التفاسير

< >
عرض

أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢٢
وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
١٢٣
وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
١٢٤
فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢٥
وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
١٢٦
لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢٧
وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ
١٢٨
وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٢٩
يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
١٣٠
-الأنعام

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { ميتاً } بالتشديد: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب { رسالته } بالنصب والتوحيد: ابن كثير وحفص والمفضل. الباقون: { رسالاته } على الجمع وبالكسر في موضع النصب { ضيقا } وبابه بالتخفيف: ابن كثير { حرجاً } بكسر الراء: أبو جعفر ونافع وسهل وأبو بكر وحماد. الباقون: بالفتح { يصعد } من الصعود: ابن كثير { يصاعد } من التصاعد بإدغام التاء في الصاد: أبو بكر وحماد. الباقون: { يصعد } بالإدغام من التصعيد. { يحشرهم } بياء الغيبة: حفص. الآخرون بالنون.
الوقوف: { بخارج منها } ط { يعملون } ه { فيها } ط { وما يشعرون } ه { رسل الله } ط { رسالاته } ط { يمكرون } ه { للإسلام } ج لابتداء شرط آخر مع العطف. { في السماء } ج { لا يؤمنون } ه { مستقيماً } ط { يذكرون } ه { يعملون } ه { جميعاً } ج للحذف أي يحشرهم ويقول لهم مع اتحاد المقصود { من الإنس } الأول ج لتبدل القائل مع اتفاق الجملتين { أجلت لنا } ط قال النار يغلظ الصوت على النار إشارة إلى أن النار مبتدأ بعد القول وليست فاعله { يشاء الله } ط { عليم } ه { يكسبون } ه { يومكم هذا } ط { كافرين } ه.
التفسير: إنه سبحانه بعد أن ذكر أن المشركين يجادلون المؤمنين ضرب مثلاً للفريقين فبيّن أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتاً فجعله الله حياً وأعطاه نوراً يهتدي به في مصالحه، وأن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيراً على الدوام، وهل هما خاصان أو عامان فيه قولان: الأول قال ابن عباس: يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل؛ وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وآله بفرث وحمزة ولم يؤمن بعد، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول: يا أبا يعلي أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟ فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فنزلت الآية. وعن مقاتل: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وأبي جهل؛ وذلك أنه قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه. والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت، وعن عكرمة أنها في عمار بن ياسر وأبي جهل، وعن الضحاك هي في عمر بن الخطاب وأبي جهل. والقول الثاني أنها عامة في كل مؤمن وكافر لحصول المعنى في الكل. وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة والوقفة فهو كالموت الذي يوجب السكون. وأيضاً الميت لا يهتدي إلى شيء وكذلك الجاهل، والهدى علم وبصيرة وهما يوجبان الفوز بالمطالب كالحياة والنور، قال بعض العلماء: قوله: { أو من كان ميتاً } إشارة إلى أول مراتب النفس الإنسانية وهي الاستعداد المحض المسماة بالعقل الهيولاني عند الحكيم. وقوله: { فأحييناه } إشارة إلى ثانية مراتبها المسماة بالعقل بالملكة وهي أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية. وقوله { وجعلنا له نوراً } إشارة إلى ثالثة المراتب وهي التي قد حصلت لها المعقولات المكتسبة ولكنها لا تكون حاضرة بالفعل بل تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها قدر عليه ولهذا يسمى عقلاً بالفعل أي الفعل القريب، وقوله: { يمشي به في الناس } إشارة إلى رابعة المراتب وهي النهاية المسماة بالعقل المستفاد، وقد حصلت المعارف القدسية والجلايا الروحانية للنفس حاضرة بالفعل وصار جوهر الروح مشرقاً بتلك المعارف مستضيئاً بها. ويمكن أن يقال: الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح، والنور عبارة عن اتصال نور الوحي والتنزيل فإنه لا بد في الإبصار من أمرين: سلامة الحاسة والنور الخارجي من الشمس والسراج، فكذلك البصيرة لا بد لها في الإدراك من سلامة حاسة العقل ومن طلوع نور الوحي فلهذا قال جمع من المفسرين: المراد بهذا النور القرآن، ومنهم من قال: نور الدين أو نور الحكمة. والأقوال متقاربة، وأما مثل الكافر فهو { كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } وفيه