التفاسير

< >
عرض

وَٱلْفَجْرِ
١
وَلَيالٍ عَشْرٍ
٢
وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ
٣
وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ
٤
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ
٥
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
٦
إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ
٧
ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ
٨
وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ
٩
وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ
١٠
ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ
١١
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ
١٢
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ
١٣
إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ
١٤
فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ
١٥
وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ
١٦
كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ
١٧
وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
١٨
وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً
١٩
وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً
٢٠
كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً
٢١
وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
٢٢
وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٢٣
يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
٢٤
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
٢٥
وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
٢٦
يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ
٢٧
ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً
٢٨
فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي
٢٩
وَٱدْخُلِي جَنَّتِي
٣٠
-الفجر

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: روى ابن مهران وابن الاسكندراني عن أبي عمرو أنه كان يقف على { والفجر } وأشباهها من ذوات الراء بنقل حركة اراء إلى ما قبله و { الوتر } بكسر الواو: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: بالفتح { يسري } و { بالوادي } { أكرمني } و { أهانني } بالياء في الحالين: يعقوب والهاشمي عن البزي والقواس وأبو ربيعة عن أصحابه. وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل { أكرمني } و { أهانني } بالياء في الوصل وبغير ياء في الوقف { بالوادي } بالياء في الوصل: ورش وسهل وعباس. الباقون: كلها بغير ياء { فقدّر } بالتشديد: ابن عباس ويزيد { ربي } بالفتح: أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو. { يكرمون } { ولا يحضون } { ويأكلون } { ويحبون } كلها على الغيبة: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون: بتاء الخطاب { تحاضون } بفتح التاء الفوقانية والألف من التفاعل: عاصم وحمزة وعلي ويزيد { لا يعذب } { ولا يوثق } بتح الذال والثاء: عليّ والمفضل وسهل ويعقوب. الآخرون: بكسرهما.
الوقوف: { والفجر } ه لا { عشر } ه ك { والوتر } ه ك { يسر } ه ك لجواز أن يكون جواب القسم المحذوف وهو ليبعثن أوليعذبن مقدراً قبل " هل " أو بعده { حجر } ه ط ثم الوقف المطلق على { لبالمرصاد } وما قبله وقف ضرورة { بعاد } ه لا { العماد } ه لا { البلاد } ه ص { بالواد } ك { الأوتاد } ه ك { البلاد } ه ك { الفساد } ه ك { عذاب } ه ج لاحتمال التعليل ولما قيل: إن جواب القسم قوله { إن ربك لبالمرصاد } وما بينهما اعتراض. { لبالمرصاد } ه ج { أكرمن } ه ج لابتداء شرط { أهانن } ه ج لأن " كلا " يحتمل معنى " إلا " وحقاً ومعنى الردع. { اليتيم } ه لا { المسكين } ه ط { لما } ه ط { جماً } ه ك { دكاً } ه لا { دكاً } ه ك { صفاً } ه لا { صفاً } ه ك { بجهنم } ه { الذكرى } ه ج لأن ما بعده مستأنف كأنه قيل: كيف يتذكر { لحياتي } ه ج { أحد } ه لا { أحد } ه ط { المطمئنة } ه ط { مرضية } ه { عبادي } ه { جنتي } ه.
