غرائب القرآن و رغائب الفرقان
القراءات: { يصلحا } من الإصلاح: عاصم وعلي وحمزة وخلف. الباقون. { يصالحا } من التصالح وإدعام التاء في الصاد { إن يشأ } حيث كان بغير همز: الأعشى
وأوقيه وورش من طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف. { وإن تلوا } بواو واحدة: ابن عامر
وحمزة. الباقون بالواوين { نزل } و { أنزل } كلاهما على ما لم يسم فاعله من التنزيل
والإنزال: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والباقون: { نزل } و { أنزل } مبنيين للفاعل من
التنزيل والإنزال أيضاً. { وقد نزل } مشدداً مبنياً للفاعل: عاصم ويعقوب. الباقون مبنياً
للمفعول.
الوقوف: { في النساء } ط { فيهن } لا للعطف أي الله والمتلو يفتيكم { الولدان } لا للعطف
أيضاً أي في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا { بالقسط } ط { عليماً } ه
{ صلحاً } ط { خير } ط { الشح } ط { خبيراً } ه { كالمعلقة } ط { رحيماً } ه { سعته } ط
{ حكيماً } ه { وما في الأرض } ط { أن اتقوا الله } ط { وما في الأرض } ط { حميداً } ه
{ وما في الأرض } ط { وكيلاً } ه { بآخرين } ط { قديراً } ه { والآخرة } ط { بصيراً } ه
{ والأقربين } ج لابتداء الشرط مع اتفاق المعنى { أن تعدلوا } ج لذلك { خبيراً } ه { من
قبل } ط { بعيداً } ه { سبيلاً } ه { أليماً } ه لا لأن "الذين" صفة المنافقين وإن كان يحتمل النصب والرفع على الذم { المؤمنين } ط { جميعاً } ه { غيره } ج لأن ما بعده كالتعليل. / { مثلهم } ط { جميعاً } ه لا لأن ما بعده صفة المنافقين. { لكم } ج لابتداء الشرط مع أنه
بيان التربص { معكم } ز لترجيح جانب العطف وإتمام بيان النفاق. { نصيب } لا لأن
{ قالوا } جواب: "إن" { المؤمنين } ط { القيامة } ط { سبيلاً } ه.
التفسير: أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق والبعث على قبول التكاليف
هو ما عليه القرآن الكريم من اقتران الوعد بالوعيد وخلط الترغيب بالترهيب وضم الآيات
الدالة على العظمة والكبرياء إلى بيان الأحكام. والاستفتاء طلب الفتوى. يقال: استفتيت
الرجل فأفتاني إفتاء وفتيا وفتوى وهما اسمان يوضعان موضع الإفتاء وهو إظهار المشكل من
الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل كأنه قوي بيانه ما أشكل فشب وصار فتياً قوياً.
والاستفتاء لا يقع في ذوات النساء وإنما يقع في حالة من أحوالهن فلذلك اختلفوا؛ فعن
بعضهم أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان شيئاً من الميراث كما مر في أول السورة
فنزلت في توريثهم. وقيل: إنه في الأوصياء. وقيل: في توفية الصداق لهن كانت اليتيمة
تكون عند الرجل فإن كانت جميلة ومال إليها تزوج بها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها
من الأزواج حتى تموت فيرثها. أما قوله: { وما يتلى عليكم } ففيه وجوه: أحدها أنه رفع
بالابتداء معطوفاً على اسم الله أي الله يفتيكم والمتلو في الكتاب يفتيكم أيضاً. ويجوز أن
يكون رفعاً على الفاعلية لكونه عطفاً على المستتر في يفتيكم، وجاز بلا تأكيد للفصل أي
يفتيكم الله والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى كقولك: أعجبني زيد وكرمه. وذلك المتلو
هو قوله: { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } [النساء:3] كما سلف في أول السورة جعل
دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب. وثانيها { وما يتلى عليكم } مبتدأ و { في
الكتاب } خبره وهي جملة معترضة ويكون المراد من الكتاب اللوح المحفوظ. والغرض
تعظيم حال هذه الآية وأن المخل بها وبمقتضاها من رعاية حقوق اليتامى ظالم متهاون بما
عظمه الله، ونظيره في تعظيم القرآن قوله: { وإنه في أم الكتاب لدينا لعليّ حكيم } }
[الزخرف:4] وثالثها أنه مجرور على القسم لمعنى التعظيم أيضاً كأنه قيل: قل الله يفتيكم
