التفاسير

< >
عرض

فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
١٩
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ
٢٠
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
٢١
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ
٢٢
أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ
٢٣
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ
٢٤
إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ
٢٥
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ
٢٦
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
٢٧
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٢٨
أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
٢٩
وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
٣٠
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ
٣١
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَشَآقُّواْ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَىٰ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ
٣٢
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ
٣٣
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ
٣٤
فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
٣٥
إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ
٣٦
إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
٣٧
هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم
٣٨
-محمد

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { وتقطعوا } بالتخفيف من القطع: سهل ويعقوب. والآخرون: بالتشديد من التقطيع { وأملى لهم } مبنياً للمفعول ماضياً: أبو عمرو ويعقوب { وأملى } مضارعاً مبنياً للفاعل: سهل ورويس. الباقون: ماضياً مبنياً للفاعل { إسرارهم } بكسر الهمز على المصدر: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد { وليبلونكم حتى يعلم } { ويبلوا } بالياءات: أبو بكر وحماد. الآخرون: بالنون في الكل. وقرأ يعقوب { ونبلو } بالنون مرفوعاً { السلم } بكسر السين: حمزة وخلف وأبو بكر وحماد.
الوقوف: { والمؤمنات } ط { ومثواكم } ه { نزلت سورة } ج للشرط مع الفاء { القتال } لا { الموت } ط للابتداء بالدعاء عليهم { لهم } ه ج لاحتمال أن يكون الأولى بمعنى الأقرب كما يجيء { معروف } قف { الأمر } ز لاحتمال أن التقدير فإذا عزم الأمر كذبوا وخالفوا { خيراً لهم } ه ج لابتداء الاستفهام مع الفاء { أرحامكم } ه { أبصارهم } ه { أقفالها } ه { الهدى } لا لأن الجملة بعده خبر "إن" { سوّل لهم } ط لأن فاعل { وأملى } ضمير اسم الله ويجوز الوصل على جعله حالاً وقد أملى، أو على أن فاعله ضمير الشيطان من حيث أنه يمنيهم ويعدهم، والوقف أجوز واعزم. والحال على قراءة { وأملى } بفتح الياء أجوز والوقف به جائز، ومن سكن الياء فالوقف به أليق لأن المستقبل لا ينعطف على الماضي. ومع ذلك لو جعل حالاً على تقدير وأنا أملي جاز { لهم } ه { الأمر } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً والوقف أجوز لأن الله يعلم الأسرار في الأحوال كلها { إسرارهم } ه { وأدبارهم } ه { أعمالهم } ه { أضغانهم } ه { بسيماهم } ط للابتداء بما هو جواب القسم { القول } ط { أعمالكم } ه { والصابرين } ط لمن قرأ { ونبلو } بسكون الواو أي ونحن نبلو { أخباركم } ه { الهدى } لا لأن ما بعده خبر "إن" { شيئاً } ط { أعمالهم } ه { أعمالكم } ه { لهم } ه { إلى السلم } قف قد قيل: على أن قوله { وأنتم } مبتدأ، وجعله حالاً أولى { الأعلون } قف كذلك { أعمالكم } ه قف { ولهو } ط { أموالكم } ه { أضغانكم } ه { سبيل الله } ج لانقطاع النظم مع الفاء { من يبخل } ج لابتداء الشرط مع العطف { عن نفسه } ط { الفقراء } ه للشرط مع العطف { غيركم } لا للعطف { أمثالكم } ه.
