القراءات: { ينزفون } من باب الأفعال: عاصم وحمزة وخلف. الباقون: بفتح الزاء { حور عين } بجرهما: يزيد وعلي وحمزة { عرباً } بالسكون: حمزة وخلف ويحيى وحماد وإسماعيل { أئذا أئنا } كما في "الرعد" إلا ابن عامر فإنه تابع عاصماً، وإلا يزيد فإنه تابع قالون { شرب } بضم الشين: أبو جعفر نافع وعاصم وحمزة وسهل. الباقون: بالفتح وكلاهما مصدر { قدرنا } بالتخفيف: ابن كثير { أئنا لمغرمون } بهمزتين: أبو بكر وحماد. الآخرون: بهمزة واحدة مكسورة على الخبر. { بموقع } على الوحدة: حمزة وعلي وخلف. { تكذبون } بالتخفيف: المفضل { فروح } بضم الراء: قتيبة ويعقوب.
الوقوف: { الواقعة } ه لا بناء على أن العامل في الظرف هو ليس ولو كان منصوباً بإضمار "أذكر" أو كان الجواب محذوفاً أي إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت صح الوقف { كاذبة } ه م لئلا يصير ما بعدها صفة { رافعة } ه لا لتعلق الظرف بخافضة أو لكونه بدلاً من الأول { رجاً } ه لا { بساً } ه { منبثاً } ه { ثلاثة } ه ط { ما أصحاب الميمنة } ه ط لتناهي استفهام التعجب { ما أصحاب المشأمة } ه ط { السابقون } ه لا بناء على أن { السابقون } تأكيد والجملة بعده خبر { المقربون } ه ج لاحتمال أن ما بعده خبر مبتدأ محذوف أي هم { جنات النعيم } ه { الأولين } ه لا { الآخرين } ه لا { موضونة } ه لا { متقابلين } ه { مخلدون } ه لا { معين } ه لا { ولا ينزفون } ه لا { يتخيرون } ه لا { يشتهون } ه ط لمن قرأ { وحور عين } بالرفع { المكنون } ه ج { يعملون } ه { تأثيماً } ه لا { سلاماً } ه ط { وما أصحاب اليمين } ه ط { مخضود } ه لا { منضود } ه لا { ممدود } ه لا { مسكوب } ه لا { كثيرة } ه لا { ممنوعة } ه لا { مرفوعة } ه ط { إنشاء } ه لا { أبكاراً } ه لا { أتراباً } ه لا { اليمين } ه ط { الأولين } ه { الآخرين } ه ط { ما أصحاب الشمال } ه ط { وحميم } ه لا { يحموم } ه لا { ولا كريم } ه { مترفين } ه ج { العظيم } ه ج { لمبعوثون } ه لا { الأولون } ه { والآخرين } ه لا { معلوم } ه { المكذبون } ه لا { زقوم } ه لا { البطون } ه ج والوقف أجوز { الحميم } ه ج { الهيم } ه ط { الدين } ه { تصدقون } ه { تمنون } ه ط { الخالقون } ه { بمسبوقين } ه لا { تعلمون } ه { تذكرون } ه { تحرثون } ه ط { الزارعون } ه { تفكهون } ه { لمغرمون } ه لا { محرومون } ه { تشربون } ه { المنزلون } ه { تشكرون } ه { تورون } ه ط { المنشؤن } ه { للمقوين } ه ج { العظيم } ه { النجوم } ه لا { عظيم } ه لا { كريم } ه لا { مكنون } ه { المطهرون } ه ط { العالمين } ه { مدهنون } ه { تكذبون } ه { الحلقوم } ه لا { تنظرون } ه لا { تبصرون } ه { مدينين } ه لا { صادقين } ه { المقربين } ه لا { نعيم } ه { اليمين } ه لا { اليمين } ه لا { الظالين } ه لا { حميم } ه لا { جحيم } ه { اليقين } ه { ألعظيم }ه.
