التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
١
إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
٢
إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
٣
إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً
٤
إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
٥
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً
٦
يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً
٧
وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً
٨
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً
٩
إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً
١٠
فَوَقَٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً
١١
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً
١٢
مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً
١٣
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً
١٤
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ
١٥
قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً
١٦
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً
١٧
عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً
١٨
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً
١٩
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً
٢٠
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً
٢١
إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً
٢٢
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً
٢٣
فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً
٢٤
وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٢٥
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
٢٦
إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً
٢٧
نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً
٢٨
إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً
٢٩
وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٣٠
يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٣١
-الإنسان

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات { سلاسلاً } بالتنوين والوقف بالألف: أبو جعفر ونافع وعلي وأبو بكر وحماد وهشام { سلاسل } في الحالين: ابن كثير وحمزة وخلف وسهل ويعقوب يصلون بغير ألف ويقفون بالألف { قوارير قوارير } غير مصروفين في الحالين: حمزة ويعقوب كلاهما بالتنوين والوقف بالألف والثاني بغير الألف في الحالين. الباقون كلاهما بغير تنوين والوقف على الأول بالألف. { لؤلؤاً } بالواو في الأول: شجاع ويزيد وأبو بكر وحماد. الآخرون: بهمزتين. { عاليهم } بسكون الياء وكسر الهاء: أبو جعفر ونافع وحمزة والمفضل الباقون: بفتح الياء وضم الهاء { خضر واستبرق } بالرفع فيهما { وإستبرق } بالخفص: ابن كثير والمفضل وأبو بكر وحماد. الآخرون: بالخفض فيهما { وما يشاؤن } على الغيبة: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو.
الوقوف: { مذكوراً } ه { أمشاج } لا قد قيل يوقف عليه لئلا يوهم أن { نبتليه } صفة له لأنه حال من { خلقنا } أي خلقناه مريدين ابتلاءه والوهم المذكور زائل لأن ضمير المفعول في { نبتليه } واحد والأمشاخ جمع. { بصيراً } ه { كفوراً } ه { سعيراً } ه { كافوراً } ه ج لاحتمال أن يكون { عيناً } بدلاً { تفجيراً } ه { مستطيراً } ه { شكوراً } ه { قمطريراً } ه { سروراً } ه ج { على الأرائك } ط لاحتمال ما بعده الحال والإستئناف { زمهريراً } ه ج لما يعرف في التفسير { تذليلاً } ه { كانت قوارير } ه لا وقيل: بوقف عليه وليس به لأن الثانية بدل من الأولى { تقديراً } ه { زنجبيلاً } ه ج لما مر في { كافوراً } { سلسبيلاً } ه ج { مخلدون } ه بناء على أن { حسبتهم } صفة الولدان والظرف عارض { منثوراً } ه { كبيراً } ه { واستبرق } ك لاختلاف الجملتين مع أن وجه الحال في الواو واضح أي وقد حلوا { فضة } ج لأن الواو ويحتمل الحال والإستئناف وهذا أولى لإفراد هذه النعمة العظيمة عن سائر النعم { طهوراً } ه ط { مشكوراً } ه { تنزيلاً } ه ج للآية مع الفاء { أو كفوراً } ه { أصيلاً } ه ج لما ذكرنا { طويلاً } ه { ثقيلاً } ه { أسرهم } ج { تبديلاً } ه { تذكرة } ج { سبيلاً } ه { أن يشاء الله } ط { حكيماً } ه والوصل أوجه بناء على أن الجملة صفة { في رحمته } ط { أليماً } ه.
