { يبصرون } ه { عما يصفون } ه ج لعطف
جملتين مختلفتين { المرسلين } ه ج للابتداء بالحمد الذي به يبتدأ الكلام وإليه ينتهي مع
اتفاق الجملتين { العالمين } ه.
التفسير: الضمير في { شيعته } يعود إلى نوح والمراد أن إبراهيم ممن شايع نوحاً على
أصول الدين أو على التصلب في الدين. وقال الكلبي: واختاره الفراء إنه يعود إلى محمد
أي هو على منهاجه ودينه وإن كان إبراهيم سابقاً والأوّل لتقدّم ذكر نوح. ولما روي
عن ابن عباس معناه من أهل دينه وعلى سنته وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان: هود
وصالح، وبين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. ومعنى { جاء ربه } أقبل بقلبه
على الله وأخلص العمل له. والقلب السليم قد مرّ في "الشعراء". ثم ذكر من جملة آثار
سلامة قلبه أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد. ومعنى { ماذا تعبدون } أي شيء تعبدونه كقوله
في "الشعراء" { وما تعبدون } [الآية: 70] سألهم عن جنس معبوديهم ثم وبخهم على ذلك
بقوله { أئفكاً } هو مفعول له قدم للعناية كما قدم المفعول به على الفعل لذلك فإنه كان
الأهم عنده أن يكافحهم ويعنفهم على شركهم وأنهم على إفك وباطل. ويجوز أن يكون
{ إفكاً } حالاً معنى أو مفعولاً به { آلهة } بدل منه على أنها إفك في أنفسها. { فما ظنكم
برب العالمين } حتى جعلتم الجمادات أنداداً له أو حسبتم أنه يهمل أمركم ولا يعاقبكم،
وفيه أنه لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصدر عن عبادته. وفي قوله { إني سقيم } قولان:
الأوّل أنه صدر منه كذباً لمصلحة رأى فيه، ولما جاء في الحديث "لم يكذب إبراهيم إلا
ثلاث كذبات: قوله: { إني سقيم } وقوله { بل فعلهم كبيرهم } وقوله لسارة إنها أختي" وقد
سبق تقرير ذلك في الأنبياء. والثاني وهو الأقوى أنه كلام صادق لأن الكذب قبيح وإن اشتمل
على مصلحة. وأما الحديث فنسبه الراوي إلى الكذب أولى من نسبة نبي الله إلى ذلك. وفي
التوجيه وجوه: الأوّل إن النظر في النجوم يريد به النظر في علم النجوم وأحكامها وكتبها
وذلك ليس بحرام ولا سيما في ذلك الشرع فليس فيه إلا اعتقاد أنه تعالى خص كل واحد من
الكواكب بقوّة وخاصية يظهر بها منه أثر مخصوص، والإنسان لا نيفك في أكثر أحواله عن
حصول حالة مكروهة له، إما في بدنه أو في قلبه، فلعل به سقماً كالحمى الثابتة، أو أراد
سيسقم لأمارة نجومية، أو أراد به الموت الذي يلحقه لا محالة ولا داء أعي منه. الثاني: أن
المراد بالنجوم ما جاء في قوله { فلما جن عليه الليل رأى كوكباً } إلى آخر الآية. أي نظر
فيها ليعرف أحوالها وأنها قديمة أو محدثة. وقوله { إني سقيم } أي سقيم القلب غير عارف
بربي وكان ذلك قبل البلوغ، أو سقيم النفس لكفركم. الثالث: إن النجوم النبات أي فنظر
فيها متحرياً منها ما فيه شفاء لسقمهم وهمهم أن به ذلك وكان به. وقال الأزهري عن
أحمد بن يحيى: النجوم جمع نجم وهو كل ما تفرق ومنه نجوم الكتابة أي نظر في متفرقات
كلامهم وأحوالهم حتى يستخرج منه حيلة فلم يجد عذراً أحسن من قوله { إني سقيم } قال
المفسرون: كان الطاعون أغلب الأسقام عليهم فظنوا أن به ذلك فتركوه في بيت الأصنام
مخافة العدوى وهربوا إلى عيدهم وذلك قوله سبحانه { فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم }
ذهب إليها في خفية حتى لا يرى فكأنه رجع إليها مراوغاً قومه من روغان الثعلب. وقيل:
راغ بقوله { إني سقيم } حتى خلا بها وسماها آلهة على زعمهم. وقوله { ألا تأكلون ما لكم
لا تنطقون } استهزاء بها وكان عندها طعام زعموا أنها تأكل منه. وقيل: وضع الطعام ليبارك
فيه. وروى أن سدنتها كانوا يأكلون ما يوضع عندها من الطعام وينطقون عند الضعفة عن
لسانها يوهمون أنها تأكل وتنطق. وإنما جاء في هذه السورة { فقال ألا تأكلون } بالفاء وفي
"الذاريات" { قال ألا تأكلون } بغير الفاء لأنه قصد من أول الأمر تقريع من زعم أنها تأكل
وتشرب، وفي الذاريات" يستأنف تقديره: قربه إليهم فلم يأكلوها فلما رآهم لا يأكلون فقال
ألا تأكلون.
