القراءات: روى الهاشمي وابن ربيعة عن قنبل { لأقسم } على أن اللام حرف الابتداء
أي لأنا أقسم ولا خلاف في قوله { ولا أقسم بالنفس اللوامة } { برق } بفتح الراء: أبو جعفر
ونافع. الآخرون: بكسرها { تحبون } و { تذرون } على الخطاب أبو جعفر ونافع وعاصم
وحمزة وعلي وخلف { ولا صلى } إلى اخر السورة بالإمالة اللطيفة: أبو جعفر ونافع
وأبو عمرو. وقرأ حمزة وعلي وخلف بالأمالة الشديدة. { يمنى } علىالتذكير: حفص
والمفضل وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ورويس. الباقون: بتاء التأنيث.
الوقوف: { القيامة } ه لا { اللوامة } ه { عظامه } ه ط لاستئناف الجواب أي بلى
نجمعها { بنانه } ه { أمامه } ه ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { القيامة } ه ج
{ البصر } ه لا{ القمر } ه ك { المفر } ه ك لأن كلاً يصلح للردع عن الفرار والأجوز { لا
وزر } ه ط { المستقر } ه ط { وأخر } ه ط { بصيرة } ه لا { معاذيره } ه لا { لتعجل به }
ه ط { وقرآنه } ه ج لاحتمال أن " ثم " لترتيب الأخبار { بيانه } ه ط { العاجلة } ه { الآخرة } ه
{ ناضرة } ه ج { ناظرة } ه ج للفصل بين أهل السعادة والشقاوة { باسرة } ه { فاقرة } ه ط
{ التراقي } ه لا { راق } ه ك { الفراق } ه ك { بالساق } ه ك { المساق } ه ك { ولا صلى }
ه لا { وتولى } ه ك { يتمطى } ه ط للعدول إلى الخطاب { فأولى } ه لا { سدى } ه ط
{ يمنى } ه { فسوى } ه ك { والأنثى } ه ط { الموتى } ه.
التفسير: المشهور أن " لا " في { لا أقسم } صلة زائدة كما مر في قوله { فلا أقسم بمواقع
النجوم } [الواقعة: 75] واعترض عليه بوجوه أحدها: أنه يوجب الطعن في القرآن بحيث
أنه لا يبقى الوثوق بنفيه وإثباته قلت: إذا عرف من استعمالات العرب زيادة لا في هذا الفعل
المخصوص لم يبق للطاعن مجال على أن الحكم بزيادتها إنما هو بالنظر إلى أصل المعنى
وإلا فلها في التركيب معان: الأول كأنها نفي لكلام قبل القسم وذلك أنهم أنكروا البعث كما
أخبر الله في آخر السورة المتقدمة فقيل: ليس الأمر على ما ذكرتم ثم أقسم بكذا وكذا إنه
لواقع. والثاني أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له فكأنه بإدخال حرف القسم يقول: إن
إعظامي له بإقسامي به كلا اعظام إنه يستأهل فوق ذلك. الإعتراض الثاني أن هذا الحرف
إنما يزاد في وسط الكلام لا في أوّله وأجيب بالمنع، ألا ترى أن أمرأ القيس كيف زادها في
مستهل قصيدته:
فلا وأبيك ابنة العامري لا يدّعي القوم أني أفرّ
وفائدة الزيادة كما تقرر. وقد يجاب بأن القرآن كله في حكم كلام واحد متصل بعضه ببعض
ولا سيما هذه السورة وآخر السورة المتقدمة عليها ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا
تجمع عظامك إذا تفرقت بالموت، فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنّا قادرون عليه. وقيل:
المعنى على الاستفهام الإنكاري والتقدير: ألا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة
على أن الحشر حق. وهذا التأويل يعضده قراءة من قرأ { لأقسم } على أن اللام للابتداء.