فيهن وحق المتلو. ورابعها أن يكون مجروراً على أنه معطوف على المجرور في { فيهن }
قال الزجاج: إنه ليس بسديد لفظاً لعدم إعادة الخافض، ومعنى لأنه لا معنى لقوله القائل:
يفتي الله فيما يتلى عليكم من الكتاب، لأن الإفتاء إنما يكون في المسائل. وقوله: { في يتامى النساء } على الوجه الأول صلة { يتلى } أي يتلى عليكم في معناهن أو بدل من { فيهن } وعلى سائر الوجوه بدل من { فيهن } لا غير. والإضافة في { يتامى النساء } قال
الكوفيون: إنها إضافة الصفة إلى الموصوف وأصله في النساء اليتامى. وقال البصريون: إنها / على تأويل جرد قطيفة وسحق عمامة. وجوز بعضهم أن يكون المراد بالنساء أمهات اليتامى
كما في قصة أم كجة. ومعنى { لا تؤتونهن ما كتب لهن } قال ابن عباس: يريد ما فرض لهن
من الميراث بناء على أنها نزلت في ميراث اليتامى والصغار. وقال غيره: يعني ما كتب لهن
من الصداق. { وترغبون أن تنكحوهن } قال أبو عبيدة: هذا يحتمل الشهوة والنفرة أي
ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن، أو ترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن احتج أصحاب
أبي حنيفة بالآية على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة. ورد باحتمال أن يكون
المراد وترغبون أن تنكحوهن إذا بلغن، ولأن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن
مظعون من عبد الله بن عمر فخطبها المغيرة بن شعبة ورغبت أمها في المال، فجاؤا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قدامة: أنا عمها ووصي أبيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها صغيرة وأنها لا تزوج إلا بإذنها وفرق بينها وبين ابن عمر" . ولأنه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاح
اليتيمة، وذلك لا يدل على الجواز { والمستضعفين من الولدان } نزلت في ميراث الصغار.
والخطاب في { أن تقوموا } للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم. قيل: ويجوز أن
يكون { وأن تقوموا } منصوباً أي ويأمركم أن تقوموا. ومن جملة ما أخبر الله تعالى أنه
يفتيهم به في النساء لكن لم يتقدم ذكره. قوله { وإن امرأة خافت } ارتفاع { امرأة } بفعل
يفسره خافت أي علمت. وقيل: ظنت والظاهر أنه على معناه الأصلي إلا أن الخوف لا يحصل
إلا عند ظهور العلامات الدالة على وقوع المخوف كأن يقول الرجل لامرأته: إنك دميمة
أو مسنة وإني أريد أن أتزوج شابة جميلة، والبعل الزوج، والنشوز يكون من الزوجين وهو
كراهة كل منهما صاحبه ويتبع نشوز الرجل أن يعرض عنها ويقبح وجهها ويترك مجامعتها
ويسيء عشرتها. عن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل
بها غيرها فتقول: أمسكني وتزوج بغيري وأنت في حل من النفقة والقسم كما فعلت سودة
بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت مكان عائشة من قلبه فوهبت لها
يومها. ومعنى الصلح وهو مصدر من غير لفظ الفعل مثل { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } }
[نوح:17] { أن يصالحا } على أن تطيب المرأة له نفساً عن القسمة أو عن بعضها أو عن
المهر والنفقة فإن هذه الأمور هي التي تقدر المرأة على طلبها من الزوج شاء أم أبى. أما
الوطء فليس كذلك لأن الزوج لا يجبر على الوطء { والصلح خير } من الفرقة
أو من النشوز والإعراض فاللام للعهد، أو هو خير من الخصومة في كل شيء فاللام
للاستغراق وبه تمسك أصحاب أبي حنيفة في جواز الصلح على الإنكار، أو الصلح خير من
الخيرات كما أن الخصومة شر من الشرور, والجملة معترضة، وكذا قوله: { وأحضرت الأنفس الشح } إلا أنه اعتراض مؤكد للمطلوب محصل للمقصود. والشح البخل مع / حرص، وأرض شحاح لا تسيل إلا من مطر كثير. جعل الشح كالأمر الحاضر للنفوس لأنها
جلبت على ذلك. ثم يحتمل أن يكون هذا تعريضاً بالمرأة أنها تشح ببذل نصيبها أو حقها،
أو بالزوج أنه يشح بأنه ينقضي عمره معها مع دمامتها وكبر سنها وعدم الالتذاذ بصحبتها.