التفسير: اتفقوا على أن " هل " ههنا وفي " الغاشية " بمعنى " قد " وهذا ما ذهب إليه سيبويه قال: وإنما تفيد معنى الاستفهام حيث تفيده لتقدير الهمزة، وإنما حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة، وإنما حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والدليل على تقدير الهمزة، جواز إظهارها مع " هل " كقوله:

سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم؟

ويربوع أبو حي من تميم، ومعنى الآية أقد أتى. فالإستفهام يفيد التقرير وقد تفيد التقريب فيكون حاصله أنه { أتى على الإنسان } قبل زمان قريب { حين من الدهر } وهو طائفة من الزمان غير محدود. وعن ابن عباس وابن مسعود أن الإنسان ههنا آدم والحين محدود وذلك أنه مكث أربعين سنة طيناً إلى أن نفخ فيه الروح فصار شيئاً مذكوراً بعد أن كان كالمنسي وفي رواية عنه قال: أقام من طين أربعين سنة، ومن صلصال أربعين. ثم من حمأ مسنون أربعين، ثم خلقه بعد مائة وعشرين وإطلاق الإنسان عليه قبل نفخ الروح فيه من باب إطلاق الخمر على العصير. ويجوز أن يراد قد أتى على هذا الذي هو الآن إنسان بالفعل زمان لم يكن هو فيه إنساناً إلا بالقوّة وهذا صادق على آدم كما قلنا، وعلى بنيه أيضاً عند الأكثرين. ولعل هذه الآية كالتقدمة والتوطئة للتي تعقبها، وكالتأكيد لخاتمة السورة المتقدمة. وقوله { لم يكن } محله رفع على أنه نعت { حين } أو نصب على الحال من الإنسان لأنه في تقدير المفعول ويروى أن الصديق لما سمع هذه الآية قال: أيتها تمت أي ليت تلك الحالة تمت وهي كونه غير مذكور لم يخلق ولم يكلف. وقيل: الإنسان آدم كما ذكرنا ولكن الحين هو الستة الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض ثم فرغ لخلق آدم في عصر يوم الجمعة. وقيل: الإنسان عام والحين مدة فترة الرسل وقيل: الحين مدة لبثه في بطن أمه. قال ابن الأعرابي وطائفة من أهل اللغة: الأمشاج جمع مشيج وأمشاج فوصف المفرد بها جميعاً نحو برمة أعشار للقدر المتكسرة قطعاً، وثوب أكياش للذي فتل غزله مرتين. يقال عليك بالثوب الأكياش فإنه من لباس الأكياس. والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماآن ماء الرجل. وهو أبيض غليظ - وماء المرأة - وهو أصفر رقيق - والأول يخرج من الصلب، والثاني يخرج من الترائب، فما كان من عصب وعظم فيمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة. عن ابن مسعود: هي عروق النطفة. وقال الحسن: أي مزجت بدم الحيض الذي فيه غذاء الجنين، وعن قتادة: هي أطوارها نطفة ثم علقة ثم مضغة وذهب إلى أنها العناصر وبالجملة فإنها عبارة عن انتقال النطفة من حال إلى حال ولهذا فسر الإبتلاء بعضهم بهذا الإنتقال ومنه قول ابن عباس { نبتليه } أي نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة. والأظهر أن حاصل المعنى خلقناه من أمشاج لا للعبث بل للإبتلاء والإمتحان. ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر اللذان هما أشرف الحواس ولهذا خصا بالذكر. وفيه إشارة إلى أن الحواس السليمة أسباب كلية لتحصيل الكمالات النفسية فمن فقد حساً فقد علماً. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، ونبتليه معناه لنبتليه كقولك لرجل: جئتك أقضي حقك أي لأقضي حقك. والمعنى جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه. ثم أخبر أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة أوضح له بواسطة أن آتاه العقل السليم سبيل الهدى والضلالة. فقوله { شاكر أو كفوراً } حالان من مفعول { هدينا } أي مكناه وأقدرناه في هاتين الحالتين وقيل: تقديره هديناه السبيل فيكون إما شاكراً أو كفوراً. وفيه جهة الوعيد أي فإن شاء فليكفر وإن شاء فليشكر فإنا أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا. وجوز أهل العربية أن يكونا حالين من السبيل على الإسناد المجازي لأن وصف السبيل بالشكر والكفر مجاز، وهذه الأقاويل تناسب أصول المعتزلة. أما الذي اختاره الفراء وهو مطابق لمذهب