التفاسير

< >
عرض

إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ
١١
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
١٢
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١٣
ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ
١٤
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ
١٥
وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٦
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٧
ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ
١٨
إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٩
-الأنفال

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { يغشاكم النعاس } ابن كثير وأبو عمرو. { يغشيكم النعاس } من باب الأفعال: أبو جعفر ونافع. الباقون { يغشكيم النعاس } من باب التفعيل. ويقال من الإنزال: ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو عمر. والآخرون: بالتشديد { رمى } بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيى. { موهن } من الأفعال { كيد } بالنصب: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وسهل ورويس { موهن } من الأفعال { كيد } بالجر للإضافة: حفص. الباقون { موهن } بالتشديد { كيد } بالنصب { وإن الله } بالفتح: ابن عامر وأبو جعفر ونافع وحفص والمفضل. الباقون: بالكسر.
الوقوف: { الإقدام } ه ط لتعلق "إذ" بمحذوف هو "اذكر". { الذين آمنوا } ط { كل بنان } ط { ورسوله } الأوّل ج { العقاب } ه { النار } ه { الأدبار } ه { جهنم } ط { المصير } ه ط { قتلهم } ص لعطف المتفقتين { رمى } ج لاحتمال أن تكون الواو مقحمة واللام متعلقاً بما قبله واحتمال أن تكون عاطفة على { ولكن الله رمى } أو على محذوف أي لتستبشروا وليبلى { حسناً } ط { عليهم } ط { الكافرين } ه { الفتح } ج للفصل بين الجملتين المتضادتين مع العطف { خير لكم } ج لذلك { نعد } ج { كثرت } ط لمن قرأ "وإن" بالكسر { المؤمنين } ه.
التفسير: قال في الكشاف { إذ يغشيكم } "إذ" بدل ثانٍ من { إذ يعدكم } أو منصوب بالنصر أبو بما في عند الله من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكروا و { أمنة } مفعول لأجله { ومنه } صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من عند الله. ولما كان غشيان النعاس وكذا إغشاؤه وتغشيته متضمناً لمعنى تنعسون كان فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً كما هو شريطة انتصاب المفعول له. والمعنى إذ تنعسون لأمنتكم أو يغشاكم النعاس فتنعسون أمناً. وجوّز على قراءة الإغشاء والتغشية أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان أي ينعسكم إيماناً منه. وجوّز أن ينتصب الأمنة على أنها للنعاس الذي هو فاعل { يغشاكم } أي يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أن المراد أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة له من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل، وقد مر فوائد هذا النعاس في سورة آل عمران. ومن نعم الله تعالى عليهم في تلك الواقعة إنزال المطر عليهم وكان فيه فوائد: إحداها: تحصيل الطهارة، والثانية: إذهاب رجز الشيطان. وقيل: هو الجنابة التي أصابتهم لأنها من تخييل الشيطان ولا تكرار لأن الأولى عام وهذه خاص. وقيل: المراد المني لأنه شيء مستخبث مستقذر وعلى هذا يكون في الآية دلالة على نجاسة المني لقوله