التفسير: { إذا وقعت الواقعة } نظير قولك حدثت الحادثة "وكانت الكائنة" وهي القيامة التي تقع لا محالة. يقال: وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله. واللام في { لوقعتها } للوقت أي لا يكون حين تقع نفس تكذب على الله لأن الإيمان حينئذ بما هو غائب الآن ضروري إلا أنه غير نافع لأنه إيمان اليأس. ويجوز أن يراد ليس لها وقتئذ نفس تكذبها وتقول لها لم تكوني لأن إنكار المحسوس غير معقول. وجوز جار الله أن يكون من قولهم "كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم" إذا شجعته على مباشرته. وقالت له: إنك تطيقه. فيكون المراد أن القيامة واقعة لا تطاق شدة وفظاعة وأن الأنفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور. وقيل: هي مصدر كالعافية فيؤل المعنى إلى الأول. وقال في الكشاف: هو بمعنى التكذيب من قولهم "حمل على قرنه فما كذب" أي فما جبن وما تثبط، وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من طاقته له. والحال من هذا التوجيه أنها إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد { خافضة رافعة } أي هي تخفض أقواماً وترفع آخرين إما لأن الواقعات العظام تكون كذلك كما قال: وما إن طبنا جبن ولكن منايات ودولة آخرينا
وإما لإن للأشقياء الدركات وللسعداء الدرجات وإما لأن زلزلة الساعة تزيل الأشياء عن مقارها فتنثر الكواكب وتسير الجبال في الجو يؤيده قوله { إذا رجت الأرض } أي حركت تحريكاً عنيفاً حتى ينهدم كل بناء عليها { وبست الجبال بساً } أي فتتت حتى تعود كالسويق أو سيقت من بس الغنم إذا ساقها { فكانت } أي صارت غباراً متفرقاً. ثم ذكر أحوال الناس يومئذ قائلاً { وكنتم } لفظ الماضي لتحقق الوقوع { أزواجاً } أي أصنافاً { ثلاثة } ثم فصلها فقال { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } وهو تعجب من شأنهم كقولك "زيد ما زيد" سموا بذلك لأنهم يؤتون صحائفهم بأيمانهم، أو لأنهم أهل المنزلة السنية من قولهم "فلان مني باليمين" إذا وصفته بالرفعة عندك وذلك لتيمنهم بالميامن دون الشمائل وتبركهم بالسانح دون البارح، ولعل اشتقاق اليمين من اليمن والشمال من الشؤم، والسعداء ميامين على أنفسهم والأشقياء مشائيهم عليها. روي أهل الجنة يؤخذ بهم إلى جانب اليمين وأهل النار يؤخذ بهم
في الشمال { والسابقون } عرف الخبر للمبالغة كقوله الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه من التوحيد
والإخلاص والطاعة { هم السابقون } عرف الخبر للمبالغة كقوله "وشعري شعري" يريد والسابقون
من عرف حالهم وبلغك وصفهم، وعلى هذا يحسن الوقف { السابقون } { أولئك المقربون } إلى
مقامات لا يكشف المقال عنها من الجمال والعارفون يقولون لهم إنهم أهل الله، وفي لفظ السبق
إشار إلى ذلك { في جنات النعيم } إخفاء حالهم وبيان محل إجسادهم أو هي الجنة الروحانية
النورانية { ثلة من الأولين } أي جماعة كثيرة من لدن آدم إلى أول زمان نبينا صلى الله عليه وسلم. قال أهل
الاشتقاق: أصل الثلة من الثل وهو الكسر كما أن الأمة من الأم وهو الشج كأنها جماعة
كسرت من الناس وقطعت منهم، ثم اشتق الإمام منه إذ به يحصل الأمة المقتدية به.