أهل السنة أن تكون " إما " في هذه الآية كما في قوله { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } [التوبة: 106] والمعنى هديناه السبيل ثم جعلناه تارة شاكراً تارة كفوراً. والمراد بالشكراً لإقرار بالله وبالكفر إنكاره حتى لا يكون بين الفريقين واسطة. ويجز أن يريد بالشاكر المطيع وبأهل الكفر كل من سواه كان كفرانه مطلقاً وهو الكافر بالله، أو ببعض المعاصي وهو الفاسق. قوله { سلاسل } من قرأه بالتنوين فإنه صرفه لمناسبة. قال الأخفش: سمعنا من العرب صرف جميع مالا يصرف وهذه لغة الشعراء اضطروا إليه في الشعر فجرت ألسنتهم بذلك في النثر أيضاً. وقيل: إنه مختص بهذه الجموع لأنها أشبهت الآحاد لهذا جاز " صواحبات يوسف". وجوز في الكشاف أن يكون هذا التنوين بدلاً من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف، ومثله { قوارير } فيمن قرأ بالتنوين، والاعتاد الإعداد، والسلاسل للأرجل والأغلال للأيدي والأبرار جمع برّ وبار. عن الحسن: هم الذين لا يؤذون الذّر { من كأس } أي إناء فيه الشراب. وقال ابن عباس ومقاتل: هو الخمر بعينها، والمزاج ما يمزج به، والكافور إسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعم الكافور ولا مضرته، والمضاف محذوف ماء كافور. والحاصل أن ذلك الشراب يكون ممزوجاً بماء هذا العين قيل: " كان " زائدة والأظهر أنها مفيدة ولكناه مسلوبة الدلالة على المضي كقوله { وكان الله عليماً حكيماً } [النساء: 17] عن قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك. وقيل: يخلق فيه رائحة الكافور وبياضه وبرده فكأنها مزجت بالكافور. قال جار الله: فقوله { عيناً } على هذين القولين بدل من محل { كأس } على تقدير حذف مضاف كأنه قال: يشربون خمراً خمر عين، أو نصب على الإختصاص. ولا خلاف بين العلماء أن عباد الله في الآية مختص بالمؤمنين الأبرار فغلب على ظنهم أن العباد المضاف إلى اسم الله سبحانه مخصوص في إصطلاح القرآن بالأخيار، وعلى هذا يسقط إستدلال المعتزلة بقوله { ولا يرضى لعباده الكفر } [الزمر: 7] كما مر في أول الزمر. وإنما قال أولاً { يشربون من كأس } وآخراً { يشرب بها } لأن الكأس هي مبدأ شربهم وأما العين فإنما يمزجون بها شرابهم فالباء بمعنى " مع " مثل " شربت الماء بالعسل" { يفجرونها } يجرونها حيث شاؤا من منازلهم { تفجيراً } سهلاً " قال مؤلف الكتاب": لا يبعد أن يكون الخمر عبارة عن العلوم اللدنية الحاصلة بالذوق والمكاشفة. والكافور عبارة عن المعارف الحاصلة بواسطة البدنية، ومزاجها تركيبها على الوجه الموصل إلى تحصيل لذات وكمالات أخر، وتفجرها إشارة إلى اتصالها إلى أهلها من النفوس المستعدة لذلك. قال أهل النظم: حين وصف سعادة الأبرار كان لسائل أن يسأل: ما لهم يرزقون ذلك؟ فأجاب بقوله { يوفون بالنذر } وفيه أن الذي وفى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى. ذكر الواحدي في البسيط والزمخشري في الكشاف وكذا الإمامية أطبقوا على أن السورة نزلت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما في هذه الآي. يروى عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضاً فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه فقال: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن أبرأهما الله يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهما شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة منها صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم يا أهل محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً. فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه. ووقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك. فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم. وقام وانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد لصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرائيل وقال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فاقرأه السورة. ويروى أن السائل في اللياللي جبرائيل أراد بذلك ابتلاءهم بإذن الله سبحانه. ووصفهم الله سبحانه بالخوف من أهوال القيامة في موضعين أولاً في قوله { ويخافون يوماً كان شره مستطيراً } أي مكروهه مستطيراً فاشياً منتشراً من استطار الحريق، ومنه الفجر المستطير وأصله منطار.