{ فراغ عليهم } عداه بعلى لأن الميل الأول كان على سبيل الرفق استهزاء، وهذا كان
بطريق العنف والقهر وهذا كما يقال في المحبوب: مال إليه. وفي المكروه: مال عليه. وقوله
{ ضرباً } مصدر راغ من غير لفظه أو لفعل محذوف أو حال أي بضرب ضرباً أو ضارباً.
ومعنى { باليمين } اي باليد اليمنى لأنها أقوى على الأعمال أو باقوّة مجازاً، أو بسبب
الحلف وهو قوله { تالله لأكيدن أصنامكم } { فأقبلوا إليه } أي إلى إبراهيم { يزفون } بمشون
على سرعة. وزفيف النعامة ابتداء عدوها. ومن قرأ بضم الياء فإما لازم من أزف إذا صار
إلى حال الزفيف، أو متعدٍ والمفعول محذوف أي يزفون دوابهم أو بعضهم بعضاً وقد مر
نظيره في التوبة في قوله { ولأوضعوا خلالكم } [التوبة: 47] قال بعض الطاعنين، قوله
{ فأقبلوا إليه } دل على أنهم عرفوا كاسر أصنامهم. وقوله في "الأنبياء" { { أأنت فعلت هذا
بآلهتنا يا إبراهيم } [الآية: 62] دل على أنهم لم يعرفوا الكاسر فبينهما تناقض. وأجيب بأن
هؤلاء غير أولئك فالذين عرفوه ذهبوا إليه مسرعين، والذين لم يعرفوه بعد استخبروا عنه.
على أن قوله { فأقبلوا إليه } لا دلالة له على أنهم عرفوا أن الكاسر هو إبراهيم فلعلهم أقبلوا
إليه لأجل السؤال عن الكاسر. وحين عاتبوه على فعله أراد أن يبين لهم فساد طريقتهم
فـ { ـقال أتعبدون ما تنحتون } وذلك أن الناحت لم يحدث فيه إلا صورة معينة فيكون معناه
أن الشيء الذي لم يكن معبوداً لي صار بسبب تصرفي فيه معبوداً لي وفساد هذا معلوم
بالبديهة، احتج جمهور الأشاعرة بقوله { والله خلقكم وما تعملون } على أن العبد ليس خالق
أعماله لأن المعنى خلقكم وأعمالكم. وزيف بأن "ما" موصولة لتناسب قرينتها في قوله { ما
تنحتون } وليتوجه التوبيخ ولكيلا يلزم التناقض فإن النحت عملهم. والصحيح أن الآية
كقوله { { بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن } [الأنبياء: 56] أي فطر الأصنام:
ثم إن إبراهيم لما ألقمهم الحجر بهذا القول وألزمهم عدلوا إلى طريقة الإيذاء و{ قالوا ابنوا
له بنياناً } قال ابن عباس: بنوا حائطاً من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه
عشرون. وتقدير الآية: ابنوا له بنياناً واملؤه ناراً وألقوه فيها. والجحيم النار العظيمة. ومعنى
الفاء في قوله { فأرادوا } كقوله { أهلكناها فجاءها بأسنا } [الأعراف: 4] كأنه قيل: فبنوا
البنيان وملؤه ناراً وألقوه فنجيناه منها. وقد صح أنهم أرادوا به كيداً { فجعلناهم
الأسفلين } الأذلين وأما في الأنبياء فلم يقصد هذا الترتيب فاقتصر على الواو العاطفة. وإنما
اختصت هذه السورة بقوله { الأسفلين } لأنه ذكر أنهم بنوا بنياناً عالياً فكان ذكر السفل في
طباقه أنسب. ثم ذكر بقية قصة إبراهيم وقوله { إني ذاهب إلى ربي } كقوله في "العنكبوت"
{ إني مهاجر إلى ربي } [الآية: 26] وإنما حكم بقوله { سيهدين } ربي إلى ما فيه صلاحي
في الدارين اعتماداً على فضل الله أو عرف ذلك بالوحي. وحين هاجر إلى الرض المقدسة
أراد الولد فقال { رب هب لي من الصالحين } والله تعالى بين استجابته بقوله { فبشرناه بغلام
حليم } وصف الغلام بالعلم في سورة الحجر وبالحلم ههنا. فذهب العلماء إلى أنه أراد
بغلام عليم في صغره حليم في كبره، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ومن هنا انطوت البشارة
على معان ثلاثة: أحدها أن الولد ذكر، والثاني أنه يبلغ أوان الحلم، والثالث أنه يكون
حليماً، وأيّ حلم أعظم من استمساكه حين عرض أبوه عليه الذبح فقال { ستجدني إن شاء
الله من الصابرين } وفيه أن ولده قائم مقامه في الشرف والفضيلة فوصفه بالحلوم كما وصف
به إبراهيم في قوله { { إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب } [هود: 75]. وقيل: العليم إسحق لقوله
{ فأقبلت امرأته في صرة } [الذاريات: 29] والحليم إسماعيل. ثم حكى حديث ذبحه قائلاً
{ فلما بلغ معه السعي } أي قوي على أن يمشي مع أبيه في حوائجه. والظرف بيان كأنه قال
أوّلاً { فلما بلغ السعي } فقيل: مع من؟ فأجيب مع أبيه. ولا يجوز تعلقه بالسعي لأن صلة
المصدر لا تتقدّم عليه ولا بقوله { بلغ } لأنهما لم يبلغا معاً حد السعي - والمعنى في
اختصاص الأب إخراج الكلام مخرج الأغلب. وقال جار الله: السبب فيه أن الأب أرفق
الناس به وأعطفهم عليه وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم
قوته. يروى أنه كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وقيل أراد السعي في المنافع وفي طاعة الله.