{ والرجز فاهجر } [المدثر: 5] وقيل: المراد وسوسة الشيطان إليهم وتخويفه إياهم من العطش وذلك أن المشركين سبقوهم إلى الماء ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء فناموا فاحتلم أكثرهم فتمثل لهم إبليس في صورة إنسان فقال لهم: أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة قد عطشتم، ولو كنتم على حق لما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة. فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا فأنزل الله المطر فمطروا ليلاً حتى جرى الوادي واتخذ أصحاب رسول الله الحياض على عدوة الوادي وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضأوا وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدوّ حتى ثبتت عليه الأقدام وكانت هذه ثالثة الفوائد وأشار إليها بقوله { ويثبت به } أي بالماء { الأقدام } وقيل: الضمير عائد إلى الربط الذي يدل عليه قوله { ليربط على قلوبكم } والمراد من تثبيت الأقدام الصبر في مواطن القتال، وذلك أن من كان قلبه ضعيفاً فرّ ولم يقف فلما ربط الله على قلوبهم أي قوّاها ثبتت أقدامهم ومعنى "على" أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأن علاها وارتفع فوقها. قال الواحدي: يشبه أن يكون على صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالنصر وما أوقع فيها من اليقين. روي أن المطر نزل على الكافرين أيضاً ولكن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب فعظم الوحل وصار مانعاً لهم من المشي والاستقرار. فقوله { ويثبت به الأقدام } يدل مفهومه على أن حال الأعداء كان بخلاف ذلك. ومن جملة النعم قوله { إذ يوحي ربك } وهو بدل ثالث من { إذ يعدكم } ومنصوب بـ { يثبت } أو بذكر أني معكم الخطاب للملائكة والمراد أني معينكم على التثبيت فثبتوهم. وقيل: الخطاب للمؤمنين لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار. وقوله { فثبتوا الذين آمنوا } في هذا التثبيت وجوه: أحدها: أنه مفسر لقوله { سألقي } { فاضربوا } ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة، ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة. وثانيها: أن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم في القتال فالإلهام من الملائكة كالوسوسة من الشياطين. وثالثها: أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يعدونهم النصر والظفر. ومعنى { فوق الأعناق } أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها إزالة الرأس من الجسد. وقيل: أراد ضرب إلهام لأن الرؤوس فوق الأعناق. والبنان الأصابع سميت بذلك لأن بها صلاح أحوال الإنسان التي يريد أن يقيمها من أبن بالمكان أي أقام به، والمراد نفي الأطراف من اليدين والرجلين. ثم اختلفوا فمنهم من قال: المراد أن يضربوهم كما شاؤا لأن ما فوق العنق هو الرأس وهو أشرف الأعضاء والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء فذكر الأشرف والأخس تنبيهاً على كل الأعضاء. بوجه أخر الضرب إما وقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً. ومنهم من قال: الأوّل إشارة إلى القتل، وقطع البنان عبارة عن إفناء آلات المدافعة والمحاربة ليعجزوا عن القتال. وجوّز في الكشاف أن يكون قوله { سألقي } إلى قوله { كل بنان } تلقيناً للملائكة ما يثبتونهم به أي قولوا لهم قول سألقي، أو يكون وارداً على الاستئناف كأنهم قالوا: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قول سألقي. فالضاربون على هذا هم المؤمنون { ذلك } العقاب العاجل من الضرب والقتل وقع عليهم { بأنهم شاقوا } بسبب مشاقتهم ومخالفتهم { الله ورسوله } ثم بيّن أن الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء يسير وقدر نزر في جنب ما أعد الله لهم ولأمثالهم في الآجل فقال { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } أي له. والكاف في { ذلك } للرسول أو لكل من له أهلية الخطاب، في { ذلكم } للكفرة على طريقة الالتفات ومحله الرفع تقديره: ذلكم العذاب المعجل من القتل والأسر أو العذاب ذلكم، أو النصب والتقدير: عليكم ذلكم أي الزموه فذوقوه أو هو كقولك زيداً فاضربه. قال في الكشاف: { وإن للكافرين } عطف على { ذلكم } في وجهيه أو نصب على أن الواو بمعنى "مع" والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة. فوضع الظاهر موضع ضمير الخطاب. قلت: ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أي وأن للكافرين عذاب النار حق أو بالعكس أي والحكم والشأن أن للكافرين. وفي ذكر الذوق إشارة إلى أن عذاب الدنيا شيء قليل بالنسبة إلى عذاب الآخرة.