والغرض أنه تسع مكاره ذلك اليوم جميع المكلفين حتى الأنبياء يقولون: نفيس إلا نبينا محمد فإنه يقول " أمتي أمتي " والسموات يتفطرن والكواكب ينتثرن إلى غير ذلك من المكاره والأهوال. ولا ينافي هذا أمن المسلمين في الآخرة على قال { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [الأنبياء: 103] وثانياً في قوله { إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً } وإذا كان حال أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو حال الأبرار على العموم في الخوف من الله إلى هذه الغاية فغيرهم أولى بالخوف. وأما الضمير في { حبه } فللطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه كقوله { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [آل عمران: 92] { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [الحشر: 9] وقال الفضيل بن عياض: أي على حب الله عز وجل نظير الآية قوله { وآتى المال على حبه } [البقرة: 177] وعنى المسكين واليتيم قد عرف مراراً، وأما الأسير فعن سعيد بن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. وعن أبي سعيد الخدري: هو المملوك والمسجون. وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغريم أسيراً فقال "غريمك أسيرك فأحسن أسيرك" وقد سمى الزوجة أسيراً فقال "اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم" أي أسراء.عن الحسن: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه. وعند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. والإحسان إليهم في الحال إلى أن يرى الإمام فيهم ما يرى من قتل أو من أو فداء أو إسترقاق، لا ينافي احتمال حكم الإمام عليهم بالقتل في المآل لأن سد خلتهم بالإطعام واجب على الفور وذلك يحتمل التراخي كما في حق من يلزمه القصاص ولم يكن له مال. ثم هذا الإطعام يجب أولاً على الإمام فإن لم يفعله وجب على المسلمين. قال قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك فأخوك المسلم أحق أن تطعمه. ثم الإطعام ليس بواجب على التعيين ولكن الواجب مواساتهم بأي وجه كان. وإنما عبر عن ذلك بالإطعام لأن سبب النزول كان كذلك، ولأن المقصود الأعظم من أنواع الإحسان الطعام الذي به قوام البدن. يقال: أكل فلان مال فلان إذا أتلفه بأي وجه كان، وإن لم يكن بالأكل نفسه. قوله { إنما نطعمكم لوجه الله } لرضاه خاصة. ولا بد من إضمار القول. ثم إن هذا القول يجوز أن يكون منهم باللسان منعاً للسائل عن المجازاة بمثله، أو بالشكر ليقع إطعامهم خالصاً لله. ويجوز أن يكون بنطق الحال. قال مجاهد: إما إنهم ما تكلموا بذلك ولكن الله علم ذلك منهم فكشف عن نيتهم وأثنى عليهم. وفيه تنبيه على ما ينبغي أن يكون عليه المطعم بل كل عامل من إخلاص عمله لله. عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى هل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً. والشكور مصدر كالكفور ولو فتحت أولهما عاد المعنى مبالغة في شاكر وكافر. قوله { إنا نخاف } ظاهرة أنه تعليل للإطعام ويجوز أن يكون تعليلاً لعدم إرادة المجازاة. ووصف اليوم بالعبوس مجاز وذلك بطريقين أحدهما: أن يشبه في ضرره وشدته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل. والثاني أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء. يروى أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران. والقمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله بلاء وأصله الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه. والتركيب يدل على الجمع ومنه القمطر خريطة