واعلم أنه رخص أولاً في الصلح بقوله: { فلا جناح عليهما } وغايته ارتفاع الإثم، ثم بين
أنه كما لا جناح فيه فكذلك فيه خير كثير.
ثم حث على الإحسان والتقوى وحسم مادة الخصومة رأساً فقال: { وإن تحسنوا } أي
بالإقامة على نسائكم { وإن كرهتموهن } وأحببتم غيرهن وتتقوا النشوز والإعراض وما يؤدي
إلى الأذى والخصومة المحوجة إلى الصلح { فإن الله كان بما تعملون } من الإحسان والتقوى
{ خبيراً } فيثيبكم على ذلك. وعلى هذا فالخطاب للأزواج، وقيل: الخطاب للزوجين أن
يحسن كل منهما إلى صاحبه ويحترز عن الظلم. وقيل: لغيرهما أن يحسنوا في المصالحة
بينهما ويتقوا الميل إلى واحد منهما. يحكى أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدمّ بني
آدم وامرأته من أجملهم. فأجالت يوماً نظرها في وجهه ثم قالت: الحمد لله. فقال: مالك؟
فقالت: حمدت الله على إني وإياك من أهل الجنة. لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت
مثلك فصبرت، والشاكر والصابر من أهل الجنة. { ولن تستطيعوا أن تعدلوا } لن تقدروا
على التسوية بين النساء في ميل الطباع { ولو حرصتم } وإذا لم تقدروا عليها بحيث لا يقع
ميل ألبتة ولا زيادة ولا نقصان لم تكونوا مكلفين به، وهذا تفسير يناسب مذهب المعتزلة من
أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ولا جائز { فلا تميلوا كل الميل } أي رفع عنكم تمام العدل
وغايته ولكن ائتوا منه ما استطعتم بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم. وبوجه آخر لن
تستطيعوا التسوية في الميل القلبي { ولو حرصتم } ولا التسوية الكلية في نتائج الحب من
الأقوال والأفعال لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام الصارف محال { فلا تميلوا كل الميل }
فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها ونفقتها وسائر حقوقها وحظوظها
من غير رضا منها { فتذروها كالمعلقة } بين السماء والأرض لا على قرار أي غير ذات بعل
ولا مطلقة. والغرض النهي عن الميل الكلي مع جواز التفريط في العدل الكلي في نتائج
الميل القلبي، وأما الميل القلبي فمعفو بالكل وبالبعض لأن القلب ليس في تصرف الإنسان
وإنما هو بين أصبعين من أصابع الرحمن. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل
فيقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك" يعني المحبة لأن / عائشة كانت أحب إليه. وعنه صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان يميل مع أحداهما جاء يوم القيامة
وأحد شقيه مائل" { وإن تصلحوا } ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة { وتتقوا } فيما
يستقبل { فإن الله كان غفوراً رحيماً وإن يتفرقا يغن الله كلاً } يرزق كل واحد منهما زوجاً
خيراً من زوجه وعيشاً أهنأ من عيشته. والسعة الغنى والمقدرة { وكان الله واسعاً } من الرزق
والفضل والرحمة والعلم وأي كمال يفرض ولهذا أطلق. { حكيماً } قال ابن عباس: فيما
حكم ووعظ. وقال الكلبي: فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريحها
بإحسان.
ثم قال: { ولله ما في السموات وما في الأرض } وهو كالتفسير لسعة ملكه وملكه.
