التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٥٤
ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
٥٥
وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٦
وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٥٧
وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
٥٨
-الأعراف

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { يغشي } بالتشديد حيث كان: حمزة وعلي وخلف وأبو بكر وحماد وسهل ويعقوب غير روح. { والشمس والقمر والنجوم مسخرات } كلها بالرفع: ابن عامر. الآخرون بالنصب. { الريح } على التوحيد: ابن كثير وحمزة وعلى خلف { نشرا } بالنون وسكون الشين: ابن عامر. وبفتح النون وسكون الشين: حمزة وعلي وخلف وأبو زيد عن المفضل. وبضم الباء الموحدة والشين الساكنة: عاصم غير أبي زيد الباقون بضم النون والشين. { ميت } بالتشديد: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وحفص والمفضل { نكداً } بفتح الكاف: يزيد. الآخرون بكسرها.
الوقوف: { حثيثاً } ط لمن قرأ { والشمس } وما بعده مرفوعات { بأمره } ط { والأمر } ط { العالمين } ه { وخفية } ط { المعتدين } ه للعطف مع الآية. { وطمعاً } ط { المحسنين } ه { رحمته } ط { الثمرات } ط { تذكرون } ه { بإذن ربه } ج للابتداء مع العطف { نكداً } ط { يشكرون } ه.
التفسير: لما بالغ سبحانه في تقرير أمر المعاد عاد على عادته إلى بيان المبدإ وهو ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم تأكيداً للمعاد. والمعنى إن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكاره هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأجسام الجسام وأودع فيها أنواع المنافع وأصناف الفوائد، فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات ويعوّل على غيره في تحصيل السعادات؟ قال علماء الأدب: أصل ست سدس بدليل سديس وأسداس. ثم إن العرب كانوا يخاطبون اليهود فالظاهر أنهم سمعوا بعض أوصاف الخالق منهم فكأنه سبحانه يقول: لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتها ونهاية جلالتهما في ستة أيام. قيل: إنه تعالى كان قادراً على إيجادهما دفعة واحدة فما الفائدة في ذكر أنه خلقهما في ستة أيام في أثناء ذكر ما يدل على وجود الصانع؟ وأجيب بأنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور والصبر فيها كيلا يحمل المكلف تأخير الثواب والعقاب على التعطيل. ومن العلماء من قال: إن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذلك إنما وقع على سبيل الاتفاق، أما إذا أحدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للحكمة والمصلحة كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث حكيم عليم قادر رحيم. وأيضاً ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أوّلاً ثم يخلق السموات والأرض بعده لأن خلق ما لا ينتفع به في الحال يجر إلى العبث. ثم إن ذلك العاقل - ملكاً كان أو جنياً - إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على سبيل التعاقب والتوالي كان ذلك أقوى في إفادة اليقين لأنه يتكرر على عقله ظهور هذه الدلائل لحظة فلحظة. وأما تقدير المدة بستة أيام فلا يرد عليه إشكال لأن السؤال يعود على أي مقدار فرض، وقيل: إن لعدد السبعة شرفاً عظيماً ولهذا خصت ليلة القدر بالسابع والعشرين. فالأيام الستة لتخليق العالم والسابع لتحصيل كمال الملك والملكوت. فإن قيل: كيف يعقل حصول الأيام قبل خلق الشمس التي نيط تقدير الأزمنة بطلوعها وغروبها؟ فالجواب أن المراد خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام كقوله:
{ ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [مريم: 62] والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا صباح عند الله ولا مساء. وعن ابن عباس أن هذه الأيام أيام الآخرة كل يوم ألف سنة مما تعدون. والأكثرون على أنها أيام الدنيا لأن التعريف بها يقع. والظاهر أنها الأيام بلياليها لا النهار. ونقول: يمكن أن تحمل الأيام الستة على الأطوار الستة التي للأجسام الهيولي والصورة والجسم البسيط ثم المركب المعدني والنباتي والحيواني والله تعالى أعلم بمراده. أما قوله سبحانه: { ثم استوى على العرش } فحمل بعضهم الاستواء على الاستقرار وزيف بوجوه عقلية ونقلية منها: أن استقراره على العرش يستلزم تناهيه من الجانب الذي يلي العرش، وكل ما هو متناهٍ فاختصاصه بذلك الحد المعين يستند لا محالة إلى محدث مخصص فلا يكون واجباً. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون الإله تعالى نوراً غير متناهٍ ويراد باستقراره على العرش بلا تناهيه إحاطته به من الجوانب ونفوذه في الكل لا كإحاطة الفلك الحاوي بالمحوى. ولا كنفوذ النور المحسوس في الشرف، بل على نحو آخر تعوزه العبارة. ومنها أنه تعالى لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناهٍ من كل الجهات أو متناهياً من بعضها دون بعض. وعلى الأول يلزم اختلاطه بجميع الأجسام حتى للقاذورات ومع ذلك فالشيء الذي هو محل السموات، إما أن يكون عين الشيء الذي هو محل الأرض أو غيره، وعلى الأول يلزم أن يكون السماء والأرض حالين في محل واحد فهما شيء واحد لا شيئان. وعلى الثاني يلزم التركيب والتجزئة في ذاته تعالى. وأما إن كان متناهياً من الجهات فلو حصل في جميع الأحياز فهو محال بالبديهة، وإن حصل في حيز واحد فلو كان جوهراً فرداً لزم أن يكون واجب الوجود أحقر الأشياء وإلا لزم التبعيض لأن جهة الفوق منه تكون مغايرة لمقابلتها. وكذا الكلام فيه إن كان متناهياً من بعض الجهات، ولو جاز أن يكون الشيء المحدود من جانب أو جوانب قديماً أزلياً فاعلاً للعالم فلم لا يجوز أن يقال فاعل العالم هو الشمس والقمر أو كوكب آخر؟ وأيضاً يصح على الشق المتناهي أن يكون غير متناهٍ وعلى غير المتناهي أن يكون متناهياً، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي فيصح النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفريق والتمزق على ذاته تعالى فيكون ممكناً محدثاً لا واجباً قديماً. ولقائل أن يقول: إنه غير متناهٍ ولا يلزم من ذلك أن يكون محلاً للعالم ولا حالاً فيه، واستصحاب الشيء للمحل غير كونه نفس المحل أو مفتقراً إلى المحل. وحديث اختلاطه بالقاذورات تخييل لا أصل له عند الرجل البرهاني. ومنها أنه لو كان الباري يتعالى حاصلاً في المكان والجهة لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجوداً مشاراً إليه أو لا يكون. فإن كان موجوداً كان له بعد وامتداد وللحاصل فيه أيضاً بعد وامتداد فيلزم تداخل البعدين ومع ذلك يلزم كون الجهة والحيز أزليين ضرورة كون الباري تعالى أزلياً ومحال أن يكون ما سوى الواجب أزلياً، وإن لم يكن موجوداً لزم كون العدم المحض ظرفاً لغيره ومشاراً إليه بالحس وذلك باطل. واعترض بأن ذلك أيضاً وارد عليكم في قولكم: "الجسم حاصل في الحيز والجهة". وأجيب بأن مكان الجسم عندنا عبارة عن السطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا المعنى بالاتفاق في حق الله محال فسقط الاعتراض. ولقائل أن يقول: الجهة مقطع الإشارة الحسية وهذا في حقه محال لعدم تناهيه. ولم لا يجوز