{ وقليل من الآخرين } أي من هذه الأمة. قال الزجاج: الذين عاينوا جميع النبيين وصدقوا
بهم أكثر ممن عاين النبي صلى الله عليه وسلم وههنا سؤال وهو أنه كيف قال ههنا { وقليل من الآخرين }
وفيما بعده قال { وثلة من الآخرين } والجواب أن الثلتين في آية أصحاب اليمين هما جميعاً
من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. جواب آخر وهو أن يقال: الخطاب في قوله { وكنتم أزواجاً } لأمة
محمد صلى الله عليه وسلم والأولون منهم هم الصحابة والتابعون كقوله { { والسابقون الأولون } [التوبة: 1] والآخرون منهم هم الذين يلونهم إلى يوم الدين، ولا ريب أن السابقين يكونون في الأولين
أكثر منهم في الآخرين. وأما أصحاب اليمين فيوجدون في كلا القبيلين كثيراً وعلى هذا
يكون الترتيب المذكور ساقطاً ولا نسخ لإمكان اجتماع مضموني الخبرين في الواقع. قال
الزجاج وهو قول مجاهد والضحاك يعني جماعة ممن تبع النبي صلى الله عليه وسلم وعاينه وجماعة ممن
آمن به وكان بعده. وروى الواحدي في تفسيره بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" " جميع الثلتين من أمتي " " وأجاب بعضهم بأنه لما نزلت الآية الأولى شق على المسلمين فما
زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى نزلت { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } وزيفت هذه
الرواية بظهور ورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين، وبأن النسخ لا
يتضح بل لا يصح في الأخبار، وبأن الآية الأولى لا توجب الحزن ولكنها تقتضي الفرح
من حيث إنه إذا كان السابقون في هذه الأمة موجودين وإن كانوا قليلين وقد صح أنه لا نبي
بعد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم أن يكون بعض الأمة مع محمد صلى الله عليه وسلم سابقين فيكونون في درجة الأنبياء
والرسل الماضين، ولعل في قوله "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" إشارة إلى هذا.
وأقول: عندي أن الجواب الصحيح هو أن السابقين في الأمم الماضية يجب أن يكونوا
أكثر لأن فيض الله سبحانه المقدر للنوع الإنساني إذا وزع على أشخاص أقل يكون نصيب
كل منهم أوفر مما لو قسم على أشخاص أكثر، ولعلنا قد كتبنا في هذا المعنى رسالة
وعسى أن يكون هذا سبباً لخاتمة نبينا صلى الله عليه وسلم أما أصحاب اليمين وهم أهل الجنة كما قلنا
فإنهم كثيرون من هذه الأمة لأنهم كل من آمن بالله ورسوله وعمل صالحاً هذا ما سنح في الوقت
والله تعالى أعلم بمراده.
ثم وصف حال المقربين بقوله { على سرر موضونة } قال المفسرون: أي منسوجة
بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت وقد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع
أي استقروا على السرر { متكئين } وقوله { ولدان مخلدون } أي غلمان لا يهرمون ولا يغيرون
قال الفراء: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط إنه لمخلد. قال: ويقال مخلدون
مقرطون من الخلدة وهو القرط. وقيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا
عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها. قال جار الله: روي هذا عن علي رضي الله عنه.
والحسن قال الحديث "أولاد الكفار خدام أهل الجنة" " والأكواب الأقداح المستديرة الأفواه
ولا آذان لها ولا عري، والأباريق ذوات الخراطيم الواحد إبريق وهو الذي يبرق لونه من
صفائه. والباقي مفسر في "الصافات" إلى قوله { مما يتخيرون } أي يختارون تخيرت الشيء
أخذت خيره، قال ابن عباس: يخطر على قلبه الطير فيصير ممثلاً بين يديه على ما اشتهى.