قوله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } قال الأزهري: أصل الزحف هو أن يزحف الصبي على أسته قبل أن يقوم، شَبَّهَ بزحف الصبي مشي الطائفتين تتمشى كل فئة مشياً رويداً إلى الفئة الأخرى تتدانى للضرب. فانتصابه على الحال من الفريقين أي، إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم، ويجوز أن يكون حالاً من الذين كفروا. والزحف الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيباً سمي بالمصدر، والجمع زحوف والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفروا فضلاً عن حالتي المداناة والمساواة، ويجوز أن يكون حالاً من المخاطبين وهم المؤمنون أي إذا ذهبتم إليهم للقتال فلا تنهزموا ومعنى { فلا تولوهم الأدبار } لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم أو هو تقدمه نهي عن الفرار يوم حنين حين تولوا مدبرين وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفاً. وفي قوله { من يولهم يومئذ دبره } أمارة عليه، ثم بين أن الانهزام محرم إلا في حالتين فقال { إلا متحرفاً لقتال } هو المكر بعد الفرّ يخيل إلى عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو نوع من خدع الحرب { أو متحيزاً } أي منحازاً { إلى فئة } إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها. وعلى هذا انتصب { متحرفاً } و { متحيزاً } على أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ووجد صحته من أنه ليس في الكلام نفي ظاهر هو أنه في معنى النفي كأنه قيل: ومن لا يقدم أو لا يعطف عليهم في حال من الأحوال إلا في حال التحرف أن التحيز، ويجوز أن يكون الاستثناء تاماً على أن الموصوف محذوف والتقدير: ومن يولهم دبره إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً. ووزن متحيزاً "متفيعل" لأنه من حاز يحوز فعل به ما فعل بأيام، لو كان "متفعلاً" لقيل "متحوزاً". عن ابن عمر: خرجت سرية وأنا فيهم ففروا، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت: يا رسول الله نحن الفرارون فقال: بل أنتم العكارون وأنا فئتكم. والعكرة البكرة. وعن ابن عباس أن الفرار من الزحف في غير هاتين الصورتين من أكبر الكبائر. واحتج القاضي بالآية على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة. وأجيب بأنه مشروط بعدم العفو. وعن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بيوم بدر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حاضراً بنفسه، لأنه تعالى وعدهم النصرة، ولأنه كان أول جهاده فناسب التشديد ولهذا منع من أخذ الفداء. وأكثر المفسرين على أنه عام في جميع الحروب لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قال أكثر المفسرين: إن المؤمنين لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر وكان القائل يقول قتلت وأسرت فقيل لهم: فلم تقتلوهم. والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن صلى الله عليه وسلم قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم وربط عليها. ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني" فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال: -لما التقى الجمعان - لعلي: أعطني قبضة من حصباء الوادي فأعطاه فرمى بها في وجوههم وقال: "شاهت الوجوه" فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا فنزلت { وما رميت إذ رميت } أي وما رميت أنت يا محمد إذ رميت { ولكن الله رمى } أثبت الرمية للرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه عليه السلام ونفاها عنه لأن أثرها فوق حد تأثير القوى البشرية. قال حكيم بن حزام: لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصباء فانهزمنا، وعن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: أقبل أبي بن خلف يوم أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريده فاعترض له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا سبيله فاستقبله مصعب ابن عمير أخو بني عبد الدار ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوه أبيّ من فرجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه بحربته فسقط أبي من فرسه ولم يخرج من طعنته دم وكسر ضلعاً من أضلاعه، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا له: ما أعجزك إنما هو خدش