التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ
١١
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
١٢
قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ
١٣
قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
١٤
قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ
١٥
قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
١٦
ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
١٧
قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ
١٨
ويَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٩
فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ
٢٠
وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ
٢١
فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ
٢٢
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٢٣
قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ
٢٤
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
٢٥
-الأعراف

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { لأملأن } بتليين الهمزة الثانية حيث كان: الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف: { تخرجون } من الخروج: حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن ذكوان الباقون: مبنياً للمفعول من الإخراج والله أعلم.
الوقوف: { إلا إبليس } ط لأنه معرفة فلا تصلح الجملة صفة له. { الساجدين } ه { إذ أمرتك } ط { منه } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول. { طين } ه { الصاغرين } ه. { يبعثون } ه { المنظرين } ه { المستقيم } ه لا للعطف { شمائلهم } ط { شاكرين } ه { مدحوراً } ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف. { أجمعين } ه { الظالمين } ه { الخالدين } ه { الناصحين } ه { بغرور } ج لأن جواب "لما" منتظر مع الفاء { ورق الجنة } ط لأن الواو للاستئناف { مبين } ه { أنفسنا } سكتة للأدب إعلاماً بانقطاع الحجة قبل ابتداء الحاجة. { الخاسرين } ه { عدو } ط لعطف المختلفين { إلى حين } ه { تخرجون } ه.
التفسير: من جملة نعم الله تعالى علينا أن خلق أبانا آدم فجعله مسجوداً للملائكة فلذلك ذكر تلك القصة عقيب تذكير النعم، ونظير هذه الآيات ما سبق في سورة البقرة
{ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [البقرة: 28] منع من المعصية بقوله: { كيف تكفرون } ثم علل ذلك المنع بكثرة نعمه على المكلفين وهو أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم خلق لهم ما في الأرض جميعاً من المنافع، ثم ختم ذلك بقصة جعل آدم خليفة في الأرض مسجوداً للملائكة، والغرض من الكل أن التمرد والجحود لا يليق بإزاء هذه النعم الجسام. وقصة آدم وما جرى له مع إبليس ذكرها الله في سبعة مواضع: في "البقرة" وههنا وفي "الحجر" وفي "سبحان" وفي "الكهف" وفي "طه" وفي "ص" وسنبين بعض حكمة اختلاف العبارات بقدر الفهم إن شاء الله تعالى. وههنا سؤال وهو أن قوله: { ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا } يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا والأمر في الواقع بالعكس. وأجاب المفسرون بوجوه منها: أن المضاف محذوف أي خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ثم صورنا أباكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا. وإنما حسن هذه الكناية لأن آدم عليه السلام أصل البشر نظير قوله لبني إسرائيل المعاصرين { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } } [البقرة: 63] أي ميثاق أسلافكم. وقال صلى الله عليه وسلم: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل. وإنما قتله أحدهم. ومنها أن المراد من خلقناكم آدم ثم صورناكم أي صورنا ذرية آدم في ظهره في صورة الذر ثم قلنا للملائكة وهذا قول مجاهد. ومنها خلقناكم ثم صورناكم ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة. ومنها أن الخلق في اللغة التقدير وتقدير الله تعالى عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كل شيء بمقداره المعين له. فقوله: { خلقناكم } إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم. وقوله: { صورناكم } إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورهم كما أنه أثبت صور كل كائن كما جاء في الخبر "اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة". ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له. قال الإمام فخر الدين رضي الله عنه. وهذا التأويل عندي أقرب الوجوه في تأويل هذه الآية. وأما أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا فقد تقدم في أوائل سورة البقرة فلا وجه لإعادته. أما قوله سبحانه. { ما منعك أن لا تسجد } فظاهره يقتضي أنه تعالى طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود وليس الأمر كذلك فإن المقصود طلب ما منعه من السجود كما قال في سورة ص { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ص: 75] فلهذا الإشكال حصل للمفسرين رضي الله عنهم أقوال أوّلها وهو الأشهر: أن "لا صلة " زائدة كما في { لا أقسم } [القيامة: 1] وكما في قوله: { لئلا يعلم أهل الكتاب } [الحديد: 29] أي ليعلم وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين. قال في الكشاف: وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل في { لئلا يعلم } ليتحقق علم أهل الكتاب، وفي { ما منعك أن لا تسجد } ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك. قلت: لعله أراد أن زيادة "لا" إشارة إلى نفي ما عدا المذكور ليلزم منه تحقق المذكور. وثانيها أن إثبات الزيادة في كلام الله تعالى خارج عن الأدب وأن الاستفهام للإنكار أي لم يمنعك من ترك السجود شيء كقول القائل لمن ضربه ظلماً: ما الذي منعك من ضربي أدينك أم عقلك أم حياؤك؟ والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه فما امتنعت من ضربي. وثالثها قال القاضي: ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال: ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها. وقيل: الممنوع من الشيء مضطر إلى خلاف ما منع منه. وقيل: معناه ما الذي جعلك في منعة من عذابي؟ وقيل: معناه من قال لك لا تسجد. وأقول: يمكن أن لا يعلق قوله: { أن لا تسجد } بقوله: { ما منعك } وإنما يكون متعلقه محذوفاً التقدير: ما منعك من السجود أن لا تسجد أي لئلا تسجد توجه عليك هذا السؤال. والحاصل أن عدم سجودك ما سببه؟ { إذ أمرتك } أمر إيجاب. وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب توبيخه وإفشاء معاندته وجحوده. واستدل العلماء بالآية على أن مجرد الأمر يقتضي الوجوب وإلا لم يترتب الذم عليه، وأن الأمر يقتضي الفور وإلا لم يستوجب الذم بترك السجود في الحال. ثم استأنف اللعين قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم زعماً منه أن مثله مستبعد أن يؤمر بما أمر به وتلك الخيرية هي التي منعته عن السجود فقال: { أنا خير منه } ثم بين هذه المقدمة بقوله { خلقتني من نار وخلقته من طين } والنار أفضل من الطين لأن النار جوهر مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن الأجرام اللطيفة كلها، وأيضاً النار قوية التأثير والفعل، والأرض ليس فيها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال. وأيضاً النار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة والنضج وأما الأرضية فللبرد واليبس تناسب الموت والحياة أشرف من الموت. وأيضاً فما بين التمييز والشباب لما كان وقت كمال الحرارة كانت أفضل أوقات عمر الحيوان بخلاف وقت الشيخوخة لغلبة البرد واليبس المناسب للأرضية والمخلوق من الأفضل أفضل لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع. وأما أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فما قد تقرر في العقول فهذه شبهة إبليس والمقدمات بأسرها ممنوعة، أما أن النار أفضل من الأرض فممنوع لأن كل عنصر من العناصر الأربعة يختص بفوائد ليست لغيره، وكل منها ضروري في الوجود وفي التركيب فلكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على البعض تطويل بلا طائل. ومن تأمل ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه تعالى: { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } [البقرة: 22] وقف على بعض منافعها وعلم أن طعن اللعين مردود جداً. ولو لم يكن في النار إلا الخفة المقتضية للطيش والاستكبار والترفع وفي الأرض إلا الرزانة الموجبة للحلم والوقار والتواضع لكفى به رداً لكلامه، وأما أن المخلوق من الأفضل أفضل فهو محل البحث والنزاع لأن الفضيلة عطية من الله تعالى ابتداء ولا يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة، فقد يخرج الكافر من المؤمن ويحصل الدخان من النار والتكليف يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل. فالاعتبار بما انتهى إليه لا بما خلق منه وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم" { { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [الحجرات: 13] وفي كلام الحكماء: العاقل من يفتخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية فثبت أن دعوى اللعين في قوله: { أنا خير منه } باطلة. ولئن سلم فلم لا يجوز خدمة الفاضل للمفضول تواضعاً وإسقاطاً لحق النفس؟ ولم لا يجوز الأمر بذلك لغرض الطاعة والامتثال أو لتشريف المفضول والرفع من مقداره؟ قالت العلماء ههنا: إن قوله تعالى للملائكة { اسجدوا لآدم } خطاب عام يتناول جميع الملائكة: ثم إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس فاستوجب الذم والتعنيف والدخول في جملة المتكبرين على الله فدل ذلك على أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس أنه كانت الطاعة بإبليس أولى من القياس فعصى ربه وقاس. وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس. ويمكن أن يجاب بأنه إنما استحق الذم لأن قياسه كان مبطلاً للنص بالكلية لا مخصصاً. وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النار بسجوده لمن كان مخلوقاً من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النور المحض بسجوده لما هو مخلوق من الأرض أولى. ويحتمل أن يزيد هذا الجواب