التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ
١٧
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
١٨
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٩
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ
٢٠
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ
٢١
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٢
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٢٣
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٤
لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ
٢٥
ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ
٢٦
ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٢٨
-التوبة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { مسجد الله } ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون: على الجمع { يبشرهم } خفيفاً: حمزة { وعشيراتكم } على الجمع: أبو بكر وحماد وجبلة { وضاقت } ونحو ممالة: حمزة { رحبت ثم } مظهراً: أبو جعفر ونافع وابن كثير وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى.
الوقوف: { بالكفر } ط { أعمالهم } ج لعطف المختلفين { خالدون } ه { المهتدين } ه { في سبيل الله } ط { عند الله } ط { الظالمين } ه لئلا يشتبه بالوصف { وأنفسهم } لا لأن ما بعده خبر "الذين" { عند الله } ط { الفائزون } ه { مقيم } ه لا لأن ما بعده حال { أبداً } ط { عظيم } ه { على الإيمان } ط { الظالمون } ه { بأمره } ط { الفاسقين } ه { كثيرة } لا لعطف الظرف على الظرف { حنين } لا لأن "إذ" ظرف { نصركم }. { مدبرين } ه ج للآية والعطف. { كفروا } ط { الكافرين } ه { من يشاء } ط { رحيم } ه { هذا } ج { إن شاء } ط { حكيم } ه.
التفسير: إنه سبحانه بدأ السورة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم، ثم أراد يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون في أن هذه البراءة غير جائزة مع الجواب عنها. قال المفسرون: لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيروه بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ علي رضي الله عنه له القول فقال العبّاس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال علي عليه السلام ألكم محاسن؟ فقال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله تعالى رداً عليهم { ما كان للمشركين } ما صح لهم وما استقام { أن يعمروا مسٰجد الله } يعني المسجد الحرام. ومن قرأ على الجمع فإما أن يراد جميع المساجد فيشمل المسجد الحرام أيضاً الذي هو أشرفها وهذا آكد لأن طريقه طريق الكناية كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفي لقراءته القرآن من تصريحك بذلك، أو يراد المسجد الحرام وجمع لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد، أو لأن بقعة منه مسجد. قال الفراء: العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم: فلان كثير الدرهم، وبالعكس كقولهم: فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكاً واحداً. وعمارة المسجد إما لزومه وإما كثرة إتيانه للصلاة والاعتكاف، ولا شك أنه ليس للمشرك ذلك وإما مرمته وتعهده، وليس للمشرك هذا أيضاً لأنه يجري مجرى الإنعام على المسلمين ولا ينبغي أن يكون للكافر منه على أهل الإسلام، ولأن دخوله المسجد يؤدي إلى تلوث المسجد إما لكونه نجساً في الحكم، وإما لأنه قلما يحترز من النجاسات. وما روي أنه صلى الله عليه وآله أنزل وفد ثقيف في المسجد وهم كفار وشدّ ثمامة بن أثال الحنفي على سارية من سواري المسجد محمول على تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم كأنه أراد أن يكون ذلك بمحضر منه وهو في المسجد. وقوله { شاهدين على أنفسهم } حال من الواو في { يعمروا } والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة معابد الله مع الكفر به. وفي تفسير هذه الشهادة أقوال أصحها أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب النبي والقرآن ولهذا قال السدي: هي أن النصراني إذا قيل له ما أنت؟ قال: نصراني. واليهودي يقول: يهودي، وعابد الوثن يقول: أنا عابد الوثن. وقيل: هي قولهم في طوافهم "لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك". وعن ابن عباس أنه قال: المراد أنهم يشهدون على محمد بالكفر. وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [التوبة: 128] ثم بيّن تعالى ما هو الحق في هذا الباب فقال { أولئك حبطت أعمالهم } الصادرة عنهم كإكرام الوالدين وبناء الربط وإطعام الجائع لأنه لا يفيد مع الكفر طاعة لأن الكفر يوجب عقاب الأبد ولهذا قال { وفي النار هم خالدون } ولإفادة هذا التركيب الحصر احتجت الأشاعرة به على خلاص صاحب الكبيرة. ثم وصف من له استئهال عمارة المسجد فقال { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } لأن المرء ما لم يعرف المبدأ والمعاد لا يصح منه التوجه إليه. وإنما طوى ذكر الرسول تنبيهاً على أنه واسطة والتوجه الحقيقي من الله وإلى الله ولهذا ورد في الحديث: "المصلي يناجي ربه" . وقيل: إن المشركين كانوا يقولون إن محمداً ادّعى رسالة الله طلباً للرياسة والملك فلنفي هذه التهمة ترك ذكره صلى الله عليه وسلم. وقيل: دل عليه بقوله { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } لأنهما معلومتان من أفعاله صلى الله عليه وسلم ولما في الصلاة من التشهد وقبلها الأذان والإقامة. ثم إن إقامة الصلاة لا ريب أن فيها عمارة المسجد والحضور فيه، وأما إيتاء الزكاة فإنما كان سبباً للعمارة لأنه يحضر المسجد طوائف الفقراء والمساكين لأخذ الزكاة، ولأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد وإصلاحه نفل والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لم يشتغل بالنافلة، فلو لم يكن مؤدياً للزكاة فالظاهر أنه لم يشتغل بعمارة المسجد. ثم قال { ولم يخش إلا الله } ليعلم أنه لو أتى المسجد وبناه رياء وسمعة لم يكن عامراً له. فعلى المؤمن أن يختار في جميع الأحوال رضوان الله على غيره فإن ذلك لو ضره في العاجل فسينفعه في الآجل وفي إدخال كلمة "إنما" في صدر الآية تنبيه على أن من لم يكن موصوفاً بالصفات المذكورة لم يكن من أهل عمارة المسجد، وأن المسجد يجب صونه عن غير العبادة. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة" وعنه صلى الله عليه وسلم: "الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش" وقال صلى الله عليه وآله: قال الله تعالى: "إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زوّاري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره" ومن عمارة المساجد تعظيمها والدرس فيها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح. فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه" . وفي قوله { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم فإن الموصوفين بالصفات المذكورة إذا كان اهتداؤهم المستعقب لصلاح حالهم في الدارين دائراً بين عسى ولعل فما ظنك باهتداء المشركين ومغبتهم؟ وفيه أن المؤمن يجب أن لا يغتر بالله عزّ وجلّ. هذا وقد مر أن بعض الأئمة ذهبوا إلى أن "عسى" من الله الكريم واجب. وقال بعضهم: إن الرجاء راجع إلى العباد.
ثم إنه قال { أجعلتم سقاية الحاج } ومعناه هبوا أن عمارة المسجد وسقي الحجيج يوجب لكم نوعاً من الفضيلة إلا أن هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد شيء نزر. قال المفسرون: إنها نزلت في مناظرة جرت بين فريقين إلا أنهم اختلفوا فقيل: "كافر" و "مؤمن" لقوله { كمن آمن } وقصة ما مر أن العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج. وروي أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت اليهود لهم: أنتم أفضل. وقيل: إن كلا الفريقين مؤمن لقوله { أولئك أعظم درجة } وهذا يقتضي أن يكون للمفضول أيضاً درجة. وقصته ما روى عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج. وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم: فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكني إذا صليت دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله الآية. ويروى عن الحسن والشعبي أن طلحة قال: أنا صاحب البيت بيدي مفاتحه ولو أشاء بت فيه. وقال العباس: وذلك بعد إسلامه أنه صاحب السقاية والقائم عليها. وقال عليّ رضي الله عنه: ما أدري ما تقولان لقد صليت ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فنزلت. وعن ابن سيرين: قال عليّ رضي الله عنه للعباس بعد إن كان أسلم: ألا تهاجر ألا تلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألست في أفضل من الهجرة، ألست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية. فقال العباس: ما أراني إلا ترك سقايتنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً" . والسقاية والعمارة مصدران من سقي وعمر، ولا بد من تقدير مضاف أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن، أو أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كخصال من آمن؟ ثم كان لسائل أن يسأل ما بال أحد الفريقين لا يشبه بالآخر فلا جرم قال مستأنفاً { لا يستوون عند الله } ثم صرح بالمفضول فقال { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي المشركين { إن الشرك لظلم عظيم } وأي ظلم أشنع من وضع أخس الموجودات وهو الأصنام مقام أشرفها وهو الله سبحانه. وإنما لم يهدهم الله لعدم قابلية وقع في استعدادهم الفطري. وذلك لكونهم مظاهر القهر فافهم. ثم صرح بالفريق الفاضل فقال { الذين آمنوا } الآية. ثم من قال إن الفريقين المتناظرين كافر ومؤمن أورد عليه أن قوله: { أعظم درجة } وجب أن يكون للمفضول أيضاً درجة ولكنه ليس للكافر درجة. وأجيب بأن هذا وارد على حسب ما كانوا يقدرونه لأنفسهم من الدرجة والفضيلة نظيره قوله: { أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم }. أو المراد أنهم أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بالهجرة ولا الجهاد وإن كان مؤمناً فضلاً عن الكافر. أو المراد ترجيح الإيمان والهجرة والجهاد على السقاية والعمارة. ولا شك أنهما من أعمال والخير وموجبان للثواب لولا الكفر. وفي قوله: { عند الله } تشريف عظيم لقوله { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته } وكذا في قوله { وأولئك هم الفائزون } لدلالته على انحصار الفوز فيهم. ثم فسر الفوز بقوله { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات } التنكير فيها يفيد أنها وراء وصف الواصف، قال المتكلمون: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فالتبشير بالرحمة والرضوان إشارة إلى غاية التعظيم ونهاية الإجلال والجنات إشارة إلى حصول المنافع العظيمة. وقوله { لهم فيها نعيم } إشارة إلى خلوص تلك المنافع عن شوائب الكدورات. ثم عبر عن دوامها بثلاثة ألفاظ مؤكدات أولها { مقيم } وثانيها { خالدين } وثالثها { أبداً } وقال أهل التحقيق: الفرح بالنعمة قد يكون من حيث إنها نعمة وقد يكون من حيث إن المنعم خصه بها كالسلطان إذا أعطى بعض الحاضرين تفاحة مثلاً، ثم النعمة قد تكون حسية وقد تكون عقلية فقوله { يبشرهم ربهم } إشارة إلى أعلى المراتب وهو مقام العارفين الذين نظرهم على مجرد سماع البشارة لا على المبشر به. وقوله { برحمة منه ورضوان } إشارة إلى المرتبة الوسطى وهم العاكفون على عتبة اللذات الروحانية العقلية. وقوله { جنات } إلى آخره إشارة إلى المرتبة السفلى وهم الواقفون عند ساحات مواقع اللذات الحسيات. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها يبشركم بخيرات دائمة وسعادات باقية لا حصر لها. ويجوز أن تكون الرحمة إشارة إلى رضا العبد بقضائه فيسهل عليه الغموم والآفات، والرضوان إشارة إلى رضاه عن العبد فيكون كقوله { ارجعي إلى ربك راضية مرضية } [الفجر: 28] ثم أكد المعاني المذكورة بقوله { الله عنده أجر عظيم } وفي تصدير الجملة الاسمية بأن وفي لفظ "عند" وتقديمه وتنكير "أجر" ووصفه بالعظم مبالغات لا تخفى.