وفيه أن الذي أمر به من العدل والإحسان إلى اليتامى والنسوان ليس لعجز أو افتقار وإنما
يعود فائدة ذلك إلى المكلف لأنه الأحسن له في دنياه وعقباه. ثم بين أن الأمر بتقوى الله
شريعة قديمة لم يلحقها نسخ وتبديل، وإن استغناءه تعالى بالنسبة إلى الأمم السالفة كهو
بالنسبة إلى الأمم الآتية فقال: { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب } أي جنسه ليشمل التوراة
والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف. وقوله: { من قبلكم } إما أن يتعلق بـ { وصينا } أو
بـ { أوتوا } وقوله: { وإياكم } عطف على { الذين } ومعنى { أن اتقوا } بأن اتقوا وتكون "أن" المفسرة لأن التوصية في معنى القول. { وإن تكفروا } عطف على { اتقوا } أي أمرناهم
وأمرناكم بالتقوى. وقلنا لهم ولكم إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها فحقه أن يكون مطاعاً في خلقه غير معصى يخشون عقابه ويرجون ثوابه. أو قلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله في سمواته
وأرضه من الملائكة وغيرهم من يوحده ويعبده ويتقيه { وكان الله } مع ذلك { غنياً } عن
خلقه وعن عباداتهم { حميداً } في ذاته وإن لم يحمده واحد منهم. ثم كرر قوله: { ولله ما
في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً } تقريراً لأنه أهل أن يتقى وتوكيداً لاستغنائه
عن طاعات المطيعين وسيئات المذنبين. ثم بالغ في هذا المعنى بقوله: { إن يشأ يذهبكم }
يعدمكم أيها الناس { ويأت بآخرين } يوجد خلقاً آخرين غير الإنس أو من جنس الإنس
{ وكان الله } على ذلك الإعدام ثم الإيجاد { قديراً } بليغ القدرة لم يزل موصوفاً بذلك
ولن يزال كذلك. وفي الآية من التخويف والغضب ما لا يخفى. وقيل: الخطاب لأعداء
النبي صلى الله عليه وسلم من العرب والمراد بآخرين ناس يوالونه. يروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم /
بيده على ظهر سلمان وقال: "إنهم قوم هذا يريد أبناء فارس" . ثم رغب الإنسان فيما عنده من
الكرامة فقال: { من كان يريد ثواب الدنيا } كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة { فعند الله ثواب
الدنيا والآخرة } فماله يطلب الأخس بالذات مع أنه إذا طلب الأشرف تبعه الأخس.
فالتقدير: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ليحصل ربط الجزاء بالشرط { وكان الله
سميعا } لأقوال المجاهدين والطالبين { بصيراً } بمطامح عيونهم ومطارح ظنونهم فيجازيهم
على نحو ذلك. ثم بيّن أنّ كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله
وسكونه لله فقال: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } مجتهدين في اختيار العدل
محترزين عن ارتكاب الميل { شهداء لله } لوجهه ولأجل مرضاته كما أمرتم بإقامتها ولو
كانت تلك الشهادة وبالاً على أنفسكم، أو الوالدين والأقربين بأن يتوقع ضرره من سلطان
ظالم أو غيره. وفي كلام الحكماء: "إذا كان الكذب ينجي فالصدق أنجى". أو المراد
الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها وأن يقول: أشهد أنّ لفلان
على والدي كذا أو على أقاربي كذا. وإنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لله
عكس قوله: { شهد الله أنه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط } [آل
عمران:18] لأنّ شهادة الله تعالى عبارة عن كونه خالقاً للمخلوقات، وقيامه بالقسط عبارة
عن رعاية قوانين العدل في تلك المخلوقات، والأول مقدم علىالثاني. وأما في حق العباد
فالعدالة مقدمة على الشهادة تقدم الشرط على المشروط فاعلم { إن يكن } المشهود عليه
{ غنياً أو فقيراً } فلا تكتموا الشهادة طلباً لرضا الغني أو ترحماً على الفقير { فالله أولى }