بأن الشريف إذا رضي بتلك الخدمة فلا اعتراض عليه وحينئذٍ لا يقبح أمره بذلك. ثم إن الملائكة رضوا بذلك فلا بأس، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق فقبح أمره بالسجود، فقياسه يوجب تخصيص النص لا رفعه بالكلية فعلمنا أن استحقاق الذم إنما كان لتخصيص النص بالقياس كما ادعينا. { قال } أي الله تعالى كلام تعنيف وتعذيب لا إكرام وتشريف أو قال على لسان بعض ملائكته { فاهبط } يعني إذ لم تمثل أمري فاهبط { منها }. قال ابن عباس: يريد من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم. وقال بعض المعتزلة: أمر بالهبوط من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين من الثقلين { فما يكون } فما يصح { لك أن تتكبر فيها } وتعصي { فاخرج إنك من الصاغرين } من أهل الصغار والهوان. يقال للرجل قم صاغراً إذا أهين. وفي ضده قم راشداً، قال الزجاج: إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله بالذلة والصغار كما قال النبي صلى الله عليه وآله: "من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله" { قال أنظرني إلى يوم يبعثون } طلب الإنظار من الله تعالى إلى وقت البعث وهو وقت النفخة الثانية حين يقوم الناس لرب العالمين، ومقصوده أنه لا يذوق الموت فلم يعطه الله تعالى ذلك بل { قال } مطلقاً { إنك من المنظرين } قيل: إن هذا المطلق مقيد بقوله في موضع آخر { إلى يوم الوقت المعلوم } [ص: 81] أي اليوم الذي يموت الأحياء كلهم فيه وهو وقت النفخة الأولى، وقال آخرون: لم يوقت الله تعالى له أجلاً. والمراد الوقت المعلوم في علم الله تعالى والدليل على ذلك أن إبليس كان مكلفاً والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فيقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحاً. أجاب الأولون بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء أو على الكفر والمعاصي كإبليس فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام { قال فبما أغويتني } الإغواء ضد الإرشاد وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل إذا بشم والبشم فساد يعرض في جوفه من كثرة شرب اللبن. ولا يمكن أن يتعلق الباء بقوله: { لأقعدن } لأن لام القسم تأبى ذلك. لا يقال: والله يريد لأمرنّ. لأن حكم القسم وما يتلوه حكم همزة الاستفهام وحرف النفي الذي هو ما وهي تعمل من حيث المعنى لا من حيث اللفظ فكأنها عوامل ضعيفة فلم يتقدم عليها شيء من معمولاتها لضعفها. وإنما يتعلق بفعل القسم المحذوف و "ما" مصدرية تقديره: فبما أغويتني أي فبسبب إغوائك إياي أقسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك لأقعدن. ومعنى القسم بالإغواء أنه من جملة آثار القدرة أي بقدرتك عليّ ونفاذ سلطانك في لأقعدن. وقال في الكشاف: إن الأمر بالسجود كان سبب إغوائه وهو تكليف والتكليف من أحسن أفعال الله لكونه تعريضاً لسعادة الأبد فكان جديراً بأن يقسم به وهذا يناسب أصول الاعتزال. قال مشايخ العراق: الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والجلال والعزة يمين، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والغضب لا يكون يميناً. ويعني بصفات الفعل ما يجوز أن يوصف بضده فيقال: رحم فلاناً ولم يرحم فلاناً وغضب ولم يغضب. وقال بعضهم: ما للاستفهام كأنه قيل: بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ فقال: { لأقعدن } ويرد على هذا القول أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على "ما" الاستفهامية قليل. قيل: إن إبليس أضاف الإغواء ههنا إلى الله وفي قوله: { فبعزتك لأغوينهم } [ص: 82] أضاف الإغواء إلى نفسه والأول يدل على الجبر والثاني على القدر، وهذا دليل على أنه كان متحيراً في هذه المسألة. أجابت المعتزلة عن قوله: { فبما إغويتني } بأن قول إبليس واعتقاده ليس بحجة أو المراد أنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر منه كفر فلهذا المعنى أضاف الغي إلى الله. وقد يقال: لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضربك عنده، أو المراد بالإغواء الإهلاك واللعن. وقالت الأشاعرة: نحن لا نبالغ في أن المراد بالإغواء ههنا هو الإضلال لأن حاصله كيفما كان يرجع إلى حكاية قول إبليس وهو ليس بحجة إلا أنا نقطع بأن الغاوي لا بد له من مغوٍ وليس ذلك نفسه لأن العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية والدور أو التسلسل محال فلا بد أن ينتهي إلى خالق الكل وهو المقصود. أما قوله: { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } فانتصابه على الظرف كقوله:

لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب

قال الزجاج: هو كقولهم ضرب زيداً الظهر والبطن أي على الظهر والبطن. والمراد لأعترضن لهم أي لبني آدم المذكورين في قوله: { ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم } على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة، والحاصل أنه يواظب على الإفساد بالوسوسة مواظبة لا يفتر عنه ولهذا ذكر العقود لأن من أراد المبالغة في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود.
