التفاسير

< >
عرض

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً
٤١
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً
٤٢
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يَشْتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ
٤٤
وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً
٤٥
مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
٤٦
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٤٧
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً
٤٨
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٤٩
ٱنظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْماً مُّبِيناً
٥٠
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً
٥١
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً
٥٢
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً
٥٣
أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً
٥٤
فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً
٥٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً
٥٦
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً
٥٧
-النساء

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { تسوّى } بإدغام تاء التفعل في السين: أبو جعفر ونافع وابن عامر { تسوّى } بالإمالة وحذف التاء الأولى: حمزة وعلي وخلف. الباقون { تسوّى } مبنياً للمفعول من التسوية { لمستم } من اللمس وكذلك في المائدة: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: { لامستم } من الملامسة { فتيلاً انظر } بكر التنوين: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن ذكوان. الباقون: بالضم. وفرق بعضهم بين موضع الخفض فلم يجوز الضم كراهة الانتقال من الكسرة إلى الضمة نحو { متشابه انظروا } [الأنعام:99] و { برحمة ادخلوا } [الأعراف:49] و { خبيثة اجتثت } [إبراهيم:26] و { عذاب / اركض } [ص:41] وأشباه ذلك. { نضجت جلودهم } وبابه مدغماً: حمزة وعلي وخلف وهشام وأبو عمرو.
الوقوف: { شهيداً } ط { الأرض } ط { حديثاً } ه { تغتسلوا } ط { وأيديكم } ط { غفوراً } ه { السبيل } ه ط { بأعدائكم } ط { نصيراً } ه { في الدين } ط { وأقوم } لا لاتصال لكن { قليلاً } ه { السبت } ط { مفعولاً } ه { لمن يشاء } ج { عظيماً } ه { يزكون أنفسهم } ط { فتيلاً } ه { الكذب } ط { مبيناً } ه ط { سبيلا } ه { لعنهم الله } ط { نصيراً } ه ط لأن "أم" بمعنى همزة الاستفهام للإنكار { نقيراً } ه لا للعطف { من فضله } ج لتناهي الاستفهام مع تعقب الفاء { عظيماً } ه { صدّ عنه } ط { سعيراً } ه { ناراً } ط { العذاب } ط { حكيماً } ه { أبداً } ط { مطهرة } ز لاستئناف الفعل على أنه من تمام المقصود { ظليلاً } ه.
التفسير: إنه سبحانه لما أوعد الظالمين بقوله:
{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة } } [النساء:40] ووعد المطيعين بقوله: { وإن تك حسنة يضاعفها } [النساء:40] أراد أن يبين أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله حجة على الخلق ليكون الإلزام أتم والتبكيت أعظم. "روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: اقرأ القرآن عليّ. قال: فقلت: يا رسول الله أنت الذي علّمتنيه! فقال: أحب أن أسمعه من غيري. قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء، فلما انتهيت إلى هذه الآية قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان" . قال العلماء: إنه بكاء فرح لما شرفه الله تعالى بكرامة قبول الشهادة على الخلائق. والمعنى كيف يصنع هؤلاء الذين شاهدتهم وعرفت أحوالهم من مردة الكفرة كاليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشيهد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، وجئنا بك على هؤلاء المكذبين شهيداً؟ ثم وصف ذلك اليوم فقال: { يومئذٍ يود الذين كفروا وعصوا الرسول } قيل: هذه الجملة معترضة والمراد وقد عصوا. والظاهر أن الواو للعطف وحينئذٍ تقتضي كون عصيان الرسول مغايراً للكفر لأنّ عطف الشيء على نفسه غير جائز. فإما أن يخص الكفر بنوع منه وهو الكفر بالله، أو يقال: إنه عام وأفرد ذكر قسم منه إظهاراً لشرف الرسول وتفظيعاً لشأن الجحود به، أو يحمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفرة فيكون في الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. ومعنى { لو تسوّى } لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، أو يودون أنهم لم يبعثوا أو أنهم كانوا والأرض سواء، أو تصير البهائم تراباً فيودون حالها كقوله: { ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } [النبأ: 40] أما قوله: { ولا يكتمون الله حديثاً } فإما أن يتصل بما قبله والواو للعطف أي يودون لو انطبقت عليهم الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد ولا كفروا به ولا نافقوا، أو للحال والمراد أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام دون أهل الشرك قالوا تعالوا فلنجحد فيقولون: { والله ربنا ما كنا مشركين } [الأنعام:23] رجاء أن يغفر الله لهم، فحينئذٍ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، هناك يودون أنهم كانوا تراباً ولم يكتموا الله حديثاً. وإما أن يكون كلاماً مستأنفاً فإن ما عملوه ظاهر عند الله فكيف يقدرون على كتمانه وإن قصدوه أو توهموه؟ ثم أتبع وصف اليوم كيفية الصلاة التي هي سنام الطاعات وأعظم المنجيات فقال: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } وقد مر سبب نزوله في البقرة. وفي لفظ الصلاة ههنا قولان: أحدهما أن المراد منه المسجد وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وإليه يذهب الشافعي، وليس فيه إلا حذف المضاف أي لا تقربوا موضع الصلاة. وثانيهما وعليه الأكثرون أن المراد نفس الصلاة أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى. ومعنى الآية على القول الأولى لا تقربوا المسجد في حالتين: إحداهما حالة السكر، وذلك أن جمعاً من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهوا عن ذلك لأن الظاهر أن الإنسان إذا أتى المسجد فإنما يأتيه للصلاة، ولا شك أن الصلاة فيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها. وثانيهما حالة الجنابة، واستثنى من هذه الحالة حالة العبور أي الاجتياز في المسجد بأن كان الطريق إلى الماء فيه، أو كان الماء فيه ووقع الاحتلام فيه. والمعنى على القول الثاني النهي عن الصلاة في حالتين: الأولى حالة السكر أيضاً إلاّ إذا علموا ما يقولون، ومعنى قربان الصلاة غشيانها والقيام إليها. والثانية حالة الجنابه ويستثنى منها حالة عبور السبيل ويراد به في هذا القول السفر. أي لا تقربوا الصلاة في حالة الجنابة إلاّ ومعكم حال أخرى تعذرون فهيا وهي حال السفر. ويجوز أن يكون { إلاّ عابري سبيل } صفة لقوله: { جنباً } أي لا تقربوها جنباً غير عابري سبيل أي جنباً مقيمين. إنما استثنى حالة المسافر لما يجيء من تفصيل فيها، وهو أن المسافر إذا أجنب ثم لم يجد الماء تيمم وصلى مع الجنابة. ويرد عليه بعد أن الجنب المقيم أيضاً إذا عجز عن استعمال الماء لمرض أو برد يجوز له التيمم والصلاة على الجنابة، اللهم إلاّ أن يقال: إن عذر السفر أعم وأغلب فلهذا تخصص بالذكر أولاً. وسكارى جمع سكران. وقوله: { وأنتم سكارى } في محل النصب على الحال ولهذا عطف عليه قوله: { ولا جنباً } والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجتناب، وخالف الضحاك جمهور الصحابة والتابعين فقال: إن السكر ههنا يراد به غلبة النوم ويوافقه الاشتقاق، فإن السكر عبارة عن سد الطريق، ومنه سكر السبيل سد / طريقه. والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما عليه من المضار في حال الصحو، فعند النوم تمتلىء مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها ولا ينفذ الروح السامع والباصر إلى ظاهر البدن. والجواب أن لفظ السكر حقيقة في السكر من الخمر والأصل في الإطلاق الحقيقة، ومتى استعمل مجازاً فإنما استعمل مقيداً كقوله تعالى: { { وجاءت سكرة الموت } [ق:19] { وترى الناس سكارى } [الحج:2] وأيضاً أجمع المفسرون على أنها نزلت في شرب الخمر، وسبب النزول يمتنع أن لا يكون مراداً من الآية. ثم على قول الجمهور يمكن ادعاء النسخ في الآية بأنه إنما نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدوداً إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية فهذا يقتضي جواز الصلاة مع السكر إذا كان بحيث يعلم ما يقول. وجواز الصلاة مع هذا السكر توهم جواز هذا السكر، لكنه تعالى حرم الخمر في آية سورة المائدة على الإطلاق فتكون ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية. ومن قال: إن مدلول الكلام يرجع إلى النهي عن الشرب المخل بالفهم عند القرب من الصلاة، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه فلا يكون منسوخاً، يكذبه أن الصحابة لم يفهموا منها التحريم المطلق فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلاّ وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون إلى أن نزلت آية المائدة فقالوا: انتهينا يا رب. والتحقيق فيه أن النهي عن مباح الأصل في وقت ما وبوجه ما وإن كان لا يدل على تحريمه ولا على إباحته في غير ذلك الوقت وبغير ذلك الوجه إلاّ أن جانب الإباحة راجح بحكم الأصل فيغلب على الظن ذلك كما فهمه الصحابة. ثم إنه تعالى ذكر حكم المعذورين في حال الحدث فخص أولاً من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة. والمعنى أن المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتمموا، وكذلك الذين هم على حالة السفر إذا عدموه لبعده. ويحتمل أن يقال: قوله { فلم تجدوا ماءً } ليس قيداً في حكم المرضى لأنهم في الرخصة وإن وجدوا ماء. ثم عمم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف سبع أو عدو أو عدم آلة استقاء أو انحصار في مكان لا ماء فيه أو غير ذلك من الأسباب التي لا تكثر كثرة المرض والسفر. ويراد بالمرض ما يخاف معه محذور كبطء برء وشين فاحش ظاهر بقول طبيب مقبول الرواية لا أن يتألم ولا يخاف. روي "أن بعض الصحابة أصابته جنابة وكان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فلم يفته بالتيمم، فاغتسل فمات. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوه قتلهم الله" . وقال مالك وداود: يجوز له التيمم بجميع أنواع المرض. وفي معنى المرض البرد المؤدي إلى المرض لو استعمل الماء كما مر من حديث عمرو بن العاص في تفسير قوله: { ولا تقتلوا أنفسكم } } [النساء:29] والسفر يعم الطويل والقصير أعني مسافة القصر وما دونها لإطلاق قوله: { أو على سفر } والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان. كان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطاً من الأرض يغيب فيه عن أعين الناس، فكنى به عن ذلك. وأكثر العلماء ألحقوا بالغائط كل ما يخرج من السبيلين من معتاد أو نادر. أما اللمس أو الملامسة ففيه قولان: أحدهما أن المراد به التقاء البشرتين بجماع أو بغيره كما هو مقتضى اللغة وهو قول ابن مسعود وابن عمرو الشعبي والنخعي وإليه ذهب الشافعي. وثانيهما المراد به الجماع وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ومذهب أبي حنيفة والشيعة لما ورد في القرآن بطريق الكناية: { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [البقرة:237] { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } [المجادلة:3] عن ابن عباس: إنّ الله حيّ كريم يعف ويكني، فعبر عن المباشرة بالملامسة. وأيضاً لتشمل الآية الحدثين الأصغر والأكبر. ثم على مذهب الشافعي قال بعض أهل الظاهر: إنما ينتقض وضوء اللامس دون الملموس لقوله: { أو لمستم } والصحيح أنه ينتقض وضوءهما معاً لاشتراك اللامس والملموس في ابتغاء اللذة. قوله: { فلم تجدوا ماءً } قال الشافعي: إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده فتيمم وصلى ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى، لأن عدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب. وقال أبو حنيفة: لا يجب بدليل قوله: { ولم نجد له عزماً } [طه:115] وسبق الطلب في حقه تعالى محال. وأجيب بأنه بنى الكلام على المجاز للمبالغة كأنه طلب شيئاً ثم لم يجد. وأجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه احتاج إليه لعطشه أو لعطش حيوان محترم معه جاز له التيمم، ولو وجد من الماء ما لا يكفيه فالأصح عند الأئمة أنه يستعمله أو يصبه ثم يتيمم ليكون عاملاً بظاهر الآية. والتيمم في اللغة القصد. والصعيد التراب، "فعيل" بمعنى "فاعل". وقال ثعلب والزجاج: إنه وجه الأرض تراباً كان أو غيره. ومن هنا قال أبو حنيفة: إذا كان صخر لا تراب عليه وضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافياً. وقال الشافعي: لا بد من تراب لتحقق مفهوم التصاعد فيه وليلتصق بيده فيمكنه المسح ببعضه كما جاء في المائدة { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } [المائدة:6] ولا يفهم من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن إلاّ معنى التبعيض، ولأن الصعيد وصف بالطيب والطيب هو الذي يحتمل الإثبات لقوله: { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } [الأعراف:58] ولأنه صلى الله عليه وسلم خصص التراب بهذا المعنى فقال: " "جعلت لي / الأرض مسجداً وترابها طهوراً " أما مسح الوجه واليد فعن علي وابن عباس: اختصاص المسح بالجبهة وظاهر الكفين وقريب منه مذهب مالك لأن المسح مكتفى فيه بأقل ما يطلق عليه اسم المسح. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يستوعب الوجه واليدين إلى المرفقين كما في الوضوء. وعن الزهري إلى الآباط، لأن اليد حقيقة لهذا العضو إلى الإبط، ثم ختم الآية بقوله: { إنّ الله كان عفواً غفوراً } وهو كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان عادته العفو عن المذنبين كان أولى بالترخيص للعاجزين. عن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء: فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ قالت: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، فجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير وهو أحد النقباء: ما هو بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته" .
ثم إنه سبحانه لما ذكر من أول السورة إلى ههنا أحكاماً كثيرة عدل إلى ذكر طرف من آثار المتقدمين وأحوالهم، لأنّ الانتقال من أسلوب إلى أسلوب مما يزيد السامع هزة وجدة فقال: { ألم تر إلى الذين } أي ألم ينته علمك؟ أو ألم تنظر إلى من أتوا حظاً من علم التوراة وهم أحبار اليهود؟ وإنما أدخل "من" التبعيضية لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فأما الذين أسلموا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه فقد وصفهم بأن معهم علم الكتاب في قوله: { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } } [الرعد:43] لأنهم عرفوا الأمرين جميعاً { يشترون الضلالة } يختارونها لأن من اشترى شيئاً فقد آثره واختاره قاله الزجاج. والمراد تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأغراضهم الفاسدة من أخذ الرشا وحب الرياسة. وقيل: المراد يستبدلون الضلالة - وهو البقاء على اليهودية - بالهدى - وهو الإسلام - بعد وضوح الآيات لهم على صحته. { ويريدون أن تضلوا } أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين، الضلال والإضلال. عن ابن عباس "أن الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس / المنافقين عبد الله بن أبي ورهطه فيثبطانهم عن الإسلام" . وقيل: المراد عوام اليهود كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم لينصروا اليهودية فكأنهم اشتروا بمالهم الشبهة والضلالة { والله أعلم } منكم { بأعدائكم } لأنه عالم بكنه ما في صدورهم من الحنق والغيظ، فإذا أطلعكم على أحوالهم فلا تستنصحوهم في أموركم واحذروهم { وكفى بالله ولياً } متولياً لأمور العبد { وكفى بالله نصيراً } فثقوا بولايته ونصرته دونهم. وكرر "كفى" ليكون أشد تأثيراً في القلب وأكثر مبالغة، وزيدت الباء في الفاعل إيذاناً بأن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره فكان الباء للسببية. وقال ابن السراج: التقدير كفى اكتفاؤك بالله. وقيل: فائدة الباء وهي للإلصاق أن يعلم أن هذه الكفاية صدرت من الله تعالى بغير واسطة.