ومن قرأ { وحور عين } بالرفع فمعناه ولهم أو عندهم حور. ومن خفضهما فعلى العطف
المعنوي أي يكرمون أو يتنعمون بأكواب وبكذا وكذا. والكاف في قوله { كأمثال } للمبالغة في التشبيه. قوله { جزاء } مفعول له أي يفعل بهم ذلك لأجل الجزاء. قوله { ولا تأثيماً }
أي لا يقول بعضهم لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم. وانتصب { سلاماً } على
البدل من { قليلاً } أو على أنه مفعول به أي لا يسمعون يها إلا أن يقولوا سلاماً عقيبه
سلام. ثم عجب من شأن أصحاب اليمين. والسدر شجر النبق والمخضود الذي لا شوك له
كأنه خضد شوكه. وقال مجاهد: هو من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب كأنه من كثرة
ثمره ثنى أغصانه والطلح شجر الموز أو أم غيلان كثير النور طيب الرائحة وعن السدي:
شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل. وفي الكشاف أن علياً عليه السلام
أنكره وقال: ما شأن الطلح إنما هو طلع وقرأ قوله { لها طلع نضيد } فقيل: أو نحولها؟
قال: آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول قال: وعن ابن عباس نحوه. قلت: وفي هذه
الرواية نظر لا يخفى. والمنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره فليست له ساق
بارزة { وظل ممدود } أي ممتد منبسط كظلي الطلوع والغروب لا يتقلص. ويحتمل أن يراد
أنه دائم باقٍ لا يزول ولا تنسخه الشمس، والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع إنه
ممدود. والمسكوب المصبوب يسكب لهم أين شاؤا وكيف شاؤا، أو يسكبه الله في مجاريه
من غير انقطاع، أو أراد أنه يجري على الأرض في خير أخدود { لا مقطوعة } في بعض
الأوقات { ولا ممنوعة } عن طالبيها بنحو حظيرة أو لبذل ثمن كما هو شأن البساتين
والفواكه في الدنيا { مرفوعة } أي نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة قاله علي
رضي الله عنه. وقيل: هي النساء المرفوعة على الأرائك. والمرأة يكنى عنها بالفراش يدل
على هذا قوله { إنا أنشأناهن } وعلى التفسير الأول جعل ذكر الفرش وهي المضاجع دليلاً
عليهن. ومعنى الإنشاء أنه ابتدأ خلقهن من غير ولادة أو أعاد خلقهن إنشاء. روى الضحاك عن ابن عباس أنهن نساؤنا العجز الشمط يخلقهن الله بعد الكبر والهرم { أبكاراً عرباً } جمع
عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل { أتراباً } مستويات في السن بنات ثلاث
وثلاثين كأزواجهن كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً من غير وجع. وقوله { لأصحاب
اليمين } متعلق بأنشأنا وجعلنا. ثم عجب من أصحاب الشمال. ومعنى { في سموم } في
حر نار ينفذ في المسام. والحميم الماء الكثير الحرارة. واليحموم الدخان الأسود "يفعول"
من الأحم وهو الأسود. ثم نعت الظل بأنه حار ضار لا منفعة فيه ولا روح لمن يأوي إليه.
قال ابن عباس: لا بارد المدخل ولا كريم المنظر. قال الفراء: العرب تجعل الكريم تابعاً
لكل شيء ينوي به المدح في الإثبات أو الذم في النفي تقول: هو سمين كريم وما هذه
الدار بواسعة ولا بكريمة. ثم ذكر أعمالهم الموجبة لهذا العقاب فقال { إنهم كانوا قبل
ذلك } أي في الدنيا { مترفين } متنعمين متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص { وكانوا
يصرون على الحنث } وهو الذنب الكبير ووصفه بالعظم مبالغة على مبالغة تقول: بلغ الغلام
الخنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم وحنث في يمينه خلاف بر فيها. وخص جمع من
المفسرين فقالوا.أعني به الشرك. وعن الشعبي: هو اليمين الغموس وذلك أنهم كانوا
يحلفون أنهم لا يبعثون يدل عليه ما بعده وقد مر مثله في "الصافات". واعلم أنه سبحانه ذكر
في تفصيل الأزواج الثلاثة نسقاً عجيباً وأسلوباً غريباً. وذلك أنه لم يورد في التفصيل إلا
ذكر صنفين. أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. ثم بعدما عجب منهما بين حال الثلاثة
السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فأقول وبالله التوفيق: هذا كلام موجز معجز
فيه لطائف خلت التفاسير عنها منها: أنه طوى ذكر السابقين في أصحاب الميمنة لأن كلاً
من السابقين ومن أصحاب اليمين أصحاب اليمن والبركة كما أن أصحاب الشمال أهل
الشؤم والنكد، وكأن في هذا الطي إشارة إلى الحديث القدسي "أوليائي تحت قبابي لا
يعرفهم غيري" ومنها أن ذكر السابقين وقع في الوسط باعتبار وخير الأمور أوسطها، وفي
الأول باعتبار والأشراف بالتقديم أولى، وفي الآخر باعتبار ليكون إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم " "نحن
الآخرون السابقون " ومنها أن مفهوم السابق متعلق بمسبوق، فما لم يعرف ذات المسبوق
لم يحسن ذكر السابق من حيث هو سابق. فهذا ما سنح للخاطر وسمح به والله تعالى أعلم
بمراده.