أن ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت كالصفة اللازمة له لا تكاد تزول عنه فيبقى متحيراً خائفاً فزعاً نعوذ بالله من هذه الحالة. ومعنى المثل ههنا الصفة الغريبة أي كمن صفته هذه والمراد كمن هو في الظلمات. ثم قال: { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } والمزين هو الله بالتحقيق عند الأشاعرة. والشيطان بالحقيقة أو الله مجازاً عند المعتزلة، والإضافة إلى الله بالحقيقة أو المجاز أولى بدليل قوله: { وكذلك جعلنا } أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا، أو وكما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا { في كل قرية أكابر } وهي جمع الأكبر و { مجرميها } مضاف إليه والظرف مفعول ثانٍ قدم ليعود الضمير إلى القرية. وقيل: التقدير جعلنا مجرميها أكابر. قال الزجاج: إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم، ولأن كثرة المال وقوّة الجاه تحمل الناس على المبالغة في حفظهما وذلك لا يتم إلا باستعمال بعض الأخلاق الذميمة من المكر والغدر والكذب والغيبة والنميمة والشح والأيمان الكاذبة وكفى بهذه الأمور دليلاً على خساسة المال والجاه. واللام في { ليمكروا } على أصله عند الأشاعرة، واستدلوا به على أن الشر بإرادة الله تعالى. وحمله المعتزلة على لام العاقبة مجازاً حملوا الجعل في قوله: { وكذلك جعلنا } على التخلية والخذلان. ثم قال في معرض التهديد { وما يمكرون إلا بأنفسهم } لأن وباله يعود عليهم { وما يشعرون } وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتقديم موعد بالنصرة، ثم إنه سبحانه حكى قول أبي جهل وأضرابه "زاحمنا بني عبد مناف في الشرف إلى آخره" وقول الوليد بن المغيرة "لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً" فقال: { وإذا جاءتهم آية } أي معجزة قاهرة أو وحي. { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } قال الضحاك: أراد كل واحد منهم ذلك كما في الآية الأخرى.
{ { بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة } [المدثر: 52] ويشبه أن يكون هذا الكلام الخبيث هو المراد بالمكر المذكور في الآية المتقدمة، وللمفسرين في مقترحهم قولان: أحدهما - وهو الأشهر - أنهم أرادوا أن تحصل لهم النبوُّة والرسالة كما حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ومخدومين لا خادمين. وثانيهما عن ابن عباس والحسن أن المعنى وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وآله { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [الإسراء: 90] إلى قوله: { حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [الإسراء: 93] من الله تعالى إلى أبي جهل وفلان وفلان فالقوم ما طلبوا النبوّة وإنما طلبوا آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين تدل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. فقوله سبحانه في جوابهم على سبيل الاستئناف { الله أعلم حيث يجعل رسالته } على القول الأول ظاهر، وأما على القول الثاني فوجهه أن القوم إذا اقترحوا تلك الآيات فلو أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق التماسهم لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة. قال بعض العقلاء: الأرواح متساوية في تمام الماهية فحصول النبوّة والرسالة لبعضها دون بعض تشريف من الله تعالى وإحسان وتفضل. وقال آخرون: بل النفوس مختلفة بجواهرها وماهياتها فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة، وبعضها خبيثة كدرة محبة للجسمانيات، فالنفس ما لم تكن من القسم الأول لم تصلح لقبول الوحي والرسالة. ومراتب الرسل مختلفة فمنهم ذو معجزة واحدة وذو معجزتين أو أكثر، ومنهم من له تبع قليل ومنهم من آمن به جم غفير، ومنهم من كان الرفق غالباً عليه ومنهم من كان مدار أمره على التغليظ والتشديد. وفي الآية تعريض بأن حصول النبوّة والرسالة لا بد فيه من قلب سليم، والمقترحون فيهم من المكر والحسد ما فيهم فكيف يعقل حصول الرسالة لهم وإنما يحصل لهم ما يناسب أخلاقهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى: { سيصيب الذين أجرموا صغار } ذل وهوان { عند الله } أي في الآخرة أو في الدنيا بحكم الله وإيجابه من الأسر والقتل. أو المراد من عند الله فحذف "من". أو قوله: { عند الله } مستأنف أي معدّ لهم ذلك، واعلم أن كمال العقاب لا بد فيه من أمرين: الضرر، والإهانة. ثم إن القوم لما تردوا عن طاعة محمد صلى الله عليه وآله طلباً للعز والكرامة فالله تعالى بيّن أنه يقابلهم بضد مقصودهم، فأول ما يوصل إليهم الذل والهوان وبعده عذاب شديد جميع ذلك بسبب مكرهم ونكرهم { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } يقال: شرح فلان أمره، إذا أظهره وأوضحه ومنه شرح المسأله إذا بينها. وقال الليث: شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول ذلك الأثر. ولا شك أن توسيع الصدر غير ممكن على سبيل الحقيقة ولكن ههنا معنى وهو أنه إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إلي وقوي طلبه ورغبته في حصوله وظهر في القلب استعداد شديد لتحصيله فسميت هذه الحالة سعة الصدر، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظن يكون ذلك العمل مشتملاً على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وحصل في النفس نبوّة عن قبوله فيقال لهذه الحال ضيق الصدر، لأن المكان إذا كان ضيقاً لم يتمكن الداخل من الدخول فيه، وإذا كان واسعاً قدر على الدخول فيه. وأكثر استعمال شرح الصدر في جانب الحق والإسلام وقد ورد في الكفر أيضاً قال تعالى: { ولكن من شرح بالكفر صدراً } [النحل: 106] قال المفسرون: "لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: كيف يشرح الله صدره؟ فقال صلى الله عليه وآله: يقذف الله تعالى فيه نوراً حتى ينفسخ وينشرح، فقيل له: وهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله " وهذا البيان مناسب لما ذكرنا فإن الإنابة إلى دار الخلود لا بد أن تترتب على اعتقاد أن عمل الآخرة زائد النفع والخير، والتجافي عن دار الغرور إنما ينبعث عن اعتقاد كون عمل الدنيا زائد الضر والضير، والاستعداد للموت قبل نزوله نتيجة مجموع الأمرين الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. أما قوله: { حرجاً } فمن قرأ بكسر الراء فعلى النعت، ومن قرأ بالفتح فعلى الوصف بالمصدر للمبالغة. قال الزجاج: الحرج في اللغة أضيق الضيق. وقيل: الحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية. حكى الواحدي بإسناده عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال: هل ههنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم. قال: ما الحرجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الأشجار المشتبك الذي لا طريق فيه. فقال: كذلك قلب الكافر. ومعنى: { يصعد في السماء } كأنما يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد عن الاستطاعة فكأن الكافر في نفوره من الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يتكلف الصعود إلى السماء. وقيل: المراد أن قلبه يتباعد عن الإسلام وقبوله تباعد ما بين الأرض والسماء. { كذلك يجعل } أي كما جعل ضيق الصدر في قلوبهم كذلك يجعل الرجس عليهم. وقال الزجاج: أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس. عن ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم. وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه. وعن عطاء: الرجس هو العذاب. وقال الزجاج: هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أن الهداية والضلال من الله تعالى؛ بيانه أن العبد قادرعلى الإيمان وعلى الكفر وقدرته بالنسبة إلى الأمرين سواء ولا يترجح إلا لداعية، ولا معنى للداعية إلى علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملاً على مصلحة زائدة، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل، ولا بد أن تنتهي تلك الداعية إلى تخليق الله وتكوينه دفعاً للتسلسل فإذا خلق الله تعالى في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة - وهو المراد بشرح الصدر - مال القلب إليه، وإذا خلق في قلبه اعتقاد أن الإيمان بمحمد سبب للمفسدة الدينية والدنيوية نبا طبعه عنه وبقي على الكفر. فحاصل الآية أن من أراد الله منه الإيمان قوى دواعيه إليه، ومن أراد منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان. وقالت المعتزلة: إنه لا دلالة في الآية على قولكم لأنه ليس فيها أكثر من أنه إذا أراد أن يهدي إنساناً أو يضله فعل به كيت وكيت، وليس فيها أنه أراد ذلك أو لم يرده نظيره قوله: { لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا } [الأنبياء: 17] فبيّن أنه كيف يفعل اللهو لو أراده، ثمّ إنه لم يرد ذلك بالاتفاق وأيضاً لم قلتم إنه أراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان بل المراد من يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه، وتفسير الشرح هو أنه يفعل به ألطافاً تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه. ومن يرد أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج لا في كل الأوقات بل في بعضها كيلا يمكن دفعه وخصوصاً عند ظهور نصرة المؤمنين وبدوّ الذل والصغار في الكافرين. وأيضاً لم لا يجوز أن يقال: المعنى فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لما رأى من فوائد الإيمان ونتائجه من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فتزداد رغبته فيه، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره للحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنّة والدخول في النار؟ وقال في الكشاف: { فمن يرد الله أن يهديه } أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف { يشرح صدره } للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه { ومن يرد أن يضله } أي يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له { يجعل صدره ضيقاً حرجاً } يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان. وأجيب عن قولهم "ليس في الآية أنه أراد ذلك أو لم يرده" بأن قوله في آخر الآية: { كذلك يجعل الله الرجس } تصريح بأنه فعل به ذلك الإضلال لأن الكاف للتشبيه والتقدير: كما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره كذلك يجعل. وفيه أيضاً دلالة على أن المراد من قوله: { ومن يرد أن يضله } هو أنه يضله عن الدين، وتفسير الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر بعيد لأن أكثر من يعتريه الحزن في الدنيا هو المؤمن ولهذا قال صلى الله عليه وعلى آله: "خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل" ولو خص ذلك بالآخرة كان من إيضاح الواضحات. فمن المعلوم لكل أحد أن من يضله الله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت. والجواب على قول صاحب الكشاف مما مر من أن فعل الإيمان يتوقف على أن تحصل في القلب داعية جازمة إلى الإيمان، وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذا القول في جانب الكفر، فإن سمى الداعيتين أحد باللطف والخذلان فلا مشاحة في الأسامي. قال القاضي في تفسيره: روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: تذاكرنا أمر القدرية عند ابن عمر فقال: لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية. قال: ولا يخفى أنهم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله قضاءً وقدراً وخلقاً لأنهم يقولون الذنب لله فأي ذنب لنا حتى تعاقبنا أنت الذي خلقته فينا وأردته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له ولا يسرت لنا غيره، فهؤلاء لا بد أن يكونوا خصماء الله. أما الذين قالوا إن الله تعالى مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة، فهؤلاء منقادون لله تعالى لا خصماؤه. هذا كلام القاضي وتعجب منه الأشاعرة فقالوا: كيف يكون خصم الله من يقول ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وإن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب وليس للعبد على ربه اعتراض ولا مناظرة وكل ما يصل منه إلى عباده حتى الملائكة والأنبياء فهو تفضل منه وإحسان، لكن الخصم من يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولاً عن الربوبية وكنت من السفهاء وأن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات، فإن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة سنين غير محصورة، ثم إنه لو ترك لحظة واحدة قال العبد له إنك معزول عن الإلهية، يحكى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله، عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن أبا علي عقد مجلس التذكير وحضر عنده جم غفير، فذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس مختفياً عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز: إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ. قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد في غاية الزهد، وآخر في غاية الفسق، الثالث كان صبياً لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم. فقال الجبائي: أما الزاهد ففي درجات الجنة، وأما الكافر ففي دركات النار، وأما الصبي فمن أهل السلامة. فقال: قولي له إن الصبي لوأراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد فهل يمكن منه؟ قال الجبائي: لا لأن الله تعالى يقول له إنما أخوك وصل إلى تلك الدرجات لأنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذلك. فقال أبو الحسن: قولي له لو أن الصبي يقول: يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل بلوغي، ولو أبلغتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد، فقال الجبائي: يقول الله تعالى له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار فراعيت مصلحتك. فقال لها أبو الحسن. قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار وقال: يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين، لم راعيت حال الأخ الصغير وما راعيت حالي ومصلحتي؟ قال الراوي: فانقطع الجبائي فنظر فرأى أبا الحسن فعلم أن المسألة منه لا من العجوز. ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار وأكثر مجيباً عن الجبائي قائلاً: نحن لا نرضى بهذا الجواب وإنما نقول: الجواب مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها، وهي أنه هل يجب على الله تعالى أن يكلف العبد أم لا؟ فقال البصريون: إنه غير واجب ولكنه تفضل وإحسان. وقال البغداديون: إنه واجب وعلى الأول لله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلاً على أحد بشيء أن أتفضل على غيره بمثله، وعلى قول البغداديين فله أن يقول: إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف في حقه لم يستلزم مفسدة الغير فلا جرم فعلته، أما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك فكان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا ما فعلته وظهر الفرق. وأورد على القسم الأول أنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح منه عقلاً لأنه ليس فعلاً شاقاً عليه ولا ينقص بذلك شيء من ملكه، والصبي محتاج إلى الإحسان إليه ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد كمن منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجواد لعامة الناس. فإن كان حكم العقل في التحسين والتقبيح مقبولاً فليكن ههنا أيضاً مقبولاً وإلا فلا يقبل في شيء من الصور وتبطل كلية مذهبكم. وأورد على الشق الثاني أن قولنا: "تكليفه يتضمن مفسدة" ليس معناه أن ذات التكليف تتضمن المفسدة وإلا لم ينفك تكليف عن المفسدة وأنه باطل بالاتفاق، فمعناه إذاً أنه تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنساناً آخر يختار من قبل نفسه فعلاً قبيحاً، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تعالى تكليفه وجب أن يقبح تكليف كل من علم الله من حاله أنه يكفر وإلا لزم محض التحكم. هذا تمام مناظرة الفريقين، ولعلك قد عرفت التحقيق هنا فيما سلف فتذكر.
ثم قال: { وهذا صراط ربك } في المشار إليه وجوه منها: أنه المذكور في الآية المتقدمة. أما على مذهب الأشاعرة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى فيكون الفعل من الله، ويلزم استناد الكل إلى قضائه وقدره. وأما على مذهب المعتزلة فالمراد هذا الذي قررنا طريقته التي اقتضتها الحكمة وعادته الجارية في عباده من التوفيق والخذلان. ومعنى { مستقيماً } عادلاً مطرداً. وانتصابه على الحال المؤكدة والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. أو هو محذوف أي أحقه. وعن ابن عباس: يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك. وقال ابن مسعود: يعني القرآن: { قد فصلنا الآيات } ذكرناها فصلاً فصلاً بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر. قال في التفسير الكبير: قد بيّن الله تعالى صحة القول بالقضاء والقدر في آيات من هذه السورة متوالية متعاقبة بطرق كثيرة ووجوه مختلفة. وختم الآية بقوله: { لقوم يذكرون } لأنه تقرر في عقل كل واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجح عن الآخر إلا لمرجح فكأنه يقول للمعتزلي: تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا لمرجح حتى تزول الشبهة عن قلبك فإن حصول الفعل عن القادر لو لم يتوقف على الداعي مع تساوي طرفيه وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات وحينئذٍ يلزم نفس الصانع وإبطال القول والفعل والفاعل والتأثير والمؤثر. ثم لما بيّن عظمة نعمته في الصراط المستقيم بيّن ما أعد وهيىء للمتذكرين فقال: { لهم دار السلام } أي دار الله يعني الجنة، والإضافة للتشريف والتعظيم كما قيل: الكعبة بيت الله: أو دار السلامة من كل آفة وكرب والسلام والسلامة مثل: الضلال والضلالة والرضاع والرضاعة كلاهما مصدر. وقيل: السلام جمع السلامة لأن أنواع السلامة حاصلة في الجنة. ومعنى { عند ربهم } أنها معدة عنده وفي ضمانه كما يقال لفلان عندي حق لا ينسى وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها وكونهم على ثقة من حصولها { وهو وليهم } أي قريب منهم بالرحمة والرضوان أو مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم، وذلك أن القوم قد عرفوا أن المدبر والمقدر ليس إلا هو جل جلاله، وأن النافع والضار ليس إلا هو سبحانه، فانقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه، وما كان توكلهم إلا عليه، ولم يكن أنسهم إلا به، فلما صاروا بالكلية له لا جرم قال سبحانه: { وهو وليهم } على أنه متكفل لجميع مصالحهم ديناً ودنيا. ثم قال: { بما كانوا يعملون } أي بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون لئلا يقطعوا العمل ولا يتكلوا، وذلك أن بين النفس والبدن تعلقاً شديداً وكما أن الهيآت النفسانية قد تؤثر في البدن كحمرة الخجل وصفرة الوجل فالهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس، فإذا واظب الإنسان على أعمال الخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس فلا بد للسالك من العمل بعد كمال العلم والمعرفة. ثم لما بين حال من تمسك بالصراط المستقيم أردفها بذكر من تعلق بضده فقال: { ويوم نحشرهم } والمراد واذكر يوم كذا، أو يوم نحشرهم قلنا، أو متعلقة محذوف والتقدير: ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته، والضمير إما أن يعود إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله: { شياطين الإنس والجن } أو يعود إلى جميع المكلفين الذين علموا أن الله تعالى يبعثهم من الثقلين وغيرهم، ويكون القائل على تقدير حذف القول هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم. وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا للتبكيت وإنهم وإن تمردوا في الدنيا انتهى حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف. وقال الزجاج: التقدير فيقال لهم: { يا معشر الجن } لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار لقوله:
{ { ولا يكلمهم الله } [البقرة: 174] { قد استكثرتم من الإنس } لا بد فيه من إضمار لأن الجن أي الشياطين لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس، فالمراد قد استكثرتم من إضلال الإنس واستتباعهم فحشر معكم منهم الجم الغفير كما يقال: استكثر الأمير من الجنود. أما قوله: { وقال أولياؤهم من الإنس } فالأقرب عند بعضهم أن فيه حذفاً فكما قال للجن تبكيتاً ناسب أن يقول للإنس أيضاً مثل ذلك توبيخاً لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول. ولما بكت الله كلا الفريقين حكى جواب الإنس وهو قوله: { ربنا استمتع بعضنا ببعض } وفيه قولان: الأول أن المراد استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا ففي الاستمتاع وجهان: أحدهما أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض منفرداً وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. فيبيت آمناً في نفسه. فهذا استمتاع الإنس بالجن، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيماً منهم للجن؛ وذلك الجني يقول: قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه. وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج ويعضده قوله سبحانه: { { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } [الجن: 6] وثاني الوجهين أن الإنس كانوا ينقادون للجن ويطيعون حكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع فانتفعوا بالإنس انتفاع الرئيس بالخادم، وأما انتفاع الإنس بالجن فهو أن دلوهم على الشهوات واللذات إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي أيقنوا أنه يسوء عاقبتهم وهذا اختيار الزجاج. والقول الثاني أن البعضين كليهما من الإنس لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } أي ذلك الاستمتاع كان حاصلاً إلى وقت محدود ثم جاءت الحسرة والندامة من حيث لا ينفع. وما ذلك الإجل؟ قيل: هو وقت الموت وعلى هذا فكل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا بأنهم بلغوا أجلهم وفيهم المقتول وغير المقتول. وقيل: هو وقت التخلية والتمكين وقيل: وقت المحاسبة في القيامة { قال } الله تعالى في جوابهم { النار مثواكم } مقامكم ومقرّكم من ثوى بالمكان يثوي ثوياً إذا أقام به. قال أبو علي الفارسي: المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله تعالى: { خالدين فيها } حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فالمعنى النار أهل أن يقيموا فيها خالدين. { إلا ما شاء الله } قيل: المراد منه أوقات المحاسبة ووقت كونهم في المحشر كأنه قيل: خالدين فيها منذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم. وقال ابن عباس: استثنى الله قوماً سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله. وعلى هذا يلزم أن يكون "ما" بمعنى "من" وفيه خلل آخر وهو أن الاستثناء إنما هو من يوم القيامة الذي يحشرون فيه، وقيل: المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير. روي أنهم يدخلون وادياً فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد الشديد إلى حر الجحيم. وقال في الكشاف: أو يكون هذا من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه أهلكني الله، إن نفست عنك إلا إذا شئت، فيكون قوله: "إلا