التفاسير

< >
عرض

إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ
١
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
٢
وَإِذَا ٱلأَرْضُ مُدَّتْ
٣
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ
٤
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
٥
يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ
٦
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ
٧
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً
٨
وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً
٩
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ
١٠
فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً
١١
وَيَصْلَىٰ سَعِيراً
١٢
إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً
١٣
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
١٤
بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
١٥
فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ
١٦
وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ
١٧
وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ
١٨
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ
١٩
فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٢٠
وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ
٢١
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ
٢٢
وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
٢٣
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٢٤
إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
٢٥
-الانشقاق

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات { ويصلى } ثلاثياً مفتوح العين مبنياً للفاعل: أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وحمزة وعاصم وخلف. الباقون { يصلى } بالتشديد مبنياً للمفعول { لتركبن } بفتح الباء للتوحيد والخطاب للإنسان: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف. الآخرون: بالضم على خطاب أفراد الجنس.
الوقوف { انشقت } ه لا { وحقت } ه ك { مدّت } ه ك { وتخلت } ه ك { وحقت } ه ط لأن الجواب محذوف أي إذا كانت هذه الأمارات ظهر ما ظهر { فملاقيه } ه ط وقد يقال عامل " إذا " { فملاقيه } أي إذا السماء انشقت لاقى كدحه فلا وقف إلى قوله { فملاقيه } وقيل: قوله { فأما من أوتي } الشرط مع جوابه جواب للشرط الأول، وقوله { يأيها الإنسان } إلى قوله { فملاقيه } اعترض ولا وقف على { بيمينه } { يسيراً } ه ك { مسروراً } ه ط { ظهره } ه لا { ثبوراً } ه لا { سعيراً } ه ط { مسروراً } ه { يحور } ه لا { بلى } ج لجواز تعلق بلى بما قبله وبما بعده { بصيراً } ه ط للإبتداء بالقسم { بالشفق } ه لا { وسق } ه لا { اتسق } ه لا { طبق } ه ك { لا يؤمون } ه ك { لا يسجدون } ه ط { يكذبون } ه ز للآية والوصل أوجب لأن الواو للحال { يوعون } ه ز لفاء التعقيب { أليم } ه لا { ممنون } ه.
التفسير: عن علي رضي الله عنه أن السماء تنشق من المجرّة. ومعنى { أذنت لربها } استمعت له ومنه قوله صلى الله عليه وسلم
" "ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن " والمراد أنها لم تمتنع عن قبول ما أريد بها من الإنشقاق والانفطار فعل المأمور والمطواع الذي أصغى لحديث آمره { وحقت } بذلك لأن الممكن لا بدّ له أن يقع تحت قدرة الواجب لذاته. ومدّ الأرض تسوية جبالها وآكامها بحيث لا يبقى فيها عوج. عن ابن عباس: مدّت مدّ الأديم العكاظي لأن الأديم إذا مدّ زال ما فيه من الانثناء واستوى. وقيل: من مدّه بمعنى أمدّه أي زيد في سعتها أو بسطتها ليمكن وقوف الخلائق الأوّلين والآخرين عليها { وألقت ما فيها } أي رمت بما في جوفها من الكنوز والأموات { وتخلت } أي خلت غاية الخلو كأنها تكلفت أقصى ما يمكنها من الفراغ. وقوله { وأذنت لربها وحقت } ليس بمكرر لأن الأوّل في السماء وهذا في الأرض وحذف جواب " إذا " ليذهب الوهم كل مذهب، أو اكتفاء بما مر في سورتي " التكوير " و " الانفطار ".