وقال بعضهم: على هذه القراءة إنه أقسم بالقيامة تعظيماً لها ولم يقسم بالنفس اللوامة
تحقيراً لها لأنها إما كافرة بالقيامة مع عظم أمرها، وإما فاسقة مقصرة في العمل. أما تفسير
النفس اللوامة فقد سبق لنا في سورة يوسف في قوله { إن النفس لأمارة بالسوء } [الآية: 53] بيان سبب تسمية النفس تارة بالأمارة وأخرى باللوامة ثم بالملهمة ثم بالمطمئنة. والذي
ذكره المفسرون ههنا وجوه منها ما قال ابن عباس: كل نفس فإنها تلوم نفسها يوم القيامة
على ترك الازدياد من الطاعة إن كانت محسنة، أو على التفريط إن كانت مسيئة. وضعف
بعضهم هذا النقل بناء على أن أهل الجنة لا يكون لهم مثل هذه الخواطر وإلا لدام حزنهم.
وعن الحسن أن هذا اللوم في الدنيا والمؤمن لا تراه إلا لائماً نفسه وإن الكافر يمضي على
سيرته لا يعاتب نفسه. ومنها أنها النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة بسبب
أنها تركت التقوى. ولا يخفى وجه المناسبة بين القسمين أعني بين القيامة وبين النفس
اللوامة على هذه الوجوه. وخص النفس اللوامة بعضهم بآدم عليه السلام وذلك أنه لم يزل
يتلوم على فعله الذي خرج به من الجنة. وقيل: أن الإنسان خلق هلوعاً فأي شيء طلبه إذا
وجده مله فيلوم نفسه على أني لم طلبت فلكثرة هذا العمل سميت باللوامة. والجمهور على
أن جواب القسم محذوف وهو لتبعثن دل عليه قوله { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه }
وفي الأقسام بيوم القيامة على وقوع يوم القيامة مزيد تقرير وتأكيد لوقوعه فإن الإقسام
بالمعدوم لا يعقل معناه، وفي ضم النفس الوامة إليه تنبيه على أن الغرض من القيامة وهو
إظهار أحوال النفس ومراتبها في السعادة وضدها. قال جمع من الأصوليين: الإنسان في
الآية هو المكذب بالبعث على الإطلاق وقال ابن عباس: هو أبو جهل. وقال آخرون: إن
عدي بن ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهما: اللهم
اكفني جاري السوء. قال: يا محمد حدثنا عن يوم القيامة كيف أمره فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
لو عانيت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن به، أو يجمع الله العظام؟ فأنزل الله
سبحانه { أيحسب الإنسان } الآية. قوله { قادرين } حال مؤكدة لأنه يستحيل جمع العظام
بدون القدرة الكاملة التي نبه عليها بقوله { أن نسوي بناته } لأن من قدر على ضم سلاميات
الأصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت، كان على ضم العظام الكبار أقدر، وإنما خص البنان
وهو الأنملة بالذكر لأنه آخر ما يتم به خلقه فذكره يدل على تمام الأصبع يدل على تمام سائر
الأعضاء التي هي أطرافها. وقيل: معنى التسوية جعلها شيئاً واحداً كخف البعير وحافر الحمار
بحيث لا يقدر على البطش، والمراد أنه قادر على رد العظام والمفاصل إلى هيأتها الأولى
وعلى ضد ذلك قوله { بل يريد } إضراب عن قوله والظاهر أنه إيجاب ويجوز أن يكون
استفهاماً مقدراً. ومعنى { ليفجر أمامه } ليدوم على فجوره في الأوقات التي بين يديه وهي
المستقبلة. وهذا فحوى قول سعيد بن جبير يقدم الذنب ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على شر
أحواله. قال أهل النظم: وإن إنكاراً البعث يتولد تارة من الشبهة بأن يستبعد اجتماع الأجزاء بعد
تفرقها وتلاشيها، وأخرى من التهور بأن ينكر المعاد باسترسال الطبع والميل إلى الفجور، فأشار
إلى الجواب عن الشبهة بقوله { أيحسب الإنسان } إلى قوله { بناته } وأنكر على الثني بقوله
{ بل يريد } أن يكذب بما أمامه من البعث والحساب لئلا تنتقص عنه اللذات العاجلة
{ يسئل } سؤال تنعت { أيان يوم القيامة } ثم ذكر من أمارات الساعة أموراً أولها { فإذا برق
البصر } أي تحير فزعاً وأصله من برق الرجل بالكسر إذا تأثر ناظره من تأمل البرق، ثم
استعمل في كل حيرة. ومن قرأ بفتح الراء فهو من البريق أي لمع من شدة شخوصه كقوله
{ إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } [إبراهيم: 42] وثانيها { وخسف القمر } أي
ذهب ضوءه كما يشاهد في الدنيا وقت خسوفه, أو ذهب بنفسه من قوله { فخسفنا به وبداره
الأرض } [القصص: 81] وهذا التفسير عندي لا يلائم ما بعده أن الجمع بينه وبين الشمس
بعد انعدامه غير معقول ظاهراً. وثالثها { وجمع الشمس والقمر } قيل: أي في اطلاعهما من
المغرب. وقيل: في ذهاب الضوء. وقيل: يجتمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران
كما جاء في الحديث، ولعل ذلك لأنهما عبدا من دون الله، و الثور مثل في الذل والبلادة
فإذا كان عقيراً أي جريحاً كان أبلغ في ذلك. وقيل: يجمعان ثم يقذفان في البحر فيكون نار
الله الكبرى. طعن الملاحدة في الآية بأن خسوف القمر لا يحصل باجتماع الشمس والقمر.