أن يكون المكان خلاء فلا يلزم تداخل البعدين ولو لزم هناك لزم في الأجسام أيضاً بل لا بعد هناك ولا امتداد، ولو فرض فلن يلزم منه الانقسام في الخارج، ومنها أنه لو امتنع وجود الباري تعالى بحيث لا يكون مختصاً بالحيز والجهة لكانت ذاته مفتقرة في تحققها ووجودها إلى غيره فيكون ممكناً. والجواب ما مر من أن استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إليه. ومنها أن الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض، ولأن هذا المفهوم واحد فالأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية. فلو اختص ذاته تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به لمخصص مختار، وكل ما كان فعل الفاعل المختار فهو محدث، فحصوله في الحيز محدث وكل ما لا يخلو عن الحادث فهو أولى بالحدوث فالواجب محدث هذا خلف. ولقائل أن يقول: ما لا يتناهى لا يعقل له حيز معين ولو فرض لا تناهي الأحياز أيضاً فافتقاره إليها ممنوع، وكيف يفتقر الشيء إلى ما تأخر وجوده عن وجود ذلك الشيء والمعية بعد ذلك لا تضر؟ ومنها لو كان في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بالحسن، ثم إن كان قابلاً للقسمة لزم التجزي وإلا لكان نقطة أو جوهراً فرداً فلا يبعد أن يقال: إن إله العام جزء من ألف جزء من رأس إبرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن كونه مع الحيز من جميع الجهات المفروضة يستلزم كونه مشاراً إليه حساً فإن العقل يعجز عن إدراكه فضلاً عن الحس وباقي الكلام لا يستحق الجواب. ومنها كل ذات قائمة بالنفس يشار إليها بحسب الحس فلا بد أن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب شماله فيكون منقسماً وكل منقسم مفتقر ممكن. قالوا: هذا الدليل مبني على نفي الجوهر الفرد. ومنها لو كان في حيز لكان إما أعظم من العرش أو مساوياً له أو أصغر منه والثالث باطل بالإجماع والأولان يستلزمان الانقسام لأن المساوي للمنقسم منقسم وكذا الزائد عليه، لأن القدر الذي فضل به عليه مغاير لما سواه. ولقائل أن يقول: لا نسبة بين الجسم وبين نور الأنوار وتستحيل هذه التقادير. ومنها أنه لو فرض كونه تعالى غير متناهٍ من جميع الجهات كما يزعم الخصم لزم لا تناهي الأبعاد وإنه محال لبرهان تناهي الأبعاد. ولقائل أن يقول: إن برهان تناهي الأبعاد لا يسلم ولو سلم فلا بعد فيما وراء العالم الجسماني ولا امتداد. ومنها أنه سبحانه لو كان حاصلاً في الحيز لكان كونه هناك أما أن يمنع من حصول جسم آخر فيه أو لا يمنع. وعلى الأول كان تعالى مساوياً لجميع الأجسام في هذا المعنى، ثم إنه إن لم تحصل بينه وبينها ومخالفة بوجه آخر صح عليه ما يصح عليها من التغيرات وإنه محال، وإن حصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايراً لما به المخالفة فيكون الواجب مركبا بل ممكناً. وأيضاً إن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلاً لما به المخالفة أو حالاً فيه أو لا هذا ولا ذاك. فإن كان محلاً له كان البعد جوهراً قائماً بنفسه والأمور التي بها حصلت المخالفة أعراضاً وصفات، وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما يصح على بعضها يصح على البواقي، وكل ما يصح على بعض الأجسام من التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد يصح على ذاته تعالى. وإن كان ما به المخالفة محلاً وذوات وما به المشاركة حالاً وصفة فذلك المحل إن كان له أيضاً اختصاص بحيز وجهة فيجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإلا كان موجوداً مجرداً فلا يكون بعداً وامتداداً هذا خلف. وإن لم يكن حالاً ولا محلاً كان أجنبياً مبايناً فتكون ذات الله تعالى مساوية لتمام الأجسام في الماهية ويصح عليه ما يصح عليها هذا محال، وعلى التقدير الثاني - وهو أن ذاته تعالى لا تمنع من حصول جسم آخر في حيزه - لزم سريانه في ذلك الجسم وتداخل البعدين كما مر والكل محال، فالمقدم وهو كونه تعالى في حيز محال. ولقائل أن يقول: كون البارىء تعالى مع الحيز مغاير لكون الجسم في الحيز فأين الاشتراك؟ ولو سلم فالاشتراك في اللوازم لا يوجب الاشتراك في الملزومات فمن أين يلزم التركيب؟ قوله: "فإن كان محلاً له كان البعد جوهراً قائماً بنفسه" قلنا: كون البعد جوهراً قائماً بنفسه حق، ولكن الملازمة ممنوعة، وكذا قوله: "الأمور التي بها حصلت المخالفة" أعراض وصفات لجواز قيام العرض بالعرض كالبطء والسرعة القائمين بالحركة، قوله: "وإلا كان موجوداً مجرداً فلا يكون بعداً" ممنوع لما قلنا من احتمال وجود بعد مجرد بلا وجوبه، والكلام في سريانه في الموجودات قد مر. ومنها أنه لو كان في حيز فإن أمكنه التحرك منه بعد سكونه فيه كان المؤثر في حركته وسكونه فاعلاً مختاراً، وكل فعل لفاعل مختار فهو محدث وما لا يخلو عن المحدث أولى بأن يكون محدثاً وإن لم يمكنه التحرك منه كان كالزمن المعقد العاجز وذلك محال. وأيضاً لا يبعد فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عنها فلا يمكن إثبات حدوث الأجسام بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر. ولقائل أن يقول: إن الحركة والسكون من خواص الأجسام المفتقرة إلى أحياز، فأما النور المجرد فلا يوصف بالحركة والسكون وإن كان مع الحيز والمتحيز. سلمنا وجوب اتصافه بأحدهما فلم لا يجوز أن لا يمكنه التحرك لا لكونه زمناً مقعداً ولكن لأنه نور غير متناهٍ لا يصح وصفة بالتخلخل والتكاثف ونحو ذلك، فتستحيل عليه الحركة لأنها موقوفة على شغل حيز وتفريغ حيز آخر، ولأن العالم النوراني الذي لا نهاية له مملوء منه فكيف يتصور خلو حيز عنه؟ ومنها أنه لو كان مختصاً بحيز فإن كان لطيفاً كالماء والهواء كان قابلاً للتفرق والتمزق، وإن كان صلباً كان إله العالم جبلاً واقفاً في الحيز العالي، وإن كان نوراً محضاً جاز أن تفرض هذه الأنوار التي تشرق على الجدران إلهاً. وأيضاً إن كان له طرف وحدّ فإن كان ذا عمق وثخن كان باطنه غير ظاهره وإلا كان سطحاً في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منها ألف ألف مرة. قلت: إن أمثال هذه الكلمات لا تصدر إلا عمن لا يفرق بين النور المعقول والنور المحسوس، والجوهر المجرد والجوهر المادي، والشيء القائم بذاته والمفتقر إلى غيره. ومن العجب العجاب أن هذا المستدل قد سمع من جمهور العقلاء أن الأجرام الفلكية لا تطلق عليها الصلابة واللين، وإذا جاز أن يكون في أنواع الأجسام نوع لا يمكن أن يتصف بهذين المتقابلين لأن ذلك الموضع أجل وأشرف من أن يتصف بأحدهما، فلم لا يجوز أن يكون فيما هو أشرف من ذلك النوع شيء لا يتصف بهما؟! ومنها لو كان إله العالم فوق العرش لكان مماساً للعرش أو مبايناً له ببعد متناهٍ أو غير متناهٍ. وعلى الأول فإن لم يكن له ثخن كان سطحاً رقيقاً كما مر، وإن كان له ثخن فالمماس مغاير لغير المماس ويلزم تركيبه، وإن كان مبايناً ببعد متناهٍ فلا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى أن يماسه ويعدو الإلزام المذكور، وإن كان مبايناً ببعد غير متناهٍ لزم أن يكون غير المتناهي محصوراً بين الحاصرين، ولقائل أن يقول: المباينة والمماسة من خواص الأجسام وإنه تعالى نور مجرد محض فلا يصلح عليه الاتصال والانفصال والتماس