وقوله: { من الذين هادوا } إما بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب وقوله: { والله أعلم } إلى آخر الآية معترض بن البيان والمبين، وإما بيان لأعدائكم والجملتان بينهما معترضتان، وإما صلة { نصيراً } كقوله:
{ ونصرناه من القوم الذين كذبوا } [الأنبياء:77] وإما كلام مستأنف على أن { يحرفون } صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه. قال الواحدي: الكلم جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره. ومعنى هذا التحريف استبدال لفظ مكان لفظ كوضعهم "آدم طوالاً" مكان "أسمر ربعة" وجعلهم الحد بدل الرجم. واختير "عن" للدلالة على الإمالة والإزالة. وأما في المائدة فقيل: { من بعد مواضعه } [المائدة:41] نظراً إلى أن الكلم كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له. وقيل: المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة كما يفعله في زماننا أهل البدعة. وجعل بعض العلماء هذا القول أصح لاستبعاد تحريف المشهور المتواتر، لكن دعوى التواتر بشروطه في التوراة ممنوعة. وقيل: كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن أمر فيخبرهم به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه. ومن جملة جهالاتهم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر سمعنا وفي الباطن عصينا، أو كانوا يقولون كلا اللفظين ظاهراً إظهاراً للعناد والمرود والكفر والجحود، ومنها قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم { اسمع غير مسمع } وهو كلام ذو وجهين: أما احتماله المدح فلقول العرب: أسمع فلان فلاناً إذا سبه وإذا كان المراد: اسمع غير مسمع مكروهاً كان مدحاً وتوقيراً ونصحاً. وأما احتمال الذم فبأن يكون معناه اسمع منا مدعواً عليك بلا سمعت، لان من كان أصم فإنه لا يسمع فلا يسمع، أو بأن يراد اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أي غير مسمع جواباً يوافقك، أو بأن يراد اسمع غير مسمع كلاماً ما ترتضيه، وعلى هذا يجوز أن يكون { غير / مسمع } مفعول { اسمع } لا حالاً من ضميره أي اسمع كلاماً غير مسمع إياك لنبوّ سمعك عنه. ومنها قولهم له صلى الله عليه وسلم { راعنا } وقد عرفت احتمالاته في البقرة. وإنما جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد تصريحهم بالعصيان على وجه لأن المواجهة بالعصيان أهون خطباً في العرف من المواجهة بالسب ودعاء السوء ولهذا كانت الكفرة يواجهونه بالأول دون الثاني { ليا بألسنتهم } مفعول لأجله، أو مصدر لمحذوف، أو لـ { يقولون } لأنه في معنى اللي أيضاً وعينه "واو" بدليل لويت فقلبت وأدغمت، والمعنى: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون { راعنا } موضع { انظرنا } و { غير مسمع } موضع لا سمعت مكروهاً، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً، أو لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام سخرية وطعناً على عادة المستهزئين، فبين الله تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء طعناً في الدين ونبه بذلك على ما كانوا يقولونه فيما بينهم إنا نشتمه ولا يعرفه ولو كان نبياً لعرف بإظهار ذلك عليه فانقلب ما جعلوه طعناً في الدين دلالة قاطعة على صحته لأن الإخبار عن الغيب معجز. { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا } بدل قولهم: { سمعنا وعصينا } إذ وضح لهم الآيات وثبت لهم البينات كرات بعد مرات و{ اسمع } دون أن يقال معه { غير مسمع } { وانظرنا } مكان { راعنا } { لكان } قولهم ذلك { خيراً لهم وأقوم } أعدل لا أشد من قولهم: "رمح قويم" أي مستقيم { ولكن لعنهم الله بكفرهم } أي بسببه { فلا يؤمنون إلاّ } إيماناً { قليلاً } وهو إيمانهم بالله وبالتوراة وببعض الأنبياء دون سائر رسله. أو إلاّ قليلاً منهم آمنوا لأن "فعيلاً" قد يراد به الجمع كقوله: { { وحسن أولئك رفيقاً } [النساء:69] أو أراد بالقلة العدم.