بأمورهما ومصالحهما. وكان حق النسق أن لو قيل فالله أولى به أي بأحد هذين إلاّ أنه ثنى
الضمير ليعود إلى الجنسين كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الفقير والغني أي بالأغنياء والفقراء
يريد بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها. قال السدي: "اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم غني وفقير وكان ميله إلى الفقير رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلاّ أن يقوم بالقسط في الغني والفقير" وأنزل الآية. وقوله: { أن تعدلوا } يحتمل أن
يكون من العدل أو من العدول فكأنه قيل: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق. واحتمال آخر وهو أن يراد اتركوا الهوى لأجل أن تعدلوا أي حتى تتصفوا بصفة العدالة لأنّ العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى. ومن ترك أحد النقيضين فقد
حصل له الآخر { وأن تلووا } بواوين من لوى يلوي إذا فتل، وبواو واحدة من الولاية
والمعنى وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق وحكومة العدل { أو تعرضوا } عن الشهادة بما
عندكم أو إن وليتم إقامة الشهادة أو تركتموها. واعلم أن الإنسان لا يكون قائماً بالقسط إلاّ / إذا كان راسخ القدم في الإيمان فلهذا أردف ما ذكر بقوله: { يا أيها الذين آمنوا آمنوا }
وظاهر مشعر بالأمر بتحصيل الحاصل. فالمفسرون ذكروا فيه وجوهاً الأول: { يا أيها الذين آمنوا } في الماضي والحاضر { آمنوا } في المستقبل أي دوموا على الإيمان واثبتوا. الثاني:
{ يا أيها الذين آمنوا } تقليداً { آمنوا } استدلالاً. الثالث: { يا أيها الذين آمنوا } استدلالاً
إجمالياً { آمنوا } استدلالاً تفصيلياً. الرابع: { يا أيها الذين آمنوا } بالله وملائكته وكتبه
ورسله { آمنوا } بأن كنه الله تعالى وعظمته وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات
الرسل لا ينتهي إليها عقولكم. الخامس قال الكلبي: "إن عبد الله بن سلام وأسداً وأسيداً ابني كعب وثعلبة بن قيس وجماعة من مؤمني أهل الكتاب قالوا: يا رسول الله، إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فأنزل الله هذه الآية فآمنوا بكل ذلك" . وقيل: إن المخاطبين ليسوا هم المسلمين والتقدير: { يا أيها الذين آمنوأ } بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل { آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبجميع الكتب المنزلة من قبل لا ببعضها فقط، لأن طريق العلم بصدق النبي هو المعجز وأنه حاصل في الكل،
فالخطاب لليهود والنصارى. أو { يا أيها الذين آمنوا } بالسان { آمنوا } بالقلب فهم المنافقون, أو { يا أيها الذين آمنوا } باللات والعزى { آمنوا } بالله فهم المشركون، والمراد
بالكتاب الذي أنزل من قبل جنسه. فإن قيل: لم ذكر في مراتب الإيمان أموراً ثلاثة: الإيمان
بالله وبالرسل وبالكتب. وذكر في مراتب الكفر أموراً خمسة؟ أجيب بأن الإيمان بالثلاثة يلزم
منه الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر، لكنه ربما ادّعى الإنسان أنه يؤمن بالثلاثة ثم إنه ينكر
الملائكة واليوم الآخر لتأويلات فاسدة، فلما كان هذا الاحتمال قائماً نص على أن منكر
الملائكة والقيامة كافر بالله. فإن قيل: لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر
الكتاب في مراتب الكفر عكس الأمر؟ فالجواب أن الكتاب مقدم على الرسول في مرتبة
النزول من الخالق إلى الخلق، وأما في العروج فالرسول مقدم على الكتاب. وبوجه آخر
الرسول الأول هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والرسل عام له ولغيره، فلما خص ذكره أولاً للتشريف
جعل ذكره تالياً لذكر الله لمزيد التشريف ولبيان أفضليته صلى الله عليه وسلم.
