التفاسير

< >
عرض

وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ
١
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ
٢
وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ
٣
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ
٤
عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ
٥
ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ
٦
وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ
٧
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ
٨
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
٩
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ
١٠
مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ
١١
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ
١٢
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ
١٣
عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ
١٤
عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ
١٥
إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ
١٦
مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ
١٧
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ
١٨
أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ
١٩
وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٢٠
أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ
٢١
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ
٢٢
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ
٢٣
أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ
٢٤
فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ
٢٥
وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ
٢٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنْثَىٰ
٢٧
وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً
٢٨
فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
٢٩
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ
٣٠
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى
٣١
ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ
٣٢
أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ
٣٣
وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ
٣٤
أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ
٣٥
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ
٣٦
وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ
٣٧
أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ
٣٨
وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ
٣٩
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ
٤٠
ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ
٤١
وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ
٤٢
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ
٤٣
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا
٤٤
وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٤٥
مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ
٤٦
وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٤٧
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ
٤٨
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ
٤٩
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ
٥٠
وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ
٥١
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ
٥٢
وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ
٥٣
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ
٥٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ
٥٥
هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ
٥٦
أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ
٥٧
لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ
٥٨
أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ
٥٩
وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ
٦٠
وَأَنتُمْ سَامِدُونَ
٦١
فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ
٦٢
-النجم

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { هوى } وسائر آياته بالإمالة اللطيفة: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة المفرطة كما سبق في "طه" { ما كذب } بالتشديد: يزيد وهشام { ما زاغ البصر } بالإمالة: حمزة ونصير { ومناة } بالمد: ابن كثير والشموني { أفتمرونه } ثلاثياً: يعقوب وحمزة وعلي وخلف { ضيزى } بالهمزة: ابن كثير في رواية { كبير الأثم } على التوحيد: حمزة وعلي وخلف والمفضل { إبراهام } هشام { عاداً لولي } مدغماً غير مهموز: أبو عمرو ويزيد ويعقوب والنجاري عن ورش. وقرأ إسماعيل والأصبهاني عن ورش وأبو نشيط عن قالوا بإظهار الغنة غير مهموز. وكذلك روي عن أبي عمرو فعلى مذهبهم إذا وقف القارىء على { عاد } ابتدأ { بلولي } ولو شاء الولي بتخفيف الهمزة والأول أحسن. وقرأ قالون غير أبي نشيط بالهمزة وإظهار الغنة، وإذا وقف على { عاد } ابتدأ { لولي } ولو شاء { الولي } والباقون { عاد الأولى } بالألف قبل اللام وبعد اللام في الحالين { وثمود } في الحالين بغير تنوين: حمزة وعاصم غير ابن غالب والبرجمي والمفضل وسهل ويعقوب { ربك تمارى } بتشديد التاء: رويس عن يعقوب.
الوقوف: { هوى } ه لا { غوى } ه ج للآية مع العطف على جواب القسم { الهوى } ه ط { يوحى } ه لا { القوى } ه لا لذلك { ذو مرة } ط لتمام الصفة { فاستوى } ه لا لأن الواو للحال { الأعلى } ه ط { فتدلى } ه لا لأن ما بعده من تمام المقصود { أو أدنى } ه ج وإن اتفقت الجملتان لأن ضمير { فأوحى } لله لا للنبي { ما أوحى } ه ج { ما رأى } ه { أخرى } ه لا { المنتهى } ه { المأوى } ه لأن عامل { إذ زاغ البصر } فلا وقف على { ما يغشى } { طغى } ه { الكبرى } ه { والعزى } ه لا { الأخرى } ه { الأنثى } ه { ضيزى } ه { سلطان } ط { الأنفس } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { الهدى } ه ط لأن أم ابتداء استفهام إنكار { ما تمنى } ه ز لتناهى الاستفهام والوصل أولى للفاء واتصال المعنى { والأولى } ه { ويرضى } ه { الأنثى } ه { علم } ط { إلا الظن } ه ج لاختلاف الجملتين { شيئاً } ط لذلك { الدنيا } ه ط { من العلم } ط { اهتدى } ه { وما في الأرض } ط { بالحسنى } ه ج لأن { الذين } يصلح خبر مبتدأ محذوف وبدلاً من { الذين أحسنوا } { اللمم } ط { المغفرة } ط { أمهاتكم } ج { أنفسكم } ه ط { اتقى } ه { تولى } ج { وأكدى } ه { يرى } ه { موسى } ه { وفى } ه لا { أخرى } ه لا { سعى } ه لا { يرى } ه ص لوقوع العارض بين المعطوف على أن { الأوفى } ه لا { المنتهى } ه لا { وأبكى } ه لا { وأحيا } ه لا { والأنثى } ه { تمنى } ه ص لما مر { الأخرى } ه لا { وأقنى } ه لا { الشعرى } ه ط { الأولى } ه لا { أبقى } ه لا { وأطفى } ه ط لأن { المؤتفكة } منصوب بما بعده { هوى } ه لا { ما غشى } ه ج لابتداء الاستفهام مع الفاء { تتمارى } ه { الأولى } ه لا { الآزقة } ه للاستئناف والحال { كاشفةْ } ه { تعجبون } ه لا { ولا تبكون } ه لا { سامدون } ه لا { واعبدوا } ه سجدة.