ثم زجرهم عن كفر الجحود والعناد بقوله: { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } الآية. والطمس المحو. يقال: طريق طامس ومطموس، ومفازة طامسة الأعلام، وطمست الكتاب محوته. وهو في الآية حقيقة أو مجاز قولان. والمعنى على الأول محو تخطيط صورها وأشكالها من عين وحاجب وأنف وفم. والفاء في { فنردها على أدبارها } إما للتسبيب أي فنجعل الوجوه بسبب هذا الطمس على هيئة أقفائها مطموسة مثلها، لأن الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس والتخاطيط، فإذا أزيلت ومحيت لم يبق فرق بينها وبين القفا. وإما للتعقيب على أن العقوبة شيئان: إحداهما عقيب الأخرى الطمس، ثم نكس الوجه إلى خلق والأقفاء إلى قدام. وإنما يكون هذا عقوبة لما فيه من تشويه الخلقة والمثلة والفضيحة كما قال في حق أهل النار
{ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } [الانشقاق:10] على أن وجوههم مردودة إلى أقفائهم فتدرك الكتابة وتقرأ من هناك. وأما المعنى على القول / الثاني فعن الحسن: نطمسها عن الهدى ونردها بالخذلان على أدبارها أي على ضلالاتها وشبهاتها. وذلك أن المتوجه إلى عالم الحس معرض عن عالم العقل، وبقدر الإقبال على ذاك يحصل الإدبار عن هذا. وقال عبد الرحمن بن زيد: نردهم إلى حيث جاؤوا منه وهي أذرعات الشام. يريد إجلاء بني قريظة والنضير. والطمس على هذا إما تقبيح الوجوه وإما إزالة آثارهم عن ديار العرب. وقيل: الطمس القلب والتغيير. والمراد بالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وأدبارهم. والضمير في قوله: { أو نلعنهم } إما للوجوه إن أريد بها الوجهاء، وإما لإصحاب الوجوه لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو يرجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات. فإن قيل: فأين وقوع الوعيد؟ فالجواب أنه مشروط بعدم إيمان جميعهم ولكنه قد آمن ناس من علمائهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. حكي أنه لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وأيضاً إنه ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه بل إياه أو اللعن. فإن كان الطمس تبديل أحوال رؤسائهم أو إجلاءهم إلى الشام فقد كان أحد الأمرين، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان. واللعن الموعود ظاهره اللعن المتعارف لا المسخ. وقيل: هو منتظر ولهذا قيل: { وجوهاً } منكرة دون "وجوهكم" ليشمل وجوهاً غير المخاطبين من أبناء جنسهم، ولا بد من مسخ وطمس لليهود قبل يوم القيامة. وقيل: إنّ قوله: { آمنوا } تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم فلزم أن يكون قوله: { من قبل أن نطمس وجوهاً } واقعاً في الآخرة. فالتقدير: آمنوا من قبل أن يجيء الوقت الذي نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت { وكان أمر الله مفعولاً } لأنه لا راد لحكمه ولا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، وهذا كما يقال في الشيء الذي لا يشك في حصوله هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد، فإذا حكم بإنزال العذاب على قوم فعل ذلك ألبتة. والمراد بالأمر الشأن والفعل الذي تعلق إرادته به لا الأمر الذي هو أحد أقسام الكلام، فلا يصح استدلال الجبائي بالآية على أن كلامه تعالى مفعول أي مخلوق.
ثم بين أن مثل هذا التهديد من خواص الشرك والكفر فقال: { إن الله لا يغفر } الآية. وفي الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركاً في عرف الشرع لاتصالها بقصتهم، ولأنها دلت على أن ما سوى الشرك مغفور واليهودية غير مغفورة بالإجماع. ومن هنا قال الشافعي: المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك، والمشرك المباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله، ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في النهي فيبقى / معمولاً به في سقوط القصاص عن قاتله. واستدلت الأشاعرة بالآية على غفران صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن ما دون الشرك يشمله. والمعتزلة خصصوا الثاني بمن تاب كما أن الأول مخصص بالإجماع بمن لم يتب. قالوا: ونظيره قولك: "إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء". المعنى لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله. والمشيئة تكون قصداً في الفعلين: المنفي والمثبت جميعاً، لأنه إن شاء لم يتب المشرك فلا يترتب عليه الغفران، وإن شاء تاب صاحب الكبيرة فيستوجب الغفران. وروى الواحدي في البسيط بإسناده عن ابن عمر قال:
"كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادة" . وقال ابن عباس بمحضر عمر: إني لأرجو كما لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب فسكت عمر. وعن ابن عباس: "لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه الإعتاق إن هو فعل ذلك. ثم إنهم ما وفوا بذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ندمهم، وأنه لا يمنعهم من الدخول في الإسلام إلاّ قوله تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } [الفرقان:68] فقالوا: قد ارتكبنا كل ما في الآية فنزل قوله: { إلاّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [الفرقان:70] فقالوا: هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل { إنّ الله لا يغفر أن يشرك به } فقالوا: نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [الزمر:53] فدخلوا عند ذلك في الإسلام" { ومن يشرك بالله فقد افترى } اختلق وافتعل { إثماً عظيماً } لأنه ادعى ما لا يصح كونه. عن ابن عباس في رواية الكلبي "أن قوماً من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟ فقال: لا. فقالوا: والله ما نحن إلاّ كهيئتهم. ما عملنا بالليل يكفر عنا بالنهار، وما عملنا بالنهار يكفر عنا بالليل" . وكانوا يقولون: { نحن أبناء الله وأحباؤه } [المائدة:18] { لن يزكون أنفسهم } ويدخل فيه كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل أو قبول الطاعة والزلفى عند الله { بل الله يزكي من يشاء } وإن تزكيته هي التي يعتد بها كما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " "والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض" وكفى بإظهار المعجزات على يده تزكية له وتصديقاً لقوله: { ولا يظلمون فتيلاً } هو ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ "فعيل" بمعنى "مفعول" ابن السكيت: هو ما كان في شق النواة. والضمير للذين يزكون أن يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم، أو لمن يشاء أي يثابون على زكاتهم من غير نقص شيء من ثوابهم. ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من فريتهم وادعاء زكاتهم ومكانتهم عند الله فقال: { انظر كيف / يفترون على الله الكذب وكفى به } أي بزعمهم هذا { إثماً مبيناً } من بين سائر آثامهم. قال المفسرون: خرج كعب بن الأشرف وحيي بن الأخطب في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزل كعب على أبي سفيان والآخرون في دور قريش. فقال لهم أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم. فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما فذلك قوله: { يؤمنون بالجبت والطاغوت } ثم قال كعب لأهل مكة: ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق، أنحن أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال كعب: اعرضوا علي دينكم. فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقهم الماء ونقري الضعيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد صلى الله عليه وسلم الحديث. فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً مما هو عليه فأنزل الله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } يعني كعباً وأصحابه. فلما رجعا إلى قومهما قال لهما قومهما: إن محمداً يزعم أنه قد نزل فيكما كذا وكذا. قالا: صدق والله ما حملنا على ذلك إلا بغضه وحسده. وقد مر معنى الطاغوت في تفسير آية الكرسي. وأما الجبت ففي الصحاح أنه كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك وليس من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذولقي. وحكى القفال عن بعضهم أن أصله جبس فأبدلت السين تاء والجبس هو الخبيث الرديء. وقال الكلبي: الجبت في الآية هو حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف, وكانت اليهود يرجعون إليهما فسميا بهذين الاسمين لسعيهما في إغواء الناس وإضلالهم فلا جرم جزاهم الله بقوله: { أولئك الذين لعنهم الله } وبالحري إذ جعلوا من هو أضل من النعام وأقل من الأنعام حيث رضوا بمعبودية الأصنام أهدى سبيلاً وأفضل حالاً من الذين هم أشرف الأنام باختيارهم دين الإسلام الذي هو عبادة ذي الجلال والإكرام { ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً } وعيد لهم بلزوم الإبعاد والطرد ولصوق العار والصغار، ووعد لنبيه والمؤمنين بالاستيلاء والاستعلاء عليهم إلى يوم القيامة. والخطاب في { فلن تجد } للنبي أو لكل طالب يفرض: ثم لما وصفهم بالضلال والإضلال وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر الخصال، لأن البخيل يمنع ما أوتي من النعمة، والحاسد يتمنى أن يزول عن الغير ما أوتي من الفضيلة. و "أم" / قيل: إنها متصلة وقد سبقها استفهام في المعنى كأنه لما حكى قولهم للمشركين أنهم أهدى سبيلاً من المؤمنين قال: أمن ذلك يتعجب أم من قولهم لهم نصيب من الملك مع أنهم لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل؟ وقيل: الميم زائدة والتقدير ألهم نصيب؟ والأصح أنها منقطعة كأنه لما تم الكلام الأول قال: بل ألهم نصيب من الملك؟ ومعنى الآية أنهم كانوا يزعمون أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان ويخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودينهم فكذبهم الله. وقيل: المراد بالملك التمليك يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك إليهم، ولو كان التمليك إليهم لبخلوا بالنقير والقطمير فكيف يقدرون على النفي والإثبات؟ وقال أبو بكر الأصم: كانوا أصحاب بساتين وأموال وكانوا في عزة ومنعة كما تكون أحوال الملوك، ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل فنزلت الآية فيهم. وعلى هذا فإنما يتوجه الإنكار على أنهم لا يؤتون أحداً مما يملكون شيئاً. وعلى الأقوال المتقدمة يتوجه الإنكار على أن لهم نصيباً من الملك فكأنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم فإن البخل والملك لا يجتمعان كما قيل: بالبر يستعبد الحر والإنسان عبد الإحسان. البخيل تنفر الطباع عن الانقياد له فلا يتيسر له أسباب المملكة، وإن اجتمعت بالندرة فسوف تضمحل. وإنما لم يعمل "إذن" لدخول الفاء عليه. وذلك أن ما بعد العاطف من تمام ما قبله بسبب ربط العاطف بعض الكلام ببعض فينخرم تصدره فكأنه معتمد فترجح إلغاؤه وارتفاع الفعل بعده. وجاء في قراءة ابن مسعود { فإذن لا يؤتوا } بالأعمال وليس بقوي. والنقير نقرة في ظهر النواة "فعيل" بمعنى "مفعول" ومنها "نبتت النخلة" وهو مثل في القلة كالفتيل. فإن قيل: كيف يعقل أنهم لا يبذلون نقيراً وكثيراً ما يشاهد منهم بذل الأموال؟ قلنا: المدعى عدم إيتاء النقير على تقدير حصول الملك ويراد به الملك الظاهر كما لملوك الدنيا، أو الباطن كما للعلماء الربانيين، أو كلاهما كما للأنبياء. وحصول شيء من هذه الأقسام لهم ممنوع لما ضربت عليهم الذلة والمسكنة. ولئن فرض حصول شيء منها فما يدريك لعل الشح يغلب عليهم حتى لا يشاهد منهم بذل نقير كما أخبر عنهم علام الغيوب. وأما على تفسير الأصم فلعل المراد لأنهم لا يبذلون شيئاً نسبته إلى ما يملكونه كنسبة النقير إلى النواة، أو أنهم لا يطيبون بذلك نفساً لغلبة الشح عليهم والله تعالى أعلم بمراده. هذا بيان بخلهم، أما بيان حسدهم فذلك قوله: { أم يحسدون } وهي منقطعة والتقدير: بل أيحسدون الناس يعني النبي والمؤمنين. فإن كان اللام للعهد فظاهر وإن كان للجنس فلأنهم هم الناس والباقون هم النسناس. ومعنى الهمزة إنكار الحسد واستقباحه. / والمراد بالفضل ما آتاهم الله من أشرف المناصب وهو النبوة والخاتمية وما كان ينضم إليها كل يوم من النضرة والعزة والاستيلاء والاستعلاء، والفاضل محسود بكل أوان، والحاسد مذموم بكل لسان. ثم نبّه على ما يزيل التعجب من شأن محمد صلى الله عليه وفقال: { فقد آتينا آل إبراهيم } الذين هم أسلاف محمد { الكتاب } الذي هو بيان الشرائع { والحكمة } التي هي الوقوف على الأسرار والحقائق والعمل بما يتضمن صلاح الدارين { وآتيناهم ملكاً عظيماً } عن ابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان، فليس ببدع أن يؤتى إنسان ما أوتي أسلافه. وقيل: من جملة حسدهم أنهم استكثروا نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لهم: كيف أستكثرتم له التسع وكان لداود مائة ولسليمان ثلثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟ { فمنهم } أي من اليهود { من آمن به } أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم { ومنهم من صد عنه } وأنكره مع علمه بصحته، أو من اليهود من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أنكر نبوته، أو من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من كفر. والمعنى أن أولئك الأنبياء جرت عادة أممهم فيهم أن بعضهم آمن بهم وبعضهم بقوا على كفرهم، فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء والغرض تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته { وكفى بجهنم } لعذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين { سعيراً }.