اعلم أن الناس اختلفوا في الذبيح، فعن أبي بكر الصديق وابن عباس وابن عمر
ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والضحاك أنه إسماعيل لقوله صلى الله عليه وسلم "أنا
ابن الذبيحين" فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله. وذلك أن عبد المطلب نذر إن
بلغ بنوه عشرة أن يذبح واحداً منهم تقرباً، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم
بالقداح فخرج قدح عبد اتلله فمنعه أخواله ففداه بعشرة من الإبل، ثم ضرب عليه وعلى الإبل
فخرج قدحه ففداه بعشرة أخرى، وضرب مرة أخرى فخرج قدحه وهكذا يزيد عشرة عشرة
إلى أن تمت مائة فخرج القدح على الجزر فنحرها وسن الدية مائة. وفي رواية أن أعرابياً قال
للنبي صلى الله عليه وسلم "يا ابن الذبيحين". فتبسم فسأل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم
نذر الله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده. فخرج السهم على عبد الله فمنعوه ففداه
بمائة من الإبل. حجة أخرى: نقل عن الأصمعي أنه قال: سألت ابا عمرو بن العلاء عن
الذبيح فقال: يا أصمعي أين عقلك؟ ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل وهو الذي
بنى البيت مع أبيه وسن النحر بمكة. وحجة أخرى: وصف إسماعيل بالصبر في قوله
{ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين } [الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح في
قوله { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } ووصفه بصدق الوعد { إنه كان صادق الوعد }
[مريم: 54] وذلك أنه وعد أباه الصبر على قضاء الله أو على الذبح فوفى به. أخرى: { { ومن
وراء إسحق يعقوب } [هود: 71] فيمن قرأ بالنصب لأنه إذا بشر بالولد من صلبه علم أنه
لم يؤمر بذبحه. أخرى: أجمعوا على أن إسماعيل مقدم في الوجود على إسحق فهو المراد
بقوله { رب هب لي من الصالحين } ثم إنه ذكر عقيبة قصة الذبح. وأيضاً قوله { وبشرناه
بإسحق } يجب أن يكون غير قوله { فبشرناه بغلام حليم } وإلا لزم التكرار. حجة أخرى:
ان قرني الكبش كانا ميراثاً لولد إسماعيل عن أبيهم وكانا معلقين بالكعبة إلى أن احترق
البيت في أيام ابن الزبير والحجاج. وعن علي وابن مسعود وكعب الأحبار وإليه ذهب أهل
الكتاب أن الذبيح إسحق لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل اي النسب أشرف؟ فقال: يوسف
صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. وأجابوا عن
قوله: { وبشرناه بإسحاق } أنه بشر بغلام أوّلاً ثم بنبوته ثانياً. وايضاً صرح بالمبشر به في
قوله { فبشرناه بإسحق } [هود: 71] وفي قوله { وبشرناه بإسحق } فيحمل عليه المبهم
في قوله { فبشرناه بغلام } وأيضاً لا نسلم أن البشارة بيعقوب كانت متصلة ببشارة إسحق
اعتباراً بقراءة من قرأ { { يعقوب } [هود: 71] بالرفع. وأيضاً أنهم أجمعوا على أن المراد من
قوله { إني ذاهب إلى ربي } هو مهاجرته إلى الشام ثم قال { فبشرناه بغلام } فوجب أن يكون
الغلام الحليم قد حصل له في الشام وذلك الغلام لم يكن إلا إسحق، لأن إسماعيل قد نشأ
بمكة. وكان الزجاج يقول: الله أعلم أيهما الذبيح. ويتفرع على اختلاف المفسرين في
الذبيح اختلافهم في موضع الذبح، فالذين قالوا إن الذبيح إسماعيل ذهبوا إلى أن الذبح كان
بمنى وهذا أقوى، والذين قالوا إنه إسحق قالوا ان الذبح كان بالشام وخصه بعضهم ببيت
المقدس. إذا عرفت هذا الاختلاف فقوله { يا بني إني أرى في المنام } إنما قال بلفظ
المستقبل لأنه كان يرى في منامه ثلاث ليال أو لأن رؤيا الأنبياء وحي ثانٍ فذكر تأويل الرؤيا
كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة: رأيت في المنام أني ناجٍ من هذه المحنة فكأنه
قال: إني أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك. ويحتمل أن يكون حكاية ما رآه. قال بعض