والتباين والتداخل وأشباه ذلك. ومنها أن الاستقراء قد دل على أن الجرمية كلما كانت أقوى كانت الفاعلية والتأثير أضعف وبالعكس، ولهذا كان تأثير الأرض أقل من تأثير الماء، وتأثير الماء من تأثير الهواء، وتأثير الهواء من تأثير النار بالإحراق والطبخ، وتأثير النار من تأثير الأفلاك المؤثرة في العنصريات. ثم إنه لا قدرة ولا قوة أشد من قدرة الواجب لذاته فيكون بريئاً من الحجم والجرم والكثافة والرزانة. قلت: في الاستقراء نزاع إنه صحيح تام أولاً، ولكن لا نزاع في أن واجب الوجود تعالى شأنه بريء عن الحجمية والكثافة وعن كل شيء يقدح في قيوميته. وههنا حجج قد أوردت في أوائل سورة الأنعام في تفسير قوله سبحانه: { وهو القاهر فوق عباده } [الأنعام: 18] وقد عرفت ما عليها فهذه حجج عقلية عول عليها الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه في تفسيره الكبير، وقد أوردنا عليها ما كانت ترد من المنوع والاعتراضات لا اعتقاداً للتشبيه والتجسم أو تقليداً لأولئك الأقوام بل تشحيذاً للذهن وتقريباً إلى المعارف والحقائق وجذباً بضبع المتأمل في المضايق والمزالق فليختر المنصف ما أراد والله الموفق للرشاد. ولعل هذا المقام مما لا يكشف المقال عنه غير الخيال والله أعلم بحقيقة الحال. ثم قال رضي الله عنه: وأما الدلائل السمعية فكثيرة منها قوله تعالى: { قل هو الله أحد } [الإخلاص: 1] والأحد مبالغة في كونه واحداً والذي يمتلىء منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركباً من أجزاء فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحداً. وأجيب بأنه ذات واحدة حصلت في كل الأحياز دفعة واحدة، وزيف بأن هذا معلوم الفساد بالضرورة لو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال جميع العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة الأحياز فظن أنه أشياء كثيرة. قلت: وهذه مغالطة فإن هذا الجزء الذي لا يتجزأ لصغره غير الشيء الذي لا يقبل التجزئة والأنقسام لذاته. وأيضاً المتحيز الذي مقداره ذراع في ذراع لا يشغل بالبديهة حيزين كل منهما ذراع في ذراع فلزم منه أن لا يشغل ذينك الحيزين متحيز مقداره. ضعف ذلك على أن الحق ما عرفت مراراً أن نور الأنوار قيوم في ذاته حاصل في جميع الأشياء لا منفصل عنها انفصال المحيط عن المحاط، ولا متصل بها اتصال العرض الساري في الأجسام، ولهذا لا يلزمه بانقسامها الانقسام. ومنها قوله: { { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية } [الحاقة: 17] ويلزم منه أن يكون حامل العرش حاملاً للإله. والجواب أنك إن سميت المعية حملاً فلا نزاع. ومنها قوله: { والله الغني } [ محمد: 38] فوجب أن يكون غير مفتقر إلى المكان والجهة، والجواب أن الاستصحاب غير الافتقار. ومنها أن فرعون طلب حقيقة الإله في قوله: { وما رب العالمين } [الشعراء: 23] ولم يزد موسى على ذكر الأوصاف. وأما فرعون فقد طلب الإله في السماء في قوله { فأطلع إلى إله موسى } } [غافر: 37] فعلمنا أن التنزية دين موسى ووصفه بالمكان والحيز دين فرعون. والجواب لا نزاع في أن حقيقة ذاته كما هي لا يعلمها إلا هو والبسائط المحضة لا تعرف إلا بلوازم، وطلب فرعون إنما كان مذموماً لأنه تصور أن يكون الإله شخصاً مثله على تقدير وجوده لقوله: { ما علمت لكم من إله غيري } [القصص: 38]. ومنها هذه الآية لأنها تدل على أنه استقر على العرش بعد تخليق السموات والأرض وكان قبل ذلك مضطرباً. والجوب المراد بالاستقرار أنه كان ولم يكن معه شيء فإذا خلق ما خلق من عالم الأجسام والأختلاط بقي ما وراءه نوراً محضاً. ومنها قصة إبراهيم وتبرئه من الآفلين ولو كان جسماً لكان آفلاً في أفق الإمكان. والجواب أن نور الأنوار أجل من ذلك ولا يلزم من كونه مع جميع الأحياز ومع ما سواها أن يكون في مرتبة الأجسام بل النفوس والعقول. ومنها أن أول الآية أعني قوله: { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } يدل على قدرته وحكمته وكذا قوله { يغشي الليل النهار } إلى آخر الآية. فلو كان المراد من الاستواء هو الاستقرار كان أجنبياً عما قبله وعما بعده لأنه ليس من صفات المدح إذ لو استقر عليه بق وبعوض صدق عليه أنه استقر على العرش. فإذن المراد بالاستواء كمال قدرته في تدبير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها. والجواب أن الاستقرار بالتفسير الذي ذكرناه أدل شيء على المدح والثناء، وحديث البق والبعوض خراف وهل هو إلا كقول القائل: لو كان واجب الوجود بقاً أو بعوضاً صدق عليه أنه إله فلا يكون الإله دالاً على المدح. ومنها أنه سبحانه حكم في آيات كثيرة بأنه خالق السموات فلو كان فوق العرش كان سماء لساكني العرش لأن السماء عبارة عن كل ما علا وسما، ومن هنا قد يسمى السحاب سماء فيلزم أن يكون خالقاً لنفسه. والجواب بعد تسليم أن كل ما سما وارتفع فهو سماء من غير اعتبار أنه نور أو جسم، أن ذاته سبحانه مخصوصة بدليل منفصل كقوله: { الله خالق كل شيء } [الرعد: 16] هذا ولغير الموسومين بالمجسمة والمشبهة في الآية قولان: الأول القطع بكونه متعالياً عن المكان والجهة ثم الوقوف عن تأويل الآية وتفويض علمها إلى الله، والثاني الخوض في التأويل وذلك من وجوه: أحدها تفسير العرش بالملك والاستواء بالاستعلاء أي استعلى على الملك. وثانيها: أن "استوى" بمعنى "استولى" كقول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

وثالثها ذكر القفال أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك. يقال: استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه إذا استقام له أمره واطرد. وفي ضدّه خلا عرشه أي انتقض ملكه وفسد. فالله تعالى دلّ على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم بالوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم لتستقر عظمة الله تعالى في قلوبهم إلا أن ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال: إنه عالم فهموا منه أنه تعالى لا يخفى عليه شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة أو روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال: قادر. علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم عرفوا أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدّة والفكرة والروية، وكذا القول في كل من صفاته. وإذا أخبر أن له بيتاً يجب على عباده حجه فهموا منه أنه نصب موضعاً يقصدونه لمآربهم وحوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكناً لنفسه ولم ينتفع به لدفع الحر والبرد. وإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا أنه لا يفرح بذلك التحميد والتمجيد ولا يحزن بتركه والإعراض عنه. وإذا أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش فهموا منه أنه بعد أن خلقهما استوى على عرش الملك والجلال. ومعنى التراخي أنه يظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلقها لأن تأثير الفاعل لا يظهر إلا في القابل. وقال أبو مسلم: العرش لغة هو البناء والعارش الباني قال تعالى: { ومن الشجر ومما يعرشون } [النحل: 68] فالمراد أنه بعد أن خلقها قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها.