ثم أكد وعيد الكفار بقوله: { إن الذين كفروا بآياتنا } ويدخل فيها كل ما يدل على ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وملائكته والكتب والرسل. وكفرهم بها أن ينكروا كونها آيات أو يغفلوا عنها ولا ينظروا فيها، أو يلقوا الشكوك والشبهات فيها، أو ينكروها مع العلم بها عناداً وحسداً وبغياً ولدداً. وههنا سؤال وهو أنه تعالى قادر على إبقائهم في النار أحياء معذبين من غير أن تحترق جلودهم، فما الحكمة في إنضاج جلودهم؟ والجواب لا يسأل عما يفعل كما أنه قادر على إيصال الآلام إليهم من غير إدخالهم النار مع أنه لا يمكن أن يقال لم عذبهم بإدخالهم النار. وسؤال آخر وهو أنه كيف يعذب مكان الجلود العاصية جلوداً لم تعص؟ والجواب يجعل النضيج غير نضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة ويؤيده قول أهل اللغة: تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدله، وأبدلت الشيء غيرته، فالتبديل تغيير الصفة أو الذات. والإبدال تغيير الذات. وصاحب الكشاف جزم بأن المراد من هذا التبديل هو تغيير الذات فلهذا فسر التبديل بالإبدال، ولعله إنما حمله على ذلك وصف الجلود بقوله: { غيرها } ولقائل أن يقول: المغايرة أعم من أن تكون في الذات أو في الصفات، فما أدراك أنها في الآية مغايرة الذات لا الصفات اللهم إلا أن يعضده نقل صحيح فيكون الجواب. عن السؤال أن المعذب هو الإنسان، والجلد ليس جزءاً من ماهيته / وإنما هو سبب لوصول العذاب إليه. أو يقال: المراد الدوام وعدم الانقطاع، ولا نضج ولا احتراق أي كلما ظنوا أنهم احترقوا وأشرفوا على الهلاك أعطيناهم قوة جديدة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا. وقال السدي: يخرج من لحم الكافر جلد آخر وفي هذا التأويل بعد لأن لحمه متناه فعند نفاده لا بد من طريق آخر في تبديل الجلد فيعود أول السؤال. وقيل: المراد بالجلود السرابيل
{ سرابيلهم من قطران } [إبراهيم:50] وضعف بأنه ترك للظاهر وأن السرابيل لا توصف بالنضج { ليذوقوا العذاب } ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله أي أدامك على عزك وزادك فيه، أو ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب. والمراد بالذوق أن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كإحساس الذائق بالمذوق { إنّ الله كان عزيزاً } لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين { حكيماً } لا يفعل إلاّ الصواب ثم قرن الوعد بالوعيد على عادته فقال: { والذين آمنوا } الآية. قال الواحدي: الظليل ليس بمبني على الفعيل حتى يقال إنه بمعنى فاعل أو مفعول، بل هو مبالغة في نعت الظل مشتق من لفظه كقولهم: "ليل أليل". قيل: إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل؟ وأيضاً المواضع التي لا يصل نور الشمس إليها في الدنيا يكون هواؤها عفناً فاسداً فما معنى وصف هواء الجنة بذلك؟ والجواب المنع من أنه لا شمس هنالك حتى يوجد ضوء ثان هو الظل، والمراد بالظل الظليل ما كان فيناناً، أي منبسطأً لا جوب فيه أي لا فرج لالتفاف الأغصان، ودائماً لا تنسخه الشمس، وسجساجاً لا حر فيه ولا برد. وعند الحكماء: المراد بالظل الراحة لأنه من أسبابها ولا سيما في البلاد الحارة كبلاد العرب. فلما كان هذا مطلوباً عندهم صار موعوداً لهم.