ثم لما رغب في الإيمان والثبات عليه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فقال:
{ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً } والمراد الذين تكرر منهم الكفر بعد الإيمان تارات وأطواراً. قال القفال: وليس المراد بيان العدد بل المراد ترددهم وتمرنهم على ذلك. وقيل: اليهود هم آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بعزير ثم آمنوا بداود
ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم المنافقون أظهروا الإسلام / ثم كفروا بنفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم، ثم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا
خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، ثم ازدادوا كفراً بجدهم واجتهادهم في استخراج وجوه المكايد في حق المسلمين. قيل: هم طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } [آل عمران:72] ثم إنهم بالغوا في ذلك وازدادوا إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام. وفي الآية دلالة على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وذلك يبطل مذهب القائلين بالموافاة وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت الشخص على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على
إظهار الإيمان. وفيها أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان فيجب أن يكون الإيمان كذلك لأنهما ضدان متنافيان، فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذا الآخر. وكيف يزداد كفرهم فيه وجوه: أحدهها أنهم ماتوا على كفرهم. وثانيها بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم وعلى هذا فإصابة
الطاعات وقت الإيمان تكون زيادة في الإيمان. وثالثها استهزاؤهم بالدين. أما قوله تعالى:
{ لم يكن الله ليغفر لهم } فقيل عليه اللام تفيد نفي التأكيد وهذا لا يليق بالوضع إنما اللائق
به تأكيد النفي. وأجيب بأن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم أفاد تأكيد النفي. ثم أورد
عليه أن الكفر قبل التوبة غير مغفور على الإطلاق وحينئذٍ تضيع الشرائط المذكورة في الآية،
وبعد التوبة مغفور ولو بعد ألف مرة فكيف يصح النفي؟ وأجيب بأن اللام في الذين
لمعهودين وهم قوم علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر لا يتوبون عنه قط، فقوله: { لم يكن الله ليغفر لهم } إخبار عن موتهم على الكفر، أو اللام للاستغراق وخرج الكلام على
الغالب المعتاد وهو أن من كان مضطرب الحال كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر، لم
يكن للإيمان في قلبه وقع واحتشام. فالظاهر من حال مثله أنه يموت على الكفر، فليس
المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبراً بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب
كالفاسق يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يرجى منه الثبات والغالب أنه يموت على
الفسق. { ولا ليهديهم سبيلاً } أي إلى الإيمان عند الأشاعرة، وعند المعتزلة إلى الجنة. أو
محمول على المنع من زيادة الألطاف. { بشر المنافقين } تهكم كقولهم: عتابك السيف
وتحيتهم الضرب { أيبتغون عندهم العزة } كان المنافقون يوادّون اليهود اعتقاداً منهم أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم لا يتم وحينئذٍ يبتغون بودّهم أن يحصل لهم بهم قوة وغلبة، فخيّب الله آمالهم
بقوله: { فإن العزة لله جميعاً } وعزّة الله تستتبع عزة الرسول والمؤمنين كقوله: { ولله العزة
ولرسوله وللمؤمنين } [المنافقون:8] و{ جميعاً } حال من العزة أي مجموعة. قال
المفسرون: إنّ المشركين كانوا بمكة يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزؤن به / وبين أظهرهم المسلمون ولا يتهيّأ لهم حينئذِ الإنكار عليهم ظاهراً فنزلت إذا ذاك. { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } فكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين ويجالسهم بعض المنافقين فأنزل الله تعالى في
هؤلاء المنافقين { وقد نزل عليكم في الكتاب } معنى آية الأنعام { أن إذا سمعتم آيات الله }
هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر والمعنى أنه إذا سمعتم آيات الله حال كونها يكفر
بها ويستهزأ بها. وقال الكسائي: المعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها، ولكن
أوقع فعل السماع على الآيات كما يقال: سمعت عبد الله يلام وفيه نظر، لأنّ إيقاع فعل
السماع على الآيات ممكن بخلاف إيقاعه على عبد الله. { إنكم } أيها المنافقون { إذا مثلهم }
مثل الأحبار في الكفر و "إذن" ههنا ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر ولذلك لم يذكر بعدها
الفعل أي إذن تكونوا مثلهم، وأفرد { مثلهم } لأنها في معنى المصدر نحو { أنؤمن لبشرين مثلنا } [المؤمنون:47] وقد جمع في قوله: { ثم لا يكونوا أمثالكم } [محمد:38] وإنما لم يحكم بكفر المسلمين بمكة لمجالسة المشركين الخائضين وحكم بنفاق هؤلاء بالمدينة لمجالسة
أحبار اليهود الخائضين، لأن مجالسة أولئك المسلمين كانت للضرورة وفي أوان ضعف
الإسلام ولم يرد نهي بعد، ومجالسة هؤلاء المنافقين كانت في وقت الاختيار وقوة الإسلام
وبعد ورود النهي. قال أهل العلم: في الآية دليل على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن
رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن لم يباشر كان شريكهم في الإثم.