قوله سبحانه: { يغشي الليل النهار } قال صاحب الكشاف: يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل يحتملهما اللفظ جميعاً. وقال القفال: لما أخبر بالاستواء على العرش وأن أمر المخلوقات منوط بتدبيره ومشيئته أراهم ذلك عياناً فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر. وقدم ذكر الليل والنهار لما في تعاقبهما من المنافع الجليلة فبهما تتم أمور الحياة، ثم وصف الحركة التي يحصلان منها بالسرعة والشدةّ فقال { يطلبه حثيثاً } قال الليث: الحث الإعجال وذلك أن حركة الفلك الأعظم أشدّ الحركات سرعة حتى إنها في مقدار ما تقول واحد واحد واحد يتحرك ألفاً وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخاً من مقعر فلكه والله أعلم بتحرك محدبه. فإن قيل: ما محل الجملتين؟ قلت: أما الأولى فمستأنفة كأنه قيل: فماذا يفعل بعد خلق السموات والأرض؟ فأجيب يغشي الليل النهار. وعلى قول من يفسر الاستواء بالتدبير والتصرف يحتمل أن تكون هذه الجملة مبينة. وأما الثانية ففي محل النصب على الحال من الملحق كما أن { حثيثاً } منصوب على الحال من الطالب وهو الملحق بعينه. ثم قال: { والشمس والقمر والنجوم مسخّرات } من قرأهن منصوبات فمعناه وخلق هذه الأجرام حال كونهن تحت تسخيره، ومن قرأها مرفوعات فعلى الابتداء والخبر، وكلتا القراءتين حسنة لأنك إذا قلت: ضربت زيداً استقام أن يقال زيد مضروب. وقوله: { بأمره } متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره. قال في الكشاف: سمي ذلك أمراً على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك. ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الذي هو الكلام، وعلى هذا لا يبعد أن يكون { بأمره } متعلقاً بـ { خلق }. بدأ بالشمس لأنه سلطان الكواكب، وثنى بالقمر لأنه كالنائب، وثلث بسائر النجوم لأنها كالخدم. فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، والشمس تأثيرها بالتسخين، والقمر تأثيره بالترطيب، وتوليد المواليد الثلاثة المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة. ثم إنه سبحانه وتعالى خص كل كوكب بخاصية عجيبة وتأثير غريب لا يعلمه بتمامه إلا مبدعه وخالقه، واعلم أن الأجسام متماثلة في الجسمية؛ فاختصاص جرم الشمس بالنور الباهر والتسخين الشديد والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي وكذا تخصيص كل واحد من سائر السيارات والثوابت بقوّة أخرى لا بد أن يستند إلى فاعل حكيم قدير عليم فلهذا قال: { مسخرات بأمره }. وأيضاً إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيراً خاصاً من المغرب إلى المشرق، وسيراً آخر سريعاً بسبب حركة الفلك الأعظم، فقوله: { يغشي الليل النهار } تنبيه على أن حدوث الليل والنهار إنما هو بحركة الفلك الأعظم المسمى بالعرش، وقوله: { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } إشارة إلى أن العرش يحرك جميع الأفلاك والكواكب وأنه سبحانه أودع في جرمه قوّة قاهرة قاسرة باعتبارها قويت على تحريك من دونه على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب. وأيضاً أن أقسام الأجسام ثلاثة: متحرك إلى الوسط وهما العنصران الثقيلان، ومتحرك عن الوسط وهما الخفيفان، ومتحرك على الوسط وهي الأجرام الفلكية، فيكون الأفلاك والكواكب متحركة بالاستدارة لا إلى المركز ولا عن المركز لا يكون إلا بتسخير الله تعالى، ولأمر ما أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية تبدل الضياء بالظلام وبالعكس، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وأمر بالنظر في ملكوت السماء والغبراء وبالتفكر فيهما قائلاً:
{ أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } [الأعراف: 185] { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها } [ق: 6] { أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [الروم: 8] وإن من صنف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان: منهم من اعتقد كونه كذلك على الإجمال، ومنهم من وقف على دقائقها على سبيل التفصيل والكمال، ولا ريب أن اعتقاد الفريق الثاني يكون أكمل وأقوى إذا ثبت هذا فنقول: من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث حصل له بهذا الطريق إثبات الصانع، أما الذي ضم إلى هذه المعرفة البحث عن أحوال هذا العالم العلوي والعالم السفلي على التفصيل الممكن لا يزال ينتقل من برهان إلى برهان ومن دليل إلى دليل فإن يقينه يتزايد وبصيرته تتكامل إلى أن يصير علماً معقولاً مضاهياً لما عليه الموجود، ولمثل هذه الفوائد والأغراض والغايات أنزل هذا الكتاب الكريم لا لتكثير وجوه الإعراب والاشتقاقات المؤدية إلى الإطناب والإسهاب، وأما قوله عز من قائل { ألا له الخلق والأمر } فالخلق عبارة عن التقدير ويختص بكل ما هو جسم وجسماني لأنه خص بمقدار معين، فكل ما كان بريئاً عن الحجم والمقدار فهو من عالم الأرواح وعالم الأمر لأنه أوجد بأمر "كن" من غير سبق مادّة ومدّة، فعالم الخلق في تسخيره وعالم الأمر في تدبيره واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره. وههنا مسائل ذكرها العلماء: الأولى أنه تعالى متكلم آمر ناهٍ مخبر مستخبر لأن قوله: { ألا له الخلق والأمر } دل على أن له الأمر فوجب أن يكون له النهي وسائر أنواع الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفرق. الثانية لا خالق إلا هو لأن قوله: { ألا له الخلق } بتقديم الخبر يفيد الحصر. ولو سلم أنه لا يفيده فلا أقل من إفادة أنه خالق بعض الأشياء، وحينئذٍ يثبت المطلوب لأن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان مفهوم واحد في الممكنات وإنه علة للحاجة إلى موجود معين، فجميع الممكنات محتاجة إلى ذلك المعين فالذي يكون مؤثراً في وجود شيء واحد يجب أن يكون هو المؤثر في جميع الممكنات ولا يحتاج إلى الممكنات. الثالثة قالت الأشاعرة: كل أثر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي فخالق ذلك الأثر في الحقيقة هو الله تعالى لقوله: { ألا له الخلق والأمر } ويتفرع على هذا أنه لا إله إلا الله وإلا كان الثاني مدبراً وخالقاً، وأنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم، وأن القول بالطبائع والعقول والنفوس على ما يزعم الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل، وأن خالق أعمال العباد هو الله تعالى والقول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل، كل ذلك لئلا يلزم خالق ومؤثر غير الله تعالى. الرابعة كلام الله تعالى قديم لأنه ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان أمر الله مخلوقاً لما صح هذا التمييز. أجاب الجبائي بأنه لا يلزم من إفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلاً في الخلق كقوله: { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } { البقرة: 98] وعارض الكعبي بقوله: { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته } [الأعراف: 158] فإنه لو وجب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه لزم أن تكون الكلمات غير الله تعالى، وكل ما كان غير الله تعالى فإنه محدث ومخلوق فكلمات الله مخلوقة. وقال القاضي: اتفق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام الله تعالى بل المراد به نفاذ إرادته وإظهار قدرته، وقال قوم: لا يبعد أن يقال الأمر داخل في الخلق ولكنه من حيث كونه أمراً يدل على نوع آخر من الكمال والجلال. والمعنى له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى. ثم بعد الإيجاد والتكوين له الأمر والتكليف في المرتبة الثانية. وقال آخرون: معنى قوله: { ألا له الخلق } أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق، فقوله: { والأمر } يجب أن يكون معناه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر، ويلزم منه أن يكون الأمر محدثاً مخلوقاً لأنه لو كان قديماً لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان من لوازم ذاته فلا يصدق أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر هذا خلف. وأجيب بأنه لو كان الأمر داخلاً تحت الخلق لزم التكرار والأصل عدمه فلا يصار إليه إلا للضرورة ولا ضرورة ههنا. الخامسة في الآية دلالة على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئاً إلا الله، ففعل الطاعة لا يوجب الثواب، وفعل المعصية لا يوجب العقاب، وإيصال الألم لا يوجب العوض. السادسة دلت الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه، وأن الحسن لا يحسن لأمر عائد إليه وإلا لم يأمر إلا بما حصل فيه وجه الحسن ولم ينه إلا عما حصل فيه وجه القبح، فلا يكون متمكناً من الأمر والنهي كيف شاء وأراد هذا خلف. السابعة أطلق الخلق والأمر فيعلم أنه لو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والكواكب في أقل من لحظة لقدر عليه، لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات. الثامنة قال قوم: الخلق صفة من صفات الله تعالى وهو غير المخلوق لأن أهل السنة يقولون: معنى قوله: { الأمر لله } أنه صفة له فكذا الخلق صفة قائمة بذاته فلا يكون مخلوقاً، وأجيب بأن الخلق لو كان غير المخلوق فإما أن يكون قديماً ويلزم من قدمه قدم المخلوق، وإما أن يكون حادثاً فيفتقر إلى خلق آخر ويتسلسل، ويمكن أن يقال: الصفة قديمة والتعلق حادث. التاسعة له الأمر يقتضي أن لا أمر لله. وقول النبي صلّى الله عليه وآله: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" لا ينافي ذلك لأن الموجب لأمره في الحقيقة هو أمر الله تعالى، العاشرة في الآية دلالة على أن الله تعالى أمراً ونهياً على عباده والخلاف مع نفاة التكليف. قالوا: إن كان التكليف معلوم الوقوع كان واجب الوقوع فكان الأمر به تحصيلاً للحاصل، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فكان الأمر به أمراً بما يمتنع وقوعه وهو محال. وأيضاً إنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله كان واجب الوقوع وإلا فلا فائدة في الأمر به. وأيضاً الكافر أو الفاسق لا يستفيد بالتكليف، إلا الضرر المحض لأنه تعالى يعلم أنه لا يؤمن ولا يطيع وخلاف علم الله محال فلا يحصل من الأمر إلا مجرد استحقاق العذاب وهذا لا يليق بالرحيم الحليم. وأيضاً التكليف إن لم يكن لفائدة في الأمر فهو عبث، وإن كان لفائدة فلا بد أن تعود إلى المكلف لأنه سبحانه غني فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل نفع أو دفع ضر والله تعالى قادر على تحصيلهما للمكلف من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضراراً محضاً. والجواب أن أوّل الآية دل على أنه تعالى هو الخالق لكل العبيد، وإذا كان خالقاً لهم كان مالكاً لهم، وتصرف المالك في ملك نفسه كيف شاء مستحسن، ويحسن منه تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقاً لا كما يقول المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحاً أو من كونه موجب عوض أو ثواب. ولما بين أن له الأمر والنهي والحكم والتكليف ذكر أنه يستحق الثناء والتقديس فقال: { تبارك الله رب العالمين } وللبركة تفسيران: أحدهما الثبات والدوام ولا ريب أنه الواجب لذاته القائم بذاته الدائم الغني بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه. وثانيهما كثرة الآثام الفاضلة. ولا شك أن كل الخيرات والكمالات فائضة من جوده وإحسانه بل جميع الممكنات رشحة من بحار فضله وامتنانه. ثم لما بيّن كمال قدرته وحكمته وأرشد إلى التكليف الموصل إلى سعادة الدارين أتبعه ذكر ما يستعان به على تحصيل المطالب والمآرب الدينية والدنيوية فقال: { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } قال في الكشاف: نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية وكذلك { خوفاً وطمعاً } قلت: ويحتمل الانتصاب على المصدر مثل: رجع القهقرى. والتضرع التذلل وهو إظهار ذل النفس والخفية بالضم أو الكسر ضد العلانية. قال بعض العلماء: الدعاء ههنا بمعنى العبادة لئلا يلزم التكرار وعطف الشيء على نفسه في قوله: { وادعوه خوفاً وطمعاً } والأظهر أنه على الأصل. ومن الناس من أنكر الدعاء قال: لأن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع أو كان مراداً في الأزل أو كان على وفق الحكمة والمصلحة وقع لا محالة وإلا فلا فائدة فيه. وأيضاً إنه نوع من سوء الأدب وعدم الرضا بالقضاء وقد يطب ما ليس بنافع له. وفيه من الاشتغال بغير الله وعدم التوكل عليه ما لا يخفى. والحق أن الدعاء نوع من أنواع العبادة ورفضه يستدعي رفض كثير من السوائل والوسائط والروابط، ولو لم يكن فيه إلاّ معرفة ذلة العبودية وعزة الربوبية لكفى بذلك فائدة، ولهذا روي عنه صلى الله عليه وسلم وآله: "ما من شيء أكرم على الله سبحانه من الدّعاء" إلا أنه لا بد فيه من الإخلاص والصون عن الرياء والسمعة، وإليهما أشار بقوله: { تضرعاً وخفية } ونحن قد أطنبنا في تحقيق الدعاء وشرائطه في سورة البقرة في تفسير قوله: { وإذا سألك عبادي عني } [البقرة: 186] ثم ختم الآية بقوله: { إنه لا يحب المعتدين } وللمسلمين اتفاق على أنه ليس معنى المحبة عند إطلاقها على الله شهوة النفس وميل الطبع ولكنها عبارة عن إيصاله الثواب والخير إلى العبد، وهذا مبني على قول الكعبي وأبي الحسين أنه تعالى غير موصوف بالإرادة، وأن كونه مريداً لأفعال نفسه عبارة عن إيجادها وفعلها، وكونه مريداً لأفعال غيره هو كونه آمراً بها. وأما الأشاعرة ومعتزلة البصرة القائلون بصفة الإرادة فإنهم فسروا المحبة بإرادة إيصال الثواب. وقال بعض العلماء: إنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخيرات إلى ذلك الابن وكانت هذه الإرادة أثراً من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها. غاية ما في الباب أن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة في النفس وذلك في حقه تعالى محال. إلا أنا نقول: لم لا يجوز أن يقال أن محبة الله صفة أخرى يترتب عليها إيصال الثواب أو إرادة الإيصال؟ لكنا لا نعرف تلك المحبة ما هي وكيف هي لأن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء. نظير ذلك أن أهل السنة يثبتون كونه مرئياً ثم يقولون إن تلك الرؤية لا كرؤية الأجسام والألوان. ويعني بالمعتدين المجاوزين ما أمروا به فيشمل كل من خالف أمر الله ونهيه. وقال الكلبي وابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء ويؤيده أنه أمر بالدعاء مقروناً بالإخفاء وظاهره الوجوب إذ قد أثنى على زكريا فقال: { إذ نادى ربه نداء خفياً } [مريم: 3] وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية" وعنه صلى الله عليه وسلم "خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي" وعنه صلى الله عليه وآله: "سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ قوله إنه لا يحب المعتدين" . ومن هنا اختلف أرباب الطريقة أن الأولى في العبادات الإخفاء أم الإظهار فقيل: الأولى الإخفاء صوناً لها عن الرياء. وقيل: الأولى الإظهار ليرغب غيره في الاقتداء. وتوسط الشيخ محمد بن علي الحكيم الترمذي فقال: إن كان خائفاً على نفسه من الرياء فالأولى في حقه الإخفاء، وإن بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمناً من شائبة الرياء فالأولى في حقه الإظهار ليحصل فائدة الاقتداء. قال الشافعي: إظهار التأمين أفضل. وقال أبو حنيفة: الإخفاء أفضل لأنه إن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله: { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } وإن كان اسماً من أسماء الله تعالى على ما قيل فكذلك لقوله تعالى: { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة } فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية، ثم نهى عن مجامع المفاسد والمضار بقوله: { ولا تفسدوا في الأرض } فيدخل فيه خمسة أشياء: المنع من إفساد النفوس بالقتل، ومن إفساد الأموال بقطع الطريق والسرقة، وإفساد الأنساب بالزنا واللواط والقذف، وإفساد العقول بشرب المسكرات، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة، وذلك أن قوله: { لا تفسدوا } منع عن إدخال ماهية الفساد في الوجود والمنع من الماهية يقتضي المنع من جميع أنواعه. ومعنى: { بعد إصلاحها } بعد أن أصلح خلق الأرض على الوجه المطابق لمنافع الخلق الموافق لمصالح المكلفين، أو المراد إصلاح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع، فإن الإقدام على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع يقتضي وقوع الهرج والمرج وحدوث الفتن في الأرض. وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار الحرمة فإن وجدنا نصاً خاصاً يدل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديماً للخاص على العام. وفيها أيضاً دلالة على أن كل عقد وقع التراضي به بين الخصمين فإنه منعقد صحيح لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفساداً بعد الإصلاح، فإن وجدنا نصاً يدل على عدم صحة بعض تلك العقود قضينا فيه بالبطلان عملاً بالأخص. فجميع أحكام الله تعالى داخلة تحت عموم هذه الآية الدالة على أن الأصل في المضار والآلام الحرمة كما كانت داخلة تحت عموم قوله: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [الأعراف: 32] بأنها كانت تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل، فكل واحدة من الآيتين مطابقة ومؤكدة للأخرى، ثم لما بين أن الدعاء لا بد أن يكون مقروناً بالتضرع والإخفاء وبعدم المنافي وهو الإفساد بالوجوه الخمسة، ذكر أن فائدة الدعاء والباعث عليه أحد الأمرين الخوف من العقاب والطمع في الثواب. واعترض عليه بأن أهل السنة يقولون: التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية أي كونه إلهاً لنا، وكوننا عبيداً له اقتضى أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء ولا يعتبر فيه كونه في نفسه صلاحاً وحسناً. والمعتزلة يقولون: إنها وردت لأنها في نفسها مصالح. فعلى القولين من أتى بها للخوف من العقاب والطمع في الثواب لم يأت بها لوجه وجوبها فوجب أن لا يصح. وأجيب بأن المراد من الآية ادعوه مع الخوف من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها أي كونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في جميع أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم قد أديتم حق ربكم كقوله: { والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة } [المؤمنون: 6]. والجواب الصحيح عندي أن غاية التكليف من الآمر غير غايته من المأمور إذاً فهب أن الغاية الأولى هي المصلحة أو الإلهية والعبودية فلم لا يجوز أن تكون الغاية الثانية الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب؟ ثم ختم الآية بقوله: { إن رحمة الله قريب من المحسنين } ظاهره أن يقال قريبة. وذكروا في حذف علامة التأنيث وجوهاً: فقيل: لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي. وقال الزجاج: لأن الرحمة غير حقيقي. وقال الزجاج: لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد، أو لأن المراد بالرحمة الترحم أو الرحم. وقيل: إنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب، أو شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول كما شبه ذاك به فقيل: قتلاء وأسراء، وقيل: لأنه بزنة المصدر كالنقيض صوت العقبان أو الدجاجة والضغيب صوت الأرنب. وقيل: المراد ذات مكان قريب كلابن وتامر، وروى الواحدي بإسناده عن ابن السكيت تقول العرب: هو قريب مني وهما قريب مني وهي قريب لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني. قال بعض المفسرين: معنى هذا القرب أن الإنسان يزداد بعداً عن الماضي وقرباً من المستقبل أي الآخرة التي هي مقام رحمة الله. ويمكن أن يقال: المراد به قرب الحصول سواء كان في الدنيا أو في الآخرة كقوله: { ألا إن نصر الله قريب } [البقرة: 214] قالت المعتزلة: إن ماهية الرحمة لما كانت حصة المحسنين وجب أن لا يحصل للكافر والفاسق منها شيء، والغرض أن صاحب الكبيرة لا يكون له نصيب من العفو. وأجيب بأن المحسن من صدر عنه الإحسان ولو من بعض الوجوه، فكل من آمن بالله تعالى وأقر بالتوحيد والنبوة فقد أحسن والدليل عليه الإجماع. على أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فإنه