وقيل: في الكلام تقديم وتأخير. والمعنى { يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } إذا السماء انشقت، والأقرب أن الإنسان للجنس بدليل التفصيل بعده. وقيل: هو رجل بعينه إما محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى إنك تكدح في تبليغ رسالات الله فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل، وأما أمية بن خلف وإنه يجتهد في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس. والكدح جهد النفس في العمل حتى تأثرت من كدحت جلده إذا خدشته أي جاهد إلى وقت لقاء ربك وهو الموت وما بعده. وفيه أن الدنيا دار عناء وتعب ولا راحة ولا فرح فيها. والضمير في قوله { فملاقيه } للرب أي فملاق له ألبتة فهو كالتأكيد للمذكور، ويجوز أن يكون للكدح أي لجزائه يؤيده التفصيل الذي بعده. عن عائشة أن الحساب اليسير هو أن يعرّف ذنوبه ثم يتجاوز عنه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من يحاسب يعذب فقيل: يا رسول الله { فسوف يحاسب حساباً يسيراً } قال: ذلكم العرض من نوقش في الحساب عذب" أقول { سوف } من الكريم إطماع فيمكن أن تكون الفائدة في إيراده أن يكون المؤمن على ثقة واطمئنان بالوعد، ويمكن أن يكون إشارة إلى طول الامتداد بين مواقف ذلك اليوم { وينقلب إلى اهله } من الحور العين في الجنة أو إلى قرنائه من المؤمنين أو إلى عشيرته كقوله { جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم } [الرعد: 23] ومعنى { وراء ظهره } أن تغل يمناه إلى عنقه ويجعل شماله وراء ظهره ويؤتى كتابه بشماله ومن وراء ظهره. وقيل: تخلع يده اليسرى من وراء ظهره. وقيل: تجعل وجوههم إلى خلف فيكون الكتاب قد أوتي من جانب ظهره ولكن بشماله كما في " الحاقة ". والوراء ههنا بمعنى مجرد الجانب، أو معنى قدام. والثبور الهلاك ودعاؤه أن يقول: واثبوراه ". وسمي المواطأة على الشيء مثابرة على الشيء مثابرة لأنه كأنه يريد أن يهلك نفسه في طلبه والنفس تمنعه عن ذلك أنه كان أي في الدنيا مسروراً في أهله كقوله { وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين } [المطففين: 31] وفيه أن الفرح في الدنيا يعقب الغم في الآخرة لقوله { فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً } [التوبة: 82] ومن كان في الدنيا حزيناً متفكراً في أمر الآخرة كان حاله في الآخرة بالعكس. والفرح المنهي عنه ما يتولد من البطر والترفه لا الذي يكون من الرضا بالقضاء ومن حصول بعض الكمالات والفضائل النفسية لقوله { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } [يونس: 58] ثم بين أن سروره إنما كان لأجل أن البعث والنشور لم يكن محققاً عنده فقال { إنه ظنّ أن لن يحور } أي أن يرجع إلى الله أو إلى خلاف حاله من السرور والتنعم. عن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنت لها: حوري أي ارجعي. ثم نفى منطوقه بقوله { بلى } أي بلى يحور. وفي قوله { إن ربه كان بصيراً } إشارة إلى أن العلم التام بأحوال المكلفين يوجب إيصال الجزاء إليهم، فلا بد من دار سوى دار التكليف وإلا كان قدحاً في القدرة والحكمة. قال الكلبي: { كان به بصيراً } من يوم خلقه إلى أن بعثه. وقال عطاء: بصيراً بما سبق عليه في أم الكتاب من الشقاء ثم أكد وقوع القيامة وما يتبعها من الأهوال بقوله { فلا أقسم بالشفق } وهو الحمرة الباقية من آثار الشمس في الأفق الغربي قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل. وعن الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر. وعن أبي حنيفة في إحدى الروايتين أنه البياض، وأنه روى أنه رجع عنه لأن البياض يمتد وقته فلا يصلح للتوقيت، ولأن التركيب يدل على الرقة ومنه الشفقة لرقة القلب. ثم إن الضوء يأخذ من عند غيبة الشمس في الرقة والضعف. وعن مجاهد أن الشفق ههنا النهار لما في النور من الرقة واللطافة كما أن في الظلمات الغلظ والكثافة، لأن القسم بالنهار يناسب القسم بالليل في قوله { والليل وما وسق } والتركيب يدل على الاجتماع والضم ومنه الوسق لأنه جامع لستين صاعاً. واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت، وقد وسقها الراعي أي جمعها ونظيره في وقوع " افتعل " و " استفعل " مطاوعين لفعل " اتسع " و " استوسع ". أقسم الله سبحانه بجميع ما ضمه الليل وآواه وستره من النجوم والدواب وغيرها. ويمكن أن يكون من جملته أعمال العباد الصالحين. ثم أقسم بالقمر إذا اتسق أي اجتمع نوره وتكامل كما يقال " أمور فلان متسقة " أي مجتمعة على الصلاح كما يقال منتظمة. والطبق ما يطابق غيره ومنه قيل للغطاء " الطبق ". ثم قيل للحال المطابقة لغيرها طبق.