يجمع فيه الكتب، واقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها قاله الزجاج: فأصله من القطر وجعل الميم زائدة والظاهر أنها أصلية. وحين أخبر عن أعمال الأبرار وإخلاصهم ذكر ما سيجزيهم على ذلك وأكد تحقيق الوعد بأن عبر عنه بصيغة الماض قائلاً { فوقاهم الله شر ذلك اليوم } أي مكروهه فإن كل ما يشق على النفس وتكرهه فهو شر بالإضافة إليها، وإن كان خيراً في نفس الأمر مشتملاً على الحكم والفوائد كالقصاص وسائر الحدود { ولقاهم } أعطاهم { نضرة } في الوجوه { سروراً } في القلوب بدل عبوس الكفرة وحزنهم { وجزاهم بما صبروا } على التكاليف أو الإيثار المؤدي إلى إفناء المال المستتبع للجزع { جنة وحريراً } أي بستاناً فيه مأكل هنيّ ولباساً له منظر بهيّ قال الأخفش والزجاج { متكئين } نصب على الحال من مفعول { جزاهم } وقيل: على المدح. وقيل: حال من الجنة. وضعف لأنه يستدعي إبراز الضمير بأن يقال: متكئين فيها هم. والزمهرير شدة البرد. والأظهر أن الميم والهاء أصليتان لعدم النظير لو جعل أحدهما زائداً، والمعنى أن هواءها معتدل. وفي الحديث " "هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر " وعن ثعلب أن الزمهرير هو القمر بلغة طير واشتقاقه من الزهر، والمراد أن الجنة لضيائها لا تحتاج إلى شمس ولا قمر. قوله { ودانية } ذكر الأخفش والكسائي والفراء والزجاج أنه معطوف على { متكئين } كما تقول في الدار عبد الله متكئاً ومرسلة عليه الحجال، وإن جعلنا قوله { لا يرون } حالاً صارت الأحوال ثلاثاً والتقدير. وجزاهم متكئين فيها على الأرائك غير رائين فهيا هواء مؤذياً ودانية عليهم الظلال. ودخلت الواو في الثالثة للدلالة على الإجتماع كأنه قيل: وجزاهم جنة متكئين فيها على الأرائك جامعين فيها بين البعد عن الحر والرد وبين الدنو من الظلال. ويجوز أن يكون { دانية } معطوفاً على { جنة } لأنهم وصفوا بالخوف. وقد قال سبحانه { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [الرحمن: 46] والتقدير: وجزاهم جنة أخرى دانية عليهم ظلالها. وقوله { لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } من باب " علفتها تبناً وماء بارداً " وذلك لأن الزمهرير لا يرى أي ولا ينالون زمهريراً وإن أريد بالشمس نكاية شعاعها وحرها فمعنى لا يرون لا ينالون، ولا يخفى أن هذا الظل ليس بالمعنى المصطلح في الدنيا وهو الضوء النوراني فإنه لا شمس هناك، فمعنى دنو الظلال أن أشجار الجنة خلقت بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار قريبة الظلال على أهل الجنة وقد أكد هذا المعنى بقوله { وذللت قطوفها تذليلاً } أي لا تمتنع على قطافها كيف شاؤا. وقال ابن قتيبة: ذللت أي أدنيت من قولهم " حائط ذليل " إذا كان قصيراً قال البراء ابن عازب: من أكل قائماً لم يؤذه، ومن أكل جالساً ومضجعاً أمكنه. وحين وصف طعامكم ولباسهم ومسكنهم واعتدال هوائه وكيفية جلوسهم فيه أخبر عن شرابهم وقد ذكر الأواني. ومعنى { قوارير من فضة } أن جنس الآنية من الفضة إلا أن تلك الفضة في صفاء القوارير وشفافتها حتى يرى باطنها من ظاهرها، وإذا كانت قوارير الدنيا وأصلها من الحجر في غاية الصفاء والرقة بحيث تحكي ما في جوفها فما ظنك بقوارير الجنة وأصلها من الفضة؟ ومعنى كانت كما مر في قوله { كان مزاجها كافوراً } وقال في الكشاف: هو من قوله { كن فيكون } [يس: 82] أي تكونت قوارير بتكوين الله والمراد تفخيم تلك الخلقة العجيبة الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. والضمير في { قدروها } إما لأهل الجنّة أي إنها جاءت كما قدروا في أنفسهم حسب شهوتهم وحاجتهم، وإما للطائفين أي قدروا شرابها على مقدار ري كل أحد من غير زيادة ونقصان. وقريب منه قول مجاهد: لا تنقص ولا تفيض. وقال الربيع بن أنس: إن تلك الأواني تكون مقدار ملء الكف لم تعظم فيثقل حملها. قوله { ويسقون فيها كأساً } أي في الجنة إناء مملوأ من الخمر، ويجوز أن يكون الضمير للأواني، والكأس الخمر نفسها والعرب تحت طعم