يسمى مؤمناً محسناً، على أن قوله ماهية الرحمة نصيب المحسنين ممنوع لأن الكافر أيضاً في رحمة الله ونعمته في الدنيا بدليل قوله: { ومن كفر فأمتعه } [البقرة: 126] ثم إنه سبحانه لما ذكر دلائل الآلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي أتبعه ذكر الدلائل من أحوال هذا العالم وهي الآثار العلوية من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها أحوال الرياح والسحب والأمطار. وأيضاً لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العليم الحكيم الرحيم أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر ليتم بالآيتين تقرير المبدأ والمعاد فقال: { وهو الذي يرسل الرياح } الريح هواء متحرك، وتحركه ليس لذاته ولا للوازم ذاته وإلا دام بدوام الذات، فهو بتحريك الفاعل المختار. قالت الحكماء: من أسباب الريح أن يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنت تسخيناً شديداً، فبسبب تلك السخونة ترتفع وتتصاعد، فإذا وصلت إلى قريب من الفلك فإن الهواء الملتصق بمقعر الفلك يمنع هذه الأدخنة من الصعود بل يردها عن سمت حركتها لتحرك تلك الطبقة على الاستدارة تشيعاً للفلك، فحينئذٍ ترجع الأدخنة وتتفرق في الجوانب وبسبب تفرقها تحصل الرياح. وكلما كانت تلك الأدخنة أكثر وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضاً أشد فكانت الرياح أقوى، وزيف بأن صعود تلك الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها بالعرض، فإذا تصاعدت ووصلت إلى الطبقة الباردة بردت فامتنع صعودها إلى الطبقة العليا المتحركة بحركة الفلك. سلمنا أنها تصعد إلى الطبقة المتحركة بالاستدارة لكن رجوعها يجب أن يكون على الاستقامة كما هو مقتضى طبيعة الأرض لكنها تتحرك يمنة ويسرة. وأيضاً إن حركة تلك الأجزاء لا تكون قاهرة فإن الرياح إذا أصعدت الغبار الكثير ثم عاد ذلك الغبار ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها، ونحن نرى هذه الرياح تقلع الأشجار وتهدم الجبال وتموج البحار، وأيضاً لو كان الأمر على ما قالوا لكانت الرياح كلما كانت أشد وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر وليس كذلك، لأنه قد توجد الرياح العاصفة في وجه البحر وليس فيها شيء من الغبار. ويمكن أن يجاب بأن الحكم بامتناع الصعود استبعاد محض وحديث الرجوع على الاستقامة مبني على أن الريح هي تلك الأجزاء الراجعة فقط وليس كذلك، فإن الراجع إذا خرق الهواء حدث فيما يجاوره من الهواء تحرك واضطراب وتموج شبه ما يحدث في الماء إذا ألقي فيه حجر، وكذا الكلام في الوجهين الباقيين. وقال المنجمون: قد يحدث بسبب وصول كوكب معين إلى موضع معين من البروج ريح عاصفة، وزيف بأنه لو كان كذلك لزم تحرك كل الهواء. والجواب أن وصول الكوكب إلى الموضع الفلاني إنما يوجب تحرك الهواء بتسخين أو تلطيف أو تكثيف يحدث في بعض المواد المستعدة لذلك فيطلب ذلك القابل مكاناً أكثر أو أقل مما كان عليه، فيلزم من ذلك تحرك الهواء المجاور له لاستحالة التداخل والخلاء لا يتدافع إلى أن يتحرك جميع كرة الهواء بل يتموج بعض أجزاء الهواء ثم يستقر كل في موضعه، ويختلف مقدار ذلك بحسب المؤثر والمتأثر والكل يستند إلى تدبير الله سبحانه وتقديره، وإنما قال في هذه السورة { يرسل الرياح } بلفظ المستقبل وكذا في "الروم" لأن ما قبله ههنا ذكر الخوف والطمع وأنهما يناسبان المستقبل، وأما في "الروم" فليناسب ما قبل { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } [الروم: 46] وقال في الفرقان: { أرسل الرياح } [الفرقان: 48] بلفظ الماضي ليناسب ما قبله: { كيف مد الظل } [الفرقان: 45] وما بعده { وهو الذي جعل } [الفرقان: 62] وكذا في "فاطر" مبني على أول السورة { فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة } [فاطر: 1] وهما بمعنى الماضي والله تعالى أعلم. أما قوله: { نشراً } بنون مفتوحة وشين ساكنة فإنه مصدر نشر. وانتصابه إما على الحال بمعنى منتشرات وإما لأن أرسل ونشر متقاربان كأنه قيل: نشرها نشراً. ومن قرأ { نشراً } بضمتين فلأنه جمع نشور كرسول ورسل، وقد تخفف كرسل، ومن قرأ { بشراً } بضم الباء الموحدة وسكون الشين فلأنه مخفف بشر جمع بشير. ومعنى: { بين يدي رحمته } أمام نعمته وهي الغيث الذي هو من أجلِّ النعم وأحسنها وهذا بحسب الأغلب، فإن المطر قلما لا يتقدمه رياح يسلطها الله تعالى على السحاب والعرب تستعمل اليدين بدل قدام وأمام مجازاً لأن اليدين من الحيوان متقدمان على الرجلين. { حتى إذا أقلت } حملت ورفعت واشتقاقه من القلة لأن الرافع الذي يقدر على حمل الثقيل يزعم أن ما يرفعه قليل { سحاباً } جمع سحابة ولهذا قال: { ثقالاً } على الجمع جمع ثقيلة والضمير في { سقناه } يعود إلى السحاب على لفظه، وضمير المتكلم في { سقناه } على أصله. وأما الذي في قوله: { وهو الذي } فعلى طريقة الالتفات وإلا فالظاهر أن يقال: نحن أرسلنا. واعلم أن السحاب المستمطر للمياه العظيمة إنما يبقى معلقاً في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكاً شديداً. ولتلك الحركات فوائد منها: أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر ثم تصير متفرقة. ومنها أن تتحرك الرياح يمنة ويسرة فتمنع الأجزاء المائية الرشية عن النزول فيبقى معلقاً في الهواء. ومنها أن ينساق السحاب إلى موضع علم الله احتياجهم إلى نزول الأمطار، ومن الرياح مقوية للزروع والأشجار ومكملة لما فيها من النشوء والنماء وهي اللواقح. ومنها مبطلة لها كما في الخريف. ومنها طيبة لذيذة وموافقة للأبدان. ومنها مهلكة للحر الشديد كالسموم أو البرد الشديد. ومنها مشرقية ومغربية وشمالية وجنوبية، وبالحقيقة تهب الرياح من كل جانب ولكنها ضبطت كذلك، وقد يصعد الريح من قعر الأرض فقد يشاهد غليان شديد في البحر بسبب تولد الرياح في قعره ثم لا يزال يتزايد ذلك الغليان إلى أن ينفصل الريح إلى ما فوق البحر، وحينئذٍ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر، وعن ابن عمر: الرياح ثمان: أربع منها عذاب وهو العاصف والقاصف والصرصر والعقيم، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وعن النبي صلى الله عليه وآله: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة" وعن كعب: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض، وعن السدي أنه تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب، ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فينزل الماء على السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك برحمته وهي المطر. ومعنى { لبلد ميت } أي لأجل بلد ميت ليس فيه نبات ولا زرع، والبلد كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خالٍ أو