ثم حقق كون المنافقين مثل الكافرين بقوله: { إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في
جهنم جميعاً } يعني القاعدين والمقعود معهم. والضمير في { معهم } يعود إلى الكافرين
المستهزئين بدلالة { يكفر بها ويستهزأ بهأ } وأراد { جامع } بالتنوين لأنه بعد ما جمعهم
ولكن حذف التنوين تخفيفاً في اللفظ. والمعنى أنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله
في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من
أحب" { يتربصون بكم } ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من نصر أو إخفاق. { فإن كان لكم
فتح من الله } ظهور على اليهود { قالوا ألم نكن معكم } مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة
{ وإن كان للكافرين } أي اليهود نصيب استيلاء مّا في الظاهر { قالوا ألم نستحوذ عليكم }
الحوذ السوق السريع والاستحواذ الغلبة. وهذا جاء بالواو على أصله كما جاء استروح
واستصوب. وفي الآية وجهان: الأول ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل
شيئاً من ذلك { ونمنعكم من المؤمنين } بأن ثبطناهم عنكم فهاتوا نصيباً لنا مما أصبتم.
الثاني أنّ أولئك الكفار كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام. ثم إنّ المنافقين نفروهم / وأطعموهم أنه سيضعف أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويقوى أمركم. فالمراد ألسنا غلبناكم على رأيكم في
الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وأرشدناكم إلى مصالحكم فادفعوا إلينا نصيباً مما وجدتم. وفي تسمية ظفر المؤمنين فتحاً وظفر الكافرين نصيباً تثبيت للمؤمنين وتعظيم لما هم عليه
من الدين وتحقير لشأن الكافرين وتوهين لأمرهم، فكان ظفر المسلمين أمر عظيم يفتح له أبواب السماء حين ينزل على أولياء الله، وظفر الكافرين حظ دنيوي ينقضي ولا يبقى منه إلاّ
الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } أي بين المؤمن
والمنافق. والغرض أنه يقال: ما وضع السيف على المنافقين في الدنيا ولكن أخر عقابهم
إلى يوم القيامة { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } قال علي وابن عباس:
المراد في الدنيا ولكن بالحجة أي حجة المسلمين غالبة على حجة الكل. وقيل: في
الآخرة. وقيل: عام في الكل. والشافعي بنى عليه مسائل منها: أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه إلى دار الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية. ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبداً مسلماً. ومنها أنّ المسلم لا يقتل بالذمي والله تعالى أعلم.
التأويل: النفس للروح كالمرأة للزوج و { يتامى النساء } صفات النفوس و { ما كتب لهن } ما أوجب الله للنفوس من الحقوق. وحاصل المعنى أنّ نفسك مطيتك فارفق بها وإليه
الإشارة بقوله: { والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح } فالروح تشح بترك حقوق الله،
والنفس تشح بحظوظها { فلا تميلوا كل الميل } في رفض حظوظ النفس { فتذروها
كالمعلقة } بين العالم العلوي والعالم السفلي { وإن يتفرّقا } أي الروح والنفس فالروح
تجتذب بجذبة دع نفسك وتعالى إلى سعة غنى الله في عالم هويته لتستغني عن مركب النفس
بالوصول إلى المقصود. والنفس تجتذب عن الروح بجذبة ارجعي إلى ربك إلى سعة
غنى الله في عالم فادخلي في عبادي وادخلي جنتي { يا أيها الذين آمنوا آمنوا } للإيمان
ثلاث مراتب: إيمان للعوام أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث والجنة والنار
والقدر وهذا إيمان غيبي، وإيمان للخواص وهو أنه تعالى إذا تجلّى للعبد بصفة من صفاته
خضع له جميع أجزاء وجوده وآمن بالكلية وهذا إيمان عياني، وإيمان للأخص وهو بعد رفع
الحجب الأنانية حين أفناه بصفة الجلال وأبقاه بصفة الجمال فلم يبق له إلا عين وبقي في العين
وهذا إيمان عيني { إنّ الذين آمنوا } أي بالتقليد { ثم كفروا } إذ لم يكن للتقليد أصل { ثم
آمنوا } بالاستدلال العقلي { ثم كفروا } إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي { ثم ازدادوا
كفراً } بالشبهات والاعتراضات { لم يكن الله } في الأزل غافراً لهم بنوره عند الرش { ولا
ليهديهم سبيلاً } اليوم لأن الأصل لا يخطىء { بشر المنافقين } أي بشرهم بأن أصلهم من / جوهر الكفار ولهذا اتخذوا الكافرين أولياء فإنّ ائتلافهم ههنا نتيجة تعارف أرواحهم وكما
يعيشون يموتون وكما يموتون يحشرون. /