وأجيب بأنه تعالى قادر على خسف القمر في غير حالة المقابلة وحيلولة الأرض. والأولى
عندي أن يجاب بأن اجتماعهما بمعنى آخر غير ما هو المعهود بين أهل التنجيم كما مر من
الأقوال. ولئن سلمنا أن المراد هو الإجتماع المعهود فالقمر حينئذ في المحق وهو خسفه،
أو لعل القمر خسف في وسط الشهر والاجتماع يكون في آخره فإن اتحاد الزمان في هذه
الأمور غير مذكور. ومنهم من جعل هذه الأمور من علامات الموت، أما شخوص البصر
تحيره حين الموت فظاهر، وأما خسوف القمر فمعناه ذهاب ضوء البصر بعد الحيرة: يقال:
عين خاسفة إذا فقئت فغارت حدقتها في الرأس. وأما جمع الشمس والقمر فكناية عن
اتصال الروح بعالم الآخرة، فالروح كالقمر وعالم الآخرة وهو عالم الأنوار والكشوف
كالشمس وكما أن القمر يقبل النور من الشمس فالروح تقبل نور المعارف من ذلك العالم
وهذا التفسير بالتأويل أشبه. قال الفراء: إنما قال { جمع } ولم يقل " جمعت " مع أن التأنيث
أحسن لأن المراد أنه جمع بينهما في زوال النور. وقال الكسائي: المعنى جمع النوران
والضياآن. وقال أبو عبيدة: القمر شارك الشمس في الجمع فغلب جانب التذكير { يقول
الإنسان } المنكر للقيامة { أين المفر } والاستفهام على أصله وهو إقرار منه بأنه لا مفر كما
إذا أيس من وجدان زيد فيقول: أين زيد { كلا } ردع عن طلب مكان الفرار وهذا أصح عند
أهل اللغة. قال الأخفش والزجاج: المصدر من يفعل بكسر العين مفتوح العين، وبالكسر
المكان. وجوز بعضهم أن يكون المفتوح موضعاً. وأصل الوزر المحل المنيع ثم استعمل
لكل ما التجأت إليه وتحصنت به، والمعنى أنه لا شيء يعتصم به وقتئذ من أمر الله إلا الله
فلذلك قال { إلى ربك } خاصة دون غيره { يومئذ المستقر } أي إستقرار العباد ولا بد من
تقدير مضاف أي إلى حكم ربك أو إلى جنته أو ناره. { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم } من
عمل { وأخر } فلم يعلمه، أو بما قدم من ماله وتصدق به وما أخر فخلف أو بما قدم من
عمل الخير والشر وما أخر من سنة حسنة أو سيئة. وعن مجاهد بأول عمله وآخره أي بجميع
أعماله. والأظهر أن هذا الإنباء إنما هو في يوم القيامة. وجوز أن يكون عند الموت حين
رأى مقعده من الجنة والنار. ثم بين أن الإنسان لأعماله بصير وإن لم ينبأ فقال { بل الإنسان
على نفسه بصيرة } أي حجة بينة. وقال أبو عبيدة: التاء للمبالغة كعلامة. قال الأخفش:
جعله في نفسه بصيرة كما يقال " فلان جود وكرم " وذلك أنه يعلم بالضرورة متى رجع إلى عقله
أن طاعة خالقه واجبة وعصيانه منكر فهو حجة على نفسه بعقله السليم. قال ابن عباس
وسعيد بن جبير ومقاتل: إن المراد شهادة جوارحه عليه. قوله { ولو ألقى معاذيره } تأكيد
أي ولو جاء بكل معذرة يحاج بها عن نفسه فإنها لا تنفعه لأنه لا يخفى شيئاً من أفعاله فإن
نفسه وأعضاءه تشهد عليه. وقال الواحدي والزمخشري: المعاذير اسم جمع للمعذرة
كالمناكير للمنكر، ولو كان جمعاً لقيل معاذر بغير ياء. وعن الضحاك والسدي أن المعاذير
جمع معذار وهو الستر، والمعنى إنه إن أسبل الستور لن يخفى شيء من عمله قال جار الله:
إن صح هذا النقل فالسبب في التسمية أن الستر يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة
عقوبة المذنب. فمدار التركيب على الحجب والمنع ومنه العذران قال الإمام فخر الدين
الرازي: زعم قوم من قدماء الشيعة أن هذا القرآن مغير بالزيادة والنقصان، ومن جملة
إستدلالاتهم أنه لا مناسبة بين هذه الآية وبين قوله عقيبها { لا تحرك به } أي بالقرآن الذي
نتلوه عليك { لسانك لتعجل به } أي بأخذه. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يشتد عليه حفظ التنزيل فكان إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبرائيل
مخافة النسيان فنهاه الله تعالى عن ذلك، نظيره ما مر في " طه " { { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن
يقضى إليك وحيه } [الآية: 114] وهذا من قبيل ترك الأولى، أو لعل هذا كان مأذوناً فيه
أولاً ثم ورد النهي ناسخاً له { أن علينا } بحكم الوعد أو بالنظر إلى الحكمة { جمعه } في
صدرك { وقرآنه } سيعيده عليك جبرائيل أو توقيفك لدراسته وحفظ لقوله { سنقرئك فلا
تنسى } [الأعلى: 6] فالقارىء على الأول جبرائيل، وعلى الثاني محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أراد
بالجمع ترتيبه على ما هو عليه في الخارج وبالقرآن جمعه في ذهنه، والتركيب يدل على
الضم ومنه القرء { فإذا قرأناه } بقراء جبرائيل { فاتبع قرآنه } قال قتادة: أي حلاله وحرامه
وضعف بأن هذا ليس موضع الأمر باتباع الحلال والحرام بل المراد أنه لا ينبغي أن تكون
قراءتك مقارنة لقراءة جبرائيل عليه السلام لكن يجب أن تسكت حتى يتم جبرائيل القراءة ثم
تأخذ أنت في القراءة. قال ابن عباس: فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا نزل عليه جبرائيل أطرق
واستمع فإذا ذهب قرأ. ثم إنه صلى الله عليه وسلم كما كان حريصاً على القراءة حتى لا ينسى لفظه كان
حريصاً على فهم المعنى، وكان يسأل جبرائيل في أثناء الوحي عن المعاني المشكلة فنهي
عن هذا أيضاً بوعد البيان وهو قوله { إن علينا بيانه } قال بعضهم: وفيه دليل على أن تأخير
البيان عن وقت الخطاب جائز. إذا عرفت تفسير الآية فاعلم أن العلماء استنبطوا للنظم
وجوهاً منها: أن هذا الإستعجال لعله اتفق النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآيات فلا جرم نهي عن
ذلك في الوقت كما أن المدرس إذا كان يلقي على تلميذه شيئاً من العلم وأخذ التلميذ
يلتفت يميناً وشمالاً فيقول المدرس في أثناء درسه: لا تلتفت يميناً وشمالاً، ثم يعود إلى
الدرس مع هذا الكلام في أثنائه اشتبه وجه المناسب على من لم يعرف الواقعة. ومنها أنه
علت كلمته أخبر عن الإنسان أنه يحب السعادة العاجلة فيفجر لذلك أمامه، فبين بين ذلك
أن التعجل مذموم مطلقاً ولو في أمور الدين فقال { لا تحرك به لسانك } ورتب على ذم
الإستعجال قوله { كلا بل تحبون العاجلة } ومنها أنه لما قال { ولو ألقى معاذيره } وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يظهر التعجيل في القراءة خوف النسيان قيل له: إنك وإن أتيت بهذه المعذرة لكنك
يجب أن تعلم أن الحفظ لا يحصل إلا بتوفيق الله وإعانته فاترك هذا التعجيل واعتمد على
هدايتنا، ولا تستعن في طلب الحفظ بالتكرار، وفيه أن الكافر كان يفر من الله إلى غيره حين
قال { أين المفر } فعلى المؤمن أن يضاده ويفر من غير الله إلى الله ولا يستعين في كل أموره