الزنجبيل في المشروب وتستلذه ولذلك وصف الله مشروبهم في الآخرة بذلك. قال ابن عباس: وكل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة فليس منه في الدنيا إلا الاسم. أما السلسبيل فقد قال ابن الأعرابي: لم أسمعه إلا في القرآن. وقال الأكثرون اشتقاقه من السلاسة. يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ فكأن الباء واللام زيدتا للمبالغة حتى صارت الكلمة خماسية. ويرد عليه أن الباء ليست من حروف الزيادة. قال الزجاج: السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة. والفائدة في تسميتها بالسلسبيل بعد تسميتها بالزنجبيل هي أنها في طعم الزنجبيل ولذته ولكن ليس فيها اللذاع الذي هو مناف للسلاسلة. وقد نسب إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن معناه سل سبيلاً إليها. ووجه أن صحت الرواية بأنها حينئذ جملة سميت بها مثل " تأبط شراً " وسبب التسمية في الأصل أنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالإيمان والعمل الصالح. وفي بعض شعر المتأخرين:

سل سبيلاً فيها إلى راحة النف س براح كأنها سلسبيل

والظاهر منع صرفه للعملية والتأنيث ولكن لم يقرأ به إلا في الشواذ والمتواترة التنوين، ووجهه ما مر في { سلاسلاً } على أن رعاية المشاكلة أولى لكونه رأس آية. ثم وصف خدمهم بقوله { ويطوف عليهم ولدان مخلدون } ويجوز أن يكون هذا بياناً للطائفين في قوله { ويطاف عليهم بآنية } وقد صرح به في الواقعة وزاد ههنا أن شبههم في حسنهم وصفائهم وبقائهم وتفرقهم في المجلس لأصناف الخدمة باللؤلؤ المنثور. يحكى أن المأمون ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط فاستحسن المنظر وقال: لله دّر أبي نواس كأنه شاهد مجلسنا هذا حيث قال البيت:

كأن صغرى وكبرى من فواقعها حصباء در على أرض من الذهب

وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء، ثم أجمل نعيمهم لأنه مما لا يحصر ولا يخطر ببال أحد ما دام في الدنيا فخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم أو كل راء قائلاً { وإذا رأيت } قال الفراء: مفعوله وهو الموصول مضمر تقديره ما { ثم } كقوله { لقد تقطع بينكم } [الأنعام: 94] يريد ما بينكم. وأنكر الزجاج وغيره حذف الموصول والإكتفاء بالصلة. والذي اختاره أصحاب المعاني أن يكون المفعول متروكاً ليشيع ويعم. والمعنى أن الرائي أينما وجد الرؤية لمي تعلق إدراكه إلا بنعيم { وملكاً كبيراً } أي واسعاً هنيئاً. و " ثم " ظرف مكان أشير به إلى الجنة. روي أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام. وقيل: الملك الكبير هو الذي لا زوال له. وقيل: هو أنه إذا أراد شيءاً كان. ومنهم من حمله على التعظيم وهو أن يأتي الرسول بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه ولا يدخل عليه رسول رب العزة وإن كان من الملائكة المقربين إلا بعد الإستئذان قاله الكلبي: وقال أهل العرفان: الملك الكبير هو اللذات الحقيقية والمعارف الإلهية والأسرار الربانية التي تستحقر عندها اللذات البدنية. وعن علي أنه قرأ { ملكاً كبيراً } بفتح الميم وكسر اللام هو الله. من قرأ { عاليهم } بسكون الياء فعلى أنه مبتدأ { وثياب سندس } خبر أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس ومن قرأ بالنصب فعلى أنه ظرف بمعنى فوق فيكون خبراً مقدماً. ويجوز أن يكون نصباً على الحال من ضمير الأبرار أي ولقاهم نضرة وسروراً. حال ما يكون عاليهم ثياب سندس. أو يطوف عليهم أي على الأبرار ولدان حال ما يكون عاليهم ثياب سندس. ويحتمل أن يكون العامل { رأيت } والمضاف محذوف والتقدير رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس. من قرأ { خضر } بالرفع فظاهر، ومن قرأ بالجر فعلى الجوار أو على أنه صفة سندس بالإستقلال لأنه جنس فكان في معنى الجمع كما يقال: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض. وأما الرفع في { إستبرق } فللعطف على ثياب، والجر للعطف على سندس. وكلاهما