المفسرين: رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فأصبح يروّي
في ذلك أمن الله أو من الشيطان فسمي يوم التروية. فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من
الله فسمي عرفة، ثم رأى مثله في الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. وقال بعضهم: حين
بشره الملائكة بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله، فلما ولد وبلغ حد السعي مع أبيه قيل له:
أوف بنذرك فانظر ماذا ترى هو من الرأي. ومن قرأه من الإراءة فالمعنى ماذا تبصر من رأيك وتدبيرك. وإنما شاوره في حتم من الله ليثبته إن جزع ويفرح بصبره إن ثبت ولئلا يقع الذبح
معافصة من غير إعلام به وبسببه، وليكون سنة في المشاورة فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة
في الأكل من الشجرة لما فرط منه ذلك { قال يا أبت افعل ما تؤمر } أي به فحذف الجار
كقوله: أمرتك الخير. اي أمرتك بالخير أو أمرك على تسمية المأمور به بالمصدر ثم إضافته
إلى المفعول: { فلما اسلما } أي انقادا وخضعا لأمر الله. قال قتادة: اسلم هذا ابنه وهذا
نفسه. { وتله } أي صرعه. واللام في { للجبين } كهي في قوله { { ويخرون للأذقان } }
[الإسراء: 109] والجبين أحد جانبي الجبهة. وقيل: كبه لوجهه لأن الولد قال له اذبحني
وأنا ساجد. يروى أنه حين أراد ذبحه قال: يا بنيّ خذ الحبل والمدية ننطلق إلى الشعب
ونحتطب، فلما توسطا الشعب أخبره بما أمر فقال له: اشدد به رباطي لئلا اضطرب واكفف
عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واشحذ شفرتك
واسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي، وإن
رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون اسهل. فقال إبراهيم: نعم العون
أنت يا بنيّ على أمر الله. ثم اقبل عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان فقال له: كبني على
وجهي ولا تنظر إليّ حتى لا تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله. قال جار الله: تقدير
الكلام فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق
به العيان ولا يحيط به البيان من استئثارهما بما أنعم الله عليهما من دفع البلاء وبما اكتسبا في
تضاعيف ذلك من الثواب والثناء، وقد اشير إلى جميع ذلك بقوله { إنا كذلك نجزي
المحسنين إن هذا } الأمر الذي قد وقع { لهو البلاء المبين } الذي يتميز فيه المخلص عن
المدعى والمكروه الذي لا أصعب على النفس منه. يروى أنه لما وصل موضع السجود منه
الأرض جاء الفرج. وقيل: إنه وضع السكين على قفاه فانقلب السكين وونودي يا إبراهيم قد
صدّقت الرؤيا. فنظر فإذا جبرائيل عليه السلام معه كبش أقرن أملح فكبر جبرائيل والكبش
وإبراهيم وابنه وأتى المنحر من منى فذبحه وذلك قوله سبحانه { وفديناه بذبح عظيم }
والفداء جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه،. والذبح اسم لما يذبح كالطحن لما
يطحن. وقوله { عظيم } أي سمين ضخم الجثة بالقياس إلى أمثاله وهي السنة في
الأضاحي. قال صلى الله عليه وسلم "استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم" . والاستشراف جعلها
شريفة وكريمة. وعن سعيد بن جبير: حق له أن يكون عظيماً وقد رعى في الجنة أربعين
خريفاً. وفي قول ابن عباس: إنه الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه وكان يرعى في الجنة إلى
أن فدى به إسماعيل. وقيل: سمي عظيماً لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد
خليله. وقيل: وصفه بالعظم لبقاء أثره إلى يوم القيامة فإنه ما من سنة إلا ويذبح بسبب ذلك
من الأنعام مالا يحصيه إلا الله. وعن الحسن: أنه وعل أهبط عليه من ثبير. وقال السدّي:
نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح ينحط من الجبل فقام عند إبراهيم عليه السلام
فذبحه وخلى ابنه.