التفسير: لما ذكر حال الفريقين المؤمن والكافر من السعادة والشقاوة قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ومن هضم النفس باستغفار ذنبك أو ذنوب أمتك. أو المراد فاعلم خبراً يقيناً على ما علمته نظراً واستدلالاً. أو أراد فاذكر لا إله إلا الله. والهاء في { أنه } لله أو للأمر والشأن، أو الأول إشارة إلى أصول الحكمة النظرية، والثاني إلى أصول الحكمة العملية، أمره بالحكمة العملية بعد الحكمة النظرية. عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فتلا هذه الآية. وذلك أنه أمر بالعمل بعد العلم. والفاءات في هذه الآية وما تقدّمها لعطف جملة على جملة بينهما اتصال. وفي الآية نكتة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم له أحوال ثلاث: حال مع الله وهي توحيده، وحال مع نفسه وهي طلب العصمة من الذنوب وأن يستر الله عليه جنس الآثام حتى لا يقع فيها، وحال مع غيره وهي طلب ستر الذنوب عليهم بعد وقوعهم فيها أو أعم ويندرج فيها الشفاعة. ثم قال { والله يعلم متقلبكم ومثواكم } فقيل: التقلب في الأسفار والمثوى في الحضر. وقيل: أراد منتشركم في النهار ومستقركم بالليل. وقيل: الأوّل في الدنيا والثاني في الآخرة. وقيل: لكل متقلب مثوى فيتقلب من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى الجنة أو النار. والمقصود بيان كمال علمه بحال الخلائق فعليهم أن لا يهملوا دقائق الطاعة والخشية ويواظبوا على طلب المغفرة خوفاً من التقصير في العبودية. ثم ذكر طرفاً آخر من نصائح أهل النفاق ومن ينخرط في سلكهم من ضعفة الإسلام، وذلك أنهم كانوا يدّعون الحرص على الجهاد ويقولون بألسنتهم { لولا نزلت } سورة في باب القتال { فإذا أنزلت سورة محكمة } مبينة غير متشابهة لا تحتمل النسخ { وذكر فيها القتال } عن قتادة: كل سورة ذكر فيها القتال فهي محكمة وهي أشدّها على المنافقين. قال أهل البرهان: نزل بالتشديد أبلغ من أنزل فخص بهم ليكون أدل على حرصهم فيكون أبلغ في أبلغ في باب التوبيخ. قوله { فأولى لهم } كلمة تحذير أي وليك شر فاحذره. هذه عبارة كثير من المفسرين. وقال المبرد: يقال للإنسان إذا كاد يعطب ثم يفلت: أولى لك. أي قاربت العطب ثم نجوت. وهو في الفرقان على معنى التحذير. وقال جار الله: هو وعيد معناه فويل لهم والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه. وقيل: أراد طاعة وقول معروف أولى من الجزع عند الجهاد فلا يكون للوعيد، وعلى هذا فلا وقف على { لهم } كما أشير إليه في الوقف. واعترض عليه بأن الأفصح أن يستعمل وقتئذ بالباء لا مع اللام كما قال
{ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } [الأنفال: 75] والأصح أنه فعل متعدٍ من الولي وهو القرب أي أولاه الله المكروه فاقتصر لكثرة الاستعمال. ويحتمل أن يكون "فعلى" من آل يؤل أي يؤل أمرك إلى شر فاحذره. ثم حثهم على الامتثال بقوله { طاعة وقول معروف } أي طاعة الله وقول حسن أو ما عرف صحته خير من الجزع عند فرض الجهاد فهو مبتدأ محذوف الخبر، أو أمرنا طاعة فيكون خبر مبتدأ محذوف كما مر في سورة النور في قوله { طاعة معروفة } [الآية: 53] ويجوز أن يكون أمراً للمنافقين أي قولوا طاعة وقول معروف. { فإذا عزم الأمر } أي جدّ وصار معزوماً عليه وهو إسناد مجازي لأن العزم لأصحاب أمر القتال. ثم التفت وخاطب كفار قريش بقوله { فهل عسيتم } هو من أفعال المقاربة وقد مر وجوه استعمالاته في "البقرة" في قوله { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } [الآية: 216] فنقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب ليكون أبلغ في التوبيخ ومعناه هل يتوقع منكم { إن توليتم } وأعرضتم عن الدين أو توليتم أمور الناس { أن تفسدوا في الأرض } بالمعاصي والافتراق بعد الاجتماع على الإسلام { وتقطعوا أرحامكم } بالقتل والعقوق ووأد البنات وسائر ما كنتم عليه في الجاهلية من أنواع الإفساد، وفي سلوك طريقة الاستخبار المسمى في غير القرآن بتجاهل العارف، إمالة لهم إلى طريق الإنصاف وحث لهم على التدبر وترك العصبية والجدال، فقد كانوا يقولون كيف يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال والقتال إفناء لذوي أرحامنا وأقاربنا، فعرض الله سبحانه بأنهم إن ولوا أمور الناس أو أعرضوا عن هذا الدين لم يصدر عنهم إلا القتل والنهب وسائر أبواب المفاسد كعادة أهل الجاهلية. ثم صرح بما فعل الله بهم واستقر عليه حالهم فقال { أولئك الذين لعنهم الله } بعدهم عن رحمته. ثم بين نتيجة اللعن قائلاً { فأصمهم } أي عن قبول الحق بعد استماعه وهذا في الدنيا { وأعمى أبصارهم } أي في الآخرة أو عن رؤية الحق والنظر إلى المصنوعات. قال بعض العلماء: إنما لم يقل فأصم آذانهم لأن الأذن عبارة عن الشحمة المعلقة، والسمع لا يتفاوت بوجود وعدمها، ولذلك يسمع مقطوع الأذن. وأما الرؤية فتتعلق بالبصر نفسه، فالتأكيد هناك إنام يحصل بترك ذكر الأذن وههنا بذكر الأبصار والله أعلم. قال جار الله: يجوز أن يريد بالذين آمنوا المؤمنين الخلص الثابتين وذلك أنهم كانوا يأنسون بالوحي. فإذا أبطأ عليهم التمسوه، فإذا نزلت سورة في معنى الجهاد رأيت المنافقين يضجرون منها.