إذا شئت" من أشد الوعيد مع تهكم لأن إطماع محض ويأس كلي. وقال أبو مسلم: هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم كأنهم قالوا: وبلغنا أجلنا الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى يعني الآجال الاخترامية { إن ربك حكيم } فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة. { عليم } بما يستأهله كل طائفة فكأنه تعالى يقول: إنما حكمت لهؤلاء بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك. ثم لما حكى عن الجن أن بعضهم يتولى بعضاً بين أن ذلك إنما حصل بتقديره وقضائه فقال: { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً } وذلك أن القدرة صالحة للعداوة والصداقة فترجيح أحد الجانبين لا يكون إلا بداعية خلقها الله قطعاً للتسلسل، وأيضاً لما بين أنه سبحانه ولي أهل الجنة بقوله: { هو وليهم } ذكر أن أولياء أهل النار من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وأشار إليه بقوله: { بما كانوا يكسبون } أي بسبب كون ذلك البعض مكتسباً للظلم وهذه في مناسبة في غاية اللطف لأن الجنسية علة الضم فالطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين. وفي الآية دلالة على أن الرعية متى كانوا ظلمة فإن الله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم، فإن أرادوا الخلاص منه فليتركوا الظلم وعن مالك بن دينار قال: جاء في بعض الكتب السموية "أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليهم رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليهم نقمة، لا تشغلوا أنفسكم بسبّ الملوك لكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم".
ثم بيّن أن كفار الثقلين لا يكون لهم إلى الجحود يوم القيامة سبيل وأنهم لا يعذبون إلا بالحجة فقال: { يا معشر الجن والإنس } قال أهل اللغة: المعشر كل جماعة مختلطة يجمعهم أمير واحد { ألم يأتكم رسل منكم } استفهام على سبيل التقدير فلا جرم استدل الضحاك بالآية
{ { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [فاطر: 24] على أن من الجن رسلاً كالإنس، ولأن استئناس الجنس بالجنس أكمل ولهذا قال سبحانه: { { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [الأنعام: 9] والأكثرون على أنه ما كان من الجن رسول ألبتة إنما كانت الرسل من بني آدم وزعموا أن ذلك مجمع عليه. ورد بأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف؟ واستدل بعضهم على المطلوب بقوله تعالى: { { إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } [آل عمران: 33] والمراد بالاصطفاء ههنا النبوّة بالإجماع. وأجيب عن قول الضحاك بأن الآية تقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضاً من أبعاض هذا المجموع فكان هذا القدر كافياً في حمل اللفظ على ظاهره فلا يلزم إثبات رسول من الجن. وأيضاً لا يبعد أن يقال: إن الرسل كانوا من الإنس، ثم كان من الجن نفر يستمعون من رسول الإنس وينذرون قومهم بذلك قال: { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن } [الأحقاف: 29] الآية. وقد يسمى رسول الرسول رسولاً كما أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه فقال: { إذ أرسلنا إليهم اثنين } [يس: 14] ثم إنه سبحانه يكون قد بكت كفار الثقلين بهذه الآية لأنه أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إليهم فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل المقصود. وقال الواحدي: أراد رسل من أحدكم وهو الإنس كقوله: { يخرج منهما اللؤلؤ } [الرحمن: 22] أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب. وعن الكلبي كانت الرسل قبل أن يبعث محمد يبعثون إلى الإنس ورسول الله صلى الله عليه وآله بعث إلى الجن والإنس. أما قوله: { يقصون عليكم آياتي } فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتأويل وبالتلاوة { وينذرونكم لقاء يومكم هذا } يخوفونكم عذاب هذا اليوم فلم يجدوا بداً من الاعتراف فلذلك { قالوا شهدنا على أنفسنا } والسبب في أنهم أقروا في هذه الآية وجحدوا في قوله: { والله ربنا ما كنا مشركين } [الأنعام: 23] هو أنهم مختلفو الأحوال في يوم القيامة مضطربون؛ فتارة يقرّون وأخرى يجحدون. ومنهم من حمل هذه الشهادة على شهادة الجوارح عليهم. ثم أخبر الله تعالى عن حالهم في الدنيا بقوله: { وغرتهم الحياة الدنيا } وعن حالهم في الآخرة بقوله: { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } والمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجر أمثالهم في الدنيا عن الكفر والمعصية. وقد يستدل بالآية على أن لا وجوب قبل ورود الشرع وإلا لم يكن لهذا التوبيخ والتبكيت فائدة.