إلا به. ومنها أنه تعالى كأنه قال: يا محمد إن غرضك من هذا هو التبليغ لكنه لا حاجة إليه
فإن الإنسان على نفسه بصيرة يعرف قبح الكفر مهما رجع إلى نفسه. وقال القفال: يجوز أن
يكون المخاطب بهذا هو الإنسان المذكور في قوله { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } كأنه
حين عرض كتابه يقال له { إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [الإسراء: 14] فإذا
أخذ في القراءة ينبأ بقبح أعماله فيتلجلج لسانه من الفزع ويسرع له القراءة فيقال له { لا
تحرك به لسانك لتعجل به } فإنه يجب علينا بحكم الوعد والحكمة أن نجمع أعمالك عليك
وأن نقرأها عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالاعتراف والإقرار، ثم أن علينا بيان أمره وشرح مراتب عقوبته. قوله سبحانه. { كلا بل تحبون } قال بعضهم: هو بمعنى حقاً. وقال
جار الله: هو ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة وحيث له على الأناة والتؤدة وقد بالغ في
ذلك باتباعه قوله { بل تحبون العاجلة } كأنه قيل: بل أنتم يا بني آدم خلقتم من عجل
تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون الدنيا وتتركون الأخرى. ثم وصف اليوم الآخر بقوله
{ وجوه يومئذ ناضرة } ذات نضارة وبهاء. والوجه عبارة عن الجملة قاله في الكشاف:
والأولى عندي تقليلاً للمجاز أن راد بالوجوه العيون فيكون من إطلاق الكل على الجزء لا
عكسه { إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة } شديدة العبوس { تظن أن يفعل بها فاقرة } فعل
هو في شدته وفظاعته فاقرة أي داهية تقصم فقار الظهر كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل
بها كل خير. قال الأصمعي: الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلى العظم أو يقرب منه
ثم يجعل فيه خشبة يجر بها البعير، ومنه قيل: عملت به الفاقرة. وقال الكلبي: هي أن
تحجب عن رؤية ربها فلا تنظر إليه. وأعلم أن أهل السنة استدلوا بالآية على إمكان رؤية الله
تعالى في الآخرة بل على وجوبها بحكم الوعد وحاصل كلامهم أن النظر إن كان بمعنى
الرؤية فهو المطلوب، وإن كان بمعنى تقليب الحدقة نحو المرئي فهذا في حقه تعالى محال
لأنه منزه عن الجهة والمكان فوجب حمله على مسببه وهو الرؤية وهذا مجاز مشهور وأما
المعتزلة فزعموا أن النظر المقرون بـ "إلى " إنما يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً
للرؤية فقد تحصل الرؤية وقد لا تحصل كما قال سبحانه { وتراهم ينظرون إليك وهم لا
يبصرون } ويقال: دور فلان متناظرة أي متقابلة ولا ريب أن تقليب الحدقة نحو الشيء
يستدعي جهة لذلك الشيء وهذا في حق الله تعالى محال فوجب حمل النظر على الانتظار
أي منتظرة ثواب ربها كقولك: أنا ناظر إلى فلان ما يصنع فيّ. والانتظار إذا كان في شيء
متيقن الوقوع لا يوجب الغم والحزن بل يزيد اللذة والفرح. واعترض بأن النظر إذا كان
بمعنى الانتظار لا يعدّى بـ" إلى " كقوله { { أنظرونا نقتبس من نوركم } [الحديد: 13] { { هل
ينظرون إلى تأويله } [الأعراف: 53] وأجيب بأن ذلك إنما يكون إذا كان منتظراً للشخص،
أما إذا كان منتظراً لرفده ومعونته فإنه يستعمل مقروناً بإلى كقول الرجل: إنما نظري إلى الله