التفسير: إقسام الله تعالى بهذه الأمور ينبىء عن شرفها وأن فيها فوائد دينية ودنيوية. أما الفجر فعن بعضهم أنه الغيران التي تتفجر منها المياه، والأظهر ما روي عن ابن عباس أنه الصبح الصادق ويوافقه قوله في المدّثر
{ والصبح إذا أسفر } [الآية: 34] وفي " كورت " { والصبح إذا تنفس } [الآية: 18] وذلك أن فيه عبرة للمتأمل لما يحصل من انفجار الضوء فيما بين الظلام، وانتشار الحيوان من أوكارها لطلب المعاش كما في نشور الموتى من قبورهم. وقيل: المضاف محذوف أي ورب الفجر أو أقسم بصلاة الفجر. وخصه بعضهم بفجر النحر لأنه يوم الضحايا والقرابين، وبعضهم بفجر المحرّم لأنه أوّل يوم السنة، وبعضهم بفجر ذي الحجة لقوله { وليال عشر } والتنكير لأنها ليال معدودة من ليالي السنة أو لأنها مخصوصة بفضائل كما جاء في الخبر " "ما من أيام العمل الصالح فيهن أفضل من عشر ذي الحجة" " قال أهل المعاني: ولو عرّفت بناء على أنها ليال معلومة جاز إلا أن التعظيم المستفاد من التنكير يفوت التناسب بين اللامات إذ ذاك فعدم اللام خير من وجوده مخالفاً للباقية. وقيل: إنها عشر المحرم. وقيل: العشر الأخيرة من رمضان ولهذا سن فيها الاعتكاف وفيها ليلة القدر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأخير شدّ المئزر وأيقظ أهله أي كف عن الجماع وأمر أهله بالتهجد. وأما الشفع والوتر فمعناهما الزوج والفرد. والوتر بالفتح لغة أهل العالية، وبالكسر لغة تميم. واختلف المفسرون فيهما اختلافاً عظيماً فمنهم من حملهما على الأشياء كلها لأن الموجودات لا تخلو من هذين القسمين فتكون كقوله { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون } [الحاقة: 38 - 39] وقيل: الشفع صفات الخلق كالعلم والقدرة والحياة، ونقائضها الجهل والعجز والموت. والوتر صفات الحق وجود بلا عدم وقدرة بلا عجز وعلم بلا جهل وحياة بلا موت. وقيل الشفع والوتر: نفس العدد وكأنه تعالى أقسم بالحساب الذي لا بد للخلق منه فهو في معرض الامتنان بمنزلة العلم والبيان في قوله { علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } [العلق: 4 - 5] الرابع الشفع الممكنات { ومن كل شيء خلقنا زوجين } [الذاريات: 49] والوتر الواجب تعالى وتقدّس. الخامس الشفع الصلوات الثنائية والرباعية والوتر الثلاثية، عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم " "إن الصلاة منها شفع ومنها وتر " السادس الشفع درجات الجنة وأبوابها وهي ثمانية، والوتر دركات النار وأبوابها وهي سبعة. السابع الشفع البروج الاثنا عشر، والوتر الكواكب السبعة. الثامن الشفع الشهر الذي يكون ثلاثين والوتر تسعة وعشرون. التاسع الشفع السجدتان والوتر الركوع. العاشر الشفع العيون الاثنا عشر لموسى { فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً } [البقرة: 60] والوتر معجزاته { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } [الإسراء: 101] وأظهر الأقوال ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة لأنه تاسع أيام الليالي المذكورة. وحين أقسم بالليالي المخصوصة أقسم على العموم بالليل إذا يسري أي إذا يمضي كقوله { والليل إذا أدبر } [المدثر: 33] وعن مقاتل: هو ليلة المزدلفة. وعلى هذا جوّز أن يراد بالسري الإسناد المجازي لأن الساري فيه هو الحاج. يروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يقدّم ضعفة أهله في هذه الليلة. والحجر بالكسر العقل سمي بذلك لأنه يمنع من الوقوع فيما لا ينبغي كما سمي عقلاً، ونهي لأنه يعقل وينهى، وحصاة لأنه يحصى أي يضبط. قال الفراء: يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها. والمراد بالاستفهام تقرير أن هذه المذكورات لشرفها وعظم شأنها يحق أن يؤكد بمثلها المقسم عليه كمن ذكر حجة باهرة ثم قال: هل فيما ذكرته حجة يريد أنه لا حجة فوق هذا ومن هنا