استدل بعض الأصوليين من أهل السنة بالآية على جواز نسخ الحكم قبل حضور
وقته. وقالت المعتزلة. وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية بعدم الجواز لاستلزامه البداء أو
الجهل، وزعموا أنه تعالى أمر إبراهيم في المنام بمقدمات الذبح كاضجاع ابنه ووضع
السكين على حلقه، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل أوان ورود الأمر. سلمنا أنه
أمر بنفس الذبح لكن لم يجوز أنه قطع الحلقوم إلا أنه كان يلتئم جزءاً فجزءاً فلهذا قيل له
{ قد صدّقت الرؤيا }. والفداء فضل من الله في حقه وتعظيم له بدلاً من عدم وقوع الذبح في
الظاهر ولهذا قال { وفديناه }. بإسناد الفداء إلى ذاته تعالى. والحق أن نسخ الحكم قبل وقته
لا يدل على البداء والعبث كما أنه بعد الوقت لا يدل على ذلك فقد يكون غرض الآمر أن
يعلم أن المأمور هل يعزم على الفعل ويوطن نفسه على الانقياد والطاعة أم لا. وتصديق
الرؤيا يكفي فيه الإتيان بمثل هيئة الذبح، فمن الرؤيا ما يكون تأويلها بالشبيه كرؤيا يوسف،
والفداء زيادة تشريف وتكريم ووضع سنة مؤكدة. وروي أن الكبش هرب من إبراهيم عند
الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقيت سنة في الرمي. وروي أنه لما ذبحه قال
جبرائيل: الله أكبر الله أكبر. فقال الولد الذبيح: لا إله إلا الله واله أكبر. فقال إبراهيم: الله
أكبر ولله الحمد. فبقي سنة. قوله { وتركنا } إلى قوله { المؤمنين } قد مر نظيره في قصة
نوح إلا أنه لم يقل ههنا { في العالمين } اكتفاء بما علم في قصة نوح. ولم يقل ههنا { إنا
كذلك } بل اقتصر على { كذلك } لأنه سبق ذكر التأكيد في هذه القصة فلم يحتج إلى إعادته
على أنه قد بقي من القصة شيء فناسب الاختصار في الاعتراض. قوله { وبشرناه
بإسحق } من جعل الذبيح إسماعيل قال: وبشرناه بإسحق بعد إسماعيل. ومن جعل
الذبيح إسحق قال بشر بنبوّته وقد كان بشر بمولده. قوله { نبياً من الصالحين }
كل منهما حال مقدرة من الفاعل أي بشرناه به مقدراً وعالماً وحاكماً بأنه نبي
صالح. وقد أطنب صاحب الكشاف في هذا المقام حيث بنى الكلام على أنه حال مقدرة من
إسحق. وهو عندي تطويل بلا طائل فليتأمل. { وباركنا عليه } قيل: أي على الغلام المبشر
به. قيل: على إبراهيم: { وعلى إسحق } اي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا. ومن
جملة ذلك ما روي أنه أخرج من صلب غسحق ألفي نبي أوّلهم يعقوب وآخرهم عيسى وهم
المشار إليهم بقوله { ومن ذريتهما محسن } ويعلم من قوله { وظالم لنفسه } أن البر قد يلد
الفاجر ولا عار على الأب، وأن الشرف بالحسب لا بالنسب. وأما قصة موسى فلا خفاء
بها. والكرب العظيم تسلط فرعون وجفاؤه على قومه. وقيل: الغرق. والضمير في
{ نصرناهم } لها ولقومهما. والمستبين البليغ في بيانه وهو التوراة بان وأبان واستبان بمعنى
إلا أن الثالث أبلغ. والصراط المستقيم دين الله الذي اشترك في أصوله جميع الرسل. وأما
إلياس فالجمهور على أنه نبي من بني إسرائيل بعث بعد موسى وكان من ولد هارون. وقيل:
هو إدريس النبي وقد مر ذكره في سورة مريم. و"إذ" ظرف لمحذوف أي اذكر يا محمد
لقومك { إذ قال لقومه ألا تتقون } الله. قال الكلبي. أي ألا تخافون عبادة غير الله. وحين
خوّفهم مجملاً ذكر سببه فقال { أتدعون } أي أتعبدون { بعلاً } وهم اسم صنم من ذهب كان
ببعلبك من بلاد الشام طوله عشرون ذراعاً وله اربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه
أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة
الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس. قال الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه:
لو جوّزنا دخول الشيطان في جوف الصنم وتكلمه فيه لكان قادحاً في كثير من المعجزات
كحنين الجذع وكلام الجمل. قلت: هذا الوهم زائل بعد ثبوت النبوّة بمعجزات أخر.
وقيل: البعل الرب بلغة اليمن. والمعنى أتبعدون بعض البعول وتتركون عبادة أحسن
الخالقين. ثم بين أجزاء تكذيبهم أنهم محضرون في العذاب غداً. وباقي القصة ظاهر إلا قوله
{ إلياسين } فمن قرأ بالإضافة فعلى أن إدريس بن ياسين أي سلام على أهل ياسين. وقيل:
آل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: يس اسم القرآن فكأنه قيل: سلام على من آمن بكتاب الله.
والوجه الأوّل هو أنسب الأقوال. ومن قرأ على صورة الجمع فقد قال الفراء: أراد به إلياس
وأتباعه من المؤمنين كقولهم المهلبون والأشعرون بتخفيف ياء النسبة. وقيل: إنه لغة في
إلياس. قال الزجاج: يقال ميكائيل وميكائين فكذا ههنا. حكى الثعلبي وغيره أن إلياس نبي
من سبط هارون بعثه الله إلى بني إسرائيل وكان فيهم ملك يقال له "أحب" وله امرأة يقال لها
"إزبيل" وكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتجلس للحكم كما يجلس، فأتاهما إلياس
ودعاهما إلى الله تعالى فأبيا عليه وهما بقتله فاختفى منهما سبع سنين، وكان اليسع خليفته
وآل أمره إلى أن أوحي إليه أن اخرج إلى موضع كذا فما جاءك فاركبه ولا تخف. فجاء فرس
من نار فوثب عليه وناداه خليفته اليسع بن أخطوب ما تأمرني؟ فرمى إلياس إليه بكسائه من
الجوّ وكان ذلك عليه علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل. ورفع الله إلياس من بين
أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً.