التفسير: لما ختم السورة المتقدمة بالنجوم خص الأقسام في أول هذه السورة بالنجم, واللام فيه للعهد أو للجنس. والأول قول من قال: إنه الثريا وهو اسم غالب لها وصورتها في السماء كعنقود عنب. وأظهر كواكبها سبعة وهي المنزل الثالث من منازل القمر. قال: إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء. وذلك أن الشمس تكون في أول العقرب حينئذ في مقابلتها فتطلع بغروبها. وعلى الثاني فيه وجوه أحدها. نجوم السماء وهويها غروبها. وفائدة هذا القيد أن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر من الناظر إليه حينئذ يستدل بغروبها على أفوله في حيز الإمكان فيتم له اهتداء الدين مع اهتداء الدنيا. وقيل: هويها انتثارها يوم القيامة. وثانيها النجم هو الذي يرجم به الشياطين وهويها انقضاضها. وثالثها النجم النبات إذا هوى إذا سقط على الأرض وهو غاية نشوة. ورابعها النجم أحد نجوم القرآن وقد نزل منجماً في عشرين سنة فيكون كقوله
{ { والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } [يس: 2 - 3] وعلى القول الآخر فالثريا أظهر النجوم عند الناظرين وأشهر المنازل للسائرين وأنها تطلع عشاء في وقت إدراك الثمار. والنبي صلى الله عليه وسلم تميز من سائر الأنبياء بالمعجزات الباهرات ولا سيما فإنه حين ظهر زال يبس الشوك وحرارة الحمية الجاهلية وإدراك الحكمة ورجم به شياطين الإنس المضلين لعباد الله في أرضه، ونبت بوجوده أصناف الأغذية الروحانية تامة كاملة. قال جار الله: الضلال نقيض الهدى، والغي نقيض الرشد، والخطاب لقريش. قلت: هذا صادق من حيث الاستعمال لقوله { قد تبين الرشد من الغي } [البقرة: 256] { من يضلل الله فلا هادي له } [الأعراف: 186] إلا أنه ينبغي أن يتبين لافرق بين الضلال والغواية. والظاهر أن الضلال أعم وهو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً، والغواية أن لا يكون له إلى المقصد طريق مستقيم ولهذا لا يقال للمؤمن من إنه ضال أو غير مهتد ويقال له إنه غوي غير رشيد. قال عز من قائل { فإن آنستم منهم رشداً } [النساء: 6] فكأنه سبحانه نفى الأعم أولاً ثم نفى الأخص ليفيد أنه على الجادة غير منحرف عنها أصلاً. ويحتمل أن يكون قوله { ما ضل } نفياً لقولهم هو كاهن أو مجنون لأن الكهانة أيضاً من مسيس الجن. وقوله { وما غوى } نفي لقولهم هو شاعر والشعراء يتبعهم الغاوون. ويحتمل أن يكون الأول عبارة عند صلاحه في أمور المعاد، والثاني إشارة إلى رشده في أمور المعاش ومنه يعلم أن أقواله كلها على سنن الصواب إلا أنه كان يمكن أن تكون مستنبطة من العقل أو العرف أو العادة، فأسندها الله سبحانه إلى طريق أخص وأشرف وهو أن تكون مستندة إلى الوحي فقال بصيغة تفيد الاستمرار { وما ينطق عن الهوى } أي ليس كل ما ينطق به ولا بعضه بصادر عن الرأي والتشهي إنما وحي يوحى إليه من الله، واستدل به بعض من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد كان لك من قبيل الوحي أيضاً. وأما من يخص النطق بالقرآن فلا اعتراض عليه. قال أهل اللغة: الهوى المحبة النفسانية، والتركيب يدل على النزول والسقوط ومنه الهاوية. ومبة النفس الأمارة لا أصل لها ولا تصدر إلا عن خسة ودناءة، وقوله { إن هو إلا وحي } أبلغ مما لو قيل هو "وحي" وهو ظاهر. وقوله { يوحى } لتحقيق الحقيقة كقوله { ولا طائر يطير بجناحيه } [الأنعام: 38] فإن الفرس الشديد العدو بما يقال إنه طائر، فإذا قيل يطير بجناحيه زال جواز ذلك المجاز فكذلك ههنا ربما يقال للكلام الصادق الفصيح هو وحي أو سحر حلال. فلما قيل { يوحى } اندفع التجوز. ثم بين طريق الوحي بقوله { علمه } أي الموحي أو محمداً { شديد القوى } وهو جبرائيل عليه السلام أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة مدح المعلم ليلزم منه فضيلة المتعلم. ولو قال "علمه جبرائيل عليه السلام" لم يفهم منه فضل المتعلم ظاهراً. وفيه رد على من زعم أنه يعلمه بشر لأن الإنسان خلق ضعيفاً وما أوتي من العلم إلا قليلاً. وفيه أن جبرائيل عليه السلام أمين موثوق به من حيث قوته المدركة والحافظة ولو كان مختل الذهن أو الحفظ لم يوثق بروايته، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يضيق صدره حين علم بواسطة الملك فكأنه قيل له: ليس لك في ذلك نقص لأنه شديد القوى على أنه قال في موضع آخر { وعلمك ما لم تكن تعلم } [النساء: 113] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله فقال " أدبني ربي فأحسن تأديبي " والمرة القوة. والظاهر أنها القوة الجسمانية كقوله { وزاده بسطة في العلم والجسم } [البقرة: 247] فمن قوته أنه قلع قريات قوم لوط وقلبها بجناحه، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وكان ينزل إلى الأنبياء ويصعد في لمحة. ويجوز أن يراد بقوله { شديد القوى } قواه الجسمانية وبقوله { ذو مرة } القوى العقلية. والتنكير للتعظيم. قوله { فاستوى } المشهور أن فاعله جبرائيل عليه السلام أي فاستقام على صورته الحقيقية دون صورة دحية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستوى له في الأفق الأعلى أي الأشرف وهو الشرقي { ثم دنا } جبرائيل من الرسول صلى الله عليه وسلم على الصورة المعتادة { فتدلى } قيل: فيه تقديم وتأخير أي فتعلق عليه في الهواء ثم دنا منه. وقيل: دنا أي قصد القرب من محمد أو تحرك من المكان الذي كان فيه، فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. يقال: تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير وقد يقال: الدنو والتدلي بمعنى واحد فلا يفيد إلا التأكيد. ثم زاد تأكيداً بقوله { فكان قاب قوسين } قال أهل العربية. هو من باب حذف المضافات أي فكان مقدار مسافة قرب جبرائيل عليه السلام مثل "قاب قوسين". والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس كلها المقدار. والعرب تقدر الأشياء بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع وغيرها. وفي الحديث " لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين " وقال صلى الله عليه وسلم " لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها" والقد السوط. وقوله { أو أدنى } أي في تقديركم كقوله { مائة ألف أو يزيدون } [الصافات: 147] وقال بعضهم: الضمير في { فاستوى } لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن تعليم جبرائيل إياه كان قبل كماله واستوائه، فحين تكاملت قواه النظرية والعلمية وصار بالأفق الأعلى أي بالرتبة العليا من المراتب الإنسانية دنا من الأمة فتدلى أي لان لهم ورفق بهم حتى قال { إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ } [الكهف: 110] فكان الفرق بينه وبين جبرائيل قليلاً جداً. وعلى هذا يمكن أن يكون الرجحان في الكمال للنبي صلى الله عليه وسلم كما يقول أكثر أهل السنة، أو بالعكس كما تزعم طائفة منهم ومن غيرهم، ويحتمل على هذا القول أن يكون الضمير في { دنا } لجبريل والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن زال عن الصفات البشرية من الشهوة والغضب والجهل وبلغ الأفق الأعلى الإنساني، ولكن نوعيته لم تزل عنه وكذلك جبرائيل.
وإن ترك اللطافة المانعة من الرؤية ونزل إلى الأفق الأدنى من الآفاق الملكية ولكن لم يخرج عن كونه ملكاً فلم يبقى بينهما إلا اختلاف حقيقتهما نظيره
{ ولقد رآه بالأفق المبين } [التكوير: 23] أي رأى جبرائيل وهو أي محمد بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك كقول القائل: "رأيت الهلال على السطح" أي وأنا على السطح. وقد يجعل ذكر القوس عبارة عن معنى آخر هو أن العرب كانوا إذا عاهدوا فيما بينهم طرحوا قوساً أو قوسين لتأكيد العهد بين الاثنين، فأخبر الله سبحانه أنه كان بين جبرائيل ومحمد عليه الصلاة والسلام من المحبة وقرب المنزلة مثل ما تعرفونه فيما بينكم عند المعاقدة. وقيل: الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لله والمراد قرب المكان بينهما. وهذا يشبه مذهب المجسمة إلا أن يقال: دنا دنو ألفة ولا دنو زلفة. دنا دنو إكرام لا دنو أجسام، دنا دنو أنس لا دنو نفس. والقوسان أحدهما صفة الحدوث والأخرى صفة القدم. أخبر بالقصة إكراماً وكتم الإسرار عظاماً.