سؤال: لما أثبت لهم الصمم والعمى فكيف وبخهم بقوله { أفلا يتدبرون القرآن }؟ وأجيب على مذهب أهل السنة بأن تكليف ما لا يطاق جائز.ويمكن أن يقال: لما أخبر عنهم بما أخبر حكى أنهم بين أمرين: إما أن لا يتدبروا القرآن لأن الله أبعدهم عن الخير، وإما أن يدبروا لكن لا يدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة. قال جار الله: إنام نكرت القلوب لأنه أريد البعض وهو قلوب المنافقين أو أريد على قلوب قاسية مبهم أمرها. وإنما أضيفت الأقفال إلى ضمير القلوب لأنه أريد الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر والعناد التي استغلقت فلا تنفخ. ثم أخبر عن حال المنافقين أو اليهود الذين غيروا حالهم من بعد ما تبين لهم حقيقة الإسلام أو نعت محمد في التوراة فقال { إن الذين ارتدوا } الآية. { ذلك } الإملاء أو الإضلال أو الارتداد بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا أي قال اليهود للمنافقين، أو قال المنافقون ليهود قريضة والنضير، أو قاله اليهود أو المنافقون للمشركين { سنطيعكم في بعض الأمر } الذي يهمكم كالتظافر على عداوة محمد والقعود عن الجهاد معه أو في بعض ما تأمرون به، وهو ما يتعلق بتكذيب محمد لا في إظهار الشرك واتخاذ الأصنام وإنكار المعاد { والله يعلم أسرارهم } فلذلك أفشى الذي قالوه سراً فيما بينهم وسيجازيهم على حسب ذلك يدل عليه قوله { فكيف } يعملون وما حيلتهم حين توفتهم ملائكة الموت { يضربون وجوههم وأدبارهم } التي كانوا يتقون أن يصيبها آفة في القتال، أو يضربون وجوههم عند الموت وأدبارهم عند السوق إلى النار. وقيل: يضربون وجوههم عند الطلب وأدبارهم حين الهرب { ذلك } الإذلال والإهانة { بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه } كأنهم ضربوا وجوههم لأنهم أقبلوا على مواجب السخط، وضربوا أدبارهم لأنهم أعرضوا عما فيه رضا الله. وقد يخص السخط بكتمان نعت الرسول ومعاونة أهل الشرك والرضا بالإيمان به والنصرة للمؤمنين. وإنما قال { ما أسخط الله } ولم يقل "ما أرضى الله" لأن رحمته سبقت غضبه، فالرضا كالأمر الحاصل والإسخاط كالأمر المترتب على شيء. ثم زاد في تعيير المنافقين بقوله { أم حسب } وهي منقطعة. والضغن إضمار سوء يتربص به إمكان الفرصة. وإخراج الإضغان إبرازها للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين كما قال { ولو نشاء لأريناكهم } أي لو شئنا أريناك أماراتهم { فلعرفتهم } كررت لام جواب "لو" في المعطوف لأجل المبالغة { بسيماهم } بعلامتهم. عن أنس أنه ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة منهم يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصحبوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب "هذا منافق". ومعنى لحن القول نحوه وأسلوبه وفحواه أي يقولون ما معناه النفاق كقولهم
{ لئن رجعنا إلى المدينة } [المنافقون: 8] { إن بيوتنا عورة } [الأحزاب: 13] أو لتعرفنهم في فحوى كلام الله حيث قال ما يعلم منه حال المنافقين كقوله { ومن الناس من يقول } [البقرة: 8] { ومنهم من عاهد الله } [التوبة: 75] وحقيقة اللحن ذهاب الكلام إلى خلاف جهته. وقيل: اللحن أن تميل كلامك إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال:

ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا واللحن يعرفه ذوو الألباب

ويقال للمخطىء لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. وقال الكلبي: لحن القول كذبه. ولم يتكلم بعد نزولها منافق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عرفه. وعن ابن عباس هو قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا من العقاب { والله يعلم أعمالكم } فيميز خيرها من شرها وإخلاصها من نفاقها { ولنبلونكم } أي لنأمرنكم بما لا يكون متعيناً للوقوع بل يحتمل الوقوع واللاوقوع كما يفعل المختبر حتى يظهر المجاهد والصابر من المنافق والمضطرب. { ونبلو أخباركم } التي تحكي عنكم كقولكم { آمنا بالله وباليوم الآخر } [البقرة: 8] أو عهودكم كقوله { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار } [الأحزاب: 15] أو أسراركم أو ما ستفعلونه أو أخباركم الأراجيف كقوله { والمرجفون في المدينة } [الأحزاب: 60] عن الفضل أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا. ثم أنزل في اليهود من قريظة والنضير أو في رؤساء قريش المطعمين يوم بدر { إن الذين كفروا } الآية. وأعمالهم طاعاتهم في زمن اليهودية، ومكايدهم التي نصبوها في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو إطعامهم. ثم أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله بالتوحيد والتصديق مع الإخلاص وأن لا يبطلوا إحسانهم بالمعاصي والرياء وبالمن والأذى. عن أبي العالية قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون إنه لا يضر مع "لا إله إلا الله" ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت الآية، فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم. وعن قتادة: رضي الله عن عبد لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء. ثم أراد أن يبين أن أعمال المكلف إذا بطلت فإن فضل الله باقٍ يغفر له إن شاء ما لم يمت على الكفر فقال { إن الذين كفروا } الآية. قال مقاتل: نزلت في رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن والده وقال: إنه كان محسناً في كفره. وعن الكلبي: نزلت في رؤساء أهل بدر. { فلا تهنوا } لا تضعفوا ولا تجبنوا { وتدعوا إلى السلم } أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح. ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار "أن" بعد الواو في جواب النهي { وأنتم الأعلون } الغالبون المستولون عليهم { والله معكم } بالنصرة والكلاءة { ولن يتركم أعمالكم } أي لن ينقصكم جزاء أعمالكم من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو قريب أو سلبت ماله وأصله من الوتر وهو الفرد، كأنك أفردته من قريبه أو ماله. وفي الحديث " "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" " وهو من فصيح الكلام. ثم زادهم حثاً على الجهاد بتحقير الدنيا في أعينهم وبأنه سبحانه إنما يحثهم على الإيمان والجهاد وسائر أبواب التقوى لتعود فائدتها عليهم كما قال "خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم" قوله { ولا يسألكم أموالكم } أي كل أموالكم ولكنه يقتصر منها على ربع العشر، أو لا يسألكم أموالكم لنفسه ولكن لتكون زاداً لكم في المعاد. وقيل: لا يسألكم أموالكم رسولي لنفسه. وقيل: إنهم لا يملكون شيئاً وإن المال مال الله وهو المنعم بإعطائه. والقول هو الأوّل لقوله { إن يسألكموها فيحفكم } أي يجهد كم يبلغ الغاية فيها من أحفى شاربه استأصله كأنه جعله حافياً مما في ملكه أي عارياً { تبخلوا ويخرج } الإحفاء أو الله تعالى على طريق التسبب { أضغانكم } أي تضطغنون على الرسل وتظهرون كراهة هذا الدين. ثم بين أنه كيف يأمركم بإخراج كل المال وقد دعاكم إلى إنفاق البعض { فمنكم من يبخل } و"ها" للتنبيه وكرر مع أولاء للتوكيد وأنتم أولاء جملة مستقلة أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون. ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا وما وصفنا فقيل { تدعون لتنفقوا في سبيل الله } وهو الزكاة أو الغزو، فمنكم ناس يبخلون به. وقيل: { هؤلاء } موصول صلته { تدعون } وهو مذهب الكوفيين وقد سلف في "البقرة" و "آل عمران". ثم قبح أمر البخل بقوله { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } أي وباله على نفسه أو عن داعي ربه. قال في الكشاف: يقال بخلت عليه وعنه. وفيه نظر لأن البخل عن النفس لا يصح بهذا التفسير. نعم لو قال عن ماله كان تفسيره مطابقاً. ثم مدح نفسه بالغنى المطلق وبين بقوله { وأنتم الفقراء } أنه لا يأمر بالإنفاق لحاجته ولكن لفقركم إلى الثواب. ثم هددهم بقوله { وإن تتولوا } وهو معطوف على { وإن تؤمنوا } ومعنى { يستبدل قوماً غيركم } يخلق قوماً سواكم راغبين فيما ترغبون عنه من الإيمان والتقوى كقوله { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } [فاطر: 61] ومعنى " ثم " التراخي في الرتبة أي لا يكونون أشباهكم في حال توليكم. وقيل: في جميع الأحوال. وعن الكلبي: شرط في الاستبدال توليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل قوماً وهم العرب أهل اليمن أو العجم. قاله الحسن وعكرمة لما روي أو رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس والله تعالى أعلم.