قال بعضهم: فيه دليل على أنه تعالى أراد رب هذه الأشياء ليكون غاية في القسم. ولقائل أن يقول: المقنع والكفاية غير الغاية والنهاية. ثم إنه تعالى ذكر للعبرة ولتسلية نبيه صلى الله عليه وسلم قصة ثلاث فرق على سبيل الإجمال لأنهم أعلام في القوة والشدّة والتجبر. والمعنى ألم ينته علمك إليهم علماً يقرب المشاهدة لتعاضده بالوحي أو التواتر، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل راءٍ. والمراد بعاد هو عاد الأولى القديمة ولهذا ابنه لزم لأنهم أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوع فسموا باسم جدهم. وقيل: إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها. ولم ينصرف قبيلة أو أرضاً للعلمية والتأنيث. وقيل: الإرم العلم لأنهم كانوا يبنون أعلاماً كهيئة المنارة كقوله { أتبنون بكل ريع آية } [الشعراء: 128] وعلى هذين الوجهين يكون المضاف محذوفاً أي أهل البلدة أو الأعلام، وعلى الوجه الأخير لا يكون لمنع الصرف وجه ظاهر لكونه اسم جنس. والعماد بمعنى العمود لأنه ما يعمد أو جمع عمد. ثم إن كانت صفة للقبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو كانوا طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة، أو كانت ذات البناء الرفيع. وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى أنها ذات أساطين. ثم قيل: هذه المدينة اسكندرية. وقيل: دمشق. واعترض بأن بلاد عاد كانت فيما بين عمان إلى حضرموت وهي بلاد الرمال المسماة بلأحقاف. وروي أنه كان لعاد ابنان: شدّاد وشديد، فملكا وقهرا البلاد وأخذا عنوة وملكاً، ثم مات شديد وخلص الأمر لشدّاد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدنية عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار. ولم تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. ويروى أنه وضع إحدى قدميه فيها فأمر ملك الموت بقبض روحه. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ملك الموت حين عرج به إلى السماء فسأله: هل رققت لأحد من الخلائق الذين قبضت أرواحهم؟ فقال: نعم اثنان أحدهما طلف ولد بالمفازة ثم أمرت بقبض روح أمه ولم يكن هناك إنسان يتعهد الطفل، والثاني ملك اجتهد في بناء مدينة لم يخلق مثلها ثم لم يرزق رؤيتها بعد أن وضع رجله فيها يعني شداداً، فدعا الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يخبره بذلك فأوحى إليه أن ذلك الملك هو ذلك الطفل الذي ربيناه وآتيناه مملكة الدنيا. وحين قابل النعمة والملك بالكفران وبنى الجنان التي هي من مقدورات الله الرحمن جزيناه بالخيبة والحرمان. هكذا وجدت الحكاية في بعض التفاسير. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع على تلك المدينة فحمل ما قدر عليه مما هناك، فبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه، فبعث إلى كعب الأحبار فسأله فقال: هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له. ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل. والضمير في { مثلها } لإرم لأنهم أطول الناس قدوداً وأشدّهم بناء، أو للمدينة أو للأعلام على اختلاف الأقوال. وجاب الصخرة أي الحجر العظيم قطعه كقوله { وتنحتون من الجبال بيوتاً } [الشعراء: 149] والوادي وادي القرى قاله مقاتل. وقد قيل: لفرعون ذي الأوتاد لكثرة جنوده أو لتعذيبه للناس بالأوتاد الأربعة وقد مرّ في " ص ". وصب السوط كناية عن التعذيب المتواتر، وفيه إشارة إلى أن عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة كالسوط بالنسبة إلى القتل مثلاً وقد أشار إلى عذاب الآخرة أو إليه مع عذاب الدنيا بقوله { إن ربك لبالمرصاد } أي يمهل ولكنه لا يهمل. والمرصاد المكان الذي يرقب فيه الرصد، والباء بمعنى " في" وهو مثل لعدم الإهمال. وقيل لبعض العرب: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ السورة عند المنصور حتى بلغ الآية فقال { إن ربك لبالمرصاد } يا أبا جعفر عرض له في هذا بأنه من الجبابرة الذين وعدوا بها. وقال الفراء: معناه إليه المصير فيكون وعداً ووعيداً للمؤمن والكافر. قال أهل النظم: لما ذكر أنه تعالى بمرصد من أعمال بني آدم عقبه بتوبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بأمر الآخرة وفرط تماديه في إصلاح المعاش كأنه قيل: نحن مترقبون لمجازاة الإنسان على ما سعى، فأما هو فإنه لا يهمه إلا الدنيا وطيباتها فإن وجد راحة فرح بها وإن مسه ضرّ كند. والظاهر أن الإنسان للجنس. وعن ابن عباس أنه عتبة بن ربيعة. وعن الكلبي هو أمية بن خلف. ومعنى الابتلاء في البسط والضيق وهو أنه سبحانه يعامل المكلف معاملة المختبر ليظهر أنه هل يتلقى النعمة بالشكر والضيق بالصبر أم لا كقوله { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [الأنبياء: 35] وتقدير الكلام فأما الإنسان فيقول ربي أكرمن إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه { وأما } هو فيقول ربي أهانن { إذا ما ابتلاه فقدر } أي ضيق { عليه رزقه } فقوله { فيقول } خبر المبتدأ في الموضعين { وإذا ما ابتلاه } ظرف لـ { يقول } وإنما قال في جانب البسط { فأكرمه ونعمه } أي جعله ذا نعمة وثروة ولم يقل في طرف القبض " فأهانه وقدر عليه" لأن رحمته سبقت غضبه فلم يرد أن يصرح بإهانة عبده، ولئلا يكون الكلام نصاً في أن القبض دليل الإهانة من الله، فقد يكون سبباً لصلاح معاش العبد ومعاده. وأما البسط فهو إكرام في الظاهر الغلب، والبسط لأجل الاستدراج قليل وعلى قلته فهو خير من خسران الدنيا والآخرة جميعاً. وعلام توجه الإنكار والذّم؟ فيه وجهان: أحدهما على قوله { ربي أهانن } فقط لأنه سمي ترك التفضل إهانة وقد لا يكون كذلك.والثاني على مجموع الأمرين لا من حيث مجموعهما بل على كل منهما. أما على دعوى الإهانة فكما قلنا، وأما على دعوى الإكرام فلأنه اعتقد حصول الاستحقاق في ذلك الإكرام كقوله { إنما أوتيته على علم عندي } [القصص: 78] وكان عليه أن يرى ذلك محض الفضل والعناية منه تعالى، أو لأنه قال في ذلك كبراً وافتخاراً وتكاثراً، أو لأن هذا القول يشبه قول من لا يرى السعادة إلا في اللذات العاجلة، أو قول من غفل عن الاستدراج والمكر. ويحتمل أن يتوجه الذم على مجموع الأمرين من حيث المجموع حتى لو قال في البسط " أكرمني " تحدثاً بنعمة الله، وفي القبض لم يقل " أهانني" بل قال " الحمد لله على كل حال" لم يكن مذموماً. ثم ردع الإنسان عن تلك المقالة بقوله { كلا } أي لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ ولا بالفقر لهوانه لديّ ولكنهما من محض المشيئة، أو على حسب المصالح. ثم نبه الإضراب في قوله { بل لا تكرمون اليتيم } على أن هناك شراً من ذلك وهو أنه يكرمهم بكثرة المال ثم لا يؤدّون حق الله فيه. وعن مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف وكان يدفعه عن حقه فنزلت. والتراث أصله الوراث نحو تجاه ووجاه. واللم الجمع لشديد ومنه كتيبة ملمومة مصدر جعل نعتاً أي أكلاً جامعاً بجميع أجزائه كقوله { ولا تأكلوها إسرافاً } [النساء: 6] وقال الحسن: أي يجمعون نصيب اليتامى إلى نصيبهم كقوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [النساء: 2] وقيل: جامعاً بين حلال ما جمعه الميت وبين حرامه. وقيل: جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة اللذيذة والملابس الفاخرة كما يفعل أهل البطالة من الورّاث. والجم الكثير جم الماء وغيره يجم جموماً إذا كثر جامّ، وجمّ نهي عن التهالك. والشره على جمع المال. وفي وصف الحب بالجم دلالة على أن حب المال وتعلق القلب بتحصيل ما يسدّ الخلة منه غير مكروه بل مندوب إليه لبقاء نظام العالم على أن كل السلامة وجل الفراغ في الترك كما هو دأب المتوكلين.