قوله { فأوحى إلى عبده ما أوحى } الضمير في الفعلين إما لله أو لجبرائيل، والمراد بالعبد إما محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل عليه السلام فيحصل تقديرات أحدها: فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى وفيه تفخيم لشأن الوحي. وقيل: أوحى إليه الصلاة. وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها. وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. والظاهر أنها أسرار وحقائق ومعارف لا يعلمها إلا الله ورسوله. ثانيها فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى أولاً جبرائيل يعني أن الوحي كان ينزل عليه أولاً بواسطة جبرائيل وقد ارتفعت الآن تلك الواسطة. وعلى هذا يحتمل أن يقال "ما" مصدرية أي أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم الإيحاء أي العلم بالإيحاء كي يفرق بين الملك والجن. أو كلمة أنه وحي أو خلق فيه علماً ضرورياً. ثالثها فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى. رابعها فأوحى الله إلى جبرائيل ما أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء قبله. وفيه إشارة إلى أن جبريل عليه السلام أمين لم يجن قط في شيء مما أوحى إلى الأنبياء. خامسها فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه. سادسها فأوحى جبرائيل إلى عبد الله ما أوحى هو. وفي هذين الوجهين لا يمكن أن يراد بالعبد إلا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله { ما كذب الفؤاد ما رأى } الأشهر أن اللام للعهد وهو فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك. ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه. ومن قرأ بالتشديد فظاهر أي صدق فؤاده ما عاينه ولم يشك في ذلك. وقيل: اللام للجنس والمراد أن جنس الفؤاد لا ينكر ذلك وإن كان الوهم والخيال ينكره. والمقصود نفي الجواز لا نفي الوقوع كقوله
{ لا تدركه الأبصار } [الأنعام: 103] { وما ربك بغافل } [الأنعام: 132] بخلاف قوله { { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } } [التوبة: 120] { { لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 48] فإنه لنفس الوقوع. والظاهر أن فاعل رأى محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: الفؤاد أو البصر أي ما رآه الفؤاد ولم يقل له إنه جن أو شيطان أو لم يكذب الفؤاد ما رآه بصر محمد صلى الله عليه وسلم. وما المرئي فيه أقوال: أحدها ما مر وهو أنه رأى جبريل في صورته بالأفق الشرقي. والثاني الآيات العجيبة الإلهية. والثالث الرب تعالى والمسألة مبنية على جواز الرؤية وقد تقدم البحث عن ذلك في قوله { لا تدركه الأبصار } [الأنعام: 103] ثم على وقوع الرؤية وقد تقدم خلاف الصحابة فيه في حديث معراج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في أول "سبحان الذي". ولعل القول الأول أصح. يروي أنه ما رأى جبريل أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء، وإليه إشارة بقوله { أفتمارونه } من المراء أي أتجادلونه { على ما يرى } ومن قرأ { أفتمرونه } فمعناه أتغلبونه في المراء يقال: ماريته فمريته. ولما فيه من معنى الغلبة عدي بـ "على" وقيل: معناه افتجحدونه. ولا بد من تضمين معنى الغلبة. { ولقد رآه نزلة أخرى } أي مرة أخرى فانتصبت على الظرف لأن الفعلة صيغة المرة فكانت النزلة في حكم المرة أي نزل عليه جبريل في صورته تارة أخرى في ليلة المعراج ووجه الاستفهام الإنكاري أنه لما رآه وهو على بسيط الأرض احتمل أن يقال: إنه كان من الجن احتمالاً بعيداً فلما رآه { عند سدرة المنتهى } لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس فلم يبق للجدال مجال. أما القائل بالقول الثالث فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين. والنزلة إما لله بمعنى الحركة والانتقال عند من يجوز ذلك، أبو بمعنى قرب الرحمة والإفضال، وإما للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه نزل عن متن الهوى ومركب النفس. وقيل: أراد بالنزلة ضدها وهي العرجة، واختير هذه العبارة ليعلم أن هذه عرجة تتبعها النزلة ليست عرجة لا نزلة لها وهي عرجة الآخرة. وعلى القول الأول أيضاً يحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن جبرائيل تخلف عنه في مقام "لو دنوت أنملة لاحترقت" ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إليه. ومعنى أخرى أنه صلى الله عليه وسلم تردد في أمر الصلاة مراراً فلعله كان ينزل إلى جبرائيل كل مرة لا أقل من نزلتين. أما السدرة فالأكثرون على أنها شجرة في السماء السابعة: وقيل: في السادسة. "نبقها كقلال هجر وورقها كآذان الفيلة، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها" وقد ورد الحديث بذلك. فعلى هذا { عند } ظرف مكان. ثم إن كان المرئي جبريل فلا إشكال، إن كان هو الله تعالى فكقول القائل "رأيت الهلال على السطح" وقد مر. وقال بعضهم { عند } ظرف زمان كما يقال: صليت عند طلوع الفجر. والمعنى رآه عند الحيرة القصوى أي في وقت تحارعقول العقلاء فيه ولكنه ما حار ولم يعرض له سدر. وإضافة سدرة إلى المنتهى إما من إضافة الشيء إلى مكانه كما يقال "أشجار البلدة الفلانية كذا" وأشجار الجنة لا تيبس ولا تخلو من الثمار. فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك ولا يعلم ما وراءه أحد وإليه ينتهي أرواح الشهداء. وإما من إضافة المحل إلى الحال كما يقال "ظرف المداد" أي سدرة هي محل انتهاء الجنة. وإما من إضافة الملك إلى مالكه كما يقال "دار زيد وأشجار عمرو" فيكون التقدير سدرة المنتهى إليه وهو الله سبحانه قال { وأن إلى ربك المنتهى } فالإضافة للتشريف "نحو بيت الله وناقة الله". وقال الحسن: { جنة المأوى } هي التي يصير إليها المتقون. وقيل: يأوي إليها أرواح الشهداء والظاهر أن الضمير في { عندها } للسدرة. وقيل: للنزلة من ذهب إلى أن سدرة المنتهى معناها الحيرة القصوى. قال { إذ يغشى السدرة ما يغشى } معناه ورود حالة على حالة أي طرأ على محمد حين ما يحار العقل ما طرأ من فضل الله ومن رحمته. والأكثرون قالوا فيه تعظيم وتكثير لما يغشى الشجرة من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله مما لا يحيط بها الوصف. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله" وعنه عليه السلام "يغشاها رفرف من طير خضر" والرفرف كل ما يبسط من أعلى إلى أسفل. وعن ابن مسعود وغيره: يغشاها فراش أو جراد من ذهب. والمحققون على أنها أنوار الله تعالى تجلى للسدرة كما تجلى للجبل لكن السدرة كانت أقوى من الجبل، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان أثبت من موسى فلم تضطرب الشجرة ولم يصعق محمد صلى الله عليه وسلم. قوله { ما زاغ البصر } فيه وجهان: أشهرهما أنه بصر محمد صلى الله عليه وسلم أي لم يلتفت إلى ما يغشاها. فإن كان الغاشي هو الفراش أو الجراد من ذهب فمعناه ظاهر ويكون ذلك ابتلاء وامتحاناً لمحمد صلى الله عليه وسلم بالأمور الدنيوية، وإن كان الغاشي أنوار الله فالمراد أنه لم يلتفت إلى غير المقصود ولم يشتغل بالنور عن ذي النور. أو المراد ما زاغ البصر بالصعقة بخلاف موسى عليه السلام. وفي الأول بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني بيان مزيته. وذهب بعضهم إلى أن اللام للجنس أي ما زاغ بصره أصلاً في ذلك الموضع هيبة وإجلالاً. والظاهر أن الضمير في قوله { وما طغى } للبصر أي ما جاوز حده المعين المأمور برؤيته. ويحتمل أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم أي ما زاغ بصره بالميل إلى غير المقصود، وما طغى محمد بسبب الالتفات. قال بعض العلماء: فيه بيان لوصول محمد صلى الله عليه وسلم إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه إذ لم ير الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف الناظر إلى عين الشمس فإنه إذا نظر إلى شيء آخر رآه أبيض أو أصفر أو أخضر. قوله { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } الظاهر أن الكبرى صفة الآيات أي لقد رأى بعض آيات ربه الكبرى. وذلك البعض إما جبرائيل على صورته، وإما سائر عجائب الملكوت. ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف أي لقد رأى من آيات ربه آية هي الكبرى. وعلى هذا لا تكون تلك الآية رؤية جبريل لما ورد في الاخبار أن الله ملائكمة أعظم منه كالملك الذي يسمى روحاً. نعم لو قيل: إنها رؤية الله الأعظم كان له وجه عند من يقول بأنه صلى الله عليه وسلم رأي الله ليلة المعراج. وفيه خلاف تقديم.
قوله { أفرأيتم اللات والعزى } الخ. أي عقيب ما سمعتم من عظمة الله تعالى ونفاذ أمره في الملأ الأعلى، وأن الذي سد الأفق ببعض أجنحته تخلف عند سدره المنهتى، هل تنظرون إلى هذه الأصنام مع قلتها وفقرها حتى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه وعولتم عليه؟ قال في الكشاف: اللات اسم صنم كان لثقيف بالطائف وأصله "فعلة" من لوى يلوي لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة، أو يتلوون عليها أي يطوفون فكأنه حذفت الياء تخفيفاً وحركت الواو فانقلبت ألفاً. والوقف عليه بالتاء كيلا يشبه اسم الله: وقيل: أصله اللات بالتشديد وقد قرىء به. زعموا أنه سمي برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج. وعن مجاهد: كان رجل يلت السويق بالطائف وكانوا يعكفون على قبره فجعلوه وثناً. والعزى تأنيث الأعز وكان لغطفان وهي شجرة سمرة بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد ابن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس ناشرة الشعر تضرب رأسها وتدعو بالويل والثبور فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول:

يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك

فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل. فقال: تلك العزى ولن تعبد أبداً. وأما مناة فهي صخرة كانت لهذيل وخزاعة كأنها سميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق. ومن قرأ بالمد فلعلها "مفعلة" من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها. و { الأخرى } لا يطلق إلأا إذا كان الأول مشاركاً كالثاني فلا يقال: رأيت رجلاً وامرأة أخرى. وإنما يقال رأيت رجلاً ورجلاً آخر. وههنا ليست عزى ثالثة فكيف قال { ومناة الثالثة الأخرى }؟ وأجيب بأن الأخرى صفة ذم لها أي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله { { وقالت أخراهم لأولاهم } [الأعراف: 38] أي وضعاؤهم لرؤسائهم. ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى وذلك أن الأول كان على صورة آدمي، والعزى كانت من النبات ومناة من الجماد. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي ومناة الأخرى. الثالثة. وقيل: إن الأصنام فيها كثرة فإذا أخذنا اللات والعزى مقدمين كانت لهما ثوالت كثيرة هذه ثالثة أخرى. وقيل: فيه حذف والتقدير أفرأيتم اللات والعزى المعبودتين. بالباطل ومناة الثالثة المعبودة الأخرى. ثم إنه تعالى حين وبخهم على الشرك فكأنهم قالوا نحن لا نشك في أن شيئاً منها ليس مثلاً لله تعالى ولكنا صورنا هذه الأشياء على صور الملائكة المعظمين الذين اعترف بهم الأنبياء وقالوا: إنهم يرتقون ويقفون عند سدرة المنتهى، ويرد عليهم الأمر والنهي ويصدر عنهم إلينا فوبخهم على قولهم إن هؤلاء الأصنام التي هي إناث أنداد الله تعالى، أو على قولهم الملائكة بنات الله فاستفهم منكراً { ألكم الذكر } الذي ترغبون فيه { وله الأنثى } التي تستنكفون عنها { تلك } القسمة { إذا } أي إذا صح ما ذكرتم { قسمة ضيزى } أي جائرة غير عادلة من ضازه يضيزه إذا ضامه، وهي "فعلى" بالضم، وكان يمكن أن تقلب الياء واواً لتسلم الضمة إلا أنه فعل بالعكس أي قبلت الضمة كسرة لتسلم الياء فإن إبقاء الحرف أولى من إبقاء الحركة. ومن قرأ بالهمزة فمن ضأزه بالهمزة والمعنى واحد ولكنها "فعلى" بالكسر. قال بعضهم: إنهم ما قسموا ولم يقولوا لنا البنون وله البنات ولكنهم نسبوا إلى الله البنات وكانوا يكرهونهن، فلزم من هذه النسبة قسمة جائرة، فتقدير الكلام تلك النسبة قسمة غير عادلة إذ العدالة تقتضي أن يكون الشريف للشريف والوضيع للوضيع { إن هي } يعني ليس الأصنام أو أسماؤها المذكورات { إلا أسما سميتموها } وقد مر في "الأعراف" وفي "يوسف". قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: الم يتم بقوله { ما أنزل الله بها من سلطان } فإن إطلاق اللاسم على المسمى إنما يجوز إذا لم يتبعه مفسدة دينية. وههنا يمكن أن يكون مرادهم من قولهم "الملائكة بنات الله" أنهم أولاد الله من حيث إنه لا واسطة بينهم وبينه في الإيجاد كما تقوله الفلاسفة. والعرب قد تستعمل البنت مكان الولد كما يقال "بنت الجبل وبنت الشفة" لما يظهر منهما بغير واسطة خصوصاً إذا كان في اللفظ تاء التأنيث كالملائكة إلا أنه لم يجز في الشرع إطلاق هذا اللفظ على الملائكة لأنه يوهم النقص في حقه تعالى ثم قال: وهذا بحث يدق عن إدراك اللغوي إن لم يكن عنده من العلوم حظ عظيم. قلت: هذا البحث الدقيق يوجب أن يكون الذم راجعاً إلى ترك الأدب فقط. وليس