ثم إليك. وقد يقول الأعمى: عيني ناظرة إليك. سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون " إلى " واحد
الآلاء أي نعمة ربها منتظرة، وتقديم المفعول لأجل الفاصلة أو للاختصاص أي لا ينتظرون
إلا إلى نعمة الله ورحمته، قال في الكشاف: وهذا المعنى أعني إفادة الاختصاص أحد
الدلائل الدالة، على أن النظر ههنا ليس بمعنى تقليب الحدقة ولا بمعنى الرؤية لأنهم
ينظرون إلى أشياء ويرون أشياء لا تدخل تحت الحصر فلا بد من حمل النظر على معنى
يصح معه الإختصاص وهو التوقع والرجاء. وحين وصف القيامة الكبرى أتبعه نعت القيامة
الصغرى فروّعهم عن إيثار العاجلة على الآجلة. وذكرهم حالة الموت التي هي أول منزلة
من منازل الآخرة. والضمير في { بلغت } للنفس لدلالة قرينة الحال والمقال كما في قوله
{ فلولا إذا بلغت الحلقوم } [الواقعة: 83] والتراقي العظام المكتنفة ثغرة النحر من الجانبين
واحدها ترقوة، والمراد زهوق الروح لأن متعلق النفس هو الروح الحيواني الذي منبعه
القلب فإذا فارق المنبع لم يبق من آثاره في حواليه إلا قليل كما لو غارت العين لم يبق في
نواحيها إلا أثر قليل من النداوة فيزول عن قرب. قوله { وقيل من راق } إن كان من الرقية
يقال رقاه يرقيه إذا عوذه بما يشفيه ومنه " بسم الله أرقيك من كل يؤذيك " فالقائل هم
بعض أصحاب الميت وأقاربه، والاستفهام إما على أصله لأن العادة جارية على طلب
الطبيب والراقي في وقت ما يشتد المرض، وإما بمعنى الإنكار أي من الذي يقدر أن يرقي
هذا الإنسان المشرف على الموت، وإن كان اشتقاقه من الرقي الصعود ومنه المرقاة قال الله
تعالى { ولن نؤمن لرقيك } [الإسراء: 93] فالقائل بعض الملائكة يعني أيكم يرقي بروح
هذا المحتضر ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب. وعن ابن عباس: إن الملائكة يكرهون
القرب من الكافرين فيقول ملك الموت: من يرقى بروح هذا الكافر؟ وقال الكلبي: يحضر
العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة العذاب مع ملك الموت فإذا بلغت نفس العبد
التراقي نظر بعضهم إلى بعض أيهم يعرج بروحه إلى السماء { وظن } المحتضر أي تيقن
{ أنه } وقت { الفراق } عن الدنيا وأوان الفطام عن مألفواتها. وفي التعبير عن اليقين ههنا
بالظن تهكم بالميت وإشارة إلى أن الإنسان لتهالكه على الدنيا وحرصه على الحياة العاجلة
لا يكاد يقطع بحلول الأجل وإن لم يبق منه إلا حشاشة يسيرة، غايته أنه يغلب على ظنه
الموت مع رجاء الحياة العاجلة لا يكاد يقطع بالموت. واستدل بهذه الآية على أن النفس
باقٍ بعد خراب البدن لأن الله سمى الموت فراقاً والفراق والوصال صفة والصفة تستدعي
وجود الموصوف. { والتفت الساق بالساق } فيه وجهان أحدهما: أنه كناية عن الشدّة كما
مر في قوله { يوم يكشف عن ساق } [القلم: 42] أي اتصلت شدة فراق الدنيا وترك الأهل
والولد والجاه وشماتة الأعداء وحزن الأولياء وغير ذلك بشدّة الإقبال على أحوال الآخرة
وأهوالها. الثاني أن الساق هي العضو المخصوص. قال الشعبي: أما رأيته في النزع كيف
يضرب بإحدى رجليه على الأخرى؟ قال الحسن وسعيد بن المسيب: هما ساقاه التفتا في
أكفانه. وقيل: التفاف ساقيه وهو أنه إذا مات يبست ساقاه ولصقت إحدهما بالأخرى.