واعلم أن العلماء اختلفوا في أن كفر إبليس كفر عناد أو كفر جهل. فمن قائل بالأول لقوله: { صراطك المستقيم } وصراط الله المستقيم هو دينه الحق. ومن قائل بالثاني لقوله: { فبما أغويتني } فدل ذلك على أنه اعتقد أن الذي هو عليه محض الغواية، وإنما وصف الصراط بالمستقيم بناء على زعم الخصم واعتقاده ورد بأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغوايه فقد علم أن ضدّه هو الحق فكان إنكاره إنكار اللسان لا القلب وهو المعنى بكفر العناد، ويمكن أن يجاب بأنه أراد بالإغواء أيضاً الإغواء بزعم الخصم، قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دنيه ولا في دنياه وإلا لم يمهل إبليس حين استمهله مع علمه بالمفاسد والغوائل المترتبة على ذلك، ومما يؤيد ذلك أنه بعث الأنبياء دعاة للخلق إلى الحق وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال، ثم إنه أمات الأنبياء وأبقى إبليس ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك. قال الجبائي في دفع هذا الاعتراض. إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله أحد بل إنما يضل من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضاً بدليل قوله تعالى:
{ { فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم } [الصافات: 162] ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة. وقال أبو هاشم: يجوز أن يضل به قوم ويكون خلقه جارياً مجرى زيادة الشهوة فإن هذه الزيادة من المشقة توجب الزيادة في الثواب. وضعف قول الجبائي بأنا نعلم بالضرورة أن الإنسان إذا جلس عنده جلساء السوء وحسنوا في عينه أمراً من الأمور مرة بعد أخرى فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التحسين فكذا الشيطان المزين للقبائح في قلوب الكفار والفساق. وزيف قول أبي هاشم بأن خلق الزيادة في الشهوة حجة أخرى لنا في أنه تعالى لا يراعي المصلحة، وتقرير الحجة أن خلق تلك الزيادة يوقع في الكفر وعقاب الأبد ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أن يزداد ثوابه وحصول هذه الزيادة شيء لا حاجة إليه والأهم رفع العقاب لا تحصيل زيادة الثواب. فلو كان إله العالم مراعياً لمصالح العباد لم يهمل الأهم لطلب الزيادة التي لا ضرورة إليها. أما ذكر الجهات الأربع ففيه وجوه أحدها { من بين أيديهم } أي أشككهم في صحة البعث والقيامة { ومن خلفهم } ألقي إليهم أن الدنيا قديمة أزلية. وثانيها من بين أيديهم أنفرهم عن الرغبة في سعادات الآخرة، ومن خلفهم أقوي رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها؛ فالآخرة بين أيديهم لأنهم يردون عليها ويصلون إليها، والدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها، وثالثها قول الحكم والسدي { من بين أيديهم } يعني الدنيا لأنهم بين يدي الإنسان وإنه يشاهدها { ومن خلفهم } الآخرة لأنها تأتي بعد ذلك. وأما قوله: { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } فقيل: { عن أيمانهم } في الكفر والبدعة { وعن شمائلهم } في أنواع المعاصي. وقيل: { عن أيمانهم } في الصرف عن الحق { وعن شمائلهم } في الترغيب في الباطل. وقيل: { عن أيمانهم } افترهم عن الحسنات { وعن شمائلهم } أقوي دواعيهم إلى السيئات قال ابن الأنباري: وهذا قول حسن لأن العرب تقول اجعلني عن يمينك أي من المقدمين ولا تجعلني عن شمالك أي من المؤخرين. وعن الأصمعي هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال للعكس. وقال حكماء الإسلام: إن في البدن قوى أربعاً هي الموجبة لفوات السعادات الروحانية: إحداها القوة الخيالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: { من بين أيديهم } وثانيتها القوّة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وهو قوله: { ومن خلفهم } وثالثتها الشهوة ومحلها الكبد التي عن يمين البدن. ورابعتها الغضب ومنشؤه القلب الذي هو في الشق الأيسر. فالشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة. وقيل: { من بين أيديهم } الشبهات المبنية على التشبيه إما في الذات أو في الصفات كشبه المجسمة وإما في الأفعال كشبه المعتزلة في التعديل والتجويز والتحسين والتقبيح لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات فهي بين يديه وبمحضر منه فيعتقد أن الغائب مثل الشاهد { ومن خلفهم } شبهات أهل التعطيل لأن هذه بإزاء الأولى، { وعن إيمانهم } الترغيب في ترك المأمورات { وعن شمائلهم } الترغيب في فعل المنهيات. وعن شقيق رضي الله عنه ما من صباح إلاّ ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع إما من بين يدي فيقول لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } [طه: 82] وإما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [هود: 6] وإما من يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ { والعاقبة للمتقين } [الأعراف: 128] وإما من شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } [سبأ: 54] وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم" "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه قعد له بطريق الإسلام. فقال له: تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل" وعلى هذا فالقعود في الطريق والرصد من الجهات مثل الوسوسة إليهم وتسويله بكل ما يمكنه ويتيسر له كقوله: { واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } [الإسراء: 64] وبقي ههنا بحث وهو أنه تعالى كيف قال: { من بين أيديهم ومن خلفهم } بحرف الابتداء { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } بحرف المجاورة؟ قال في الكشاف: وقد تختلف حروف الظروف كما تختلف حروف التعدية على حسب السماع. يقال: جلس عن يمينه وعلى يمينه، فمعنى "على" أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه، ومعنى "عن" أنه جليس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونظيره في المفعول به "رميت السهم عن القوس وعلى القوس ومن القوس" لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها، وكذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل، ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول: جئته من الليل تريد بعض الليل، وقال بعض المفسرين: خص اليمين والشمال بكلمة "عن" لأنها تفيد البعد والمباينة وعلى جهتي اليمين والشمال ملكان لقوله: { { عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ق: 17] والشيطان لا بد أن يتباعد عن الملك ولا كذلك حال القدام والخلف. وقالت الحكماء { من بين أيديهم ومن خلفهم } هما الوهم والخيال كما مر والناشىء منهما العقائد الباطلة والكفر { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } الشهوة والغضب والناشىء منهما الأفعال الشهوية والغضبية. وضرر الكفر لازم لأن عقابه دائم وضرر المعاصي مفارق لأن عذابها منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة "عن" تنبيهاً على أنهما في اللزوم والاتصال دون القسم الأول. وإنما اقتصر على الجهات الأربع ولم يذكر الفوق والتحت لأن القوى التي منها يتولد ما يوجب تفويت السعادات الروحانية هي هذه الموضوعة في الجوانب الأربعة من البدن، وأما في الظاهر فقد روي أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع استيلائه عليه من الجهات؟ فأوحى الله تعالى إليهم أنه قد بقي للإنسان جهتا الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق بالدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض بطريقة الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة. قال القاضي: هذا القول من إبليس كالدلالة على أن لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المغالبة أحق. قلت: هذا منافٍ لما في الحديث "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" . أما قوله: { ولا تجد أكثرهم شاكرين } فسئل أنه من باب الغيب فكيف عرف؟ وأجاب بعضهم بأنه كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال على سبيل القطع واليقين. وقال آخرون: إنه قال على سبيل الظن لأنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات فغلب على ظنه أنهم يقبلون قوله: ولقد صدقه الله تعالى في ذلك الظن حيث قال: { ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه } [سبأ: 20] { وقليل من عبادي الشكور } [سبأ: 13]. وقيل: إن للنفس تسع عشرة قوة: الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم. وأما التي تدعوها إلى عالم الأرواح فقوة واحدة وهي العقل، ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكثر من استيلاء واحدة لا سيما وهي في أول الخلقة تكون قوية، والعقل يكون ضعيفاً وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلذلك قطع بقوله: { ولا تجد أكثرهم شاكرين } { قال } الله تعالى في جوابه إذا كان هذا عزمك { اخرج منها مذؤماً مدحوراً } الذام العيب والذأم يهمز ولا يهمز، والدحر الطرد والإبعاد وفي المثل: لا تعدم الحسناء ذاماً. واللام في { لمن تبعك } موطئة للقسم و{ لأملأن } جوابه وهو ساد مسد جواب الشرط. وعن عصام { لمن تبعك } بكسر اللام بمعنى لمن تبعك منهم هذا الوعيد وهو قوله: { لأملأن جهنم } فغلب ضمير المخاطب كما في قوله: { إنكم قوم تجهلون } [الأعراف: 138] أي إنكم وإنهم على هذا. فقوله: { لأملأن } في محل الابتداء { ولمن تبعك } خبره. قال القاضي: كما أن الكافر يتبعه كذلك الفاسق يتبعه فلذلك يجب القطع بدخول الفاسق النار. وأجيب بشرط عدم العفو. قوله: { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } الآية. فيها من المسائل أن قوله: { اسكن } أمر تعبد أو أمر إباحة من حيث إنه لا مشقة فيه فلا يتعلق به التكليف. وأن زوج آدم هي حواء وأن تلك الجنة كانت جنة الخلد أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض. وأن قوله { وكلا } أمر إباحة لا أمر تكليف. وأن قوله: { ولا تقربا } نهي تنزيه أو نهي تحريم. وأن الشجرة المشار إليها شجرة واحدة بالشخص أو بالنوع وإنها أيّ شجرة كانت. وأن ذلك الذنب كان صغيراً أو كبيراً. وأن الظلم في قوله: { فتكونا من الظالمين } بأي معنى هو؟ وأن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم أو بعدها؟ ونحن قد قضينا الوطر عن جميعها في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة { فوسوس لهما الشيطان } الوسوسة حديث النفس وهو فعل غير متعد كولولت المرأة ووعوع الذئب والمصدر الوسواس أيضاً بكسر الواو والوسواس بالفتح الاسم كالزلزال. ويوصل إلى المفعول باللام وبإلى. فمعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ومعنى وسوس إليه ألقاها إليه أي تكلم معه كلاماً خفياً يكرره { ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما } قيل: اللام لام العاقبة لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهر عورتهما وإنما آل أمرهما إلى ذلك، وقيل: لام الغرض وبدو العورة كناية عن زوال الحرمة وسقوط الجاه الذي كان غرضه، أو لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته وفي ذلك سقوط حشمته. وقوله: { ووري } مجهول وارى أي ستر والسوءة فرج الرجل والمرأة. ثم بيّن وسوسة إبليس بأنه { قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } أي إلا كراهة أن تكونا ملكين إلى قوله: { إني لكما لمن الناصحين }. سؤال: كيف يطمع إبليس آدم في أن يكون ملكاً عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة ساجدين معترفين بفضله؟ والجواب بعد تسليم أن هذه الواقعة كانت بعد النبوة وبعد سجود الملائكة له، أن هذا أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض أما ملائكة السموات وملائكة العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا ألبته لآدم وإلا كان هذا التطميع فاسداً. وربما يجاب بأنه أراد أنه يصير مثل الملك في البقاء والدوام وزيف بلزوم التكرار من قوله: { أو تكونا من الخالدين }. قال الواحدي: كان ابن عباس يقرأ { ملكين } بكسر اللام كأن الملعون أتاهما من جهة الملك كقوله: { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } [طه: 120] واعترض بأنه لا نزاع في هذه القراءة الشاذة وإنما النزاع في القراءة المشهورة. ويمكن أن يجاب بأن آدم لعله رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والبطش والخلقة بأن يصير جوهراً نورانياً مقره العرش والكرسي. نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن: إن آدم وحواء هل صدّقاه في قوله؟ فقال الحسن: معاذ الله لو صدّقاه لكانا من الكافرين. أراد الحسن أن تصديق الخلود يوجب إنكار البعث والقيامة وإنه كفر. ويمكن أن يقال: لو أراد بالخلود طول المكث لم يلزم التكفير، ولو سلم أن الخلود مفسر بالدوام فلا نسلم أن اعتقاد الدوام من آدم يوجب الكفر لأن العلم بالموت ثم البعث يتوقف على السمع ولعل ذلك الدليل السمعي لم يصل إلى آدم وقتئذٍ. ثم إن المحققين اتفقوا على أن التصديق لم يوجد من آدم لا قطعاً ولا ظناً وإنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا عند الشهوة أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال. ثم إن بعضهم زعم أن الترغيب كان في مجموع الأمرين كونهما ملكين وكونهما خالدين والظاهر أنه على طريقة التخيير. سؤال: المقاسمة من الجانبين فكيف يتصور التقاسم بين آدم وإبليس؟ والجواب كأنه قال لهما: أقسم بالله إني لكما ناصح وقالا له: نقسم بالله إنك إن صدقت ناصح. أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها، أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم { فدلاهما بغرور } أي أوقعهما فيما أراد من تغرير، وأصله أن الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. وقيل: أي جرأهما على أكل الشجرة من قولهم: فلان يدل على أقرانه في الحرب كالبازي يدل على صيده. قال ابن عباس: غرهما باليمين. وكان آدم يظن أن لا يحلف أحد بالله كاذباً. وعن ابن عمر أنه كان إذا رأى من بعض عبيده طاعة وحسن صلاة أعتقه فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق، فقيل له: إنهم يخدعونك فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له. { فلما ذاقا الشجرة } فيه دلالة على أنهما تناولا اليسير قصداً إلى معرفة طعمه ولولا أنه ذكر في آية أخرى { فأكلا منها } [طه: 121] لم يدل على الأكل لأن الذوق قد يكون من غير أكل. { بدت لهما سوآتهما } ظهرت عوراتهما أي عورتاهما مثل { صغت قلوبكما } [التحريم: 4] مكان قلباكما { وطفقا يخصفان } أخذا في الفعل وهو الخصف، ويستعمل طفق بمعنى كاد. قال الزجاج: أي يجعلان ورقة على ورقة ليستترا بهما كما تخصف النعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور. والورق التين وفيه دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة؟ { ألم أنهكما } عتاب من الله وتوبيخ وباقي الآيات مفسر في سورة البقرة. عن ثابت البناني: لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها: خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني فيك. فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له ولحدوا ودفنوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه: هذه سنتكم بعده.
وقد بقي علينا من التفسير أسرار المتشابهات الواقعة في هذه القصة فلنفرغ لها. قوله: { ما منعك } وفي ص
{ يا إبليس ما منعك } [الآية: 75] وفي الحجر { يا إبليس ما لك } } [الآية: 32] حذف المنادى في هذه السورة لأن مضي ذكره هنا أقرب فلم يحتج إلى إعادة اسم اللعين بالنداء.
قوله: { ما منعك أن لا تسجد } وفي ص
{ ما منعك أن تسجد } [الآية: 75] جمع بين لفظ المنع ولفظ "لا" في هذه السورة لأنه لما حذف النداء زاد لفظة "لا" زيادة في النفي وإعلاماً بأن المخاطب به إبليس. وإن شئت قلت: جمع في السورة بين ما في "ص" وما في "الحجر" فقال: { ما منعك أن تسجد } و { مالك أن لا تسجد } وحذف { أن تسجد } وحذف { مالك } لدلالة الحال ودلالة السورتين عليه فبقي { ما منعك أن لا تسجد }.