الأمر كذلك فإن الذم إنما توجه إلى المشرك لأنه ادعى الإلهية لما هو أبعد شيء منها. وما أمكن له على تصحيح دعواه حجة عقلية ولا سمعية. ومعنى { ما أنزل الله بها } أي بسببها وصحتها. وقال الرازي: الباء للمصاحبه كقول القائل "ارتحل فلان بأهله ومتاعه" أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع. ومن قرأ { إن تبعون } على الخطاب فظاهر، ومن قرأ على الغيبة فإما للالتفات، وأما لأن الضمر للآباء وصيغة الاستقبال حكاية الحال الماضية ويحتمل أن يكون المراد عامة الكفار. قوله { وما تهوى الأنفس } يجوز أن تكون "ما" مصدرية، وفائدة العدول عن صريح المصدر إلى العبارة الموجودة أن القاتل إذا قال: أعجبني صنعك. لم يعلم أن الإعجاب من أمر قد تتحقق أو من أمر هو فيه. وإذا قال: أعجبني ما تصنع. شمل الحال والاستقبال. ويجوز أن تكون "ما" موصولة والفرق أن المتبع في الأول الهوى وفي الثاني مقتضى الهوى. وقوله { الأنفس } من باب مقابلة الجمع بالجمع. والمعنى اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه كقولك: خرج الناس بأهلهم أي كل واحد بأهله ولعل الظن يختص بالاعتقاد وهوى النفس بالعمل. ويجوز أن يكون الظن مقصوداً به كل ماله محمل مرجوح والهوى يراد به ما لا وجه له أصلاً. ويحتمل أن يراد بالظن ماله محمل راجح أيضاً وهو إن كان واجب العمل به في المسائل الاجتهادية إلا أنه مذموم عند القدرة على اليقين وإلى هذا أشار بقوله { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } وهو القرآن أو الرسول أو المعجزة، وفي هذه الحالة لا يجوز البناء على الظن بل يجب التعويل على اليقين.
قوله { أم للإنسان } أم منقطعة والهمزة فيها للإنكار والمراد تمنيهم شفاعة الآلهة وأن لهم عند الله الحسنى على تقدير البعث إذ تمنى أشرافهم أن يكونوا أنبياء دون محمد صلى الله عليه وسلم. قوله { فالله الآخرة والأولى } رد عليهم أي هو مالكها فهو المعطي والمانع ولا حكم لأحد عليه. ومعنى الفاء أنه إذا تقرر أن شيئاً من الأشياء ليس بتمني الإنسان فلا حكم إلا لله. ثم بين أن الشفاعة عند الله لا تكون إلا برضاه. وفيه أصناف من المبالغة من جهة أن "كم" للتكثير والعرب تستعمل الكثير وتريد الكل كما قد تستعمل الكل وتريد به الكثير كقوله
{ تدمر كل شيء } [الأحقاف: 25] ومن جهة لفظ الملك فإنهم أشرف المخلوقات سوى الأنبياء عند بعض، ومن قبل أنهم في السموات فإن ذلك يدل على علو مرتبتهم ودنو منزلتهم، ومن قبل اجتماعهم المدلول عليه بضمير الجمع في شفاعتهم وإذا كان حالهم هكذا فكيف يكون حال الجمادات؟ وقوله { لمن يشاء } أي لمن يريد الشفاعة له { ويرضى } أي ويراه أهلاً أن يشفع له فههنا أيضاً أنواع أخر من المبالغة. الأول توقيف الشفاعة على الإذن. والثاني تعليقها بالمشيئة فيهم منه أنه بعد أن يؤذن في مطلق الشفاعة يحتاج إلى الأذن في كل مرة معينة. والثالث رضا الله الشفاعة فقد يشاء ولكن لا يرضاه كقوله { ولا يرضى لعباده الكفر } [الزمر: 7] وهذا عند أهل السنة واضح. ثم صرح بالتوبيخ على قولهم الملائكة بنات الله فقال { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة } أي كل واحد منهم { تسمية الأنثى } لأنهم إذا جعلوا الكل بنات فقد جعلوا كل واحدة بنتاً وبالعكس. وههنا سؤالان: أحدهما: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعم من هؤلاء المسلمين فكان الأولى أن يقال: إن الذين يسمون لا يؤمنون. وثانيهما أنه كيف يلزم من عدم الإيمان بالآخرة هذه التسمية؟ والجواب عن الأول أن اللام للعهد وبه خرج الجواب عن الثاني أيضاً لأنه بخير عن جميع معهود أنهم يسمون. ولا يلزم من حمل شيء على شيء أن يكون بينهما ملازمة. ولو سلم أن اللام للعموم فالمراد بمثل هذا التركيب المبالغة والتوكيد كما تقول: الإنسان زيد. وعلى هذا فإن أريد بالحمل مجرد الإخبار فلا إشكال وإن أريد الملازمة فمعناه المبالغة أيضاً لأن غاية جهلهم بالآخرة وبالجزاء حملهم على ارتكاب مثل هذا الافتراء على الله، وإلى هذا أشار بقوله { ما لهم به من علم أن يتبعون إلا الظن } واعلم أن الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بحث مع هؤلاء المشركين الذين سموا الملائكة إناثاً بحثاً طويلاً بناء على ظنه بهم أنهم رأوا في لفظ الملائكة تاء فلذلك جعلوه مؤنثاً. وحاصل ذلك البحث يرجع إلى أن التاء لا يلزم أن تكون للتأنيث فقد تكون لتأكيد الجمع كحجارة وصقورة، أو لغير ذلك من المعاني، ونحن قد أسقطنا تلك البحوث لعدم فائدتها كما نبهناك عليه. ثم بين الله سبحانه قاعدة كلية فقال: { وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } أي كل ما يجب أن يحصل منه المكلف على العلم واليقين فلا ينفع فيه الظن والتخمين، ومن جملته مسائل المبدأ والمعاد التي ينبني البحث فيها على البراهين العقلية والدلائل السمعية، ومن قنع في أمثالها بالوهم والظن لعدم الاستعداد أو لحفظ بعض المنافع الدنيوية وجب الإعراض عنه كما قال { فأعرض } أي إذا وقفت على قلة استعدادهم وعدم طلبهم للحق فأعرض يا محمد يا طالب الحق { عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا } ويجوز أن يكون هذا الإعراض متضمناً للأمر. بالقتال أي أعرض عن المقال وأقبل على القتال. وقوله { ذلك } أي الذي ذكر من التسمية أو من اعتقاد كون الأصنام شفعاء { مبلغهم من العلم } جملة معترضة. ثم بين علة الإعراض قائلاً { إن ربك هو أعلم } إلى آخره، وفيه بيان أنه تعالى يجازي كل فريق بحسب ما يستحقه، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم ووقفوا لدى الباطل دون الحق. ثم قرر أنه سوى الملك والملكوت لغرض الجزاء والإثابة. والحسنى صفة المثوبة والأعمال، وإضافة الكبائر إلى الإثم إضافة النوع إلى الجنس لأن الإثم يشمل الكبائر والصغائر. واختلف في الكبائر وقد أشبعنا القول القول فيها في سورة النساء في قوله { { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } [الآية: 31] والفواحش ام تزايد قبحه من الكبائر كأنها مع كبر مقدار عقابها قبيحة في الصورة كالشرك بالله. والمراد باللمم الصغائر، والتركيب يدل على القلة ومنه اللمم المس من الجنون وألم بالمكان إذا قل لبثه فيه قال:

ألمت فحيث ثم قامت فودعت

وإلا صفة كأنه قيل: كبائر الإثم وفواحشه غير اللمم، أو استثناء منقطع لأن اللمم ليس من الفواحش. عن أبي سعيد الخدري: اللمم هي النظرة والغمزة والقبلة.عن السدي: الخطرة من الذنب. وعن الكلبي: كل ذنب لم يذكر الله عز وجل عليه حداً ولا عذاباً. وعن عطاء: هي ما تعتاده النفس حيناً بعد حين.