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقرر لهم ما شكوا فيه فقال { قل إن الأولين والآخرين لمجموعون
إلى ميقات } أي ينتهي أمر جميعهم إلى وقت { يوم معلوم } عند الله وفيه رجوع إلى أول
السورة. ولما كرر ذكر المعاد بعبارات شتى ذكر طرفاً من حال المكذبين المعاصرين ومن
ضاهاهم فقال { ثم إنكم أيها الضالون } عن الهدى { المكذبون } بالبعث { لآكلون } أي
في السموم المذكور { من شجر } هو للابتداء { من زقوم } هو للبيان { فمالئون منها
البطون } آنت الضمير بتأويل الشجرة قال جار الله: عطف الشاربين على الشاربين
لاختلافهما اعتباراً وذلك أن شرب الماء المتناهي الحرارة عجيب وشربه كشرب الهيم
أعجب. والهيم الإبل التي بها الهيام وإذا شربت فلا تروى واحدها أهيم والمؤنث هيماء
وزنه "فعل" كبيض. وجوز أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك
كسحاب وسحب. ثم خفف وفعل به ما فعل بنحو جمع أبيض والمعنى أنه يسلط عليهم
الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم. ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب
الحمم كالإبل الهيم { نحن خلقناكم فلولا تصدقون } بالبعث بعد الخلق فإن من قدر على
البدء كان على الإعادة أقدر. ثم برهن أنه لا خالق إلا هو فقال { أفرأيتم ما تمنون }
أي تقذفونه في الأرحام. يقال: أمنى النطفة ومناها وقد مر في قوله { { من نطفة إذا تمنى }
[النحم: 46] { أءنتم تخلقونه } تقدّرونه وتصورونه. ووجه الاستدلال أن المني إنما
يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في جميع الأعضاء ولهذا تشترك كل
الأعضاء في لذة الوقاع ويجب اغتسال كلها لحصول الانحلال عنها جميعاً. فالذي قدر
على جمع تلك الأغذية في بدن الإنسان ثم على جمع تلك الأجزاء الطلية في أوعيتها ثم
على تمكينها في الرحم إلى أن تتكون إنساناً كاملاً يقدر على جمعها بعد تفريقها بالموت
المقدر بينهم بحيث لا يفوته شيء منها وإلى هذا أشار بقوله { وما نحن بمسبوقين على أن
نبدل } أي نحن قادرون على ذلك لا يغلبنا عليه أحد. يقال: سبقته على الشيء إذا أعجزته
عنه وغلبته عليه. والأمثال جمع المثل أي على أن نبدل مكانكم أشباهكم من الخلق و
{ فيما لا تعلمون } أي في خلق ما لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يريد بيان قدرته على
إنشائنا في جملة خلق تماثلنا أو خلق لا تماثلنا. وجوز جار الله أن يكون جمع مثل بفتحتين
والمعنى إنا قادرون على تغيير صفاتكم التي أنتم عليها وإنشاء صفات لا تعلمونها. ثم
ذكرهم النشأة الأولى ليكون تذكيراً بعد تذكير فقال { ولقد علمتم } الآية. ثم دل على كمال
عنايته ورحمته ببريته مع دليل آخر على قدرته قائلاً { أفرأيتم ما تحرثون } من الطعام أي
تبذرون حبه { أءنتم تزرعونه } أي تجعلونه بحيث يكون نباتاً كاملاً يستحق اسم الزرع.