قال الكلبي: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه ولأخيه ولقرابته إنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده فيقولون: ننشدك الله أن لا تدعنا إلى غير شيء فنضيع فيرق فيجلس معهم ويدع فنزل فيهم { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا } الآيتين. وذكروا في وجه النظم أن هذه الآية جواب عن شبهة أخرى قالوها وهي أنه كيف يمكن دعوى البراءة من الكفار وبينهم وبين المسلمين قرابات ومواصلات ومعاملات؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع عن الآباء والأبناء والإخوان واجب بسبب الكفر. ومعنى استحبوا اختاروا وهو في الأصل طلب المحبة. ثم إن النهي كان يحتمل أن يكون نهي تنزيه لا تحريم فلإزالة الوهم ختم الآية بقوله { ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } قال ابن عباس: يريد أنه يكون مشركاً مثلهم لأن الرضا بالشرك شرك. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس" . وعن ابن عباس: هي في المهاجرين خاصة كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم.. فقالوا: يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا ضائعين فنزلت { قل إن كان آباؤكم } الآية. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه وأبوه وأخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة فنهى الله عزّ وجلّ عن موالاتهم. قال الواحدي: عشيرة الرجل أهله الأدنون وهم الذين يعاشرونه. ومن قرأ على الوحدة فلأن العشيرة اسم جمع. ومن قرأ على الجمع فلأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة. قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات وإنما يجمعونها على عشائر القرآن حجة عليه. والاقتراب الاكتساب والتركيب يدور على الدنو والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه. والترتيب المذكور في الآية غاية الحسن لأن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة القريبة ثم البعيدة، ثم إنه يتوسل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال المكتسبة ثم إلى التجارات المثمرة، وفي آخر المراتب الرغبة في الأوطان التي بنيت للسكنى، فبيّن تعالى أنه يجب تحمل هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سليماً، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندهم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله { فتربصوا } انتظروا بما تحبون { حتى يأتي الله بأمره } عن الحسن هو عقوبة عاجلة أو آجلة. وقيل: يعني القتال. وعن ابن عباس: هو فتح مكة وفيه بعد لما روي أن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة { والله لا يهدي القوم الفاسقين } الخارجين عن طاعة الله إلى معصيته ولا يخفى ما فيه من التهديد. ثم لما أوجب ترك مصالح الدنيا لأجل الدين أراد أن يبين أن كل من أعرض عن الدنيا لأجل مصالح دينه فإن الله تعالى يراعي مصالح دنياه فيفوز بسعادة الدارين وضرب لنا مثلاً فقال { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } قال الواحدي: النصر المعونة على الأعداء خاصة، والمواطن جمع موطن وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر. ومواطن الحرب مقاماتها ومواقعها. وامتناعها من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع ولا هاء كمساجد. والمواطن الكثيرة غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي على ما في الصحاح تسع عشرة منها: غزوة بدر وقريظة والنضير وأحد وغزوة الخندق وذات الرقاع وغزوة بني المصطلق وغزوة أنمار وغزوة ذي قرد وخيبر والحديبية والفتح. { ويوم حنين } أي يوم حنين. واستبعد صاحب الكشاف عطف الزمان على المكان فقال: معناه في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين، وجوّز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين رضي الله عنه قال علي: أن الواجب أن يكون يوم { حنين } منصوباً بالفعل مضمر لا بهذا الظاهر أي ونصركم يوم حنين لأن قوله { إذ أعجبتكم كثرتكم } بدل من { يوم حنين } فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع المواطن ولم يكونوا كثيراً في جميعها، وجوّز أن يكون "إذ" منصوباً بإضمار "اذكر". قلت: ولعله لا حاجة إلى هذه التكلفات فلا استبعاد في عطف الزمان والمكان، وما جعل بدلاً عن الزمان لا يلزم أن يكون بدلاً عن المكان حتى يكون الفعل الأوّل مقيداً بهما جميعاً. وحنين وداً بين مكة والطائف. قال المفسرون: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ فعن عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفاً. وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفاً وعشرة الآف من الذين حضروا مكة وألفان من الطلقاء الأسارى الذين أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف. وبالجملة كانوا عدداً كثيرين وكانت هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة. فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المراد من قوله { إذ أعجبتكم } وقيل: قالها أبو بكر. وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعيد لأنه كان في جميع الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها. ثم قال { فلم تغن عنكم شيئاً } والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة أي لم تعطكم الكثرة شيئاً يدفع حاجتكم ولم تفدكم { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } "ما" مصدرية والباء بمعنى "مع" والرحب السعة والجار والمجرور في موضع الحال أي متلبسة برحبها كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الرعب لم تجدوا في الأرض ذات الطول والعرض موضعاً يصلح لهربكم إليه وكأنها ضاقت عليكم { ثم وليتم مدبرين } أي انهزمتم انهزاماً. قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث، والذي لا إله إلا الله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم دبره قط، ولقد رأيته وأبو سفيان أخذ بالركاب والعباس آخذ بلجام الدابة وهو يقول:

أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب

وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي وكانت بغلته شهباء ثم قال للعباس: ناد المهاجرين والأنصار وكان العباس رجلاً صيتاً فنادى يا أصحاب الشجرة فرجعوا ونزلت الملائكة عليهم ثياب بيض وهم على خيول بلق، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده كفاً من الحصباء فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه، فما زال جدهم مدبراً وحدهم كليلاً ولم يبق منهم أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فانهزموا وذلك قوله سبحانه { ثم أنزل الله سكينته } رحمته التي سكنوا بها وآمنوا { على رسوله وعلى المؤمنين } الذين كانوا انهزموا وعلى الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب. { وأنزل الله جنوداً لم تروها } يعني الملائكة ستة عشر ألفاً أو ثمانية آلاف أو خمسة آلاف على اختلاف الروايات. وعن سعيد بن المسيب قال: حدّثني رجل كان من المشركين يوم حنين: قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البلغة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا. واختلفوا في قتال الملائكة فقيل: قاتلوا. وقيل: ما قاتلوا إلا يوم بدر وإنما نزلوا في هذا اليوم لتكثير السواد ولإلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين. ثم قال { وعذب الذين كفروا } أي بالقتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذراري. واحتجت الأشاعرة بإنزال السكينة وهي داعية السكون والثبات وبقوله { وعذب } على أن الدواعي والأفعال كلها بخلق الله تعالى. ثم ختم الآية بقوله { وذلك جزاء الكافرين } واعلم أن الحنفية تمسكوا في مسألة الجلد مع التغريب بقوله تعالى { { الزانية والزاني فاجلدوا } [النور:2] قالوا الفاء للجزاء اسم للكافي وكون الجلد كافياً يمنع أن يكون غيره مشروعاً معه. وأجابت الشافعية بأنه قال تعالى في هذه الآية { ذلك } أي الأخذ والأسر { جزاء الكافرين } سمي العذاب العاجل جزاءً مع أنه غير كافٍ لأن العذاب الآجل باقٍ. أما قوله { ثم يتوب الله من بعد ذلك } أي يسلم ناس منهم. "روي أن ناساً منهم جاؤا تائبين فأسلموا وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى.فقال: إن عندي ما ترون العساكر الفقراء وإن خير القول أصدقه، اختاروا وإما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم. قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاؤا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً. فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه. قالوا: رضينا وسلمنا فقال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفعت إليه صلى الله عليه وسلم العرفاء أن قد رضوا" . ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهة أخرى لهم وذلك أن علياً عليه السلام حين قرأ عليهم براءة فنبذ إليهم عهدهم قال أناس: يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } قال في الكشاف: هو مصدر كالقذر ومعناه ذوو ونجس. وقال الليث: إنه صفة يستوي فيه الواحد وغيره: رجل نجس وقوم نجس وامرأة نجس. قلت ويجوز أن يجعل المصدر نغتاً للمبالغة في الوصف. واختلف في تفسير كون المشرك نجساً فعن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن من صافح مشركاً توضأ وهو قول الهادي من أئمة الزيدية. وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم واحتج القاضي على ذلك بما روي أنه صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم وبأنه لو كان نجس العين لما تبدلت النجاسة بسبب الإسلام، وأوّلوا الآية بأن معناها أنهم لا يغتسلون عن الجنابة ولا يتوضؤون عن الحدث، أو أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب الاجتناب والاحتراز عنهم، أو أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } وهي السنة التاسعة من الهجرة التي وقع النداء فيها بالبراءة من المشركين واختلفوا في هذا النهي فعن أبي حنيفة وأصحابه أن المراد أن لا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، والدليل عليه قول علي عليه السلام في النداء: ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك. وقال الشافعي: المراد المنع من الدخول فيه وهو ظاهر النص. وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع من الدخول فيه. وقيل: المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك. وعن عطاء أن المراد بالمسجد الحرام والحرم وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه لقوله { وإن خفتم عيلة } أي فقراً بسبب منع المشركين وموضع التجارات ليس هو عين المسجد بل الحرم كله. ومن قال إن المراد منعهم من الحج قال إنهم إذا لم يحضروا الموسم لم يحصل للمسلمين ما كان لهم في قدومهم عليهم من الأرفاق والمكاسب فلهذا خافوا الفقر، ثم وعدهم الله إزالة الفقر بقوله { فسوف يغنيكم الله من فضله } أي من تفضله بوجه آخر قال عكرمة: أنزل الله عليهم المطر فكثر خيرهم. وعن الحسن: جعل الله لهم أخذ الجزية بدلاً عن ذلك. وقيل: أغناهم من الفيء. وعن مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش وحملوا الطعام إلى مكة فكان ذلك أعود عليهم. واعلم أن هذا إخبار بالغيب وقد وقع فكان معجزاً. ومعنى { إن شاء } تعليم وإرشاد وأن لا يغتر المسلمون بذلك فيتركوا التضرع إلى الله واللجأ إليه، وليعلم أن حصول ذلك لا يكون في كل الأوقات لأغراض ومقاصد لا يعلمها إلا ضابط الأمور ورابط الأسباب، ولهذا ختم الآية بقوله { إن الله عليم } أي بأحوالكم { حكيم } لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب.