قال جار الله: معنى قوله { إن ربك واسع المغفرة } أنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ويكفر الكبائر بالتوبة. وأقول: فيه إشارة إلى أن اللمم ما لا يمكن فيه الاجتناب عنه لكل الناس أو لأكثرهم فالعفو عن ذلك يحتاج إلى سعة وكثرة، بل فيه بشارة أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعاً سوى الشرك لأن غفران اللمم لا يوجب الوصف بسعة المغفرة وإنما يوجب ذلك أن لو غفر معها الكبائر. وقوله { هو أعلم بكم } إلى آخره. دليل على وجوب وقوع الغفران لأنه إذا كان عالماً بأصلهم وفرعهم كان عالماً بضعفهم ونقصهم فلا يؤاخذهم بما يصدر عنهم على مقتضى جبلتهم وطبعهم. فكل شيء يرجع إلى الأصل والأرض بطبعها تميل إلى الأسفل. والجنين أوله نطفة مذرة وآخره الاغتذاء بدماء قذرة، وإذا كان مبدأ حاله هكذا وهو في أوسط أمره متصف بالظلم والجهل والعاقبة غير معلومه وجب عليه أن لا يزكي نفسه فإن الله تعالى أعلم بالزكي والتقي أولاً وآخراً باطناً وظاهراً، وما أحسن نسق هذه الجمل. وقد أبعد بعض أهل النظم فقال لما ذكر أنه أعلم بمن ضل كان للكافر أن يقول: كيف يعلم الله أموراً نعلمها في البيت الخالي وفي جوف الليل المظلم؟ فأجاب الله تعالى بأنا نعلم ما هو أخفى من ذلك وهو أحوالكم وقت كونكم أجنة. وقوله { في بطون أمهاتكم } للتأكيد فإنه إذا خرج من بطن الأم يدعى سقطاً أو ولداً. وقيل: أراد أن الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله وبأنه كتب عليهما في رحم أمهما أنه ضال أو مهتد. وقيل: فيه تقرير الجزاء وتحقيق الجزاء وتحقيق الحشر فإن العالم بأحوال المكلف وهو جنين القادر على إنشائه من الأرض أول مرة، عالم بأجزائه بعد التفرق، قادر على جمعه بعد التمزق. والعامل في "إذ" هو "اذكر" أو ما يدل عليه { أعلم } أي يعلمكم وقت الإنشاء. والخطاب للموجودين وقت نزول الآية وللآخرين بالتبعية. ويجوز أن يكون الإنشاء من الأرض إشارة إلى خلق أبينا آدم. وقوله { وإذ أنتم } يكون خطاباً لنا. قوله { أفرأيت الذي تولى } قال بعض المفسرين: نزل في الوليد بن المغيرة جلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيراً قوياً فقال له رجل: لم تترك دين آبائك؟ قال: أخاف. ثم قال له: لا تخف وأعطني كذا وأنا أتحمل عنك أوزارك فأعطاه ما ألزمه وتولى عن الوعظ واستماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: نزل في عثمان بن عفان كان يعطي ماله عطاء فقال له أخوه من أمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح. ويوشك أن يفنى مالك فأمسك فقال له عثمان: إن لي ذنوباً وخطايا وإني أرجو أن يغفر الله لي بسبب العطاء. فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الإعطاء ومعنى تولي ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى خير من ذلك. يقال: أكدى الحافر إذا لقيته كدية وهي أرض صلبة كالصخرة ونحوه "أجبل الحافر وأجبل الشاعر" إذا أفحم. ثم وبخه بأنه لا يعلم الغيب فكيف يعلم أن أوزاره محمولة عنه؟ وقيل: نزلت في أهل الكتاب وذلك أنه لما بين حال المشركين المعاندين شرع في قصة هؤلاء والمعنى: أفرأيت الذي تولى أي صار متولياً لكتاب الله وأعطى قليلاً من الزمان حق الله فيه، ولما بلغ عصر محمد صلى الله عليه وسلم أمسك عن العمل به. قالوا: يؤيد هذا التفسير قوله { أم لم ينبأ بما في صحف موسى } عينها أو جنسها وهو ما نبأهم به نبينا صلى الله عليه وسلم. وجمع الصحف إما لأن موسى له صحيفة وإبراهيم له صحيفة فذكر التثنية بصيغة الجمع، وإما لأن كل واحد منهما له صحف لقوله تعالى
{ وألقى الألواح } [الأعراف: 15] وكل لوح صحيفة. وتقديم صحف موسى إما لأنها أقرب وأشهر وأكثر وإما لأنه رتب وصف إبراهيم عليه، وإما لحسن رعاية الفاصلة وقد راعى في آخر "سبح اسم ربك" هذا المعنى مع ترتيب الوجود. والتشديد في قوله { وفي } للمبالغة في الوفاء، أو لأنه بمعنى وفر وأتم كقوله { { فأتمهن } [البقرة: 124] وأطلق الفعل ليتناول كل وفاء وتوفية من ذلك تبليغه الرسالة واستقلاله بأعباء النبوة والصبر على ذبح الولد وعلى نار نمرود وقيامه بأضيافه بنفسه. يروى أنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخاً يطلب ضيفاً فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم. وعن عطاء بن السائب: عهد أن لا يسأل مخلوقاً فلما رمي في النار قال له جبريل وميكائيل: ألك حاجة؟ فقال: أما إليكم فلا. قالا: فسل الله. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وروي في الكشاف عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار وهي صلاة الفجر والضحى. وروي "ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى؟ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى حين تظهرون" وعن الهزيل بن شرحبيل كان بين نوح وإبراهيم صلى الله عليه وسلم يؤخذ الرجل بجريرة غيره ويقتل الزوج بامرأته والعبد بسيده، وأول من خالفهم إبراهيم فلهذا قال سبحانه { ألا تزر وازرة } وهي مخففة من الثقيلة ولهذا لم ينصب الفعل وضمير الشأن محذوف ومحله الجر بدلاً مما في صحف موسى، أو الرفع كأن قائلاً قال: وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل: هو أنه لا تزر نفس من شأنها أن تزر وزر نفس أخرى إذا لم تحمل التي يتوقع منها ذلك فغيرها أولى بأن لا تحمل. ثم عطف على قوله { ألا تزر } قوله { وأن ليس } وحكمه حكم ما يتلوه من المعطوفات فيما مر. وفيه مباحث: الأول الإنسان عام وقيل: هو الكافر. وأورد عليه أن الله سبحانه قال { ليس للإنسان } ولو أراد الكافر لقال "ليس على الإنسان" وهذا بالحقيقة غير وارد فإن اللام قد تستعمل في مثل هذا المعنى قال تعالى { وإن أسأتم فلها } [الإسراء: 7] وورد على الأول أن الدعاء والصدقة والحج ينفع الميت كما ورد في الأخبار، وأيضاً قال تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [الأنعام: 160] والأضعاف فوق ما سعى. وأجاب بعضهم بأن قوله { ليس للإنسان إلا ما سعى } كان في شرع من تقدم ثم إنه تعالى نسخه في شريعتنا وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع. وقال المحققون: إن سعي غيره وكذا الأضعاف لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً صالحاً كان سعي غيره كأنه سعي نفسه. والثاني "ما" مصدرية والمضاف محذوف أي الأثواب أو جزاء سعيه. ويجوز أن تكون موصولة أي إلا الجزاء الذي سعى فيه. الثالث في صيغة المضي إشارة إلى أنه لا يفيد الإنسان إلا الذي قد حصل فيه ووجد، وأما مجرد النية مع التواني والتراخي فذلك مما لا اعتماد عليه ولعل ذلك من مكايد الشيطان يمنيه ويعده إلى أن يحل اوجل بغتة. قوله { وأن سعيه سوف يرى } إن كان من الرؤية فكقوله { اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } [التوبة: 105] وإن كان من الإراءة فالفائدة في إراءته وعرضه عليه أن يفرح به هو ويحزن الكافر والله قادر على إعادة كل معدوم عرضاً كان أو جوهراً، والمراد أن يريه الله إياه على صورة جميلة إن كان عملاً صالحاً وبالضد إن كان بالضد. ويجوز أن يكون مجازاً عن الثواب كما يقال "سترى إحسانك عند الملك" أي جزاءه إلا أن القول الأول أقوى لقوله { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } اللهم إلا أن يراد تراخي الرتبة والفائدة تعود إلى الوصف بالأوفى وهو الرؤية التي هي أوفى من كل وافٍ أي يجزى العبد بسعيه الجزاء الأتم. وجوز أن يكون الضمير للجزاء ثم فسره بقوله { الجزاء الأوفى } وأبدل عنه كقوله { وأسروا النجوى الذين ظلموا } [الأنبياء: 3] ومن لطائف الآية أنه قال في حق المسيء { لا تزر وارزة وزر أخرى } ولا يلزم منه أن يبقى الوزر على المذنب بل يجوز أن يسقط عنه بالمحو والعفو، ولو قال "كل وازرة تزر وزر نفسها" لم يكن بد من بقاء وزرها عليها. وقال في حق المحسن "ليس له ما سعى" ولم يقل "ليس له ما لم يسع" إذا العبارة الثانية لا يلزمها أن له ما سعى، والعبارة الأولى يلزمها ذلك لأنها في قوة كلامين إثبات ونفي والحاصل أنه قال هي حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءه، وفي حق المحسن بعبارة توجب رجاءه كل ذلك لأن رحمته سبقت غضبه. قوله { وأن إلى ربك المنتهى } المشهور أن فيه بيان المعاد كقوله عز من قائل { وإلى الله المصير } [آل عمران: 28] أي للناس بين يدي الله وقوف وفيه بيان وقت الجزاء. وقد يقال: المراد به التوحيد وهو تأويل أهل العرفان. والحكماء يستدلون به على وجود الصانع فإن الممكن لا بد أن ينتهي إلى الواجب. وقيل: أراد أن البحث والإدراك ينتهي عنده كما قيل: إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا ذكر الرب فانتهوا" والخطاب عام لكل سامع مكلف وفيه تهديد للمسيء ووعد للمحسن: وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه تسلية له. ثم بين غاية قدرته وهي إيجاده الضدين الضحك والبكاء والإماتة والإحياء في شخص واحد، وكذا الذكورة والأنوثة في مادة واحدة هي النطفة نطفت إذا تمنى تدفق في الرحم. يقال: منى وأمنى. وقال الأخفش: تخلق والمنى والتقدير وفيه إبطال قول الطبيعيين أن مبدأ الضحك قوة التعجب، ومبدأ الكباء رقة القلب، وإن الحياة مستندة إلى الطبيعة كالنبات، والموت أمر ضروري وهو تداعي الأجزاء العنصرية إلى الانفكاك بعد اجتماعها على سبيل الاتفاق أو لاقتضاء سبب سماوي من اتصال أو انفصال وذلك أن انتهاء كل ممكن إلى الواجب واجب. قوله { أمات وأحيي } إما لأجل الفاصلة أو لأنه اعتبر حالة كون الإنسان نطفة ميتة. قال الأطباء: الذكر أسخن وأجف والأنثى أبرد وأرطب. وقالوا في نبات شعر الرجل: إن الشعور تتكون من بخار دخاني منجذب إلى المسام فإذا كانت المسام في غاية الرطوبة والتحلل كما في مزاج الصبي والمرأة، لا ينبت الشعر لخروج تلك الأدخنة من المسام الرطبة بسهولة قبل أن يتكون شعراً. وإذا كانت في غاية اليبوسة والتكاثف لم ينبت لعسر خروجه من المخرج الضيق وإنما يندفع كثرة تلك الأبخرة إلى الرأس حتى رأس المرأة والصبي لأنه مخلوق كقبة فوق الأبخرة والأدخنة فيتصاعد إليها. وأما في الرجل فيندفع إلى صدره كثيراً لحرارة القلب. وإلى آلات التناسل لحرارة الشهوة، وإلى اللحيين لكثرة الحرارة بسبب الأكل والكلام ومع حرارة الأبخرة، ومن شأن الحرارة جذب الرطوبة كجذب السراج الزيت. هذا أقوى ما قالوا في هذا الباب. ويرد عليه أنه ما السبب لتلازم شعر اللحية وآلة التناسل فإنها لو قطعت لم تنبت اللحية، ولو سلم التلازم من حيث إن حرارة الخصيان تقل بسبب قطع آلة الشهوة فلا بد أن يعترفوا بانتهاء جميع الممكنات إلى الواجب بالذات.