وفي الكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يقولن أحد زرعت وليقل حرثت " والحطام ما تحطم
وتكسر من الحشيش اليابس. وقوله { فظلتم } أصله فظللتم حذفت إحدى اللامين
للتخفيف وهو مما جاء مستعملاً غير مقس عليه. ومعنى { تفكهون } تعجبون كأنه تكلف
الفكاهة. وعن الحسن: تندمون على الإنفاق عليه التعب فيه أو على المعاصي التي تكون
سبباً لذلك. من قرأ { أنا } بالخبر فواضح ويحسن تقدير القول أو لا بد منه، ومن قرأ
بالاستفهام فللتعجب ولا بد من تقدير القول أيضاً. ومعنى { لمغرمون } لمهلكون من
الغرام الهلاك لهلاك الرزق، أو من الغرامة أي لملزمون غرامة ما أنفقنا { بل نحن } قوم
{ محرومون } لا حظ لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا ما جرى ورفضوا العجب من
حالهم، ثم أسندوا ذلك إلى ما كتب عليهم في الأزل من الإدبار وسوء القضاء نعوذ الله
منهما. ثم ذكر دليلاً آخر مع كونه نعمة أخرى وهو إنزال الماء من المزن وهو السحاب
الأبيض خاصة. والأجاج الماء الملح اكتفى باللام الأولى في جواب "لو" عن إشاعة الثانية
وهي ثابتة في المعنى لأن "لو" شرطية غير واضحة ليس إلا أن الثاني امتنع لامتناع الأول
وهذا أمر وهمي فاحتيج في الربط إلى اللام التوكيدي. ويمكن أن يقال: إن المطعوم مقدم
على أمر المشروب والوعيد بفقده أشد وأصعب فلهذا خصت آية المطعوم باللام المفيدة
للتأكيد. وإنما ختم الآية بقوله { فلولا تشكرون } لأنه وصف الماء بقوله { الذي تشربون }
ولم يصف المطعوم بالأكل أو لأنه قال { أءنتم أنزلتموه من المزن } وهذا لا عمل للآدمي
فيه أصلاً بخلاف الحرث أو لأن الشرب من تمام الأكل فيعود الشكر إلى النعمتين جميعاً ثم
عد نعمة أخرى من قبيل ما مر. ومعنى { تورون } تقدحونها وتستخرجونها من الشجر وقد
سبق ذكرها في آخر "يس".
وأعلم أنه سبحانه بدأ في هذه الدلائل بذكر خلق الإنسان لأن النعمة فيه سابقة على
جميع النعم. ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معايشهم وهو الحب، ثم أتبعه الماء
الذي به يتم العجين، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز، وذكر عقيب كل واحد ما يأتي
عليه ويفسده فقال في الأولى { نحن قدرنا بينكم الموت } وفي الثانية { لو نشاء لجعلناه
حطاماً } وفي الثالثة { لو نشاء جعلناه أجاجاً } ولم يقل في الرابعة ما يفسدها بل قال { نحن
جعلناها تذكرة } تتعظون بها ولا تنسون نار جهنم كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ناركم هذه
التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءاً من جهنم " { ومتاعاً } وسبب تمتع ومنفعة
{ للمقوين } للذين ينزلون القواء وهي القفر أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام
في السفر من أقوى الرجل إذا لم يأكل شيئاً من أيام. وفي نسق هذه الآيات بشارة للمؤمنين
وذلك أنه سبحانه بدأ بالوعيد الشديد وهو تغيير ذات الإنسان بالكلية في قوله { وما نحن
بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم } ثم ترك ذلك المقام إلى أسهل منه وهو تغير قوته ذاتاً
فقال { لو نشاء لجعلناه حطاماً } ثم عقبه بأسهل وهو تغيير مشروبه نعتاً لا ذاتاً ولهذا حذف
اللام في قوله { لو نشاء جعلناه أجاجاً } ويحتمل عندي أن يكون سبب حذف اللام هو كون
"لو" بمعنى "أن" وذلك أن الماء باقٍ ههنا فيكون التعليق حقيقة بخلاف الزرع فإنه بعد أن
حصد صار التعليق المذكور وهمياً فافهم. ثم ختم بتذكير النار وفيه وعد من وجه ووعيد