التأويل: ما كان لمشركي النفوس الأمارة { أن يعمروا مساجد الله } وهي القلوب وهم مصرون على ما جبلوا عليه من التمرد وتعبد الهوى. { حبط أعمالهم } التي صدرت عنهم رياء وسمعة { إنما يعمر } القلوب { من آمن بالله واليوم الآخر } صدق بأن المقصود والمعبود هو الله، وعمل لنيل السعادات الأخروية وأدام المناجاة مع الله بصدق الطلب، وزكى نفسه عن الأخلاق الذميمة ولم يخف فوات الخطوط الدنيوية وإنما يخاف فوات الحقوق الإلهية. { سقاية الحاج } خدمة هذه الطائفة للأغراض الفاسدة { وعمارة المسجد الحرام } الأعمال الموجبة لعمارة القلوب إذا كانت مشوبة بالرياء والهوى { لا يستوون عند الله } الطالبون والبطالون { والله لا يهدي القوم الظالمين } الذين يضعون الأعمال الصالحة في غير موضعها { الذين آمنوا } أي القلوب المؤمنة { وهاجروا } أي الأرواح المهاجرة إلى القوالب { وجاهدوا في سبيل الله } الجهاد الأكبر { بأموالهم وأنفسهم } ببذل الموجود والوجود جميعاً { يبشرهم ربهم } بعد الخلاص عن حبس الوجود بتجلي صفات لطفه وجنات الشواهد والكشوف { إن الله عنده أجر عظيم } أي من وصل إلى مقام العندية فالله يعظم أجره { لا تتخذوا آباءكم } الآيتان. فيهما إشارة إلى أن آثر محبة المخلوق على محبة الخالق فقد أبطل الاستعداد الفطري لقبول الفيض الإلهي. { ويوم حنين } أي حين حنت قلوبكم شوقاً إلى لقاء ربها وحسبتم أنكم تبلغونه بكثرة الطاعات، وضاقت عليكم أرض الوجود ثم أعرضتم عن الطلب إذ احتجبتم بحجب العجب مدبرين إلى عالم الطبيعة الحيوانية { ثم أنزل الله سكينته } هي واردات ترد على الأرواح والقلوب فتسكن إلى ربها على رسول الروح وعلى القلوب المؤمنة { وأنزل جنوداً } من المواهب الربانية وعذب النفوس المتمردة باستعمالها في أحكام الشريعة وآداب الطريقة { ذلك جزاء الكافرين } أي علاج النفوس المتمردة ثم يتوب الله من بعد ذلك العلاج بجذبة { ارجعي }، { إنما المشركون } النفوس العابدة للدنيا والشيطان والهوى { فلا يقربوا } القلب { بعد عامهم هذا } وهو حالة البلوغ وجريان قلم التكليف على الإنسان، نهى القلوب حينئذ عن اتباع النفوس وأمرها بقتالها ومنعها عن طوافها لئلا تنجس كعبة القلب بنجاسة شرك النفس وأوصافها الذميمة { وإن خفتم عيلة } حظوظاً يستلذ بها عند اتباع النفس { فسوف يغنيكم الله } بعد انقطاع تصرفات النفس عن القلب بالواردات الربانية والكشوف الروحانية { إن الله عليم } بمستحقي فضله { حكيم } فيما دبر من قتال النفوس.