وقيل: إلياس موكل بالفيافي كما وكل الخضر بالبحار، وهما آخر من يموت من بني آدم. وكان الحسن يقول: قد هلك إليا والخضر ولا نقول كما يقول الناس. وقصة لوط مذكورة
مراراً. ومعنى { مصبحين وبالليل } أن مشركي العرب كانوا مسافرين إلى الشأم فلعل أكثر
مرورهم بتلك الديار كان في هذين الوقتين لأمر عارض كحر أو غيره. وقصة يونس أيضاً
مما سبق ذكرها، وفيها مزيد تسلية وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: إنه أرسله ملك زمانه
إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله تعالى. فالإباق وهو هرب العبد من سيده لا يوجب
العصيان، والأظهر أن قوله { وإن يونس لمن المرسلين } مذكور في معرض التعظيم على
قياس أوائل سائر القصص، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان الإرسال من الله تعالى. وأما
الجواب عن إباقة فقد مر في قوله { { وذا النون إذ ذهب مغاضباً } [الأنبياء: 87] قوله
{ المشحون } كالعلة لقوله { فساهم } والمساهمة المقارعة. يقال: أسهم القوم إذا اقترعوا.
قال المبرد: هي من السهام التي تجال للقرعة، والمدحض المغلوب في الحجة وغيرها
وحقيقته الذي أزلق عن مقام الظفر والغلبة. يروى أنه حين غضب على قومه خرج من بينهم
حتى بحر الروم ووجد سفينة مشحونة فحملوه فيها، فلما وصلت إلى لجة البحر أشرفت
على الغرق فقال الملاحون: إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما رناه من غير ريح
ولا سبب ظاهر. وقد يزعم أهل البحر أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري فاقترعوا فخرج
من بينهم يونس. فقال التجار: نحن أولى بالمعصية من نبي الله. ثم عادوا ثانياً وثالثاً فخرج
سهمه فقال: يا هؤلاء أنا العاصي ورمى نفسه إلى الماء. { فالتقمه الحوت } أي ابتلعه
كاللقمة { وهو مليم } داخل في الملامة ومنه المثل: رب لائم مليم. أي يلوم غيره وهو أحق
منه باللوم { فلولا أنه كان من المسبحين } قيل: أي من المصلين. قيل: أي من المصلين.
عن قتادة: كان كثير الصلاة في الرخاء. وقيل: من الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح والتقديس
كما قيل: اذكر الله في الخلوات يذكرك في الفلوات. والأظهر أن المراد منه ما حكى الله
تعالى في آية أخرى أنه كان يقول في تلك الظلمات { { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من
الظالمين } [الأنبياء: 87].
والضمير في { يبعثون } للخلائق بالقيرنة وقوله { للبث } في أقوال: أحدها: يبقى هو
والحوت إلى يوم البعث. والثاني يموت الحوت ويبقى هو في بطنه. والثالث يموتان ثم
يحشر يونس من بطنه. واختلفوا في مدّة لبثه في بطن الحوت، فعن الحسن أنه لم يلبث إلا
قليلاً. وقيل: ثلاثة ايام. وعن عطاء: سبعة. وعن الضحاك: عشرون. وقال الكلبي:
أربعون. روي أن الحوت سار مع السفينة رافعاً راسه يتنفس فيه يونس ويسبح ولم يفارقهم
حتى انتهوا إلى البر فلفظه بالعراء وهو المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه. عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا
ربنا إنا لنسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة. فقال: نعم ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في
بطن الحوت في البحر فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل
صالح. قال: نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل" وحكي في بعض التفاسير وإن
لم يطابقه رأي أصحاب المسالك كل المطابقة أن الحوت أخرجه إلى نيل مصر ثم إلى بحر
فارس ثم إلى البطائح ثم دجلة فلفظه بأرض نصيبين لم تنله آفة إلا أن بدنه عاد كبدن الصبي
حين يولد، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وذلك كالمعجزة له. قال المبرد والزجاج: هو
"يفعيل" من قطن بالمكان إذا أقام به فيشمل كل شجرة لا تقوم على ساق كالدباء والبطيخ إلا
أن المفسرين خصصوه بالدباء قالوا: لأن الذباب لا يجتمع عنده وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك
لتحب القرع. قال: أجل هي شجرة أخي يونس. قال الواحدي: في الآية دلالة أوّلاً على أن
اليقطين لم يكن من قبل فأنبته الله لأجله. والآخر أن اليقطين كان قائماً بحيث يحصل له
ظل. قلت: الثاني مسلم إلا أن الأول ممنوع إن أراد به النوع وإن أراد به الشخص فمسلم.