ظاهر. قوله { وحلوا أساور من فضة } إن كان الضمير للولدان فلا إشكال لأن أساور المخدومين تكون من ذهب كما قال سبحانه في مواضع { يحلون فيها من أساور من ذهب } [الكهف: 31] وأساور الخدام من فضة. وإن كان الضمير للأبرار فلا إشكال أيضاً فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة وإما على الجمع. وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران سوار من ذهب وسوار من فضة. وأيضاً فالطباع مختلفة فرب إنسان يكون إستحسانه لبياض الفضة، ورب إنسان يكون إستحسانه لصفرة الذهب فالله تعالى يعطي كل أحد بفضله ما تكون رغبته فيه أتم. وقال بعض أهل التأويل: أساور اليد أعمالها وأكسابها التي صارت ملكات نورانية بها يتوسل إلى جوار الحضرة الصمدية كما أن الذهب والفضة في الدنيا وسائل إلى تحصيل المطالب العاجلة. ثم ختم جزاء الأبرار بقوله { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً }هو إما مبالغة طاهر والمراد أنها ليست بنجسة كخمور الدنيا ولا مستقذرة طبعاً لمساس الأيدي الوضرة والأقدام النجسة والدنسة، ولا تؤل إلى النجاسة ولكنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك. وإما مبالغة مطهر. قال أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب ممزوجاً بالكافور والزنجبيل فإذا كان ذلك سقوا هذا الشراب فتظهر بذلك بطونهم ويفيض عرق من جلودهم كريح المسك. وذكر أصحاب التأويل أن الأنوار الفائضة من العالم العلوي متفاوتة في الصفاء والقوة والتأثير فبعضها كافورية طبعها البرد واليبس ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والقبض، وبعضها زنجبيلياً على طبع الحر واليبس ويكون صاحبها قليل الالتفات إلى ما سوى الله قليل المبالاة بالجسمانيات، ثم لا يزال الروح الإنساني ينتقل من نوع إلى نوع ومن مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى حضرة نور الأنوار فيضمحل في نور تجليه سائر الأنوار، وهذا آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الارتقاء إلى مدراج الكمال، فلهذا أضاف السقي إلى ذاته قائلاً { وسقاهم ربهم } ثم ختم وعدهم بقوله { إن هذا كان لكم جزاء } عن ابن عباس أن هذا المعنى إنما يقال لهم بعد دخولهم الجنة، فالقول مقدر والغرض إعلامهم أن كل ما تقدم من أصناف العطاء إنما هو جزاء أعمالهم والغرض إذاقة لذة الآخرة فإن سرورهم يزيد بذلك. وقال آخرون: إنه ابتداء خبر من الله تعالى لعباده في الدنيا ليعلموا في دار التكليف أن هذه الأشياء معدة في الآخرة لمن بر وأطاع. واعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم، ثم ذكر أنه خلقه من أمشاج وهي العناصر والأخلاط والماآن ماء الرجل وماء المرأة، والأطوار المتعاقبة على النطفة أو النفس أو البدن، وعلى جميع التقادير فلذلك يدل على كونه فاعلاً مختاراً صانعاً حكيماً. ثم أخبر أنه ما خلقه لأجل العبث ماطلاً باطلاً ولكنه خلقه للابتلاء والامتحان وأعطاه كل ما هو محتاج إليه من العقل والحواس، ثم إن مآل أمره بالجبر أو بالقدر إلى الشكر أو الكفر، أما الكفر فله السلاسل والأغلال، وأما الشاكر فله النعيم والظلال. واختصر في العقاب وأطنب في ذكر الثواب إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه. وحين فرغ من شرح أحوال الآخرة بدأ بكيفية صدور القرآن الذي منه تعليم هذه العلوم والحقائق فقال { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً } وفيه أنواع من المبالغة من قبل إيقاع الضمير اسماً لأن " ثم " تكريره ومن جهة ذكر المصدر بعد الفعل ومن جهة لفظ التنزيل دون الإنزال لأن تنزيل القرآن منجماً مفرقاً أقرب إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده، وحيث سلى قلبه أمره بالصبر على أذى الكفار إلى أوان تنزيل آية القتال ونهاه عن طاعة كل آثم منهم وخصوصاً الكفور فإن الكفر أعظم الآثام قال النحويون: كلمة أو مفيدة لأحد الشيئين أو الأشياء، فأورد عليه أنه يلزم في الآية أنه لا يجوز طاعة الآثم والكفور إذا تخالفا. أما إذا توافقا فإنه يجوز طاعتهما إذ لا يبعد أن يقول السيد لعبده إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه. أما إذا توافقا فلا تخالفهما. والجواب أنه لا ريب أن قولك " لا تضرب زيداً أن أو عمراً" معناه في الأظهر لا تضرب زيداً ولا عمراً.