التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ
٢٠
يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَٰسِرِينَ
٢١
قَالُوا يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ
٢٢
قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٢٣
قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ
٢٤
قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٥
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٦
-المائدة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { جبارين } بالإمالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو حيث كان { فلا تاس } بغير همزة حيث وقعت: أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف.
الوقوف: { ملوكاً } ز { جبارين } ق قد قيل لشبهة الابتداء بأن ولكن كسر ألف "إن" بمجيئه بعد القول معطوفاً على الأول. { حتى يخرجوا منها } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. { داخلون } ه { الباب } ج لذلك. { غالبون } ه { مؤمنين } ه { قاعدون } ه { الفاسقين } ه { سنة } ج لأنها تصلح ظرفاً للتيه بعده والتحريم قبله { الفاسقين } ه.
التفسير: وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال: أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وذكرهم موسى نعم الله وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في الكل. منّ الله عليهم بأمور ثلاثة: أوّلها قوله: { إذ جعل فيكم أنبياء } وذلك أنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. وثانيها قوله: { وجعلكم ملوكاً } قال السدي: أي جعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد ما استعبدكم القبط. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكان لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم ومن كان كذلك كان ملكاً. وقال الزجاج: الملك من لا يدخل عليه أحد إلاّ بإذنه. وقيل: الملك هو الصحة والإسلام والأمن والفوز وقهر النفس. وقيل: من كان مستقلاً بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجاً في مصالحه إلى أحد فهو ملك. وقيل: كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء، وقد يقال لمن حصل فيهم ملوك إنهم ملوك مجازاً. وقيل: كل نبي ملك لأنه يملك أمر أمته ينفذ فيهم حكمه. وثالثها: { وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } من فلق البحر وإغراق العدوّ وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الخوارق والعظائم. وقيل: أراد عالمي زمانهم. روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال الله تعالى له: انظر فما أدرك بصرك فهو مقدّس وميراث لذريتك. وقيل: لما خرج قوم موسى من مصر وعدهم الله إسكان أرض الشام، فكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد. ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيباً من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي. فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساماً عظيمة هائلة. قال المفسرون: لما بعث موسى النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك فنثرهم بين يديه وقال متعجباً للملك: هؤلاء يريدون قتالنا. فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم/ وأخبروه بما شاهدتم. فانصرف النقباء إلى موسى وأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلاّ رجلان - هما كالب بن يوفنا من سبط يهودا، ويوشع بن نون من سبط افراييم بن يوسف - فإنهما قالا هي بلاد طيبة كثيرة النعم وأجسامهم عظيمة إلاّ أن قلوبهم ضعيفة، وأما العشرة الباقية فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم. والأرض المقدسة هي المطهرة من الآفات، وقيل من الشرك. وزيف بأنها لم تكن وقت الجبارين كذلك. وأجيب بأنها كانت كذلك فيما قبل لأنها كانت مسكن الأنبياء. ثم إنها ما هي؟ فعن عكرمة والسدي وابن زيد هي أريحاء. وقال الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقيل: الطور وما حوله. وقيل: بيت المقدس. وقيل: الشام ومعنى { كتب الله لكم } وهبها لكم أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم أو أمركم بدخولها. قال ابن عباس: كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم. وقيل: المراد خاص أي مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم. وقيل: إن الوعد كان مشروطاً بالطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. وقيل: حرمها عليهم أربعين سنة فلما مضى الأربعون حصل ما كتب. وفي قوله:{ كتب الله لكم } تقوية القلوب وأنّ الله سينصرهم مع ضعفهم على الجبارين مع قوّتهم. { ولا ترتدوا على أدباركم } لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه السلام وإخباره بهذه النصرة، أو لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى التي خرجتم عنها. فقد روي أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مصر { فتنقلبوا خاسرين } في الآخرة يفوت الثواب ولحوق العقاب، أو فترجعوا إلى الذل أو تموتوا في التيه غير واصلين إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة. والجبار "فعال" من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وهو اختيار الفراء والزجاج. قال الفراء: لم أسمع "فعالاً" من "أفعل" إلاّ في حرفين: جبار من أجبر، ودراك من أدرك. ويقال: نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها. والقوم الاستبعاد { إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } كقوله تعالى:
{ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } [الأعراف:40] { قال رجلان } هما يوشع وكالب { من الذين يخافون الله أنعم الله عليهما } أي بالهداية والثقة بقوله والاعتماد على نصره ومحل { أنعم الله } مرفوع صفة لرجلان. ويحتمل أن يكون جملة معترضة. قال القفال: يجوز أن يكون الضمير في { يخافون } لبني إسرائيل والعائد إلى الموصول محذوف تقديره من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون فعلى هذا الرجلان من الجبارين/ { ادخلوا عليهم الباب } مبالغة في الوعد بالنصر والظفر كأنه قال: متى دخلتم باب بلدهم لم يبق منهم نافخ نار ولا ساكن دار { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } علموه ظناً أو يقيناً من عادة الله في نصرة رسله عامة ومن صنعه لموسى عليه السلام في قهر أعدائه خاصة { وعلى الله فتوكّلوا } الفاء للإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها. والمعنى لما وعدكم الله النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من عظم أجسامهم بل توكلوا على الله { إن كنتم مؤمنين } مقرين بوجود الإله القدير، موقنين بصحة نبوّة موسى { قالوا إنّا لن ندخلها } نفوا دخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس وزادوا في التأكيد بقولهم: { أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك } قال العلماء: لعلهم كانوا مجسمة يجوّزون الذهاب والمجيء على الله تعالى أو أنهم لم يقصدوا حقيقة الذهاب كقولك: "كلمته فذهب يجيبني" يريد القصد والإرادة. وقيل: المراد بالرب أخوه هارون وسموه رباً لأنه أكبر من موسى. وقيل: التقدير اذهب وربك معين لك بزعمك ولكن لا يجاوبه. قوله { فقاتلا } ولا يبقى لقوله أنت فائدة واضحة. ولا يخفى أنّ هذا القول منهم كفر أو فسق فلهذا قال موسى على سبيل الشكوى والبث { ربي إني لا أملك إلاّ نفسي وأخي } قال الزجاج: في إعرابه وجهان: الرفع على موضع إني والمعنى أنا لا أملك إلاّ نفسي وأخي كذلك، أو نسقاً على الضمير في { أملك } أي لا أملك أنا وأخي إلاّ أنفسنا. والنصب على أنه نسق على الياء أي إني وأخي لا نملك إلاّ أنفسنا، أو على نفسي أي لا أملك إلاّ نفسي ولا أملك إلاّ أخي، لأنّ أخاه إذا كان مطيعاً له فهو مالك طاعته، وكأنه لم يثق بالرجلين كل الوثوق فلهذا لم يذكرهما، أو لعله قال ذلك تقليلاً لمن يوافقه، أو أراد من يؤاخيه في الدين. { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله: { ونجني من القوم الظالمين } [التحريم:11] أو المراد فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لكل منا بما يستحق وهو في معنى الدعاء عليهم بدليل فاء التسبيب في قوله: { فإنها } أي الأرض المقدسة { محرمة عليهم أربعين سنة } ثم يفتحها الله لهم من غير محاربة. أو المراد أنهم يتيهون أربعين سنة ومعنى يتيهون يسيرون متحيرين. عن مقاتل أن موسى عليه السلام لما دعا عليهم فأخبره الله بأنهم يتيهون قالوا له: لم دعوت علينا وندم على ما عمل فأوحى الله إليه: { فلا تأس } أي لا تحزن ولا تندم { على القوم الفاسقين } فإنهم أحقاء بالعذاب لفسقهم. وجوّز بعضهم أن يكون ذلك خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي لا تحزن على قوم لم تزل مخالفة الرسل هجيراهم.
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أنّ موسى وهارون هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم: إنهما ما كانا في التيه لأنه دعا أن يفرق بينه وبينهم وكل نبي مجاب، ولأن التيه عذاب/ والأنبياء لا يعذبون، ولأنّ سبب ذلك العذاب التمرد وهما لم يتمرّدا. وقال آخرون: إنهما كانا مع القوم إلاّ أنّ الله تعالى سهل عليهم ذلك العذاب كما أن النار كانت على إبراهيم برداً وسلاماً. ثم من هؤلاء من قال: إنّ هارون عليه السلام مات في التيه ومات موسى عليه السلام بعده فيه بسنة، ودخل يوشع عليه السلام أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته، ومات النقباء في التيه بغتة بعقوبات غليظة إلاّ كالب ويوشع. ومنهم من قال: بل بقي موسى عليه السلام بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله تعالى أعلم. واختلفوا أيضاً في التيه وهي المفازة التي تاهوا فيها فقال الربيع: مقدار ستة فراسخ. وقيل: تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخاً. وقيل: ستة في اثني عشر. وقيل: كانوا ستمائة ألف فارس. ثم الأكثرون على أنّ قوله: { فإنها محرمة } تحريم منع كانوا يسيرون كل يوم على الاستدارة جادّين حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان مع ذلك نعمة الله عليهم من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك متظاهرة كالوالد الشفيق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولكن لا يقطع عنه معروفه وإحسانه. ويشكل هذا القول بأنه كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في ذلك القدر الصغير من المفازة سنين متطاولة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يهتدي طريقاً للتيه ولو بأمارات حركات النجوم؟ والجواب أنّ هذا من الخوارق التي يجب التصديق بها كسائر المعجزات التي يستبعد وقوعها. وقال بعضهم: إنّ هذا التحريم تعبّد وإنه تعالى أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة عقاباً لهم على سوء صنيعهم وعلى هذا فلا إشكال.
التأويل: أشار موسى الروح إلى القوى البدنية ادخلوا أرض القلب المقدسة التي كتبها الله تعالى للإنسان المستعد في الفطرة، فهابوا تحمل أعباء المجاهدات ولزوم المخالفات والرياضات فقال لهم رجلان - النفسان اللوّامة والمطمئنة - إنكم غالبون إذا دخلتم باب الجدّ والطلب تستبدل الراحة بالتعب، فلم يعتدّوا بقولهما فحرّم الله تعالى ذلك عليهم أربعين سنة هي مدة استيفاء حظوظ النفس الأمارة وانكسار سورة قواها في الأغلب كقوله:
{ حتى إذا بلغ اشدّه وبلغ أربعين سنة } [الأحقاف:15] وفي الآية نكتة هي أنّ موسى عليه السلام لما ظن أنه يملك نفسه ونفس أخيه ابتلاه الله في الحال بالدعاء على أمته لأنّ المرء إنما يملك نفسه إذا ملكها عند الغضب فشتان بينه وبين من قال حين شج رأسه وكسرت رباعيته "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" اللهم صلّ عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآل كل بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.