وقريب منه قول قتادة ماتت رجلاه فلا يحملانه وقد كان عليهما جوالاً { إلى ربك } أي
حكمة خاصة { يومئذ المساق } أي السوق. وقيل: أراد أن سوقه وقتئذ يفوض إلى الله دون
غيره، والفرق أن الرب أي حكمه في الأول هو المسوق إليه وهو في الثاني سائق يسوقه إلى
الجنة أو إلى النار. قوله { فلا صدّق ولا صلى } الضمير فيه عائد إلى الإنسان المذكور في
قوله { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } وقد سبق أن تعينه صنفيّ أو شخصي أخبر الله
سبحانه عن اختلال حال أعماله فيما يتعلق بأصول الدين وفروعه قائلاً { فلا صدق } أي فلا
صدّق بالرسول أو بالقرآن أو بالبعث { ولا صلى } { ولكن كذب } بالحق { وتولى } عن
الطاعة { ثم ذهب إلى أهله يتمطى } متبختراً مفتخراً بذلك وأصله يتمطط أي يتمدد لأن
المتبختر يمد خطاه، قلبت الطاء الأخيرة ياء كما في " تقضى البازي". ويحتمل أن يكون من
مطا الظهر لأن المتبختر يلوي ظهره. قال أهل العربية " لا " ههنا بمعنى " لم " وقلما تقع لا
الداخلة على الماضي إلا مكررة ومنه الحديث " لا أكل ولا شرب ولا استهل " أما قوله عز
من قائل { فلا أقتحم العقبة } [البلد: 11] فسيجيء قال قتادة والكلبي ومقاتل: أخذ رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي جهل ثم قال له { أولى لك فأولى } يوعده ويدعو عليه بالهلاك والبعد عن
الخير والقرب من المكاره، وقد مر في قوله { فأولى لهم } [محمد: 20] وذلك في سورة
القتال. فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا فيّ شيئاً وأني
لأعز أهل هذا الوادي ثم سل يده ذاهباً فأنزل الله كما قال الرسول. قال القفال: هذا
محتمل، ويحتمل أن يكون أيضاً وعيداً مبتدأ من الله للكافر على طريقة الإلتفات. ويحتمل
أن يكون أمراً من الله لنبيه بأن يقوله لعدو الله فيكون القول مقدراً أي فقلنا لك يا محمد قل
له هذا. ثم قال دليلين على صحة الخبر الأول { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } أي هملاً
لا يكلف ولا يحاسب بعمله وهذا خلاف الحكمة نظيره { أفحسبتم أنما خلقنا كم عبثاً وأنكم
إلينا لا ترجعون } [المؤمنون: 115] الثاني الاستدلال بالخلق الأول على الإعادة و{ منيّ
يمنى } يراق في الرحم. من ذكّر فللمني، ومن أنّث فللنطفة. والنطفة اسم لما ينطف
كالقبضة لما يقبض والغرفة لما يغرف إلا أنها غلبت على الماء المخصوص الذي هو
للحيوان بمنزلة البذر للنبات. والمني " فعيل " بمعنى " مفعول " من المني بالسكون وهو الدفق
غلب أيضاً على الماء المخصوص فقوله { من مني } أي من هذا الجنس كالتأكيد لها. وقوله
{ يمنى } تأكيد على تأكيد وفيه إشارة إلى حقارة الإنسان في ذاته وأنه لا يليق به التمطي
والفخر والإستكبار عن طاعة خالقه فإنه مخلوق من المني الذي جرى على مجرى النجاسة
نظيره في عيسى وأمه { كانا يأكلان الطعام } [المائدة: 75] والمراد به قضاء الحاجة. قوله
{ فخلق فسوى } أي قدّر فعدّل أركانه. وقيل: خلق فيه الروح فصير أعضاءه متناسبة { فجعل
منه } أي من الإنسان { الزوجين } الصنفين { الذكر والأنثى } عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اكن إذا
قرأ خاتمة السورة قال عقيبها: سبحانك بلى. والله الموفق وإليه المصير والمآب.