وقوله { عن طبق } حال من فاعل { لتركبن } أو صفة أي طبقاً مجاوزاً لطبق، فـ " عن " تفيد البعد والمجاوزة أي حالاً بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول. وجوز أن يكون جمع طبقة أي أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدّة، فبعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من أهوال القيامة كأنهم لما انكروا البعث أقسم الله سبحانه أن ذلك كائن وأن الناس يلقون بعدالموت شدائد متنوّعة وأحوالاً مترتبة حتى يتبين السعيد من الشقي والمحسن من المسيء. وقيل: لتركبن سنة الأولين من المكذبين المهلكين. عن مكحول: كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه. والركوب على هذه التفاسير مجاز عن الحصول على تلك الحالة. وقد يقال على قراءة فتح الباء: إنها صيغة الغائبة والضمير للسماء وأحوالها المختلفة انشقاقها ثم انفطارها، ولعل هذا كمال الانحراف ثم صيرورتها وردة كالدهان أو كالمهل وهذا القول مناسب لأول السورة وهو مرويّ عن ابن مسعود. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أعباء الرسالة وأنه يجب عليه أن يتلقاه بالصبر والتحمل إلى أوان الظفر والغلبة كقوله
{ لتبلوّن في أموالكم وأنفسكم } [آل عمران: 86] وعن ابن عباس وابن مسعود أن المراد حديث الإسراء وأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب أطباق السماء. وبين القسم والمقسم عليه مناسبة لأنه أقسم بتغيرات واقعة في الأفلاك والعناصر على صحة إيجاد سائر التغايير من أحوال القيامة وغيرها، ولا شك أن القادر على بعض التغايير المعتبرة قادر على أمثالها فلا جرم قال على سبيل الاستبعاد { فما لهم لا يؤمنون } وتأويل الآية أن النفس إذا استغرقت في بعض المجهولات التصورية والتصديقية كان المناسبة شبيهة بالشمس الغاربة، فإذا أقبلت على تحصيل قضية من تلك القضايا المجهولة مثلاً تجلى عليها نور من النفس يترجح به عندها أحد طرفي النقيض على الآخر، لكن ما لم تكن جازمة فذلك النور كالشفق بالنسبة إلى ضياء الشمس، ثم إذا سبحت في لجة المعلومات لها طالبة للحد الأوسط عرضت هناك شبهة شبيهة بالليل وما وسقه، فإذا حصل الحدّ الأوسط بالتحقيق وانتقل الذهن منه إلى النتيجة الحقة صارت المسألة كالبدر التم وهو المستفاد ضوءه من النفس الناطقة القدسية التي يكاد زيتها يضيء ولو ولو لم تمسسه نار. و { طبقاً عن طبق } هي مراتب العلوم النظرية من أوّل بدايتها وهي كونها عقلاً هيولانياً إلى نهايتها وهي كونها عقلاً مستفاداً فكأنه سبحانه اقسم بأحوال المعلومات المستخلصة على إمكان حصول العلم بها. ثم وبخهم على أنهم لا ينظرون في الدلائل حتى يورثهم الإيمان والسجود عند تلاوة القرآن. وقوله { لا يؤمنون } و{ لا يسجدون } في موضع الحال والعامل معنى الفعل في { فما لهم } عن ابن عباس، عباس والحسن وعطاء والكسائي ومقاتل: المراد من السجود ههنا الصلاة. وقال أبو مسلم وغيره: أراد به الخضوع والاستكانة. والأكثرون على أنه السجود نفسه. ثم اختلفوا فعن أبي حنيفة وجوبه لأنه ذمهم على الترك. وعن الحسن وهو قول الشافعي أنه ستة كسائر سجدات التلاوة عنده. ثم بين بقوله { بل الذين كفروا يكذبون } أن الدلائل الموجبة للإيمان وتوابعه وإن كانت جلية ظاهرة لكن الكفار يكذبون بها تقليداً للأسلاف أو عناداً. ثم أجمل وعيدهم بقوله { والله أعلم بما يوعون } أي يجمعون ويضمرون في صدورهم من الشرك والعناد وسائر العقائد الفاسدة والنيات الخبيثة فهو يجازيهم على ذلك. وقيل: بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء. ثم صرح بالوعيد قائلاً { فبشرهم } وقوله { إلا الذين آمنوا } استثناء منقطع عند الزمخشري ولا بأس بكونه متصلاً كأنه قال: إلا من آمن منهم فله أجر غير مقطوع أو هز من المنة، بني الكلام ههنا على الاستئناف فلم يحتج إلى الفاء، وعلى التعقيب في التين فأورد الفاء والاستئناف أجمع مقدّمة.