من وجه. أما الأول فلأنه لم يبين ما يفسدها كما قلنا يدل على أن الختم وقع على الرأفة
والرحمة. وأما الثاني فلأن عدم ذكر مفسدها يدل على بقائها في الآخرة. وفي قوله
{ تذكرة } إشارة إلى ما قلنا. ثم أمر بإحداث التسبيح بذكره أو بذكر اسمه العظيم تنزيهاً له
عما يقول الكافرون به وبنعمته وبقدرته على البعث، ثم عظم شأن القرآن بقوله { فلا
أقسم } أي فأقسم والعرب تزيد لا قبل فعل أقسم كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه فيفيد
التأكيد. ومواقع النجوم مساقطعها ومغاربها ولا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة ولهذا
قال سبحانه { والمستغفرين بالأسحار } [آل عمران: 17] وعن سفيان الثوري: إن لله تعالى
ريحاً تهب وقت الأسحار وتحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار. وقوله { وأنه لقسم
لو تعلمون عظيم } اعتراض فيه اعتراض. ومواقعها منازلها ومسايرها في أبراجها أو هي
أوقات نزول نجوم القرآن الكريم الحسن المرضي من بين جنس الكتب. أو كرمه نفعه
للمكلفين. أو هو كرامته على الله عز وجل { في كتاب مكنون } مستوراً على من أراد الله
تعالى اطلاعه على أسراره من ملائكته المقربين وهو اللوح { لا يمسه } إن كان الضمير
للكتاب فالمعنى أنه لا يصل إلى ما فيه { إلا } عبيده { المطهرون } من الأدناس الجسمية
وهم الكروبيون، وإن كان للقرآن فالمراد أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة
الباطنة والظاهرة، فلا يمسه كافر ولا جنب ولا محدث. ومن الناس من حرم قراءة القرآن
عند الحدث الأصغر أيضاً. وعن ابن عباس في رواية وهو مذهب الإمامية إباحة قراءته في
الجناية إلا في أربع سور فيها سجدة التلاوة لأن سجدتها واجبة عندهم. ثم وبخ المتهاونين
بشأن القرآن فقال { أفبهذا الحديث } أي بالقرآن أو بهذا الكلام الدال على حقيقة القرآن
{ أنتم مدهنون } متهاونون من أدهن في الأمر إذا لان جانبه ولا يتصلب فيه { وتجعلون
رزقكم } أي شكر رزقكم { أنكم تكذبون } بالبعث وبما دل عليه القرآن، ومن أظلم ممن
وضع التكذيب موضع الشكر كأنه عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو ذكر تعداد النعم من قوله
{ أفرأيتم ما تحرثون } إلى قوله { للمقوين } وقيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم الأمطار إليها
يعني وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله عز وجل
وتنسبونه إلى النجوم. ثم زاد في توبيخ الإنسان على جحد أفعال الله وآياته. وترتيب الآية
بالنظر إلى أصل المعنى هو أن يقال: فلولا ترجعون الأرواح إلى الأبدان إذا بلغت الحلقوم
إن كنتم غير مدينين فزاد في الكلام توكيدات منها تكرير { فلولا } التحضيضية لطول الفصل
كما كرر قوله { فلا تحسبنهم } بعد قوله { { لا تحسبن الذين يفرحون } [آل عمران: 188]
ومنها تقديم الظرف وهو قوله { إذا بلغت الحلقوم } أي النفس. وإنما أضمرت للعلم بها
كقوله { { ما ترك على ظهرها } [فاطر: 45] وإنما قدم الظرف للعناية فإنه لا وقت لكون
الإنسان أحوج إلى التصرف والتدبير منه، ولأنه أراد أن يرتب الاعتراضات عليه. ومنها
زيادة الجمل المعترضة وهي قوله { وأنتم } يا أهل الميت { حينئذ تنظرون } إليه { ونحن
أقرب إليه منكم } بالقدرة والعلم أو بملائكة الموت { ولكن لا تبصرون } لا بالبصر ولا
بالبصيرة. ومعنى مدينين مربوبين مملوكين مقهورين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم.