مسكون. { فأنزلنا به الماء } قال الزجاج وابن الأنباري: أي بالبلد. وجائز أن يراد بالسحاب أو بالسوق فالباء للسببية. { فأخرجنا به } قال الزجاج: أي بالبلد. { من كل الثمرات } ويجوز أن يراد أي بالماء. قال جمهور الحكماء: إنه تعالى أودع في الماء قوّة وطبيعة توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب. وقال أكثر المتكلمين: إن الثمار ليست متولدة من الماء وإنما أجرى الله تعالى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب { كذلك } مثل ذلك الأخراج وهو إخراج الثمرات. { نخرج الموتى } فالتشبيه إنما وقع في أصل الإحياء أي كما أحيا هذا البلد وأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر كذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا تراباً لأن من قدر على إحداث الجسم وخلق الرطوبة والطعم فيه كان قادراً على إحداث الحياة في بدن الميت. وقال كثر من المفسرين: المراد أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الماء كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال مطر على الأجساد الرميمة. يروى أنه يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطر كالمني أربعين يوماً فينبتون عند ذلك أحياء. وعن مجاهد: تمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها. قال العلماء: إن هؤلاء المفسرين ذهبوا إلى هذا بناء على النقل وعلى إجراء العادة وإلا فإنه تعالى قادر على خلق الحياة في الجسم ابتداء من غير واسطة المطر كما أنه يجمع بقدرته الأجزاء المتفرقة والمتمزقة غاية التفرق والتمزق ولهذا ختم الآية بقوله: { لعلكم تذكرون } والمعنى أنكم شاهدتم أن الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف والخريف بالأزهار والثمار والأشجار ثم صارت وقت الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة، ثم أحياها مرة أخرى، فالقادر على إحيائها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها، ثم ضرب الله سبحانه مثلاً للمؤمن والكافر وشبه القرآن بالمطر، وذلك أن الأرض الحرة إذا نزل بها المطر حصل فيها أنواع الأزهار والثمار والأرض السبخة بعد نزول المطر لا يخرج منها إلا النزر القليل من النبات، فكذلك النفس الطاهرة النقية من شوائب الأخلاق الذميمة إذا اتصل بها أنوار القرآن ظهرت عليها أنواع المعارف والأخلاق الفاضلة، والنفس الخبيثة لا ترجع من ذلك إلا بخفي حنين. وقيل: ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة. فمن يطلب هذا النفع اليسير فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لابد منها ومن تحملها في أداء الطاعات كان أولى. وفي الآية دلالة على أن السعيد لا ينقلب شقياً وبالعكس، لأنها دلت على أن الأرواح قسمان: منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومنها ما تكون بالضد لا تقبل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة كالأرض السبخة التي لا يتولد فيها الأشجار والأنهار والثمار. ومما يقوّي هذا الكلام أن النفوس نراها مختلفة في الصفات؛ فمنها مجبولة على حب الإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانيات كقوله تعالى: { ترى أعينهم تفيض من الدمع } [المائدة: 83] { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } [البقرة: 273] ومنها قاسية قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، ومنها مائلة إلى الشهوة دون الغضب، ومنها على العكس، ومنها راغبة في المال دون الجاه، ومنها بالخلاف ومن الراغبين في المال من يرغب في العقار دون الأثمان والنقود، ومنهم من هو بالعكس. ومما يؤكد هذه المعاني قوله سبحانه وتعالى: { بإذن ربه } أي بتيسيره وهو في موضع الحال كأنه قيل: يخرج نباته حسناً كاملاً لوقوعه في طباق { نكداً } والنكد الذي لا خير فيه. وتقدير الآية ونبات البلد الخبيث لا يخرج، أو البلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف إليه وهو الضمير الراجع إلى البلد مقامه فانقلب مرفوعاً مستكناً بعد أن كان مجروراً بارزاً. من قرأ { نكداً } بفتح الكاف فعلى المصدر أي ذا نكد { كذلك } مثل ذلك التصريف نردّد الآيات ونكررها { لقوم يشكرون } نعمة الله لأن فائدة التصريف تعود عليهم وإنما ختم الآية بالحث على الشكر لأن الذي سبق ذكره هو أن الله تعالى يرسل الرياح النافعة فيجعلها سبباً للمطر الذي هو سبب الملاذ والطيبات فهذا يدل من أحد الوجهين على وجود الصانع وقدرته، ومن الوجه الثاني على عظيم نعمته وقدرته فوجب من هذا الوجه مقابتلها بالشكر والله أعلم.
التأويل: عرّف ذاته للخلق بصفات الهوية والألوهية والقادرية والخالقية والمدبرية والحكيمية والاستوائية فقال: { إن ربكم الله } الآية وإنما خص ستة أيام لأن أنواع المخلوقات ستة: الأوّل الأرواح الإنسانية (ب) الملكوتيات منها الملائكة والجن والشياطين وملكوت السموات والأرض ومنها العقول المفردة والمركبة. (ج) النفوس السماوية الأرضية. (د) الأجرام البسيطة العلوية كالعرش والكرسي والسموات والجنة والنار. (هـ) الأجسام البسيطة السفلية وهي العناصر، والأجسام الكثيفة المركبة من العناصر، فلما خلق الأنواع الستة استوى على العرش بعد الفراغ من خلقها استواء التصرف في العالم وما فيه. وخص العرش بالاستواء لأنه مبدأ الأجسام اللطيفة القبلة للفيض الرحماني. والاستواء كالعلم صفة من صفاته لا يشبه استواء المخلوقين كما أن علمه لا يشبه علم المخلوقين. ومن أسرار الخلافة الروح تتصرف في النطفة أيام الحمل فتجعلها عالماً صغيراً، فبدنه كالأرض. ورأسه كالسماء والقلب كالعرش، والسر كالكرسي، والقلب يقسم فيض الروح إلى القالب كما أن العرش يقسم فيض الإله إلى سائر المخلوقات { يغشى } أي يستولي ليل ظلمات النفس وصفاتها على نهار أنوار القلب وبالعكس. { ألا له الخلق } بواسطة { الأمر } بلا واسطة { ادعوا ربكم تضرعاً } بالجوارح { وخفية } بالقلوب. أو تضرعاً بأداء حق العبودية وخفية بمطالب حق الربوبية { إنه لا يحب المعتدين } الذين يطلبون منه سواه { ولا تفسدوا } في أرض القلوب بعد أن أصلحها الله برفع الوسائط. { وادعوه خوفاً } من الانقطاع { وطمعاً } في الاصطناع، أو خوفاً من الاثنينية وطمعاً في الوحدة، أو خوفاً من الانفصال وطمعاً في الوصال. { إن رحمة الله قريب من المحسنين } الذين لا يرون سواه يرسل رياح العناية فينشر سحاب الهداية سحاباً ثقالاً بأمطار المحبة، سقناه لكل قلب ميت فأنزلنا به ماء المحبة فأخرجنا به ثمرات المكاشفات والمشاهدات، كذلك نخرج موت القلوب من قبور الصدور ولعلكم تذكرون أيام حياتكم في عالم الأرواح إذ كنتم في رياض القدس وحياض الأنس. والبلد الطيب الحي يتخلق بأخلاقه الحميدة { كذلك نصرف الآيات } أي النفوس وصفاتها إلى أوصاف القلب وأخلاقه.