وقيل: هي التين. وقيل: هي شجرة الموز تغطى بورقها واستظل بأغصانها واغتذى من
ثمارها. وروي أنه كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة تأتيه فيشرب من لبنها. وروي أنه مر
زمان على الشجرة فيبست فبكى جزعاً فأوحى إليه: بكيت على شجرة ولا تبكي على مائة
ألف أو يزيدون فرجع إلى قومه. وقد سبق في سورة يونس باقي التفسير و"أو" في قوله { أو
يزيدون } ليست للشك وإنما المراد وصفهم بالكثرة في مرأى الناظر أي إذا رآها الرائي قال
هي مائة ألف أو أكثر. ومن هذا التأويل يتضح وجه العطف من حيث المعنى كأنه قيل:
وأرسلناه إلى جم غفير مقول فيهم إنهم مائة ألف أو يزيدون. وقيل: التقدير وأرسلناه إلى
مائة ألف وارسلناه إلى قوم ثزيدون في الإيهام. وكم الزائد؟ قيل: ثلاثون ألفاً. عن ابن
عباس. وقيل: بضعة وثلاثون. وقيل: بضعة وأربعون. وقيل: سبعون. وجاء مرفوعاً
عشرون الفاً. ويحتمل أن يراد أو يزيدون في مرور الزمان لأنه يبقى فيهم مدة كما قال
{ فآمنوا فمتعناهم إلى حين } هو انقضاء آجالهم. وقيل: القيامة وقد مر. ثم عطف قوله
{ فاستفتهم } على مثله في أول السورة. والوجه فيه أنه أمر رسوله باستفتاء قريش عن سبب
إنكار البعث، ثم ساق الكلام متصلاً بعضه ببعض على ما عرفت في أثناء التفسير، ثم أمره
باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى حين أضافوا البنات إلى الله تعالى قائلين الملائكة بنات
الله مع كراهتهم التامة لهن ورغبتهم الوافرة في البنين. وحين استفتاهم على سبيل التوبيخ
شرع في تزييف معتقدهم بقسمة عقلية وذلك أن سند الدعوى إما أن يكون حساً أو خبراً أو
نظراً. أما الحس فمفقود لأنهم ما شاهدوا كيفية تخليق الله الملائكة وهو المراد من قوله { أم
خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون } وأما الخبر فكذلك لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم أنه
صدق قطعاً وهؤلاء كذابون أفاكون وأشار إليه بقوله { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله
وإنهم لكاذبون } وأما النظر فمفقود أياضً وبيانه من وجهين: الأول أن دليل العقل يقتضي
فساده لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء الأخس لأجل نفسه وذلك
قوله { أَصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون } من قرا اصطفى بفتح الهمزة فلأنه
استفهام بطريق الإنكار وقد حذفت همزة الوصل للتخفيف، ومن قرأ بكسرها على الإخبار
جعله من جملة كلام الكفرة. الثاني: عدم الدليل على صحة مذهبهم وهو قوله { أم لكم
سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } نظيره ما مر في قوله { أم أنزلنا عليهم سلطاناً
فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } [الروم: 35] وقوله { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً }
للمفسرين فيه قولان: أحدهما أنهم الطائفة الأولى والمعنى أنهم جعلوا بين الله وبين
الملائكة نسبة بسبب قولهم إنهم بناته فإن الولادة تقتضي الجنسية والمناسبة، وفيه توبيخ
لهم على أن من صفته الاحتنان والاستتار كيف يصلح أن يكون مناسباً لا يجوز عليه صفات
الإجرام، وعلى هذا فالضمير في قوله { إنهم لمحضرون } للكفرة. والمعنى أنهم يقولون ما
يقولون في الملائكة وقد علمت الملائكة أنهم في ذلك كاذبون وأنهم محضرون النار معذبون
بما يقولون. وثانيهما أنهم طائفة من الزنادقة قائلون بيزدان واهر من كما مر في "الأنعام" في
قوله { { وجعلوا لله شركاء الجن } [الآية: 100] وعلى هذا فالضمير إما للكفار كما مر، وإما
للشياطين. روى عكرمة أنهم قالوا: سروات الجن بنات الرحمن. وقال الكلبي: زعموا أن
الله سبحانه تزوّج إلى الجن فخرج منها الملائكة. والتاء في الجنة للتأنيث كحق وحقة.
قال جار الله: الاستثناء في قوله { إلا عباد الله } منقطع معناه إنهم لمحضرون ولكن
المخلصين ناجون وما بينهما اعتراض دال على التنزيه. وجوّز أن يكون الاستثناء من الضمير
في { يصفون } اي يصفه هؤلاء بذلك، ولكن أهل الإخلاص مبرؤن من وصفه بما لا ينبغي.
وحين بين المذاهب الفاسدة بقضها بيّن أن أهل الشرك ومعبوديهم ليس لهم أن يفتنوا على
الله أي يحملوا غيرهم على سلوك سبيل الفتنة والضلال إلا من سبق في علم الله بأنه من أهل
النار. وقالت المعتزلة: إلا من سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها.