التأويل: { لو تسوّى بهم الأرض } أي يتمنون أن يخلوا في عالم الطبيعة ولم ينكشف لهم عالم الحقيقة كيلا يروا ما يرون من عذاب القطيعة، كما أن السكران ممنوع من الصلاة. فسكران الغفلة والهوى محجوب عن المواصلات { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } من غلبات الأحوال فإن التكاليف حينئذ زائلة { ولا جنباً } بالالتفات إلى غير الله فإن الصلاة إذ ذاك باطلة. وتستثنى من الحالة الأولى حالة الشعور، ومن الثانية حالة العبور
" كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل" فهذا القدر من الالتفات من المحظورات التي أباحها الضرورات. { وإن كنتم مرضى } بحب الدنيا { أو على سفر } في متابعة الهوى { أو جاء / أحد منكم الغائط } في قضاء شهوة من الشهوات { أو لامستم } عجوز الدنيا في تحصيل لذة من اللذات { فلم تجدوا ماء } التوبة والاستغفار { فتيمموا } فتمعكوا في تراب أقدام الكرام فإنه طهور الذنوب العظام. { من الذين هادوا } يعني دأب علماء السوء قريب من دأب الذين هادوا { يحرفون الكلم عن مواضعه } يؤولونها على حسب إرادتهم { ويقولون سمعنا } ما في القرآن، بالمقال { وعصينا } بالفعال وينكرون على أرباب المقامات والأحوال ويقولون اسمع{ غير مسمع وراعنا } يخاطبونهم بكلام ذي وجهين { ليا بألسنتهم وطعناً } في أهل الدين. { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } ظاهراً ولم يؤتوا علم باطن الكتاب { آمنوا بما نزلنا } على الأولياء من علم باطن القرآن { مصدقاً لمامعكم } من العلم الظاهر لأن أهل العلم اللدني يصدقون أهل العلم الظاهر، ولكن أهل العلم الظاهر يصعب عليهم تصديق علوم الأولياء لأنه لا يناسب عقولهم { من قبل أن نطمس } وجوه القلوب بالعمى والصمم { فنردها على أدبارها } ناظرين إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانوا ناظرين في الميثاق إلى يومها { أو نلعنهم } نمسخ صفاتهم الإنسانية بالسبعية والشيطانية كما مسخنا أصحاب السبت بالصورة، ومسخ المعنى أصعب من مسخ الصورة لأن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة { إن الله لا يغفر أن يشرك به } للشرك ثلاث مراتب وكذا للمغفرة. فشرك جلي بالأعيان وهو للعوام من عبدة الكواكب والأصنام فلا يغفر إلا بالتوحيد وهو إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقاً بالسر والعلانية. وشرك خفي بالأوصاف للخواص وهو شوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية، فلا يغفر إلاّ بالوحدانية وهو إفراد الواحد للواحد. وشرك أخفى للأخص وهو رؤية الأغيار والأنانية فلا يغفر إلا بالوحدة وهو فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية. { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } من أهل العلوم الظاهرة تعلموا العلم ليباهوا به العلماء أو ليماروا به السفهاء فحصل له صفات ذميمة أخرى مثل المباهاة والمماراة والكبر والعجب والحسد والرياء وحب الجاه والرياسة وغلبة الأقران والأنداد { بل الله يزكي من يشاء } بتسليم نفوسهم إلى ارباب التزكية من العلماء الراسخين والمشايخ المحققين كما يسلم الجلد إلى الدباغ ليجعله أديماً، فإذا سلموا أنفسهم إليهم وصبروا على تصرفاتهم رأوا أثر الزكاة فيهم ولن يضيع سعيهم { يؤمنون بالجبت } بجبت النفس الأمّارة وطاغوت الهوى { ويقولون للذين كفروا } من أهل الأهواء والمبتدعة والمتفلسفة { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا } بكل ما أمر الله به ورسوله. ثم وصفهم بالبخل والحسد ثم قال: { فقد آتينا آل إبراهيم } يعني أهل الخلة والمحبة { الكتاب والحكمة } العلم الظاهر والعلم الباطن { وآتيناهم ملكاً عظيماً } هو معرفة الله تعالى { فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه } لأن من / العلماء مقبلين ومنهم مدبرين { وكفى بجهنم } نفسهم الحاسدة { سعيراً } تحرق حسناتهم فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. { إن الذين كفروا بآياتنا } بأوليائنا الذين هم مظاهر آيات الحق وحجج الله على الخلق { سوف نصليهم } نار الحسد والغضب والكبر والعجب { كلما نضجت جلودهم } أي انقطعت بعض أماني نفوسهم الأمّارة ومقتضيات هواها. ولا يخفى حسن استعارة الجلود لآثار الشيء من حيث الظهور والاشتمال { بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } فإن دواعي الحرص والغضب والشهوة لا تتناهى ألبتة ما دامت النفس على صفة الأمرية، فلن تزال أسيرة في يد الشهوات ذائقة لعذاب التغلقات { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم } أي نجذبهم بجذبات العناية إلى { جنات } من الوصلة { تجري من تحتها الأنهار } من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشوف { لهم فيها أزواج } من تجلي صفات الجمال والجلال { مطهرة } من لوث الوهم والخيال { وندخلهم ظلاً ظليلاً } هو ظل شمس عالم الوجود يوم لا ظل إلاّ ظله.