قوله: { أنا خير منه } الآية في ص مثله كلاهما في جواب { ما منعك } ظاهر إلا أنه زاد في الحجر لفظ الكون فقال:
{ لم أكن لأسجد } [الآية: 33] ليكون مطابقاً للسؤال حيث قيل: ما لك أن لا تكون مع الساجدين.
قوله: { أنظرني إلى يوم يبعثون } وفي ص وفي الحجر
{ رب فانظرني } [الآية: 36] لأنه لما اقتصر في السؤال على الخطاب دون صريح الاسم اقتصر ههنا أيضاً على الخطاب دون ذكر المنادى بخلاف السورتين. وأما زيادة الفاء في السورتين دون هذه السورة فلأن داعية الفاء ما تضمنه النداء من أدعو وأنادي نحو قوله: { ربنا فاغفر } [آل عمران: 193] أي أدعوك فاغفر. فلما حذف النداء في هذه السورة تركت الفاء. وكذلك من قوله: { إنك من المنظرين } ليطابق الجواب السؤال.
قوله: { فبما أغويتني } وفي الحجر
{ رب بما أغويتني } [الآية: 39] بزيادة النداء ليوافق ما قبله. وزاد في هذه السورة الفاء وكذا في "ص" { فبعزتك لأغوينهم } [الآية: 82] لزيادة الربط. ولم يمكن دخول الفاء في "رب" لامتناع النداء منه لأن ذلك يقع مع السؤال والطلب.
{ قال اخرج منها مذؤماً } ليس في القرآن غيره وإنما اختص هذا الموضع بذلك لأن اللعين بالغ في العزم على الإغواء فقال: { لأقعدن لهم } إلى آخره فبالغ الله جل وعلا في ذمه إذ الذام أشد الذم.
قوله: { فكلا } بالفاء وفي البقرة
{ وكلا } [الآية: 35] لأن اسكن ههنا من السكنى التي معناها اتخاذ الموضع مسكناً وهذا لا يستدعى زماناً ممتداً يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل فيه بل يقع الأكل عقيبه، وفي البقرة من السكون الذي يراد به الإقامة فلم يصلح إلا بالواو فإن المعنى أجمعا بين الإقامة فيها والأكل من ثمارها ولو كان بالفاء لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة. وإنما زاد في البقرة { رغداً } لما زاد في الخبر تعظيماً بقوله: { وقلنا } قال بعض الأفاضل في الجواب عن هذه المسائل: إن اقتصاص ما مضى إذا لم يقصد به أداء الألفاظ بأعيانها كان اختلافها واتفاقها سواء إذا أدى المعنى المقصود. وهذا جواب حسن إن رضيت به كفيت مؤنة السهر إلى السحر والله أعلم.
التأويل: { ولقد خلقنا } أرواحكم { ثم صورناكم } أي خلقنا لأرواحكم أجساداً كما جاء في الحديث
"إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام" ولتصوير الأجساد بداية وهي قوله: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } [الأعراف: 172] فإن لفظ الذرية يقع على المصورين ووسط { يصوركم في الأرحام كيف يشاء } [آل عمران: 6] ونهاية هي حالة الكهولية في الأغلب { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } وأنتم في صلبه وهذا من التمكين أيضاً { فسجدوا } لاستعدادهم الفطري للسجود ولائتمارهم لأمر الله { إلا إبليس لم يكن } من المستعدين للسجود لما فيه من الاستكبار الناري { قال ما منعك } خطاب الامتحان لجرم إبليس ليظهر به استحقاقه اللعن فإنه لو كان ذا بصيرة لقال في الجواب منعني تقديرك وقضاؤك ولكنه كان أعور العين اليمنى بصيراً بالعين التي رأى بها أنانيته فقال: { أنا خير منه } أي منعني خيريتي من أن أسجد لمن هو دوني، واستدل على خيريته بأنه خلق من نار وهي علوية نورانية لطيفة وآدم خلق من طين وهو سفلي ظلماني كثيف. وهذا القياس معارض بأن النار من خاصيتها الإحراق والفناء والطين من خواصه النشوء والإنماء والاستمساك الذي بقوته يصير الإنسان مستمسكاً للفيض الإلهي ونفخ الروح فيه فاستحق سجود الملائكة لأنه صار كعبة حقيقية. فلما ابتلي إبليس بالصغار وطرد من الجوار أخذ في النوح وأيس من الروح ورضي بالبعاد واطمأن بالحياة فقال: { أنظرني } فأجيب إلى ما سأل ليكون وبالاً عليه ويزي في شقوته، ولكن لم يجبه بأن لا يذيقه ألم الموت لقوله في موضع آخر { إلى يوم الوقت المعلوم } [ص: 81] { قال فبما أغويتني } لم تكن حوالته الإغواء إلى الله منه نظر التوحيد وإنما كان للمعارضة والمعاندة