ويحتمل احتمالاً مرجوحاً " لا تضرب أحدهما واضرب الآخر" إلا أن هذا الاحتمال مدفوع في الآية لقرينة الإثم والكفر فإن أحدهما إذا كان منهياً عنه فكلاهما معاً أولى لأن زيادة الشرِّ شرٌّ. ولهذا قال الفراء: لا تطع واحداً منهما سواء كان آثماً أو كفوراً. ولو كان العطف بالواو كان نصاً في النهي عن طاعتهما معاً، ولا يلزم منه النهي عن طاعة كل منهما على الإنفراد. وقد خص بعض المفسرين فقال: الآثم هو عتبة لأنه كان متعاطياً لأنواع الفسوق. والكفور هو الوليد لأنه كان شديد الشكيمة في الكفر. يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اردع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولداً. وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالاً. فقرأ عليهم رسول الله من أول " حم السجدة " إلى قوله { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فانصرفا عنه. وقال أحدهما: ظننت أن الكعبة ستقع. وقال الحسن: الآثم هو المنافق، والكفور مشركو العرب، أمره بالصبر على التكاليف مطلقاً. ثم قسمها إلى نهي وأمر على هذا الترتيب لأن التخلية مقدمة على التحلية. أما النهي فقد مر، وأما الأمر فأوله ذكر اله ولا سيما في الصلاة أول النهار وآخره وهو المراد بقوله { بكرة وأصيلاً } ويشمل صلوات الفجر والظهر والعصر وأول الليل وهو المراد بقوله { ومن الليل فاسجد له } أي وفي بعض الليل فصل له يعني صلاة المغرب والعشاء وأوسطه وهو المعنى بقوله { وسبحه } أي وتهجد له طويلاً من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه كما مر في " المزمل". ثم شرع في توبيخ المتمردين عن طاعته مستحقراً إياهم قائلاً { إن هؤلاء يحبون } الدار { العاجلة } ونعيمها الزائل { ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً } أي شديداً كقوله { ثقلت في السموات والأرض } [الأعراف: 187] ثم بين كمال قدرته قائلاً { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم } أي ربطهم وتوثيقهم ومنه أسر الرجل إذا أوثق بالقدر وبه سمى القد أسراً. والمعنى ركبناهم تركيباً محكماً وتقنا مفاصلهم بالأعصاب والربط والأوتار حسب ما يحتاجون إليه في التصرف لوجوه الحوائج { وإذا شئنا } أهلكناهم بالنفخة و { بدلنا أمثالهم } في شدة الأسر عند النفخة الثانية. وقال جار الله: قيل معناه بدلنا غيرهم ممن يطيع وحقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله { وأن تتولوا يستبدل قوماً غيركم } [محمد: 38] ممن يطيع { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } [إبراهيم: 19] قال الإمام فخر الدين الرازي: هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف لأن كل واحد من " إذا" وإن " حرف الشرط. قلت: ما ذكره جار الله ليس طعناً في القرآن وإنما هو طعن في نفس ذلك القول بناء على أن " إذا" لا تستعمل إلا فيما كان مقطوع الوقوع كالإماتة بالنفخة الأولى والإحياء في النشأة الأخرى. أما الإهلاك على سبيل الإستئصال فذلك غير مقطوع به فلهذا ألا يحسن تفسير اللفظ به وتعين التفسير الأول، والمبادرة بالإعتراض قبل الفهم التام ليس من دأب العلماء المتقين فعجب من مثله ذلك. قوله { إن هذه تذكرة } قد مر في " المزمل " والمقصود من إعادته أن هذه السورة بما فيها من الترتيب الأنيق تبصرة للمتأملين المتخذين إلى كرامة الله سبيلاً بالطاعة والانقياد، وفيه دليل للقدري. وفي قوله { وما تشاؤن إلا أن يشاء الله } إلى آخر السورة دليل للجبري والتوفيق بينهما مفوض إلى فهم أهل التوفيق وقدمنا فيه التحقيق. وانتصب { الظالمين } بفعل يفسره معنى أعد أو وعدت ونحوهما أوعد، وبالله التوفيق وإليه المصير والمآب.