إن السلامة من ليلى وجارتها أن لا تمر على حال بواديها

ولا ينبئك مثل خبير. ثم ردعهم عن الفعل المذكور وذكر تحسر المقصر في طاعة الله يوم القيامة. وجواب " إذا " محذوف بعد { صفاً } أبو بعد قوله { بجهنم } ليذهب الوهم كل مذهب أي كان ما كان من الأهوال. ثم استؤنف { وجيء يومئذ } أو عطف على ما قبله ويوقف على هذا التقدير على قوله { بجهنم } ويكون { يومئذ } الثانية متعلقاً بما بعده، ويجوز أن يكون " إذا " منصوباً بـ { يتذكر } و { يومئذ } الثانية بدل منه. ومعنى { دكاً دكاً } دكاً بعد دك كما قيل في " لبيك " أي كرر عليها الدك حتى صارت هباء منبثاً. وقال المبرد: استوت في الانفراش فذهب دورها وقصورها وجبالها وقلاعها حتى تصير قاعاً صفصفاً، ولعل هذا الذي بعد الزلزلة. قوله { وجاء ربك } أي أمره بالجزاء والحساب أو قهره أو دلائل قدرته. ويجوز أن يكون تمثيلاً لهول ذلك اليوم كما إذا حضر الملك بنفسه وجنوده كان أهيب وتنزل ملائكة كل سماء { صفاصفاً } أي مصطفين صفوفاً مرتبة. يروى أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اشتد على أصحابه فجاء علي رضي الله عنه فاحتضنه وقبل عاتقة ثم قال: يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم حتى غيرك؟ فتلا عليه الآية. فقال له عليّ: كيف يجاء بجهنم؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شرارة لو تركت لأحرقت أهل الجمع. قال الأصوليون: معنى جيء بجهنم برزت وأظهرت فإن جهنم لا تنتقل من مكان إلى مكان. قوله { وأنى له } أي ومن أين له منفعة { الذكرى } ثم فسر التذكر وإنما قدرنا المضاف احترازاً من التنافي وإلا فلا وجه للاستفهام الإنكاري بعد إثبات التذكر بأنه يقول { يا ليتني قدمت } خيراً أو عملاً صالحاً { لحياتي } هذه وهي الحياة الأخيرة، أو اللام بمعنى الوقت أي وقت حياتي في الدنيا. وقد يرجع هذا الوجه لأن أهل النار لا حياة لهم في الحقيقة كما قال { { لا يموت فيها ولا يحيا } [الأعلى: 13] ويمكن أن يجاب بأن الحياة المضاهية للموت أو التي هي أشدّ من الموت حياة أيضاً، وبأن حياة الآخرة يراد بها البقاء المستمر الدائم وهذا المعنى شامل لأهل النار ولأهل الجنة جميعاً. قالت المعتزلة: في هذا التمني دليل واضح على أن الاختيار كان زمامه بيده، ويحتمل أن يجاب بأن استحالة متمناه قد تكون من جهة أن الأمر في الدنيا لم يكن إليه فيتحسر على ذلك. وقال في التفسير الكبير: فيه دليل على أن قبول التوبة لا يجب عقلاً. ويرد عليه أنه لا يلزم من عدم قبولها في الآخرة عدم قبولها في دار التكليف كإيمان اليأس. من قرأ { لا يعذب } { ولا يوثق } على البناء للفاعل فمعناه على ما قال مقاتل: لا يعذب عذاب الله أي عذابه أحد من الخلق. ضعف بأن يوم القيامة لا يعذب أحد سوى الله فلا يتصور لهذا النفي فائدة. وأجيب بأن المراد لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد لأن الأمر يومئذ لله وحده، أو لا يعذب أحد في الدنيا ولا يوثق مثل عذاب الله الكافر ومثل إيثاقه إياه في الشدّة والإيلام. وقال أبو علي الفارسي: تقديره لا يعذب أحد من الزبانية أحداً مثل عذاب هذا الإنسان وهو أمية بن خلف، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وفساده. ومن قرأ بناء الفعل للمفعول فيهما فظاهر. والضمير في { عذابه } و { وثاقه } للإنسان. ويمكن أن يراد لا يحمل عذاب الإنسان أحد كقوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [الأنعام: 164] قال الواحدي: وهذا أولى الأقوال. ثم ذكر بشارة الأبرار وهو أن يقول للمؤمن بذاته أو على لسان ملك { يا أيتها النفس المطمئنة } أي بذكر الله أو بتحصيل الأخلاق الفاضلة والعقائد الصحيحة التي تسكن النفس السليمة إليها { ارجعي إلى ربك } إلى حيث لا مالك سواه أو إلى ثوابه { راضية } بما حكم عليك وقدر لك { مرضية } عند الله نظيره { رضي الله عنهم ورضوا عنه } [البينة: 8] وهذه صفة أرباب النفوس الكاملة وإن كانوا بعد في دار التكليف ولهذا رتب على هذه الصفة قوله { فادخلي في عبادي } أي في جملة الصالحين { وادخلي جنتي } وهي في الدنيا مقام الرضا والتسليم. وإذا كانت النفس متحلية بالكمالات الحقيقية والمعارف اليقينية في حياته العاجلة كانت أهلاً لهذه البشارة عند الموت وعند البعث وفي كل المواطن إلى دخول الجنة. وقيل: إنما يقال له هذا عند البعث والمعنى فادخلي في أجساد عبادي يؤيده قراءة ابن مسعود " في جسد عبدي " قالوا: أنزلت في حمزة بن عبد المطلب أو في خبيب بن عدي الذي صلبه أهله مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك، فحوّل الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يغيرها. والظاهر العموم ولو سلم فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.