وجوز جار الله أن تكون الواو في { وما تعبدون } بمعنى "مع" وجاز السكوت على
{ تعبدون } كما في قولهم "كل رجل وضيعته". ثم قال { ما أنتم عليه } أي على ما تعبدون
{ بفاتنين إلا من هو صال } مثلكم. وقال: والوجه في نظم هذه الآيات أن يكون قوله
{ سبحان الله } إلى قوله { المسبحون } من كلام الملائكة والمعنى: ولقد علمت الملائكة
وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا: سبحان الله، فنزهوه عن
ذلك واستثنوا عباده المخلصين. وقالوا للكفرة: فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن
تفتنوا على الله أحداً من خلقه إلا من كان مثلكم ممن علم الله عز وجل لكفرهم أنهم أهل
النار. وكيف نكون مناسبين لرب العزة وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه لكل منا مقام من
الطاعة لا يستطيع أن يتجاوزه ونحن الصافون كما مر في أول السروة ونحن المسبحون وقال
في التفسير الكبير: هاتان الجملتان تدلان على الحصر، وفيه إشارة إلى أن طاعة البشر
كالعدم بالنسبة إلا طاعة الملك فكيف يجوز أن يقال: البشر تقرب درجتهم من درجة الملك
فضلاً عن دعوى الأفضلية؟ قلت: لا شك أن هذا التركيب يفيد الحصر إلا أنه لم يفرق بين
قصر الأول على الثاني كما في الآية وبين عكسه، والذي يفيد مدعاه هو العكس لا الأصل
فافهم. وقيل: هذه الآيات من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وما من المسلمين أحد إلا له مقام
معلوم يوم القيامة على قدر عمله. ثم ذكر أعمالهم وأنهم الذين يصطفون في الصلاة
ويسبحون الله وينزهونه. ثم حكى أن مشركي قريش { كانوا يقولون لو أن عندنا ذكراً } أي
كتاباً من جملة كتب الأوّلين اي نظيرها في بيان الشرائع والتكاليف لأخلصنا العبادة لله. وإن
مخففة واللام فارقة { فكفروا به } الفاء للربط أي فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار فكفروا
به { فسوف يعلمون } وخامة عاقبة التكذيب. وقيل: أرادوا لو علمنا حال آبائنا وما آل إليه
أمرهم وكان ذلك كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم لآمنا به وأخلصنا لكنا على شك من حديثه. ثم بين
أن رسل الله وجنده منصورون غالبون عاجلاً وآجلاً، والأول أكثريّ والثاني تحقيق يقيني. ثم
أمر نبيه بالصفح والإغماض إلى أوان النصرة والغلبة قائلاً { فتوّل عنهم } أي أعرض عن
أذاهم إلى حين الأمر بالقتال أو إلى يوم بدر. عن السدي: أو إلى الموت والقيامة.
{ وأبصرهم } وما يقضى عليهم من السر والقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة فسوف
يبصرونك وما يؤل غليه أمرك من النصر والثواب في الدارين. وفي هذا الأمر تنفيس عن
النبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له كأن الحالة الموعودة قدام عينيه قرباً وتحققاً. و{ سوف } في الموضعين
للوعيد لا للتبعيد وكأنهم فهموا التسويف فاستعجلوا العذاب فوبخوا عليه. وكان من عادة
العرب أن يغيروا صباحاً فسميت الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر، وشبه نزول
العذاب بساحتهم بعدما أنذروه بجيش أنذر بعض النصحاء بهجومه قومه فلم يلتفتوا إلى
إنذاره ولا أخذوا أهبتهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ الغارة عليهم. وقيل: نزل في فتح
مكة. وعن أنس: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي
قالوا: محمد والخميس. ورجعوا إلى حصنهم فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا
بساحة قوم فساء صباح المنذرين أي صباحهم، فحذف المخصوص بالذم. واللام في
{ المنذرين } للجنس. وإنما ثنى وتول عنهم ليكون تسلية على تسلية. والأول لعذاب الدنيا
والثاني للآخرة، وأطلق الفعل الثاني ايضاً اكتفاء بالأول وليفيد فائدة زائدة وهي أنه يبصر
وهم يبصرون ما لا يحيط به الوصف من صنوف المسرة وفنون المساءة. واعلم أن السورة
اشتملت على ما قاله المشركون في الله وعلى ما عانى المرسلون من جهتهم وعلى ما يؤل
إليه عاقبة الرسل وحزب الله من موجبات الحمد فلا جرم ختمها بكلمات جامعة لتلك
المعاني. ومعنى { رب العزة } كقوله { قل اللهم مالك الملك } [آل عمران: 26] والمراد
ذي العزة لأنها صفته لا مربوبه. عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يقول: اللهم رب القرآن فأنكر
عليه وقال: القرآن ليس بمربوب ولكن كلام الله. والظاهر أن قوله { عما يصفون } يتعلق
{ بسبحان } كما في قوله { سبحان الله عما يصفون } وقل: متعلق بالعزة أي امتنع عما يصفونه
به وقد مر شيء من تحقيق هذه الحالة في آخر يس. قال بعضهم: إنما لم يقل في آخر
قصتي لوط ويونس سلام عليهما اكتفاء بقوله في الخاتمة { وسلام على المرسلين } عن علي
رضي الله عنه: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا
قام من مجلس { سبحان ربك رب العزة } إلى آخر السورة.