ومنها قوله { إن كنتم صادقين } فإنه شرط زائد على شرط أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير
مدينين فارجعوا أرواحكم إلى أبدانكم متمنعين عن الموت، والحلقوم الحلق وهو مجرى
النفس، والواو والميم زائدان، ووزنه "فعلوم" ويمكن أن يقال: إن فعل { فلولا } الأول
محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى تكذبون مدة حياتكم جاعلين التكذيب رزقكم
ومعاشكم. فلولا تكذبون وقت الموت وأنتم في ذلك الوقت تعلمون الأحوال
وتشاهدونها؟ ويحتمل أن يكون معنى مدينين مقيمين من مدن إذا أقام، والمعنى إن كنتم
على ما تزعمون من أنكم لا تبقون في العذاب إلا أياماً معدودة فلم لا ترجعون أنفسكم إلى
الدنيا إن لم تكن الآخرة دار الإقامة. ويجوز أن يكون من الدين بمعنى الجزاء والمعنى يؤول
إلى الأول لأن الجزاء نوع من القهر والتسخير. ويحتمل عندي أن يكون الضمير في
{ ترجعونها } عائداً إلى ملائكة الموت بدليل قوله { ونحن أقرب } والمعنى فلولا تردون عن
ميتكم ملائكة الموت إن كنتم غير مقهورين تحت قدرتنا وإرادتنا.
وحين بين أن لا قدرة لهم على رجع الحياة والنفس إلى البدن وأنهم مجزيون في دار
الإقامة فصل حال المكلف بعد الموت قائلاً { فأما إن كان } المتوفى { من المقربين } أي
من السابقين من الأزواج الثلاثة { فروح } أي فله استراحة وهذا أمر يعم الروح والبدن
{ وريحان } أي رزق وهذا للبدن { وجنة نعيم } وهذا للروح يتنعم بلقاء المليك المقتدر.
ويروى أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه { وأما إن كان
من أصحاب اليمين فسلام لك } أيها النبي { من أصحاب اليمين } أي أنت سالم من
شفاعتهم. هذا قول كثير من المفسرين. وقال جار الله: فسلام لك يا صاحب اليمين من
إخوانك أصحاب اليمين كقوله { وتحيتهم فيها سلام } [يونس: 10] { إن هذا } القرآن أو
الذي أنزل في هذه السورة { لهو حق اليقين } أي الحق الثابت من اليقين وهو علم يحصل
به ثلج الصدر ويسمى ببرد اليقين. وقد يسمى العلم الحاصل بالبرهان فالإضافة بمعنى
"من" كقولك "خاتم فضة" وهذا في الحقيقة لا يفيد سوى التأكيد كقولك "حق الحق".
"وصواب الصواب" أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه. أو المراد هذا هو اليقين حقاً لا
اليقين الذي يظن أنه يقين ولا يكون كذلك في نفس الأمر. هذا ما قاله أكثر المفسرين.
وقيل: الإضافة كما في قولنا "جانب الغربي" و "مسجد الجامع" أي حق الأمر اليقين. ويحتمل
أن تكون الإضافة كما في قولنا "حق النبي أن يصلي عليه" و "حق المال أن تؤدى زكاته"
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم
وأموالهم إلا بحقها " أي إلا بحق هذه الكلمة. ومن حقها أداء الزكاة والصلاة فكذلك
حق اليقين الاعتراف بما قال الله سبحانه في شأن الأزواج الثلاثة. وعلى هذا يحتمل أن
يكون اليقين بمعنى الموت كقوله { { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [الحجر: 92] وقال
أهل اليقين: للعلم ثلاث مراتب: أولها علم اليقين وهو مرتبة البرهان، وثانيها عين اليقين
وهو أن يرى المعلوم عياناً فليس الخبر كالمعاينة، وثالثها حق اليقين وهو أن يصير العالم
والمعلوم والعلم واحداً. ولعله لا يعرف حق هذه المرتبة إلا من وصل إليها كما أن طعم
العسل لا يعرفه إلأ من ذاقه بشرط أن لا يكون مزاجه ومذاقه فاسدين. روى جمع من
المفسرين أن عثمان بن عفان دخل على ابن مسعود في مرضه الذي مات فيه فقال له: ما
تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: ما تشتهي؟ قال:رحمة ربي. قال: أفلا ندعو الطبيب؟ قال:
الطبيب أمرضني. قال: افلا نأمر بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: تدفعه إلى
بناتك. قال: لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول "من قرأ سورة الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبداً" .