التأويل: { أو من كان ميتاً } في حالة العدم { فأحييناه } بالحياة الحقيقية أي بالحي الذي لا يموت { وجعلنا له } نور الوجود الحقيقي الذي { يمشي به في الناس } وبه يسمع وبه يبصر { كمن هو } محبوس { في ظلمات } الطبيعة { وكذلك جعلنا في كل قرية } أي كل قالب { أكابر مجرميها } من النفس والهوى والشيطان { ليمكروا فيها } بمخالفات الشرع وموافقات الطبع. { ما أوتي رسل الله } من القلب والسر والروح. { يشرح صدره } أي ينظر إلى قلبه بنظر العناية فينوّره بنور جماله وهو نور الإيمان، فيشرح الصدر بضوء النور الواقع في القلب وهذا الضوء هو المسمى بنور الإسلام. وهذا النور يقبل الزيادة والاشتداد إلى أن يصير الإيمان إيقاناً والإيقان عياناً والعيان عيناً. { ضيقاً } لتزاحم ظلمات صفات البشرية { حرجاً } لتعلقاته بالدنيا وشهواتها { كأنما يصعد في السماء } لأنه سفلي بالطبع لا يصعد إلا بالتصعيد والقسر. { وهذا } الذي بينا من الهداية والضلالة { صراط ربك } باللطف والقهر فبجذبات اللطف يهدي السعيد وبسطوات القهر يضل الشقي. { لهم دار السلام } أي السلامة عن القطيعة في مقام العندية بالوصول إلى الوحدة بعد الخروج عن ظلمات الاثنينية. { ويوم يحشرهم } في موقف القالب البشري بالحكمة البالغة والقدرة الكاملة { يا معشر الجن } أي الصفات الشيطانية { قد استكثرتم من الإنس } أي غلبتم على الصفات الإنسانية { وقال أولياؤهم من الإنس } يعني النفس الأمارة { ربنا استمتع بعضنا ببعض } واستمتاع النفس الأمارة بالشيطان هو أن يستعين بصفات مكره على تحصيل شهواتها ولذاتها العاجلة وحظوظها، واستمتاع الشيطان بالإنس هو أن يستعين به على إضلال الحق وإغوائها كما استعان بحواء على إغواء آدم. { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } يعني أن مدة الاستمتاع وما جرى بيننا إنما كان بمقتضى قضائك وقدرك فأجابهم بأن الثوى في النار أيضاً بقضاء الله { إلا أن يشاء الله } فيتوب عليهم { إن ربك حكيم } في تقدير الاستمتاع { عليم } بأهل الجنة وبأهل النار، { وكذلك } أي كما جعلنا مردة الجن والإنس بعضهم أولياء بعض فكذلك نجعل بعض الظالمين أولياء بعض بما كانوا يكسبون من إفساد الاستعداد الفطري { ألم يأتكم رسل منكم } يعني الإلهامات الربانية. وشهدوا على أنفسهم أقروا عند الحرمان عن السعادة العظمى أنهم بذواتهم كانوا صدأ مرآة قلوبهم
{ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى } [النجم: 39، 40] وما التوفيق إلا منه.