واعلم أنه سبحانه في هذه الآية وسط الفصل بين الاسم والخبر حيث كان توهم الحملية فيه أكثر وترك الفصل حيث لم يكن كذلك. ففي آيات الضحك والبكاء والإماتة والإحياء وسط الفصل للتوهمات المذكورة حتى قال نمرود
{ أنا أحي وأميت } [البقرة: 258] وأما خلق الذكر والأنثى فلم يتوهم أحد أنه بفعل المخلوقين فلم يؤكد بالفصل وعلى هذا القياس قوله { وأن عليه النشأة الأخرى } ظاهرة وجوب وقوع الحشر في الحكمة الإلهية للمجازاة على الإحسان والإساءة وقال في التفسير الكبير: هو كقوله { ثم أنشأناه خلقاًً آخر } [المؤمنون: 14] أي بعد خلقته ذكراً وأنثى نفخ فيه الروح الإنساني ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره، ثم أقناه بالكسب بعد كبره أي أعطاه القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك، وبالجملة فالإغناء بكل ما تدفع به الحاجة والإقناء بما زاد عليه. وإنما وسط الفصل لأن كثيراً من الناس يزعم أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده، فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر. وذهب بعضهم إلى أنه بالبخت أو النجوم فقال رداً عليهم { وأنه هو رب الشعرى } وهما شعريان شامية ويمانية وهذه أنورهما. وخصت بالذكر لأن أبا كبشة أحد أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أمه قال: لا أرى شمساً ولا قمراً ولا نجماً تقطع السماء عرضاً غيرها فليس شيء مثلها فعبدها وعبدتها خزاعة فخالفوا قريشاً في عبادة الأوثان. وكانت قريش يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم "أبو كبشة" تشبيهاً له لمخالفته إياهم في دينهم. وحين ذكر أنه أغنى وأقنى وذلك كان بفضل المولى لا بعطاء الشعرى، ذكرهم حال الأقدمين الهلكى. وعاد الأولى قوم هود والأخرى، إرم ميزوا عن قوم كانوا بمكة. وقيل: أراد التقدم في الدنيا وأنهم كانوا أشرافاً قوله { وثمود } عطف على { عاد } أي ما رحم عليهم. ومن المفسرين من قال فما أبقى أي ما ترك أحداً منهم كقول { فهل ترى لهم من باقية } [الحاقة: 8] وبه تمسك الحجاج على من زعم أن ثقيفاً من ثمود. وإنما وصف قوم نوح بأنهم كانوا هم أظلم وأطغى فبالغ بتوسيط الفصل وبناء التفضيل لأن نوحاً عليه السلام كان أول الرسل إلى أهل الأرض، وكان قومه أول من سن التكذيب وإيذاء النبي والبادي أظلم. ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها. ولأنهم كانوا مجاوزين حد الاعتدال يضربون نبيهم حتى لم يربه حراك وينفرون عنه الناس ويخوفون صبيانهم وما نجع فيهم وعظه ألف سنة إلا خمسين عاماً. وليس قوله { أنهم كانوا } تعليلاً للإهلاك حتى يرد عليه أن غيرهم من الظالمين والطاغين لا يلزم أن يهلكوا وإنما هي جملة معترضة بياناً لشدة طغيانهم وفرط ظلمهم. { والمؤتفكة } يعني قريات قوم لوط لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت وقد مر في هود { أهوى } أي رفعها إلى السماء على جناح جبريل فأسقطها إلى الأرض { فغشاها ما غشي } من الحجار المسومة وفيه تهويل وتفخيم لما صب عليهم من العذاب. وجوز أن يكون "ما" فاعلاً كقوله { والسماء وما بناها } [الشمس: 5] هذا كله حكاية ما في الصحف إلا فيمن قرأ { وإن إلى ربك المنتهي } بالكسر على الابتداء وكذا ما بعده أما قوله { فبأي آلاء ربك تتمارى } فقد قيل: هو أيضاً مما في الصحف وقيل: هو ابتداء كلام، والخطاب لكل سامع ولرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } [الزمر: 65] والمراد أنه لم يبق فيها إمكان الشك، وقد عد نعماً ونقماً وجعل كلها آلاء لأن النقم أيضاً نعم إن أراد أن يعتبر. ويحتمل أن يقال لما عد نعمه على الإنسان من خلقه وإغنائه وإقنائه. ثم ذكر أنه أهلك من كفر بها، وبخ الإنسان على جحد شيء من نعمة فيصيبه مثل ما أصاب المتمارين: أو يقال: لما حكى الإهلاك قال للشاك: أنت ما أصابك الذي أصابهم وذلك بحفظ الله إياك فبأي آلاء ربك تتمارى وسيجيء له مزيد بيان في سورة الرحمن { هذا } القرآن أو الرسول { نذير } أي إنذار أو منذر من جنس الإنذارات أو المنذرين. وقال { الأولى } على تأويل الجماعة. وحين فرغ من بيان التوحيد والرسالة ختم السورة بذكر اقتراب الحشر فقال { أزفت الآزفة } أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله { اقترب للناس حسابهم } [الأنبياء: 1] { وما يدريك لعل الساعة قريب } [الشورى: 17] وفيه تنبيه على أن قرب الساعة يزداد كل يوم وأنها تكاد تقوم { ليس لها من دون الله } نفس { كاشفة } تكشف عن وقت مجيئها أو تقدر على كشفها ودفعها إذا وقعت، ولا يلزم من قدرة الله على دفعها وجوب وقوع الدفع فإن كل مقدور لا يلزم أن يكون واقعاً. والتاء في { كاشفة } للتأنيث كما مر، أو للمبالغة أي لا أحد يكشف حقيقتها، أو هي مصدر كالعافية، و"من" زائدة والتقدير ليس لها كاشفة دون الله، ويحتمل أن يراد لها في الوجود نفس تكشف عنها من غير الله بل إنما يكشفها من عند الله ومن قبل علمه وإخباره. ثم وبخهم على التعجب من القرآن ومن حديث القيامة وضحكهم من استهزاء وإنكاراً. وفي قوله { ولا تبكون } إلى آخره تنبيه على أن البكاء والخشوع وحضور القلب حق عليهم عند سماع القرآن كما قال { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً } [مريم: 57] والسمود الغفلة وقد يكون مع اللهو. وعن مجاهد: كانوا يمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم غضاباً مبرطمين. وقال: البرطمة الإعراض ثم إنهم كانوا أنصفوا من أنفسهم وقالوا: لا نعجب ولا نضحك ولا نسمد بل نبكي ونخشع فلا جرم قال { فاسجدوا } أي إذا اعترفتم لله بالعبودية فاخضعوا له وأقيموا وظائف العبادة. وقد مر في سورة الحج في قوله { ألقى الشيطان في أمنيته } { الآية: 52] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة في الصلاة ثم سجد فسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس وذكرنا سببه.