لقوله: { لأغوينهم } [الحجر: 39] { لأقعدن } { ثم لآتينهم } من الجهات التي فيها حظوظ النفس { من بين أيديهم } من قبل الحسد على الأكابر من المشايخ والعلماء المعاصرين { ومن خلفهم } من قبل الطعن في الأكابر الأقدمين والسلف الصالحين. { وعن أيمانهم } من قبل إفساد ذات البين وإلقاء العداوة والبغضاء بين الإخوان { وعن شمائلهم } من جهة ترك النصيحة مع أهاليهم وأقاربهم وترك الأمر بالمعروف مع عامة المسلمين. أو المراد { من بين أيديهم } من قبل الرياء والعجب { ومن خلفهم } من قبل الصلف والفخر { وعن أيمانهم } من قبل الادعاء وإظهار المواعيد والمواجيد { وعن شمائلهم } من قبل الافتراء على أنفسهم ما ليس فيها من الكشوف والأحوال. أو { من بين أيديهم } من قبل الاعتراض على الشيخ { ومن خلفهم } من قبل التفريق والإخراج عن صحبة الشيخ { وعن أيمانهم } من قبل ترك حشمة المشايخ { وعن شمائلهم } من قبل مخالفة الشيخ والرد بعد القبول. أو { من بين أيديهم } أثوّر عليهم أهاليهم وأولادهم ليمنعوهم عن طلب الحق { ومن خلفهم } أثور عليهم آباءهم وأمهاتهم { وعن أيمانهم } أثور عليهم أحباءهم { وعن شمائلهم } أثور عليهم أعداءهم وحسادهم. { ولا تقربا هذه الشجرة } يعني شجرة المحبة فإن المحبة مطية المحنة { فتكونا من الظالمين } على أنفسكما لأن للمحبة ناراً ونوراً فمن لم يرد نارها لم يجد نورها ومن يرد نارها احترقت أنانيته فيبقى بلا هوية نفسه مع هوية ربه فههنا يجد نور المحبة ويتنور به كقوله: { يحبهم ويحبونه } [المائدة: 54] فشجرة المحبة شجرة غرسها الرحمن بيده لأجل آدم كما خمر طينة آدم بيده لأجل هذه الشجرة، وإنّ منعه منها كان تحريضاً له على تناولها فإن الإنسان حريص على ما منع. ولم تكن الشجرة طعمة لغير آدم وأولاده { إلا أن تكونا ملكين } أي من أهل السلو كملكين في زوايا الجنة { أو تكونا من الخالدين } في الجنة كالحور والرضوان فسقاهما إبليس في كأس القسم شراب ذكر الحبيب { وقاسمهما } فلما غرقا في لجّة المحنة وذاقا شجرة المحبة { بدت لهما سوآتهما } أي سوآت نار المحبة قبل نورها وهي نار فرقة الأحبة في البداية { وطفقا } لاشتعال نائرة المحبة يجعلان كل نعيم الجنة على نارهما، فلما التهبت احترقت بلظى نارها حبة الوصلة ونعب غراب البين بالفرقة.

فبينما نحن في لهو وفي طرب بدا سحاب فراق صوبه هطل
وإن من كنت مشغوفاً بطلعته مضى وأقفر منه الرسم والطلل
فالصبر مرتحل والوجد متصل والدمع منهمل والقلب مشتعل

{ وناداهما ربهما } نداء العزة والكبرياء { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } فإنها تذل العزيز وتزيل النعيم وتذهب الطرب وتورث التعب والنصب { إن الشيطان لكما عدوّ مبين } ولكن في عداوته صداقة مخفية تظهر ولو بعد حين:

واخجلتا من وقوفي باب دارهم لو قيل لي مغضباً من أنت يا رجل

فانغسل بماء الخجل منهما رعونات البشرية ولوث العجب والأنانية فرجعا عما طمعا فيه ووقفا لديه وعلما أن لا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه فقالا { ربنا ظلمنا أنفسنا } بأن أوقعناها في شبكة المحبة لا المحبة تبقينا بالوصال ولا المحنة تفنينا بالزوال { وإن لم تغفر لنا } بنوال الوصال { وترحمنا } بتجلي الجمال { لنكونن من الخاسرين } الذين خسروا الدنيا والعقبى ولم يظفروا بالمولى. فأمرا بالصبر على الهجر وقيل: { اهبطوا بعضكم لبعض عدو } النفس عدو القلب والروح، والقلب عدو لما سوى الله { ولكم } للنفس والقلب والرفع في أرض البدن مقام وتمتع في الشريعة باستعمال الطريقة للوصول إلى الحقيقة إلى حين تصير النفس مطمئنة تستحق الخطاب، ارجعي من الهبوط وارفعي بعد السقوط.

إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا.

{ قال فيها } أي في المحبة { تحيون } بصدق الهمة وقرع باب العزيمة { وفيها تموتون } بطلب الحق على جادة الشريعة بإقدام الطريقة { ومنها تخرجون } إلى عالم الحقيقة.