فقال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لما أتوا أجمعين فمات أبيّ إلى النار قبل أن يقدم مكة فأنزل الله في ذلك { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وقيل: نزلت في خيبر حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوس فرمى منها بسهم فأقبل السهم يهوي حتى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه. وأصح الأقوال هو الأوّل كيلا يدخل في أثناء القصة كلام أجنبي، نعم لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. { وليبلى المؤمنين منه بلاء حسناً } وليعطهم عطاء جميلاً فعل ما فعل وما فعله إلا لذلك. قال القاضي: ولولا أن المفسرين أجمعوا على أن معنى البلاء ههنا النعمة وإلا لكان يحتمل المحنة أي الذي فعله تعالى يوم بدر كان كالسبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات. { إن الله سميع } لكلامكم { عليم } بضمائركم. وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب كيلا يغتر العبد بظواهر الأمور { ذلكم } الغرض أي الغرض ذلكم { وإن الله موهن كيد الكافرين } إعرابه كما مر في قوله { وأن للكافرين عذاب النار } [الأنفال: 14] قال ابن عباس: ينبىء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول إني قد أوهنت كيد عدوّك حتى قتلت جبابرتهم وأسرت أشرافهم. قال السدي والكلبي والحسن: كان المشركين حين خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين فأنزل الله تعالى خطاباً لهم على سبيل التهكم { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } وقال عكرمة: قال المشركون: اللهم لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فنزلت. وروي أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم أي فأهلكه. وقيل: إنه خطاب للمؤمنين الذين استغاثوا الله وطلبوا النصر. ثم خاطب الكفار بقوله { وأن تنتهوا } أي عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { فهو خير لكم } وأسلم وإن تعودوا لمحاربته نعد لنصرته عليكم. وجوّز بعضهم أن يكون الخطاب في الجميع للمؤمنين أي إن تكفوا عن المنازعة في أمر القتال أو عن طلب الفداء فهو خير لكم { وإن تعودوا } إلى تلك المنازعات { نعد } إلى ترك نصرتكم. ثم ختم الآية بقوله { وإن الله مع المؤمنين } تقديره على قراءة الفتح ولأن الله معين المؤمنين كان ذلك.
التأويل: { إذ يغشاكم النعاس أمنة } فيه تغليب الحال إلى ضده بأمر التكوين كما قال للنار
{ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } [الأنبياء: 69] كذلك قال للخوف كن أمناً على محمد وأصحابه فكان { ينزل عليكم } من سماء الروحانية ماء الإلهام الرباني { ليطهركم به } من دنس الصفات النفسانية والحيوانية { ويذهب عنكم } وساوس الشيطان وهواجسه { وليربط على قلوبكم } بالصدق والإخلاص والمحبة والتوكل واليقين { ويثبت به الأقدام } على طريق الطلب { إني معكم فثبتوا } فيه أن التثبيت من الله لا من غيره، وكذلك إلقاء الرعب في قلوبهم وغير ذلك. { إذا لقيتم الذين كفروا } إذا لقيتم كفار النفوس وصفاتها مجتمعين على قهر القلوب وصفاتها فلا تنهزموا فتقعوا عن صراط الطلب { إلا متحرفاً } إلا قلباً يتحرك ليتهيأ لأسباب القتال مع النفس أو راجعاً إلى الاستمداد من الروح وصفاتها أو إلى ولاية الشيخ أو إلى حضرة الله تعالى مستمداً في قمع النفس وقهرها بطريق المجاهدة فإنها تورث المشاهدة { فلم تقتلوهم } نفى القتل عن الصحابة بالكلية أو حاله إلى نفسه فقال { ولكن } ولم ينف الرمي عن النبي بالكلية حيث قال { إذ رميت } لأن الله تعالى كان قد تجلى بالقدرة وكأن يده يد الله كما كان حل عيسى حين تجلى له بصفة الإحياء كان يحيي الموتى { وليبلى المؤمنين منه } فيجتهدوا في متابعته إلى أن يبلغوا هذا المقام { إن تستفتحوا } أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفتاح الصدق والإخلاص وترك ما سوى الله في طلب التجلي { فقد جاءكم الفتح } بالتجلي فأنه تعالى متجل في ذاته أزلاً وأبداً فلا تغير له وإنما التغير في أحوال الخلق، فهم عند انغلاق أبواب قلوبهم محرومون وعند انفتاح أبوابها محظوظون { وأن تنتهوا } عن طلب غير الله { فهو خير لكم وأن تعودوا } إلى طلب الدنيا وزخارفها { نعد } إلى خذلانكم ونكالكم ونكلكم إلى أنفسكم ودواعيها { ولن تغني عنكم } لا يقوم شيء من الدنيا والآخرة وما فيهما مقام شيء مما أعدّ لأهل الله وخاصته.